حبيب بن أوس الطائي , يكنى بأبي تمام وبها عرفولد بقرية جاسم من أعمال دمشق سنة 188هـوتوفي 231هـ بالموصل .
يرفض أبو تمام أن يختص بوطن وأن ينسب مذهبه الشعري إلى أي مذهب فني إقليمي , فوطنه فسيح مترامى الأطراف يشمل كل أرجاء الدولة الإسلامية يقول :
خليفة الخضر من يربع على وطن *** في بلدة فظهور العيس أوطاني
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا *** بالرقتين وبالفسطاط إخواني
وما أظن النوى ترضى بما صنعت *** حتى تُطوّح بي أقصى خراسان 3/ 309
ويقول ابن المعتز في طبقاته : لأبي تمام600قصيدة , و 800 مقطوعة أي ما مجموعه1400قصيدة ومقطوعة بينما الموجود في ديوانهالمطبوع والمشروح لا يصل إلى 500قصيدةومقطوعة .
ولعل ما ذكر من اختلاف الناس في شعرهواضطراب روايتهم فيه وكثرة ما دار حول مذهبه منخصومات نقدية وشدة حسد الشعراء له كانت منظهور الأسباب التي شاركت في ضياع بعض شعره. انظر : طبقات الشعراء المحدثين , ص : 268
ولأبي تمام مختاراته الشعرية التي تعتبر من أجودأنواع الدراسات الأدبية وأفضلها من شأنها أن تضعأبا تمام في صف أصحاب المدونات كالمفضلالضبي صاحب المفضليات والأصمعي صاحبالأصمعيات . وهي مختارات تمثل في ذاتها مدرسةمستقلة ذات طابع ومميزات تفردها عن غيرها . وقدرتب مرجليوث هذه الاختيارات فوجدها ستة هي :
* كتاب الاختيارات من أشعار القبائل ويشمل علىمختارات من أغاني القبائل .
* كتاب الاختيارات من أشعار الشعراء ويشمل علىمختارات من أغان لشعراء لا نعرف عنهم إلا القليل .
* الفحول وهو مختارات من أجود قصائد الجاهليةوالإسلام ينتهي بابن هرمة .
* الحماسة جمعها بدار أبي الوفاء بن سلمةبهمذان عندما اضطرته الثلوج إلى الالتجاء إلىهذه المدينة أثناء عودته من زيارة عبد الله بن طاهر , ورتبها على عشرة أبواب وضمنها عيوناً من الشعرالعربي . وهي : { الحماسة والمراثي والنسيبوالهجاء والأضياف والمديح والصفات والسيروالنعاس والملح ومذمة النساء } وأطول حماسياتالكتاب حماسية زياد بن حمل التي يذم فيها صنعاء, ويتشوق إلى بلاده وقومه وعددها أربعة وأربعونبيتاً ومطلعها :
لا حبذا أنت يا صنعاء من بلد *** ولاشعوب هوي مني ولا نقم .
انظر : شرح ديوان الحماسة 3/ 972
* اختيار المقطعات ورتبه على نسق الحماسة لكنهبدأه بالغزل .
* مختارات من شعر المحدثين . انظر دائرة المعارفالإسلامية 1/ ع 1/ ص : 320-321
ولم يصل إلينا من هذه المجموعات سوى ديوانالحماسة والوحشيات وهي الحماسة الصغرىذكرها التبريزي في مقدمة شرح الحماسة والقاضيالجرجاني في كتابه إعجاز القرآن . ونص التبريزيعلى أن أبا تمام في اختياره الحماسة أشعر منهفي شعره . انظر : شرح ديوان الحماسة 1/ 3.
ويعود سبب تسمية الكتاب بالحماسة إلى أن بابالحماسة هو أكبر أبواب الكتاب ويحتل مكانالصدارة فيه .
وشعر أبي تمام معروف بالإشكالات التي دارت حوله فقد قرئ هذا الشعر وما زال يقرأ فيه ما قيل , وقد اختلفت الأقوال ولا تزال حول هذا الشعر بين مؤيد ومعارض وتباينت وجهات النظر تبايناً يدعو إلى التمهل والتروي .
وقد عُدت الحركة النقدية التي دارت حول شعر أبيتمام من أهم الحركات النقدية في تاريخ الشعرالعربي فقد كانت الخصومة حول مذهبه الفنيالبديع ميداناً لدراسة الكثير من قضايا النقدومسائله كالغموض والصورة والتباين الكبير فيشعره من حيث الجودة والرداءة .
*= جذور الخصومة حول شعر أبي تمام وأسبابها :
كان العصر العباسي أخصب العصور إذ شهدتطوراً وتغييراً على كافة المستويات السياسيةوالفكرية والاجتماعية والاقتصادية والأدبيةانعكست جميعها على الحياة والنتاج , وأصبحالإنسان العباسي يواجه صراعاً صعباً بين التاريخوالواقع , فهل يتمسك بالتراث الماضي أم يتكيف معالواقع الجديد ممثلاً في الحياة الجديدة المتحضرة؟ يعبر عن تجاربه ويستجيب لذوق مجتمعهوثقافته , فقد نشأ بينه وبين الأشكال التقليديةأشكال من الصراع وكذلك الذوق وألفينا الشعراءالعباسيين قسمين :
شعراء وجدوا أنفسهم مشدودين إلى الماضييعيشون تراثه ويحتذون حذو أسلافهم في القيموالتعبير , والقسم الثاني : شعراء أخلصوا لتجاربعصرهم واستقوا معانيهم من واقعهم الحضاري , كبشار وأبي نواس وأبي العتاهية , وهم قادرونعلى النسج على المنوال القديم , فلم تكن المسألةمسألة ضعف وقوة , وإنما مسألة ذوق وتكيّفوتجربة .
ولعل أبا نواس كان أبرز من حمل لواء التجديد في ذلك العصر مع صاحبيه بشار ومسلم بن الوليد غير أنه برز على صاحبيه , فكانت له تلك المكانة المتميزة في التجديد في تاريخ الشعر العربي بحيث عدّه نقاد الشعر مجدداً ثائراً , وعدّوا الدور الذي قام به خصومة واعية بين الجديد والقديم .
بيد أن خصومته كانت خصومة من جانب واحد ؛ إذ لم يقم حوله من الجدل ما قام حول أبي تمام ولم ينقسم الناس حوله إلى أنصار وخصوم , ولعل سبب ذلك يعود إلى أن أبا نواس في تجديده ثار على العرف العام وعلى موضوعات الشعر دون أن يتنكب عن عمود الشعر العربي والدليل على ذلك أن النقاد القدماء كانوا راضين عنه جملة ما عدا إفحاشه في القول وجرأته على العرف وخروجه عن العادات الحميدة .
في حين ثاروا على أبي تمام لأنه تناول في تجديده { بنية الشعر وتركيبه } أو عموده كما يقول القدماء , ولأنه اتخذ من هذه الثورة مذهباً طبّقه في شعره دون أن يدعيه ادعاء .
ومما مهد للخصومة حول شعر أبي تمام ظهور البحتري , فكان بذلك أمام النقاد نموذجان من الشعر أحدهما يمثل القديم , والآخر يمثل الجديد .
ولأن كل حركة أدبية أو نقدية تستدعي جملة من السمات فقد كان من سمات المعركة النقدية التي أثيرت حول شعر أبي تمام ومذهبه الفني سمتان رئيستان هما :
*- التأثرية , فاللغويون والنحاة في القرن الثاني والثالث ليس لهم مذهب في النقد وليست أحكامهم النقدية إلا أحكام تأثرية , تفوّه بها من تقدمهم في العصرين الجاهلي والإسلامي . وساعد على استمرار المقياس التأثري في نقد أبي تمام كونه وُجد قبل أن تستقر أصول البلاغة وقواعد النقد .
*- الجزئية : مما يؤخذ على نقاد أبي تمام أنهم لم ينظروا إلى قصائده جملة وإنما كانوا يقفون عند أبيات مفردة وتعابير وصور مقتطعة عن سياقها . انظر : حديث الشعر والنثر لطه حسين ص : 106. من ذلك تعليق ابن الخثعمي على قول أبي تمام :
تروح علينا كل يوم وتغتدي *** خطوب كأن الدهر منهن يصرع
بقوله : ( جُنّ جنون أبي تمام أيصرع الدهر ) انظر : ديوانه 2/ 324 .
وعبد الصمد بن المعذل يعلق على قول أبي تمام :
لا تسقني ماء الملام فإنني *** صبٌّ قد استعذبت ماء بكائي . انظر : ديوانه : 1/ 22
بأن أرسل زجاجة إلى أبي تمام يطلب منه أن يملأها له بماء الملام . ولا شك أن كلا الموقفين بعيد عن النقدالفني الخالص .
*= ويذكر الآمدي في موازنته أن أبا تمام شاعر عالم , وأن العلم في شعره أظهر منه في شعر البحتري , وأنه يأتي في شعره بمعان فلسفية لم يكن الأعراب يستطيعون فهمها , ومن أجل ذلك فإن شعره يعجب العلماء وأصحاب الفلسفة والمعاني .
*= ويقول المبرد : بعد أن يسمع أبياتاً لأبي تمام : ما سمعت أحسن من هذا قط ما يهضم هذا الرجل حقه إلا أحد رجلين : إما جاهل بعلم الشعر ومعرفة الكلام , وإما عالم لم يتبحر شعره ولم يسمعه .
*= وتظهر في شعره ثقافات واسعة وعميقة ودقيقة ومختلفة سواء أكانت عربية أم فارسية أم هندية أميونانية , اتصل بها اتصال الباحث اتصالاً عميقاً , ومن هنا أصبح شعره مستغلقاً في بعض جوانبه على أصحاب الثقافة السطحية الضحلة , وأصبح يحتاج في فهمه إلى مثل ثقافته الواسعة العميقة حتى يسهل فهمه وتذوقه والنفاذ إلى أغواره البعيدة .
