في كل ليلة عند الثالثة والنصف مساءً ، تفتح أبواب المصاعد ، لتحمل وفود الزوار إلى الأدوار العلوية من المستشفى الرابض في أطراف المدينة العتيقة ، حيث غرف التنويم ، تعج بآهات المرضى ، وحكايات الألم الساكنة في جنبات المكان ، وذات مساء أبصرت من بين الزائرين عجوزاً ثقيلة الخطى ، تجر تحت أقدامها عمراً طويلاً ، وسنيناً معتقة بمرارة الحياة ، وشظف العيش تمسك بإحدى يديها عكازاً ، أصبح هو أكثر الملتصقين بها ، بينما يدها الأخرى تمسك يد زوجـة ابنها ، تلك المرأة الأربعينية ، التي تحمل هي الأخـرى من الهـم ، ما تنوء به الجبـال ، تكاد زفراتها ترسم شقوق الأسى على جدران الممرات المزدحمة بالرائحين والغادين من حاملي قصص المرض والألم ، حيث قدمت ترافقها لزيارة ذلك المريض الذي أجبره المرض على احتضان آلامه شهوراً على السرير ، الذي لا يعرف من البياض إلا ملاءاته المتشبثة بأطرافه ، وهو يشعر بانسلال أيامه يوماً تلو الآخر ، وقرب أجله ودنو منيته .
تدور الأسئلة العجاف في ذهن العجوز ، عن حال ابنها المريض وزوجته هذه المرافقة لها ، وما أصابهما من بلاء ، وفرق بينهما بعد حب ووفاء ، وعن حال أبنائهما اللاهين الغافلين عن رعايتهما ، تخنقها تلك الأسئلة الحائرة وهي تلوك حسرات عجزها بعد السنين التي قضتها في رعاية ابنها صغيراً ويافعاً وشاباً ، حتى أصابها العجز ، ولم تعد تملك القوة الكافية ، لتقوم بما تتمنى من رعايته والوصول لمكامن ألمه ، ومساعدة زوجته وأبنائه .
الممر الطويل المؤدي إلى غرف التنويم ، يزيد أعباء المرأتين وهما يواصلان المسير إلى تلك الغرفة القابعة في آخره ، وكأنها تحاول الاختباء منهما ، لما تراه من الحزن الساكن في عينيهما الدامعتين في كل زيارة .
تقف المرأة على مسافة قريبة من رأس زوجها لتلقي عليه التحية ، بينما تمتد يد العجوز المرتجفة ، لتلامس أطراف أصابعها صدر ابنها ، السادر في موجات الأنين متحسسة نبضه ، وكأنها تقرأ ما تردد أنفاسه ، وهو يقول لها سامحيني يا أمي ، فقد شققت عليك وأنتِ في هذا العمر والضعف ، بالزيارات والمشي في الممـرات الطويلة ، بينما هي تبلع حزنها وحسرتها عليه .
يتوقف الزمن ، ليترك حديث القلوب والعيون يسري دافئاً بين الأرواح الثلاث ويخيم الصمت على المكان ، وحينما حانت الثامنة مساءً ، وأعلنت ساعة المغادرة أوصد الباب بين الأحباب ، بوداع باطنه ألم وظاهره حزن مشوب بأمل ، إلى أن يقدر الله اللقاء مجدداً ، في ثوب الصحة والعافية وزوال الغمة .
(من كتاب : قلوب بيضاء)