قمتُ بالتَّرتيباتِ اللَّازمة، حدّثتُ نفسي :"هذه أوّل مرة أسافر فيها للخارج، ياله من شعورٍ لذيذٍ ".
كان شَعري طويلًا، رطبًا، ولامعًا. بدوتُ مشرق الوجه. ودعتُ أسرتي،ضمَّتني أمِّي إليها، وراحتْ تقبِّلني بحرارة.. . يا لتلكَ القُبل!.
هبطتُ إلى الشَّارع الرَّئيس ، وحشرتُ نفسي في سيَّارة أُجْرَة مُزْدَحِمَة. انطلقَ السَّائقُ على طريقٍ سريعٍ ومُزدحمٍ.
فجأةً ! بدأت السَّيَّارة تَهْتَـزُّ وتُصْدِرُ أصواتَ قَرْقعةٍ. حاد السَّائق عن وسط الطَّريق للتَّوقُّف.
انفجرَ الإطارُ الأماميُّ للسَّائق ! . تأوَّهْتُ، ونَظرْتُ إلى السَّاعة. كُنتُ قَلقًا، ومُتَوَتِّرًا...
وبعد أن نَفَثَتُ هَوَاجِسُ لا تُحْصَى، وصلتُ المَطَارَ.
تَرَاصَّتْ زُمْرةُ المسافرين عند الحَاجز وهي تقطعُ بطاقةَ الصُّعود. استويتُ على مقعدٍ مُنْتَصِبِ الظَّهر، ووضعتُ إحدى سَاقَيَّ فوقَ الأخرى. ظلَّتْ عينايَ تتفحَّصان الرُّكَّاب نساءً، رجالًا، أطفالًا، حفنةً من العمال العائدين إلى أوطانهم، وبعض الجنود في مهمَّات رسميَّة.
وبينما المضيفات تُعنى برصِّ الأمتعة تذكَّرتُ مقولةَ كاثرين مانسفيلد: " النَّاسُ يشبِهُونَ حَقَائِبَ السَّفر، تُحشى بأشياء معيَّنة، تُرمَى هنا، تُطرح هناك، تُركم، تضيع وتوجد. إلى أن يحملَها الحمَّال الأخير، ويَقْذِفُ بها إلى الرِّحلة الأخيرة، ثُمَّ تمْضِي مُخَشْخَشَةً..."
وما إن صعدتْ آخر مسافرة وجلستْ على مَقْعَدِهَا المُحَدَّد، القريبُ مني.
حتَّى طلبتْ المُضِيفةُ منَ الجميع المُكُوثَ بأماكنهم مع ربط الأحزمةِ .
فتاة جميلة ونحيلة، ترتدي ملابس مُبْهِجَةً ، ويفوح منها عطرٌ جذَّابٌ . متألِّقة في شَالِهَا الأسودِ، تألُّقًا شديدَ التأثير. يفصلُنِي عنها، عجوزٌ بدينٌ أسنانُه صفراءُ ، يُغنّي بِصَوتٍ خفيضٍ كَئيبٍ .
قُربَ الفتاةِ من النَّافذةِ جعلها تُطيلُ النَّظرَ للخارجِ .
هبطتِ الشَّمسُ واصطبغ الأفقُ حُمْرةً، مختفيًا خلفه آخر شعاعٍ من ضوء النَّهار... وجَنّ اللَّيلُ...
غَمْغَمْتُ كالأَبْلَهِ: "الرِّحلةُ طويلةٌ ، لابُدَّ مِنْ وَنيسٍ غيرَ هَذا الهَرِمِ" . نظرتُ إليه - فمُهُ نصفُ مفتوحٍ ، خيطٌ أصفرُ يتدفَّقُ مِنْ شَفَتَيْهِ، مُغمض عينيه نصف إغماضة. هممتُ بمخاطبته ؛ وَكَزْتُ كتفَهُ بلباقةٍ ؛ سَبَقنِي بالحديث دون الْتِفَاتِهِ :
- أتودّ الجُلوسَ مَكاني ؟
- نعمْ ، ولكنْ كيفَ عرَفْتَ !؟
ابتسمَ، مُظْهِرًا أسنانَه: " ستفقدُ شخصيَّتَك إن اقتربتَ منْهَا " .
- شكرتُه على قبولِه الدَّعوةَ غيرَ آبهٍ بتخريفِهِ .
عمَّ الظَّلامُ و السُّكون الطائرةَ إلا لَمعةَ ضوءٍ خافتةٍ منعكسةٍ عن السَّقفِ .
لمْ أجرِّبِ التَّوَدُّدَ إلى امْرأةٍ قَط. كانَ الشُّعورُ الجَسديُّ غريبًا للغايةِ.
- موعدُ الوصولِ السَّادسةَ صباحًا.
قلتُ ذلك قَالِبًا شَفَتَيَّ اسْتِظْرَافًا لَهَا.
ظلَّتْ مُدِيرَة وجهَهَا إلى النَّافذةِ، كمَا وأنَّها لمْ تسْمَعني !
أحسَسْتُ أنَّ جِسْمِي كُلّه قدْ انْحَلّ وذابَ .
شخيرُ هذا الخَرِفِ أقضّ السُّكون، يطلقُ زفراتٍ ثقيلةً، تدعو إلى الشَّفقةِ.
شاشةُ المِلاحَةِ تُشيرُ عبورَنا المحيطَ الأطلسيَّ.
شَقَّ علَيَّ النَّومُ، تملْمَلْتُ وأنا متوسّط فتاة خَرْسَاء ومُسِنّ مَعْتُوه .شعرتُ بغثيانٍ خفيفٍ، طلبتُ فنجانَ قهوةٍ، أكلتُ فطيرةَ تفَّاحٍ و أكملتُ الفصل الأخير من روايةِ " إثباتُ عُذريَّةٍ " .
دوَّي صُراخٌ أيقظَ الرُّكَّابَ . الكُلّ جَالَ بِبَصَرِهِ بَحْثًا عن مصدر الصَّوتِ !. كان هناك طفلٌ حائرٌ بين الرّضاعة والبُكَاءِ . خَيَّمَ الهُدُوءُ المَكَانَ بعدَ أنْ أرضعتْهُ أمُّهُ...
انبلجَ الفَجرُ، وهبطنا المطارَ .
عندَ موظَّفِ الجَوَازَاتِ، افتقدتُ جَوَازِي ومَحْفَظَتي. حينها تذكَّرتُ أنَّ تلكَ الفتاةَ، مالَتْ على جَسَدِي، وهي تبحثُ عن مصدر الصُّرَاخ!...