اقرأ إن شئت : انظر : 3/ 338
كم في العلى لك والمجد من بدع *** إذا تُصُفّحت اختيرت على السُّنن
فقد ذكر البدع والسنن وهما من ألفاظ الفقهاء , ومن ذلك قوله في الخمر : 1/ 28
خرقاء يلعب بالعقول حبابها *** كتلّعبالأفعال بالأسماء .
فقد تكلف لذكر الأفعال والأسماء وهذه صنعة النحويين , ومن ذلك قوله : 3/ 225
لن ينال العلا خصوصاً من الفتيان *** من لم يكن نداه عموما
فقد ذكر الخصوص والعموم وهما من ألفاظ المناطقة . ومن ذلك قوله : 4/ 311
هب من له شيء يريد حجابه *** ما بالُ لا شيء عليه حجابُ
فقد عبر عن العدم بكلمة لا شيء وهي من كلام الفلاسفة .
*= ذكاؤه وحسن بديهته :
وقد كان ينهض بهذه الثقافة ذكاء نادر , وفطنة فذة فصارت أهم المصادر الفنية التي أمدت شعره بالمعاني الزاخرة بالعمق , فغاص بها على الصور العقلية الفنية واستخرجها بالطريق البديعي مما جعل عمق الصورة وثراءها يتصل بوشائج نابضة من البديع والزينة اللفظية ويقص القدماء من أخباره في هذا الجانب قصصاً كثيراً فمن ذلك أنه امتدح أحمد بن المعتصم بقصيدة سينية , فلما انتهى منها إلى قوله :
إقدام عمرو في سماحة حاتم *** في حلم أحنف في ذكاء إياس .
قال له الكندي الفيلسوف وكان حاضراً : الأمير فوق ما وصفت , فأطرق قليلاً ثم رفع رأسه وأنشد :
لا تنكروا ضربي له من دونه *** مثلاً شروداًفي الندى والباس
فالله قد ضرب الأقلّ لنوره *** مثلاً من المشكاة والنبراس
فعجبوا من سرعة فطنته . وقد قيل : إن الكندي لما خرج أبو تمام قال : هذا الفتى قليل العمر لأنه ينحت من قلبه , وسيموت قريباً فكان ذلك . الديوان : 2 / 249-250
واستطاع أبو تمام أن ينتزع إعجاب المعتصم الذي يكاد يكون أمياً أن يسمح له أن ينشده قصيدته في فتح عمورية ثلاث مرات وعندما يسأله : ( كم تجلو لنا عجوزك ) ؟
يرد عليه أبو تمام في لباقة وذكاء مفرطين : حتى أستوفي مهرها يا أمير المؤمنين , فيأمر له بواحد وسبعين ألف درهم عن كل بيت منها ألف .
وحلف الحسن بن رجاء على أبي تمام ألاّ يتم قصيدته فيه إلاّ وهو قائم , وعندما فرغ قال له : الحسن : ( ما أحسن ما جلوت هذه العروس ) فيرد أبو تمام عليه بعبارة مُلئت تهذيباً وشاعرية : ( والله لو كانت من الحور العين لكان قيامك لها أوفى مهورها )
*= قضية الشعر عند أبي تمام :
وأبو تمام يفهم الشعر على أنه صناعة عقلية يمتزج فيها العقل بالشعور أو الفكر بالعاطفة فالشعر عنده ليس عملاً فنياً خالصاً يستمد مادته من العاطفة وحدها , ولكنه أيضاً عمل عقلي يستمد مادته من العاطفة كما يستمدها من العقل فأساس العمل الفني عنده هو المزاوجة بين العقل والشعور أو بين الفكر والإبداع . وهو في سبيل تحقيق هذه المزاوجة لم يكن يبالي بأن يحمّل اللغة أكثر مما تطيق , كما لم يكن يبالي بأن تصل معانيه إلى قدر من الغموض .
نحن بإزاء شاعر مغرم بالتصنيع والزينة بل لقد كان ذوقه ذوق نحات أصيل , نَحُسُّ كأن الشعر أصبح تنميقاً وزخرفاً خالصاً فكل بيت في القصيدة إنما هو وحدة من وحدات هذا التنميق والزخرف , وهو ليس زخرفاً لفظياً فحسب , بل هو زخرف لفظي ومعنوي يروعنا فيه ظاهره وباطنه وما يودعه من خفيات المعاني وبراعات اللفظ . يقول
مفصلة باللؤلؤ المنتقى لها *** من الشعر إلا أنه اللؤلؤ الرطبُ
هي جوهرٌ نثرٌ فإن ألَفته *** بالشعر صار قلائدا وعقودا . : 1/ 197, 1/ 421
ويقول أيضا :
نيطت قلائد عزمه بمحبّر *** متكوّف متدمشق متبغدد . 2/ 55
ويقول أيضاً :
خذها مثقفة القوافي ربها *** لسوابغ النعماء غير كنود
حذاء تملأ كل أذن حكمة *** وبلاغة وتدر كل وريد
كالدر والمرجان ألف نظمه *** بالشذر في عنق الفتاة الرود
كشقيقة البرد المنمنم وشيه *** من أرض مهرة أو بلاد تزيد . 1/ 397
وكما سبق فأبو تمام يدرك أن الشكل وحده لا يشكل جديداً خاصاً , فقصائده ذات معان مبتكرة عذراء , وذات دلالات جديدة , يقول :
أما المعاني فهي أبكار إذا *** نُصّت ولكنّ القوافي عُونُ . 3/ 330 .
وسمع عمارة شعراً لأبي تمام كان منه :
ولكنني لم أحو وفراً مجمعاً *** ففزت به إلابشمل مبدد
ولم تعطني الأيام نوماً مُسكّناً *** ألذُّ به إلابنوم مُشرّد . 2/ 23
فقال : لله درّه لقد تقدم صاحبكم في هذا المعنىجميع من سبقه على كثرة القول فيه , حتى لحببالاغتراب , هيه , فانشد :
وطول مقام المرء في الحي مُخْلقٌ *** لديباجَتَيْه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة *** إلى الناسإذ ليست عليهم بسرمد
فقال عمارة : كمل والله , إن كان الشعر بجودة اللفظوحسن المعاني واطراد المراد واستواء الكلام , فصاحبكم هذا أشعر الناس وإن كان بغيره فلا أدري.
وبذلك انتهى عنده مذهب التصنيع إلى غايته التي كان يرنو إليها شعراء العصر العباسي من الزخرف والتنميق , فكل من قلّدوه من بعده كانوا يقعون دونه على السفح , ولعل ذلك ما عدل بالبحتري وابن الرومي عن الدخول معه في هذا المذهب العسر الذي صعّب مسالكه ودروبه على الشعراء .
وأول ما يلفت النظر في هذا الخصوص أن الشاعر في مذهب أبي تمام يبدو مثل الكاهن او الساحر ويبدو الشعر مثل الكهانة أو السحر وأول سماته السحر والدهشة والإغراب , انظر ديوانه : 2/ 182, يقول :
ولذاك شعري فيك قد سمعوا به *** سحرٌ وأشعاري لهم أشعار
والشاعر والساحر عند أبي تمام ذوا أداة واحدة وتأثير متشابه : انظر ديوانه :4/ 209
وعلمت إثم السحر حين ذممته *** وأراك متخذاً أداة الساحر
يا شاعراً في طرفه وبهائه *** وجماله عذّبت قلب الشاعر
وما دام الشعر تماماً مثل السحر فإنه لا يتقنه سوى السحرة المبدعين فإذا حاول المبتدئون وصغار الشعراء ان يخوضوا في غماره , فإنهم لا يعودون إلا بخفي حنين , بل إن تقليد هذا الشعر أو سرقته أمر متعذر ؛ لأنه ملكية خاصة للمبدع أبي تمام , يقول : 2/ 160
وما لي ضيعة إلا المطايا *** وشعرٌ لا يباع ولا يُعار
وإذا كان الشعر على هذه الصفات فإن تأثيره في المتلقي يكون كبيراً وعميقاً فهو يخلق الحالة الشعرية وينقلها من الشاعر إلى المتلقي ولذلك يصف قصائده بأنها :
تبيت سوائراً وتظل تُتلى *** قصائدها كما تُتلى الفتوح . 4/ 331
*= غاية الشعر عند أبي تمام :
كان أبو تمام يؤمن بأن الشعر للخاصة لا العامة , والخاصة عنده ليست طبقة اجتماعية متميزة ولكنها الخاصة المثقفة المستنيرة الواسعة الاطلاع . وعلى أساس هذه الفكرة آمن أبو تمام بأن الشاعر يجب ألا ينزل بمستواه الفني إلى مستوى العامة , وإنما يجب أن يظل في قمته الشامخة وعلى الجمهور أن يرتفع إليه , يقول :
أبا جعفر إن الجهالة أمها *** ولودٌ وأم العلم جدّاء حائلُ
أرى الحشو والدهماء أضحوا كأنهم *** شعوب تلاقت دوننا وقبائل . 3/ 117
*= جهده ومعاناته الشديدة في بدع الشعر :
والشعر عند أبي تمام ضرب من المعاناة والمكابدة ومجاهدة النفس وإعمال الفكر لا يقتنع فيه الشاعر بيسير المعاني وسهل الأفكار ولا ينتظر من الأبياتأن تنثال عليه انثيالاً بل يعمد إليها عمداً فيظل يحاورها ويداورها حتى تستسلم له وتسلم له قيادها .
