اليوم صحوت مبكراً؛ كانت الساعة تشير إلى الرابعة فجراً ، شعرتُ بأني ممتلىءٌ نشاطاً وحيوية؛ وكانت فرصة لإرواء الروح بالصلاة؛ وقراءة القرآن ؛بعد صلاة الفجر.
شعرتُ بالجوع؛ وبدأتُ أفتِّشُ في المطبخ عن خبز الأمس ، كلُّ الأرغفة كانت جافَّةً وبها تَيبُّسٌ واضحٌ للعيان؛إلَّا كيساً منها يحوي قطعةً وحيدةً من الخبز الذي يستخدمه أطفالي في عمل (سندويشات البرجر ).
كانت قطعةُ الخبز مركونةً منذ مدّة في سلة جانبيّة ؛ضغطتُ عليها؛ فإذا بها طريةٌ وناعمة ؛خامرني شعورٌ بالسرور؛ فدسستُ يديَّ في الكيس؛ ثم أخرجتُها؛ وقربتُها من أنفي؛ فسرَّني أكثر أنَّ رائحتها لازالت زكيّةً وطبيعيّة ..
ابتسمتُ لا إراديّاً حين لمعتْ في خاطرى ذكرى قديمةٌ وجميلة !..
كنت في السيارة في ولاية «جيرسي البريطانيّة» برفقة صديقي الدكتور عثمان الدريبي من السودان نستمع إلى إحدى روائع الفنان السوداني: مصطفى سيد أحمد التي يقول في آخرها :
يا بنيّه من خبز الفنادق
غابة الأبنوس عيونك ..
وبما أنَّ نزعتي الى النقد الفني تغلبني قلتُ له لو قال: ( من خبز الخنادق ) لكانت أجمل وأكثر تعبيراً ..، فلفظ خبز الخنادق ينسجم مع طبيعة وروح الفنان باعتباره أحد المثقفين المحسوبين على الحزب الشيوعي السوداني؛ وشاعراً؛ وفناناً مناضلاً؛ عُرف بفنان «الغلابا والفقراء والمساكين والعمال» ..
كنتُ في ذلك الوقت في مرحلة الرُّشد ولازالت في روحي شعلةٌ من عُنفوان الشباب ؛وبواقي آثارٍ من نزْعة أدبيات الستينيات الثوريّة ..
أُعجب صديقي برأيي؛ ووعدني بأنه سيبلغه كلامي؛ ثم تفرقنا بعد حين ؛وتفرقتْ بنا السبل؛ وباعدتْ بيننا المسافات .. وعُدنا كما قال مصطفى :
والله نحن مع الطيور
لا بتعرف ليها خارطة
ولا بيديها جواز سفر
نمشي في كل المداين
نبني عشّنا بالغناوي والرياحين والمطر
والحبيبة تغني لينا ..
لاهموم تسكن دروبنا
ولا يلاقينا الخطر
والله باكر يا حليوه
لمّا اولادنا السمر
يبقو فرحتنا
اللي بنمسح بيها احزان الزمن .
.. اليوم وبعد أن تقدَّم بي العمر؛ ومرت أكثر من ثلاثين عاماً؛ تذكرتُ الأغنيّةَ وصديقي ومصفى سيد أحمد وعيون الأبنوس؛ وأدركتُ أنَّ رأيي لم يكن مصيباً ، أو لنقل قررتُ أن أغيّر رأيي ؛وقد تبيَّنَ لي أنَّ تعبيرَ ( خبز الفنادق ) أجملُ؛ وألطفُ؛ وأرقُّ ؛وأصدق ، فما لي وللخبز الناشف ؛والخبز الحافي!!
8/ 1/ 2021