يقول مادحاً مستغلاً المكابدة وسيلة لزيادة العطاء من قبل ممدوحه :
وقد حررت في مديحك جهدي *** فحرر بالندى صلة القصيد . 2/ 135
ونراه يتحدث عن مجاهدة القوافي أثناء نظمها وما تحتاجه من صور ذلك الجهد :
يُجاهد الشوق طوراً ثم يجذبه *** جهاده للقوافي في أبي دلفا . 2/ 362
ويقول معتزاً بنفسه مزهواً بقدراته الفنية : 2/ 77
سأجهد حتى أبلغ الشعر شأوه *** وإن كان لي طوعاً ولست بجاهد
كما أنه من يقرأ نصوصه الشعرية يجده ينطلق منأفق الانفتاح على نصوص الشعراء السابقين , وليس من أفق الانغلاق أو القطيعة يقول ابن رشيقفي كتابه العمدة : ( حكى بعض أصحاب أبي تمامقال : استأذنت على أبي تمام وكان لا يستتر عنيفأذن لي , فدخلت عليه فإذا هو في بيت مصهرج قدغسل بالماء يتقلب يميناً وشمالاً فقلت له : لقد بلغبك الحرّ مبلغاً شديداً فقال : لا ولكن غيره , ثم مكثلذلك ساعة , ثم قام كأنما أطلق من عقال , فقال : الآنوردت – أي وصلت إلى المورد – ثم استمر وكتبشيئاً لا أعرفه , ثم قال : أتدري ما كنت فيه ؟ قلت : كلا قال قول أبي نواس :
حذر امرئ نصرت يداه على العدى *** كالدهر فيه شراسة وليان .
أردت معناه فشمس علي – أي هرب – حتى أمكننيالله منه , فصنعت :
شرستَ بل لنتَ بل قانيتَ ذاك بذا *** فأنت لا شك فيك السهل والجبل . 3/ 11.
قال ابن رشيق : ( ولعمري لو سكت هذا الحاكي لنمّ هذا البيت بما كان داخل البيت لأن الكلفة فيه ظاهرة والتعمُّل بيّن ) .
والحق أن الذي أوقف أبا تمام في بيت أبي نواس إنما هو هذه الجدلية التي يتسم بها الدهر حينما يجمع بين نقيضين ويؤلف بين ضدين هما الشراسة واللين إلا أن هذه الجدلية تتخذ بعداً جديداً لها في بيت أبي تمام تتمثل فيه صفات الفكر الجدلي من حيث طرح الفكرة ثم نقضها ثم جمع الفكرة والنقيض معاً فيما يدعى بالتركيب .
حيث راح ينتقي مقومات الشطر الأول من دلالات الفعل الماضي التي تلتقي فيها المتناقضات في نهاية المصراع ( بل قانيت ذاك بذا , أي الليونة بالشراسة ) ليؤكد الدلالة تصويرا من خلال الموقف الذي يعود إلى تأكيده بالضمير , وبالتوكيد اللفظي على طبيعة المتناقضات التي توازي الشطر الأول حيث يأتي بالجبل قريناً للشراسة وبالسهل قريناً للين .
ومن هنا يصبح من أهم سمات الرؤية الشعرية عند أبي تمام أنها تتلمس التماثل والانسجام من خلال التنافر والتضاد , وبهذا أصبح شعره مجالاً لإعادة تركيب الأشياء التي تبدو متنافرة للوهلة الأولى .
وروى ابن المعتز في طبقاته : ( حدثني أبو الغصنمحمد بن قدامة قال : دخلت على حبيب بن أوسبقزوين وحواليه من الدفاتر ما غرق فيه , فما يكاديرى فوقفت ساعة لا يعلم بمكاني لما هو فيه , ثمرفع رأسه فنظر إليّ وسلم عليّ , فقلت له : يا أباتمام إنك لتنظر في الكتب كثيراً , وتدمن الدرس , فماأصبرك عليها ! . فقال : والله ما لي إلف غيرها ولالذة سواها , وإني لخليق إن أتفقدها أن أحسنُ – يريد أن أحسن الكتابة الشعرية – وإذا بحزمتينواحدة عن يمينه وواحدة عن شماله , وهو منهمكينظر فيهما ويميزهما من دون سائر الكتب فقلت له: فما هذا الذي أرى من عنايتك به أوكد من غيره ؟قال : أما التي عن يميني فاللات وأما التي عنيساري فالعزى أعبدهما منذ عشرين سنة , فإذاالذي عن يمينه شعر مسلم بن الوليد صريعالغواني , وعن يساره شعر أبي نواس ) .
*= الغموض والتعقيد :
أبو تمام من أشهر شعراء العربية وهو صاحبمذهب شغل الدارسين في عصره وبعد عصره وأثاركثيراً من الجدل والخلاف حوله وهو ذلك المذهبالجديد الذي طلع به على الناس في عصره فمنهممن أعجب به ومضى يؤيده ويدافع عنه , ومنهم منأنكره ورفضه وراح يهاجمه , فأبو تمام هو زعيمالمذهب التجديدي – التصنيع والزخرف – في القرنالثالث وهو المذهب الذي يضعه النقاد بإزاء المذهبالتقليدي الذي سار عليه معاصره وتلميذه البحتري.
فالشاعران يمثلان مذهبين مختلفين في تاريخالشعر العربي , وهو اختلاف يرجع إلى اختلافالشاعرين حول المفهوم الفني للشعر أو يرجع إلىاختلافهما حول مسألة عمود الشعر .
فأبو تمام يمثل مذهبه الخروج على عمود الشعروالتحرر من تلك التقاليد الفنية الموروثة التي تلقاهاالشعراء عن الشعر القديم . في حين يمثل مذهبالبحتري التمسك بعمود الشعر والحرص علىاحتذاء تلك النماذج الفنية الموروثة .
هذا مذهبه الجديد مذهب لا تستسيغه إلا فئة معينة من الناس , يقول الآمدي عنه : ( إنه ينسب إلى غموض المعاني ودقتها , وكثرة ما يورده مما يحتاج إلى استنباط وشرح ) . ويقول أيضاً : ( إنه شديد التكلف صاحب صنعة يستكره الألفاظ والمعاني وشعره لا يشبه أشعار الأوائل , ولا على طريقتهم لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني المولدة ) .
ويقول أيضاً : ( إنه أتى في شعره بمعان فلسفية وألفاظ غريبة فإذا سمع بعض شعره الأعرابي لم يفهمه ) , ويذكر الرواة أن أعرابياً سمعه ينشد قصيدته التي مطلعها :
طلل الجميع لقد عفوت حميداً *** وكفى على رُزئي بذاك شهيدا . 1/ 405
فقال : ( إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها , وأشياء لا أفهمها , فإما أن يكون قائلها أشعر الناس , وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه ) وليس من شك في أن هذا الأعرابي كان صاحب حس مرهف دقيق .
ويقص الآمدي أن ابن الأعرابي اللغوي سمع شيئاً من شعره فقال : ( إن كان هذا شعراً فكلام العرب باطل ) , أي أن ابن الأعرابي يرى أن مذهب أبي تمام في الشعر مذهب جديد لا عهد للعرب به يخالف ما يعرفه النقاد من مذاهب القدماء في الشعر . ويذكرون أن أعرابياً سمعه ينشد قصيدته التي يمدح بها عبد الله بن طاهر والتي مطلعها :
أهنّ عوادي يوسف وصواحبُه *** فعزماً فقِدماً أدرَكَ السُؤلَ طالبُه . 1/ 206
فقال له : لم لا تقول ما يفهم ؟ فرد عليه على البديهة : وأنت لم لا تفهم ما يقال ؟
وكأني بأبي تمام يعلن عن اتجاه جديد في الشعر العربي فقد تطور هذا الشعر وتطور معه صاحبه , ولم يعد عملاً شعبياً بل أصبح عملاً عقلياً راقياً , فالشاعر ليس من واجبه أن ينزل إلى الجمهور بل يجب على الجمهور أن يصعد إليه , وهذه الفكرة فكرة ارتفاع الشعر عن الجمهور نراها عند أبي تمام لأول مرة في تاريخ الشعر العربي , وهي إحدى الأفكار المهمة التي تثار في النقد الحديث .
*= ولكن ما سبب هذا الغموض ؟ يكشف عنه الآمديبقوله : { إن أبا تمام تعمد أن يدل في شعره علىعلمه باللغة وبكلام العرب فتعمد إدخال ألفاظ غريبةفي مواضع كثيرة من شعره } ومثل له بقوله :
قدك اتئب أربيت في الغلواء *** كمتعذلون وأنتم سُجرائي . 1/ 20
وقال الجرجاني : فإن أظهر التعجرف وتشبه بالبدوونسي أنه حضري متأدب وقروي متكلف جاءكبمثل قوله :
قد قلت لما اطلخم الأمر وانبعثت *** عشواءتالية غبساً دهاريسا . 2/ 256
ومهما يكن من شيء فإن هذا الشعر إذا قرع السمعلم يصل إلى القلب إلا بعد إتعاب الفكر وكدّ الخاطروالحمل على القريحة فإن ظفر به فذلك من بعدالعناء والمشقة . وقد يكون الغموض بسبب المعاظلةأو التعقيد اللفظي كقوله :
خان الصفاء أخ خان الزمان أخاً *** فلميتخون جسمه الكمد . 4/ 191.
فهو يريد أن يقول : لقد خان الصفاء ذلك الأخ الذيلم يصب بالكمد والحزن بسبب أخيه الذي خانهالزمان من أجله .
يقول الآمدي معلقاً على هذا البيت : ( وإذا تأملتالمعنى مع ما أفسده من اللفظ لم تجد له حلاوة ولافيه كبير فائدة ) , وكقوله :
يا يوم شرّد يوم لهوي لهوُه *** بصبابتي وأذلّ عزّ تجلّدي . 2/ 45
يقول الآمدي : ( لا لفظ أولى بالمعاظلة من هذهالألفاظ ) , ويذهب إلى أن الاستغناء عن كلمة { يوم} الأولى في البيت أصح في المعنى من قوله : { يايوم شرد يوم لهوي } وأقرب في اللفظ )
وقد يكون الغموض بسبب شغفه وولعه بالبديعالمتكلف والمتصنع , وشدة تقصيه لصوره وأشكاله , وهذا يسبب انغلاقاً في المعاني لا يعلم ولا يعرفغرضه فيها إلا بعد الكد والفكر وطول التأمل , يقولابن المعتز : ( ثم إن حبيب بن أوس الطائي منبعدهم شغف بـ البديع حتى غلب عليه وتفرع فيهوأكثر منه , فأحسن في بعض ذلك , وأساء فيبعض وتلك عقبى الإفراط وثمرة الإسراف ) . ومنذلك قوله :
فالمجد لا يرضى بأن ترضى بأن *** يرضىامرؤ يرجوك إلا بالرضا . 2/ 307
فلما سمعه إسحاق الموصلي قال له : ( يا هذا لقدشققت على نفسك إن الشعر لأقرب مما تظن ) .
ويعدون من أسباب الغموض كذلك في شعره شدةاستقصائه للمعاني وتدقيقه فيها وغوصه بعيداًفي طلب شواردها وهذا يخرجها إلى التعميةوالانغلاق , يقول :
إن كان مسعود سقى أطلالهم *** سبلالشئون فلست من مسعود
ظعنوا فكان بُكاي حولاً بعدهم *** ثمارعويت وذاك حكم لبيد
أجدر بجمرة لوعة إطفاؤها *** بالدمع أنتزداد طول وقود . 1/ 386
يقول الآمدي معلقاً عليها : ( وهذا من معاني أبيتمام التي يُسأل عنها ) , وشبيه بهذا توليده منرعي الجمل محصول الفيافي معنى آخر في قوله :
رعته الفيافي بعد ما كان حقبة *** رعاهاوماء الروض ينهلُّ ساكبه . 1/ 222
فبعد أن كان هذا الجمل يرعى الفيافي بما فيها منشجر وعشب صارت ترعاه الفيافي بجدبها وقحطهاوإرهاقها إياه .
وقد لا يكون هذا الغموض مستعصياً مع شيء منالتفكير والتأمل بيد أن غرابة المعنى ببعده عنالمعهود هي مما يسرع بالحكم بالغموض وربماأدرك أبو تمام هذا الأمر فتراه يتبع معناه الغريببما يشرحه ويوضحه كما في قوله :
وإذا أراد الله نشر فضيلة *** طويت أتاحلها لسان حسود
فشيء غريب وغامض ألا تشيع الفضيلة وتنتشر إلابنقيضها ولهذا أتبع هذا البيت بيتاً آخر يوضحهويبرهن عليه فقال :
لولا اشتعال النار فيما جاورت *** ما كانيعرف طيبُ عرف العود . 1/ 397
ومن أسباب غموض شعره أيضاً خروجه علىالناس بمذهبه الجديد وبطريقته الجديدة فيالإغراب التي كان يعيها , ويصف بها قصائدهكقوله :
وغرائب تأتيك إلا أنها *** لصنيعكالحسن الجميل أقارب . 1/ 174
وقوله : إليك أرحنا عازب الشعر بعدما *** تمهّل في روض المعاني العجائب
غرائب لاقت في فنائك أنسها *** منالمجد فهي الآن غير غرائب . 1/ 213
وهذه الغرابة دعت أحد السامعين إلى أن يقول عنقصيدته التي مطلعها :
طلل الجميع لقد عفوت حميداً *** وكفى علىرزئي بذاك شهيدا . 1/ 405
( إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها وأشياء لاأفهمها فإما أن يكون قائلها أشعر من جميع الناس , وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه )
وكانت النزعة العقلية السارية في أوصال شعرهوالمزاوجة بين العقل والشعور من أسباب الغموضفي شعره , يقول د / يوسف خليف : ( أساس العملالفني عند أبي تمام هو هذه المزاوجة بين العقلوالشعور أو بين الفكر والعاطفة وهو في سبيل هذهالمزاوجة لم يكن يبالي بأن تصل معانيه إلى شيءمن الغموض جعلها تصعب في فهمها على أولئكالذين لم يصلوا بثقافتهم إلى المستوى الذي وصلإليه ) في الشعر العباسي : 96
ويقول د / شوقي ضيف عن أبي تمام : ( لا يقفبفنه عند هذه الألوان القديمة من التصنيع التييبتهج لها الحس بل نراه ينفذ إلى ألوان جديدةيبتهج بها العقل وهي ألوان قاتمة كانت تتسربإليه من الفلسفة والثقافة العميقة ... فقد استطاع أنيستوعب الفلسفة والثقافة وأن يحولهما إلى فنوشعر إذ تتعلق بهما ألوان التصنيع السابقة أوبعبارة أدق يتعلقان هما بتلك الألوان فإذا كل لونمنها يعبر عن فكر عميق فالطباق والجناسوالتصوير والمشاكلة كل ذلك يزدوج بالفلسفة وألوانالثقافة القاتمة فيجلله الغموض في كثير منجوانبه وأجزائه) .
انظر : الفن ومذاهبه ص : 239.
ويقول د/ عثمان موافي عن أبي تمام : ( وطبيعيأن يسري هذا الغذاء { الثقافي } في دم فنه الشعريفيأتي مزيجاً من العقل والشعور ويدق فهمه علىبعض معاصريه إذ يحسون بشيء من الغرابةوالغموض في لفظه ومعناه ) الخصومة بين القدماءوالمحدثين ص : 70
وعلى كل حال فالحق أن مرد هذا الغموض ومرجعه إلى دقة الفكرة وغرابة الصورة , أما دقة الفكرة فقد جاءه بطبيعة الحال من تلك الثقافات الواسعة العميقة التي اتصل بها واستوعبها في عقله واستغلها استغلالا كبيرا في شعره واعتمد عليها اعتمادا شديدا , فلا يمكن لشاعر يلعب العمق والخفاء في شعره وتلعب الفلسفة والثقافة في فنه أن يعبر تعبيراً مألوفاً , فأبو تمام لا يستريح إلى المعنى القريب , ولا يطمئن إلى الفكرة السطحية والساذجة , إنه يبحث ويجرّب ويبتكر أفكاراً وصوراً جديدة بديعة , وكل عبارة عنده إنما هي بحث وتجربة يحرص من خلالها على النفاذ إلى داخل الفكرة والتغلغل في أعماقها .
وأما غرابة الصورة فقد جاءته من إيمانه بأن الشعر للخاصة لا للعامة , ومن هنا كانت الصورة القريبة المألوفة بين الناس أبعد الأشياء عن مخيلته المبدعة , ولهذا نلاحظ انه كان إذا أخذ صورة قديمة مألوفة ظل يحور فيها ويعدل حتى تستقيم له صورة غريبة نادرة غير مألوفة . هذه صورة قديمة رسمها النابغة الذبياني للطير الجوارح التي تحلق فوق الجيش بحثاً عن دماء القتلى وأجسادهم :
إذا ما غزا بالجيش حلّق فوقهم *** عصائب طير تهتدي بعصائب
أخذها مسلم بن الوليد فصاغها صياغة جديدة فقال :
قد عوّد الطير عادت وثقن بها *** فهنّ يتبعنه في كل مرتحل
أما أبو تمام فلم يقنع بتجديد مسلم فيها وإنما أخذ يبدئ ويعيد ويبدل ويغير ويعدل من أوضاعها ويضيف إليها ألواناً مبتكرة , وخطوطاً جديدةحتى استقامت له في هذه الصورة التي تختلف اختلافاً كبيراً عن أصلها عند النابغة وأيضاً عند مسلم , يقول :
وقد ظُلّلت عقبانُ أعلامه ضحى *** بعقبان طير في الدماء نواهل
أقامت مع الرايات حتى كأنها *** من الجيش إلا أنها لم تقاتل . 3/ 82
جعل أعلام الجيش عقباناً لتستقيم له تلك المشاكلة البلاغية التي يريدها بين عقبان الجيش وعقبان الطير , وحدّد زمان الصورة بوقت الضحى حين تخرج الطير الجارحة ساعية وراء رزقها , فإذا الجيش يقابلها في طريقها فتحلّق فوقه , بل إنها تظلله كأنها رايات تخفق فوقه ثم جعل هذه العقبان ناهلة من دماء القتلى لكي يبرز المهمة التي حلّقت هذه العقبان فوق الجيش من أجلها .
ولم يكتف أبو تمام بهذا بل جعل هذه العقبان تلازم الجيش وتختلط بها , كأنها أصبحت جزءاً منه أو جنداً من جنوده , ولكنها جنود غريبة تصاحب الجيش وتلازمه ولكنها لا تقاتل معه .
ويقول في وصف روض :
ومعرّس للغيث تخفق بينه *** راياتُ كل دُجُنّة وطفاء
نُشرت حدائقه فصرن مآلفا *** لطرائف الأنواء والأنداء
فسقاه مسكُ الطّلّ كافور الصبا *** وانحلّ فيه خيطُ كلّ سماء . 1/ 23
فقد عبّر عن السحب التي يتلألأ البرق في أطرافها بالرايات المطرزة التي تخفق بالريح , ولكن ليس هذا ما يلفتنا في الأبيات , إنما يلفتنا الشطر الأول من البيت الثالث , فقد أبعد على نفسه فيه إذ ذهب يقول : إن مسك الطل يسقي الروض كافور الندى , وهي صورة معقدة , فماذا يريد أبو تمام بمسك الطل ؟ وماذا يريد بكافور الندى ؟ أما مسك الطل فإنه يريد به الرائحة العطرية التي تعبق من الروض إثر الطل والمطر الخفيف , وأما كافور الندى فإنه ذلك الرشاش الذي تُعقد قطراته بيضاء على أوراق الروض كالكافور , وليس من شك في أن هذه الصورة مركبة , ولكنها تعبق بالمسك والطيب .
ولكن أيُّ غموض سرى في شعر أبي تمام ؟! إنهالغموض الفني الذي يشبه تنفس الفجر , غموضأوقات السحر التي كان يعجب بها أبو تمام , وإنه لتنحلّ فيها خيوط من الضياء , فهل هناك أجمل من تصويره لسقوط المطر بتلك الخيوط التي تنحلّ في الروض ؟ إنه تصوير لطيف قلّما يقع في ذهن شاعر إلا هذا الذي يستوعب الثقافة والفلسفة وتتحولان عنده إلى طرائف من العمق في التفكير والتصوير .وحتى طلبه للغرابة في شعره إنما تأتي فتنة وروعة وحلية أنيقة نمنمها الوشي ونمقها النقش .
يرى حازم القرطاجني أن اقتران الغرابة والتعجيب بالتخييل يفضي إلى الإبداع . انظر منهاج البلغاء ص : 19 , فالإغراب إذن هو اللفظ الذي أحال به القدماء على المعنى الغريب أي الطريف النادر , كما دلّوا به على نزوع الشاعر إلى تسقط الغريب من الألفاظ اقتداراً , وإلى قريب من هذا ذهب النقاد المحدثون إذ ربطوا نزوع الشاعر إلى استعمال الغريب برغبته في الإغراب والتعجيب ورأوا أن استعمال الغريب لا يقل لطافة ودقة عن التشبيه والاستعارة , يقول أبو تمام :
خذها مغربة في الأرض آنسة *** بكل فهم غريب حين تغترب . 1/ 258.
وقوله :
يغدون مغتربات في البلاد فما *** يزلن يؤنسن في الآفاق مغتربا .4/ 445
ويمكننا القول إن نزوع أبي تمام إلى الغريب يعود إلى عوامل ثقافية قوامها صلة الشاعر الدائمة بالشعر القديم , فالشاعر أبو تمام لم يرث المعاني وحسب , بل ورث ألفاظاً منها الفخم الجزل ومنها اللين السهل ومنها الكز الوعر . وجاء تجديده منطلقاً من عناصر كامنة في تراثه الأصيل حيث أعاد إحياءها , فالغرابة والجناس والطباق والاستعارة عناصر فنية وجدت على قلة في أشعار القدماء فتناولها أبو تمام وأعاد خلقها فتحولت هذه اللمحات على يده إلى ملامح فنية وقواعد وأركان عليها يقوم شعره وبها تفرد .
وقد تكون مدارسته للغريب وممارسته جعلت اللفظة التي نعدها أو يعدها عصره غريبة جعلتها مألوفة زالت عنها الوحشية فاستخدمها استخدام اللفظة المألوفة .
*= إسرافه في البديع :
ليس هذا فحسب بل نراه قد اتجه إلى البديع الذي كان أستاذه مسلم بن الوليد قد اتجه إليه من قبل , فمضى يزاوج بين الثقافة العقلية والبديع الفني ويمزج الألوان العقلية العميقة بألوان البديع المشرقة . ولكنه خالف مسلماً ومن سبقه من الشعراء من أصحاب البديع في شيئين يتصلان بهذا البديع : المبالغة الشديدة في البديع , والتعقيد .
يقول الآمدي : ( أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد ثم أتبعه أبو تمام واستحسن مذهبه , وأحب أن يجعل كل بيت من شعره غير خال من بعض هذه الأصناف فسلك طريقاً وعراً واستكره الألفاظ والمعاني ففسد شعره وذهبت طلاوته ونشف ماؤه ) .
ويقول ابن المعتز في طبقاته : ( كان مسلم صريع الغواني مدّاحاً محسناً مُفلقاً وهو أول من وسّع البديع لأن بشار بن برد أول من جاء به ثم جاء مسلم فحشا به شعره , ثم جاء أبو تمام فأفرط فيه وتجاوز المقدار )
وقال أيضاً في كتابه البديع : ( ثم إن حبيب بن أوس الطائي من بعدهم شُغف به حتى غلب عليه وتفرغ فيه وأكثر منه فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض وتلك عُقبى الإفراط وثمرة الإسراف )
ويقول الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن : ( وربما أسرف أبو تمام في المطابق والمجانس ووجوه البديع والاستعارة حتى استثقل نظمه واستُوخم رصفه )
*= والحق أن البديع عند أبي تمام تحول عن وظيفته التحسينية والتزينية إلى الوظيفة الإبداعية فلم يكن أبو تمام يستخدم ألوانه البديعية في صورة بسيطة وساذجة وإنما كان يشق على نفسه في استخدامها ويبذل في سبيل ذلك كثيراً من الجهد والعناء ونضح الجبين حتى تستقيم له على الصورة التي تحقق له مذهبه الفني . ومن هنا لم تكن هذه الألوان ترد في شعره بصورة عفوية , وإنما كان يقصد إليها قصداً ويتعمدها تعمداً ويحشدها حشداً في قصائده يقول أبو تمام :
متى أنت عن ذهلية الحيّ ذاهل *** وقلبك منها مدة الدهر آهلُ
تُطلّ الطلول الدمع في كل موقف *** وتمثُل بالصبر الديار المواثلُ
دوارس لم يجفُ الربيع ربوعها *** ولا مرّ في أغفالها وهو غافل
فقد سحبت فيها السحائب ذيلها *** وقد أخملت بالنور منها الخمائل 3/ 112-114
أول ما نلاحظ أن أبا تمام يخالف تقاليد القدماء في مقدماتهم الطللية فهو لا يصور الأطلال موحشة مقفرة لا حياة فيها , وإنما يصورها وقد أقبل الربيع عليها وأخذ بوشيها بزخرفة وزهرة وخمائله حتى تحولت إلى جنة خضراء تموج بالخصب والحياة . والأخرى الإفراط المبالغ فيه في استخدام الجناس , فألوان الجناس تحتشد في كل بيت : ( ذهلية الحي و ذاهل – الطلول وتطل – المواثل وتمثل – الربيع والربوع – أغفال وغافل – سحبت وسحائب –أحملت وخمائل ) وهكذا تتكدس ألوان الجناس وتتزاحم في أبياته .
لكنه لا يعتمد على صبغ الجناس وحده , وإنما يعتمد على صبغ آخر هو التصوير الذي يسير مع الجناس , فالطلول تسكب الدمع كأنها فتاة باكية , والديار تتمسك بالصبر وتتجلد كأنها بشر والربيع يزور هذه الأطلال ولا يجفوها ويمر بها غير غافل عنها كأنه حي يدرك ويتصرف والسحائب تجرر أذيالها والخمائل تمد أهدابها بهذا الزهر الذي يكسوها ويوشيها .
*= والطباق عند أبي تمام ليس مجرد تقابل في المعاني , بل هو طريقة في التعبير عن العلاقات التي تحكم الوجود طريقة من طرق توليد المعاني ومنبعاً ثرياً من منابع شعرية النص
أبو تمام لا يستخدم الطباق استخداماً ساذجاً تقليدياً , ولا يجعل التضاد فيه تضاداً لفظياً فحسب وإنما يستخدمه استخداماً معقداً بما يلونه من ألوان عقلية مختلفة تجعل المقابلة المعنوية عنصراً أساسياً في الصورة إلى جانب المقابلة اللفظية على نحو ما نرى في أبياته الرائعة التي يصف فيها الربيع مستغلاً ظاهرة توافر الأضداد يقول :
مطر يذوب الصحو منه وبعده *** صحوٌيكاد من الغضارة يمطر
غيثان فالأنواء غيث ظاهر *** لك وجهه والصحو غيث مضمر
يا صاحبيّ تقصّيا نظريكما *** تريا وجوه الأرض كيف تصوّر
تريا نهاراً مشمساً قد شابه *** زهرُ الرّبى فكأنما هو مقمر . 2/ 192-194
انظر كيف يتلاعب بالألفاظ والمعاني , صورة المطر الذي يذوب منه الصحو , والصحو الذي يوشك أن يمطر , وصورة الغيث الظاهر الذي تدركه الحواس , والغيث المضمر الذي لا يدركه إلا العقل , ثم هذا النهار المشمس الذي يتدفق بالنور والضياء , والذي تراءى له ليلاً مقمراً لكثرة ما انتشر على صفحة الأرض فيه من زهر ونور ونبات .
ويقول أيضاً :
أُلبست فوق بياض مجدك نعمة *** بيضاء حلّت في سواد الحاسد . 1/ 403
ترى طباقاً بين البياض والسواد , ولكنه ليس طباقاً خالصاً فقد انغمس في لون آخر هو لون التصوير إذ عبر عن غيظ الحاسد بالسواد ووصف نعمة صاحبه بالبياض , ولم يكتف بذلك بل جعل هذا البياض يسرع في السواد وينتشر فيه . وانظر إلى هذا البيت :
وأحسن من نور تفتّحه الصبا *** بياض العطايا في سواد المطالب . 1/ 205
فقد استخدم الطباق ولكنه لم يكتف به بل أضاف إليه التصوير والحركة .
وانظر إلى قوله :
أظن الدمع في خدي سيبقى *** رسوماً من بكائي في الرسوم . 1/ 160
فقد استعان على المشاكلة بهذا التصوير الغريب الذي يلتف عليها إذ جعل آثار الدمع في خده تشبه آثار ديار المحبوبة , وليس من شك في أن هذه طرافة في التصوير وكان يستعين بهذه الطرافة دائماً على لون المشاكلة حتى يعطيه جديدة . وانظر إليه يصف صواحبه :
لآلىء كالنجوم الزهر قد لبست *** أبشارها صدف الإحصان لا الصدفا . 2/ 360
فهن لآلىء إلا أنهن متسربلات بصدف العفاف والطهر , وليس من شك في أنه صدف غريب غرابة وشيء الخدود في قوله :
وثنوا على وشي الخدود صيانة *** وشي البرود بمُسجف ومُمهد . 2/ 47
فقد عبر عن زينة الخدود وما بها من حمرة وتلوين بهذا الوشي الغريب . بل كان تصويره يمتزج بألوان إبداعية بحيث لا تتجمع طائفة من صوره حتى تخرج لنا منها أصباغ تحاكي أصباغ الطيف ألواناً حسية ملموسة , فالسواد رمز للشر والظلمة والعتمة والبياض ابتهاج وفرح وانتصار والخضرة جمال وخير وسؤدد والذي يفجأ هو اصطباغ الألوان على غير ما ألفه المتلقي فالليل أخضر وهو بهذه أعني صورة الليل الأخضر تنم أول وهلة عن غرابة إذ أننا لو تتبعنا التدرج اللوني لهذا الليل قبيل الفجر لما وجدنا مثل هذا اللون في ألوان الطيف التي تبدأ مع أول خيوط الفجر , حينما يتسلل بهدوء بين خيوط الليل التي آلت إلى الخفوت هنا يبقى لنا أن تتبين رؤيا أبي تمام لوصف الليل بالخضرة إذ نجد أن هذا ربما انبعث من رؤيا متفائلة تكون قد طرأت على ما كان يجيش في صدره أو في صدر غيره من أن الليل أسود إذ أن هذه هي حقيقة مجردة . في حين أن أبا تمام لا ينطق بالحقائق كما هي بل يكسوها بجلباب من رؤيته الذاتية ويوشحها بديباجة من إبداعه من ذلك قوله :
لما بكت مقل السحاب حيا *** ضحكت حواشي خده الترب
فكأنه صبح تبسم عن *** سحر ضئيل في ضحى شحب . 4/ 613
في هذين البيتين نبض يتكرر فهو يصف الضحى بالشحوب في تداخل لطيف بين السحب الماطرة بكاء لتسقي الأرض المبتسمة جذلا ليدخل في نقلة زمانية لونية الصباح الضاحك الكاشف عن شحوب الضحى فنجد هذه المناقلات الزمكانية اللونية في صورة وألوان جديدة وكأنما هناك وشائج بين تلك القطرات المتساقطة بما تعكسه بلوراتها من صفاء لوني وبين الأسنان في نصاعتها وبياضها , وتلك الصورة المقابلة بين خد الترب ومقل السحاب فمثل هذه الصورة لتعجب من يتعمق فيها ويخط بذهنه قبل يده خطوطاً من التأثر العميق . وهذه صورة أخرى رائعة من توافر الأضداد في وصفه للحريق في يوم عمورية , يقول :
غادرت فيهم بهيم الليل وهو ضحًى *** يشلّه وسطها صبح من اللهب
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت *** عن لونها أو كأن الشمس لم تغب
ضوء من النار والظلماء عاكفة *** وظلمة من دخان في ضحى شحب
فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت *** والشمس واجبة في ذا ولم تجب . 1/ 53-54
صور متعارضة ومتناقضة بين الليل الذي يتحول إلى ضحى والضحى الذي يطارده الصبح والدجى التي نزعت جلابيبها السود واستبدلت بها جلباباً أحمر من النار واللهب والشمس التي غابت ولم تغب , ثم هذا الضوء من النار الذي يطلع وسط ظلمات الليل فيحيله صبحاً مشرقاً وهذا الظلام من الدخان الذي يصبغ الضحى الشاحب بالسواد والقتامة فيحيله ليلاً بهيماً , ثم أخيراً هذه الشمس الطالعة الآفلة وتلك الشمس الآفلة الطالعة .
كل هذا يستخدمه أبو تمام ليلون به صوره وينشر فيها تلك الأضداد المتنافرة التي تتحكم فيها فكرة المقابلة والتضاد بين الألوان التي يستمدها من ظاهرة اختلاف ألوان الطبيعة التي تحولت من خلال رؤيته الجديدة إلى ألوان غير مألوفة تستمد أصباغها الغريبة من تلك المفارقة بين النور والظلام أو الصباح والليل وهي مفارقة ينشرها في براعة نادرة في كل جانب من جوانب لوحته الفنية . وخذ قوله :
مجد رعى تلعات الدهر وهو فتى *** حتى غدا الدهرُ يمشي مشية الهرم . 3/ 187
فالدهر وهو فتى يتحول إلى دهر يمشي مشية الهرم فالمطابقة بين فتى وهرم جاءت مع الفن التصويري في { يمشي مشية الهرم }
ويجعل د / شوقي ضيف { نوافر الأضداد } جنساً بديعاً مستقلاً ويعني به الطباق الفلسفي القائم على التناقض والتضاد , وهو الطباق القائم على العمق والثراء الذهني والذي يقدم الصورة الفنية من خلال صراع هو في حقيقته لب الحياة وسرها الخالد . كقوله :
قد لان أكثر ما تريد بعضه *** خشنٌ وإني بالنجاح لواثق . 2/ 452
فالطباق بين { أكثر وبعض } وبين { لان وخشن } وكقوله :
لعمري لقد حرّرت يوم لقيته *** لو أن القضاء وحده لم يبرد . 2/ 25
فالطباق بين الحرارة والبرودة { حررت ويبرد } , وقوله :
وإن خفرت أموال قوم أكفهم *** من النيل والجدوى فكفّاه مقطع . 2/ 330
فيه الطباق بين { خفرت ومقطع } فالخفارة وهي الحراسة يقابلها القطع أي السرق والنهب . لكن لا نجد في الأبيات السابقة عمقاً فنياً في الصورة
*= ويكاد النقاد القدماء الآمدي وابن سنان وابن الأثير يجمعون على أن أبا تمام أسرف في طلب الجناس وأكثر منه في شعره وجعله غرضه , فمنه ما قرب فيه فأحسن وهو قليل ومنه ما أتى مستثقلاً غثاً بارداً فكان عبثاً لفظياً وهو كثير .
كثير من النقاد والبلاغيين يرون أن الجناس محسن لفظي عدا عبد القاهر الجرجاني الذي يرى أن للجناس وجهاً معنوياً يقول في أسراره : ( إن ما يعطي التجنيس من الفضيلة أمر لم يتم إلا بنصرة المعنى , وتلك النصرة إنما هي حسن الإفادة مع أن الصورة صورة التكرير والإعادة ) ففي الجناس يوهمك الشاعر أنه يعيد عليك نفس اللفظة ثم تفاجأ بأنه يقدم لك معنى جديداً .
وذهب عبد القاهر إلى أن أبا تمام قد أسلم نفسه للتكلف فاستكثر من الجناس وأولع به وقد ضرب لذلك مثلاً بقوله :
ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت *** فيه الظنون : أمَذْهبٌ أم مُذْهَبُ . 1/ 129
وانتقده قائلاً : ( لم يزدك بمذهب ومذهب على أن أسمعك حروفاً مكررة تروم لها فائدة فلا تجدها إلا مجهولة منكرة ) والفائدة عند الجرجاني لا تخرج عن تأكيد المعنى أو تحليته وتزيينه .
والإشكال إنما جاء من عدم الاعتداد باللفظ والعبور منه إلى المعنى والنظرة الصحيحة الحديثة للشعر وهي ما تؤيده نظرية النقد الحديث إنما تبدأ من الاعتداد باللفظ باعتباره بنية رمزية صوتية ومن هنا فإن العلاقات بين الألفاظ لا تقتصر على بعدها الدلالي الذي ينبع من مضمون الكلمة بل إنها قد تنطلق من الجرس الصوتي لها , ذلك أن الكلمات في الشعر عبارة عن ومضات تسري في تيار متصل وإيحاءات متلاحقة يتولد بعضها من بعض والشاعر يحيا في الألفاظ تحيط به من كل جانب تتجاذبه ويفضي به بعضها إلى بعض ويسلمه كل منها إلى الآخر وتصبح مهمته أن يتابع إيحاءات الكلمات وما يتولد عنها وأن يستغل القوة الإيحائية لجرس الألفاظ فيولد المعاني المختلفة التي تمكنه منها ثقافته باللغة وإدراكه لأسرارها , وأبو تمام في البيت الذي عابه عليه الجرجاني والآمدي وابن المعتز وسواهم وهو قوله :
ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت *** فيهالظنون أمَذْهبٌ أم مُذْهَبُ
إنما يحيا في لفظ { ذهب } فيترامى به هذا اللفظ وما ينطوي عليه من الفناء والتلاشي إلى تلك إلى الثياب المذهبة التي تذهب من بين يدي الكريم حينما يمنحها لسائله والذهب يقتنص معنى الذهاب والفناء ثم تلتوي به الظنون لتقضي به إلى الجنون يتراءى في لفظ المذهب الذي تذهب القصص إلى انه أحد ولد الشيطان يعرض للمتطهرين فيوهمهم ان طهارتهم فاسدة فيعيدونها وبهذا تؤول السماحة إلى نوع من الإمعان في التطهر والحرص عليه إمعاناً يتجاوز حدود المعقول والمألوف .
والبيت بعد ذلك ينتزع من الكرم المأسوي فيه حينما يرتبط الكرم بالمال الذي تعبث به العطايا حتى ينتهي ذلك الجانب الذي انبثق منه الفصيل المهزول والكلب الجبان والرماد الكثير وجميعها تحمل معاني الغنى الذي يؤول إلى فقر ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالذهاب والفناء .
ولذلك يلتقي الكريم في ذهن أبي تمام وقد وقف صامداً وسط الفناء الذي يحيط به بالبارق يشق داكن السحب والكوكب يهتك دياجير الظلام ولهذا ترددت أصداء النكبة الجلل والحادث الداجي فيما تبع هذا البيت من أبيات يقول فيها :
ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت *** فيه الظنون : أمذهب أم مذهب
ورأيت غرته صبيحة نكبة *** جلل فقلت : أبارق أم كوكب
متعت كما متع الضحى في حادث *** داج كأن الصبح فيه مغرب .
ومما عابه عليه العسكري والآمدي قوله :
إنّ من عق والديه لملعون *** ومن عقّ منزلاً بالعقيق . 2/ 431
فقد عدوه من التجنيس الذي بلغ الغاية في الركاكة والبشاعة والهجانة وذلك أنهم تلمسوا فيه معنى أصلياً أولياً وقعت منه الألفاظ موقع الزينة فلم يجدوه غير أن من شأن الاعتداد بألفاظ البيتوإعادة قراءته في جملة الأبيات التي ورد فيها من شأنه أن يكشف لنا أبعاد الرؤية التي تحرك كلماته يقول أبو تمام :
ما عهدنا كذا بكاء المشوق *** كيف والدمع آية المعشوق
فأقلا التعنيف إنّ غراما **** أن يكون الرفيق غير رفيق
واستميحا الجفون دّرة دمع *** في دموع الفراق غير لصيق
إنّ من عق والديه لملعون *** ومن عق منزلاً بالعقيق
فقفا العيس ملقيات المثاني *** في محل الأنيق مغنى الأنيق
إن أول ما يشد أسماعنا هو أن حرف القاف هو الصوت المحرك لهذه الأبيات فكما أنه كان بجرسه الفخم يشكل القرار الذي تنتهي إليه أصوات كل بيت فقد كان كذلك يتردد في ثنايا الأبيات بصورة جلية , وحسبه أنه تردد خمس عشرة مرة في الأبيات الخمسة الأولى السالفة وظل مسيطراً على القصيدة بكاملها .
كذلك فكرة العقوق والمنزل وما يشتمل عليه من إنكار لما يجب أن يكون وتنكر له تطالعنا من بدء القصيدة في صورة إنكار النحيب على المشوق مع أنه من علامات الحب والوله وفي صورة الرفيق الفظ العنيف مع أنه مأخوذ في الأصل من الرفق واللين , ولذلك دخلت شبهة الزيف على الدمع لأنه ورد في هذا الجو المشحون بالتناقضات فاشترط فيه أن يكون عريقاً وليس بدعي لصيق .
والصلة بين الوالدين والمنزل صلة وثيقة تمد جذورها إلى تلك الصلة العريقة بين الأم والأرض حينما تتراءى الأرض في نظر الإنسان الشاعر أماً حنوناً تحتضن البشر أحياء وأمواتاً .
وارتباط العقيق بالعقوق يمتد من الجرس الصوتي للفظتين إلى الأصل اللغوي للعقيق الذي هو اسم لكل مسيل ماء لأنه مأخوذ من عق السيل للأرض أي شقه لها وفتكه بها .
إننا ندرك أن الشاعر في البيت { إن من عق والديه لملعون ... } يقرن بين عقوق الوالدين وعقوق منزل الأحبة في محاولة منه لإقناع عاذليه بأنه لم يخرج عما يجب حينما بكى واستبكى واستوقف على أطلال الأحبة لأن كل ذلك ينزل منزلة البر الذي لا ينفصل عن بر الوالدين يدرأ به الإنسان تهمة العقوق وما تستوجبه من اللعن .
قال الخارزنجي أحد شراح ديوانه : ويجوز أن يكون معناه رداً على عاذله الذين قالوا له أقصر من بكائك واخفض من صوتك فرد عليهم : ما نحيب المشوق على ما تصنعون وكيف يكون كذلك وإنما علامة المشوق نحيبه وكثرة بكائه وغزارة دمعه فأقلوا بتعنيفي وعذلي على ما ترون من ذلك وأسعداني عليه .. وتأمل قوله :
وركب يساقون الركاب زجاجة *** من السير لم تقصد لها كف قاطب
فقد أكلوا منها الغوارب بالسرى *** وصارت لها أشباحها كالغوارب
يُصرّف مسراها جُذيل مشارق *** إذا آبه همٌّ عُذيقُ مغارب
يرى بالكعاب الرود طلعة ثائر *** وبالعرمس الوجناء غرة آيب . 1/ 201
تهزنا الصورة الفنية التي استخدم فيها الشاعر أنواع البديع وتأخذنا روعة الاستعارة التي اتكأ فيها على تشخيص المجرد والحق أن أبيات أبي تمام هذه سكب فيها شيئاً وافراً من عبقريته وفنه وحقنها بصنعة من الجناس والطباق دون أن يؤثر في عمق صورها وثرائها وعلى الأخص بيتاه الأولان اللذان صور فيهما السير الشديد الذي يتعب المطي فكأنهم يسقونها خمراً
ثم ينتقل إلى الصورة الثانية في وصف شدة إنضائهم للركاب وكأن السرى قد أكل غواربها فصارت أشباحهم التي تتراءى للناظر كأنها أسنمة لهذه الركاب . وفي البيتين جناس بين ركب وركاب وترديد بين الغوارب والغوارب.
أما البيتان التاليان ففيهما شيء من التعمل وربما يعود السبب في هذا إلى كونهما بداية المدح والانتقال من المعاني الإنسانية العميقة كالحديث عن الأربع والملاعب والأحبة والدموع والفراق ثم وصف السير والركاب والعناء الشديد إلى ذكر قائد الركب ( ويعني نفسه ) فيصفه بحبه للأسفار والترحال وكرهه للاستقرار ويختم هذا بقوله :
كأن به ضغناً على كل جانب *** من الأرض أو شوقاً إلى كل جانب
*= وأما الرمز فولّده تفكيره العميق وكان يستعين على إحكامه بصبغين مهمين من أصباغ التصوير هما { التجسيم والتدبيج } إذ نراه يجسم معانيه العميقة في صور حسية لا يلبث أن يدبجها بألوان مادية يقول :
أبديت لي عن جلدة الماء الذي *** قد كنت أعهده كثير الطحلب
ووردت بي بُحْبُوحة الوادي لو *** خلّيتني لوقفت عند المذنب . 1/ 261
حيث رمز للكرم في البيت الأول بجلدة الماء , ذلك الماء الذي عهده الناس كدراً متغيراً , ورمز إلى ذلك بكثرة ما يعلوه من الطحلب , ثم انتقل مع الممدوح إلى بحبوحة الوادي وهكذا بدأ الغموض يتسلل إلى هذا الشعر ابتداء من قوة جلدة الماء حيث استعان بالرمز الذي دخل به الشعر في فك الإبهام والغموض .
كأنه يقول له إنك صفّيت لي العطاء وكنت أراه من غيرك كدراً وعسراً ولكن انظر كيف رمز لهذه الفكرة فإنك تراه يبدأ فيجعل للماء جلدة كما قالوا جلدة السماء وأديم الأرض ثم يستمر فيعبر عن الكدر والعسر بركوب الطحلب للماء ويصور نفسه مع ممدوحه في بحبوحة الوادي وقطع الرياض بينما غيره يقف به عند المذنب فلا يُنيله إلا الوشل القليل .
ويستخدم أبو تمام التدبيج للتعبير عن فكرة بعيدةكما في رثائه لابن حميد الطوسي وقد قتل في الحرب :
تردّى ثياب الموت حُمراً فما دجى *** لها الليل إلا وهي من سندس خضرُ . 4/ 81.
فقد جنح إلى التدبيج يستمد منه ما يريد من الرمز عن أفكاره ألا تراه يعبر عن قتل ابن حميد بتلك الثياب الحمر التي غرقت في أصباغ الدم , حتى إذا دجى الليل وأظلم القبر أبدله منها ثياباً سندسية خضراء ليعبر عن رضوان ربه . وسيأتي لهذا البيت بيان آخر . واقرأ قوله :
إن الحمامين من بيض ومن سُمُر *** دَلْوَا الحياتين من ماء ومن عُشُب . 1/ 61
فقد جعل للحمام أو للموت لونين يختلفان باختلاف السمرة والبياض في ألوان القنا والسيوف واستمر فعبر عن الحياة بلونين فإما حياة عز بيضاء لا تشوبها شوائب الاضطهاد وإما حياة ذل تسودُّ الوجوه فيها وتضيق الصدور بأنفاسها يقابلان هذين اللونين السابقين وهما لونا الماء والعشب . وكل ذلك ليرمز عن أسباب الحياة والموت . ويستخدم التدبيج للرمز عن حوادث الدهر النحس منها والسعيد بتصويره لتلك المطايا من بيض وسود , فيقول :
أما وأبى الرّجاء لقد ركبنا *** مطايا الدهر من بيض وسود . 4/ 636
ويحتلّ اللونان الأبيض والأسود مكان الصدارةبالنسبة إلى الصورة اللونية عنده , أما الأبيضفهو عنده رمز الإشراق والعطاء والصفاء والشرف : 3/ 56
وَرْداً كتوريدِ الخدود تلوّنَتْ *** خَجَلاًوأبيضَ في بياضِ فَعالِهِ . 3/ 56
وأما الأسود فهو رمز القوة تارة :
وقائعُ قد سَكبْتَ بها سواداً *** على مااحمَرَّ من ريشِ البريدِ . 2/ 41
ورمز للعار تارة أخرى, يقول في ذمّ الأفشين وبابكومازيّار :
سودُ الثيابِ كأنّما نسجَتْ لهُمْ *** أيدي السُّمومِمدارِعاً من قارِ . 2/ 208
ومن الطبيعي أن يرتبط السواد بالموت، فللموتوجوه سود وسيف أسود وقد يستخدم أبو تمام هذااللون للإيحاء بحالة شعورية :
عادَتْ له أيّامُهُ مسودَّةً *** حتّى توهَّمَ أنّهُنَّليالي
إنه شعور بالإحباط واليأس والحزن، أوحاه إليناالشاعر من خلال الصبغ الأسود الذي اصطبغت بهأيامه. وهو شعور شبيه بذلك الذي يوحيه إلينا فيقوله :
إن شئتَ أنْ يَسوَدَّ ظنُّكَ كلُّه *** فأَجِلْهُ في هذاالسوادِ الأعظمِ . 3/ 250
فاللون الأسود عند أبي تمام، ومن خلال الأمثلةالمتقدمة، ذو قيمة سلبية بشكل عام . إنه رمز لكلّ ماهو مثير ومعادل للمشاعر والقيم السلبية.
وقد يُخضع أبو تمام هذين اللونين لفكره،فيستخدمهما معاً معبّراً بذلك عن فكرة التضاد التيطالما أولع برسمها. فإذا السواد يصبح بياضاًوالبياض يصبح سواداً، وكأن اللونين مشتقانبعضهما من بعض ولا علاقة تضاد بينهما أصلاً.
يقول عبد العزيز سيد الأهل: ( إذا كان الضوء علىقدر الحاجة انفتحت له العين واهتدت إلى السبيل،فإن سطع وبهر اختبأت الحدقة وراء الجفون وضلّتالطريق، وارتدّ هذا البياض سواداً، أو صار كالسوادالذي لا يُرى فيه شيء فالسواد، والحال هذه، بياضمبالغ فيه ) .
لقد أعجب الشعراء العباسيون المحدثون بهذاالمعنى الفلسفي فذكره ثلاثة من أعلامهم : أبونواس والمتنبي وأبو تمام . يقول الأخير :
رجلٌ بدا فملا المشارقَ نُورُهُ *** متهللاًكالجَونةِ البيضاءِ
يشرح عبد العزيز سيّد الأهل هذا البيت فيقول: ( يريد ذلك المعنى الفلسفي، وهو أنّ الإشراق فيممدوحه اشتدّ فسطع وبهر حتى عشيت العيون فيهفلم تره، فصار كأنه سواد، ولكن الأدب يترك هذاالتوضيح لئلا ينزل عن منزلته وجودته الأدبية،فيشير له إشارات ) . إلى هذا المعنى الفلسفي قصدأبو تمام في مطابقته بين البياض والسواد فيمعظم شواهده :
فقوَّمْتَ لي ما اعوجَّ من قصد همّتي *** وبيَّضْتَ لي ما اسْودَّ من وجهِ مَطلبي 1/ 156
وينفرد أبو تمام بذكر اللون البنفسجي، وهو أحدمركبات الأحمر، يتألف من مزيج الأحمر والأزرق , وهو عنده رمز المرارة ونقيض الحسن :
لها من لوعة البينِ التِدامٌ *** يعيدُبنفسجاً وردَ الخدودِ . 2/ 32
والبنفسجي درجات، لكن أبا تمام، ومن خلالالعلاقة القائمة بين هذا اللون ولون الورد يقصدالبنفسجي المائل إلى الحمرة، ولعلّ هذا اللون أكثرانسجاماً مع المعنى النفسي الذي رمى إليه.
أمّا المعنى النفسي الذي يوحي به هذا اللون، فإنأهم صفة يدلّ عليها هي صفة الأنانية والشهوة . وقد عرفنا هاتين السمتين بارزتين عند أبي تمام .
وللأخضر قيمة جمالية متميّزة عند أبي تمام، فهوعنده رمز الإشراق والحبور عامة. ولكنْ تنضويتحت راية هذا الرمز العام عدة دلالات رمزية، تقومالخضرة بالإيحاء بها. فهي تارة رمز الشرفوالرفعة، وتارة رمز الحياة. ولكنّها غالباً ما تكونرمزاً إلى الصفاء والعطاء. ومن نماذج الوظيفةالأولى قوله :
لا تَبْعَدَنْ أبداً ولا تبعُدْ فما *** أخلاقُكَالخُضْرُ الرُّبا بأباعِدِ . 1/ 403
ومن نماذج الوظيفة الثانية قوله :
نَوْرُ العرارةِ نورُهُ ونسيمهُ *** نَشْرُ الخُزامىفي اخضرارِ الآسِ . 2/ 249
وإنما ذكر الآس لأنه يوصف بدوام الخضرة وفيذلك رمز إلى الحياة المتجددة المستمرة . وإذا ماانتقلنا إلى نماذج الوظيفة الثالثة (الصفاء)، فإننانراها في مثل قوله :
صافي الأديمِ كأنّما ألبسْتَهُ *** مِنْ سُندُسٍبُرْداً ومِن استبرَقِ . 2/ 415
وأما فكرة العطاء والجود فتظهر في قوله :
وإذ أنا ممنونٌ عليَّ ومُنْعَمٌ *** فأصَبَحْتُ منخَضْراءِ نُعماكَ مُنعِمَا . 3/ 244
وقوله في عطاء السماء : 2/ 391
كم أهدتِ الخضراءُ في أحمالِها *** للأرضِ منتُحَفٍ ومن ألطافِ . 2/ 391
وما تكرار الخضرة في القصيدة الأخيرة إلاّ تأكيدللصوق فكرة العطاء بهذا اللون:
وكأنَّني بالشَّدقَمِيَّةِ وسْطَه *** خُضْرَ اللُّهَىوالوُظْفِ والأَخفافِ . 2/ 392
فالأخضر بالنسبة إلى أبي تمام يحمل في طياتهقيمة رمزية إيجابية. فهو رمز الحبور والإشراق، بلإنّه رمز الحسن على الإطلاق :
لمّا استقلّ بأردافٍ تُجاذِبُهُ *** واخضرَّ فوقَجُمانِ الدُّرِّ شاربُهُ
أحلى وأحسنُ ما كانتْ شمائِلُهُ *** إذ لاحَعارِضُه واخضرّ شاربُهُ . 4/ 159
*= والاستعارة مشكلة المشكلات في شعر أبي تمام ومحور الخلاف بينه وبين النقاد المحافظين المتأثرين بالذوق العربي القديم , يقول الآمدي : ( إن أبا تمام عدل في شعره عن مذاهب العرب المألوفة إلى الاستعارات البعيدة المخرجة للكلام إلى الخطأ والإحالة )
وأساس المشكلة كما يصورها الآمدي أن ( مذهب العرب في الاستعارة أنها تستعير المعنى لما ليس له إذا كان يقاربه أو يدانيه أو يشبهه في بعض أحواله أو كان سبباً من أسبابه فتكون اللفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشيء الذي استعيرت له وملائمة لمعناه )
والمشكلة أن النقاد القدماء وقفوا عند أحكام معينة ومعايير فكرية محددة سلكت بهم مسلكاً خاصاً في تناول صوره الشعرية وأدت بهم إلى تصور محدد لمفهوم الاستعارة والتشبيه ودورهما في القصيدة فقصرت عن استيعاب اللغة الشعرية عند أبي تمام ولعل مرد ذلك إلى عوامل منها : الجمود على المعنى الوضعي للكلمة , فلم يكن الآمدي وغيره يدركون أن الألفاظ تحمل في طياتها إمكانيات للمعاني لا تتحدد إلا في السياق وأن المعنى ليس سوى محصلة لتشابك العلاقات بين ألفاظ التركيب .
وكذلك لم يكونوا يتصورون أن الشاعر يبدأ عمله بتدمير الدلالة المعهودة في اللفظ ليبعث فيه الحياة مرة أخرى من خلال تركيب لغوي جديد يفجر كل الإمكانات الكامنة فيه ويعيد إلينا الوعي الكلي بالأشياء ذلك الوعي الذي كان يتسم به الإنسان الأول حينما كانت تسميته للشيء تتضمن خلاصة تجربته الوجدانية معه , وحينما يستخدم الشاعر الكلمة يحطم الدلالة الوضعية لها ليطلق ما يكمن فيها من طاقات شعرية ولذا يصبح الشعر موت للغة وحياة لها في نفس الوقت .
ومن العوامل التي أدت إلى التقصير في تناول الصورة في شعر أبي تمام اعتبار الخيال الذي يعد أصل الصورة تاليا للمعنى العقلي ثم أخذ الاستعارات على أنها نقل للفظ لا تخرج به عن حدوده العقلية وتجزئتها على وجه لا تتضح فيه وظيفتها في الشعر فلا تخرج عن كونها مجالاً لتحسين المعنى الأصلي وتزيينه أو التدليل عليه وتبريره وبذلك تفقد أصالتها .
حينما قال أبو تمام :
لا تسقني ماء الملام فإنني *** صبٌ قد استعذبتُ ماء بكائي . 1/ 22
فإنه وضع سامعيه في حيرة تساوت فيها سذاجة من حمل إليه إناء ليملأه مع سفسطة من استنكر أن يعبر أبو تمام عن الشيء المر بالماء العذب , وابتدأ الإشكال حينما فصل بين أجزاء التركيب فنظر إليه على أنه { ماء } أضيف إلى { الملام } , ولم يكن لفظ الماء يعني لديهم أكثر من ذلك السائل الذي نشربه إذا أحسسنا بالعطش فكان الصعب التوفيق بينه وبين الملام واكتشاف العلاقة التي تربط بينهما .
حاول الصولي تبرير هذا التركيب بأنه لتحسين البيت بإيراد لفظ الماء في أوله كما جاء في آخره , انظر : أخبار أبي تمام للصولي ص : 35. وتبعه في ذلك الآمدي وأضاف أنه لما كان في مجرى العادة أن يقول القائل أغلظت لفلان القول وجرعته كأساً مرة أو سقيته منه أمرّ من العلقم وكان الملام مما يستعمل فيه التجرع على الاستعارة جعل له ماء على الاستعارة .
إلا أن ابن سنان الخفاجي رفض استساغة هذا الاعتذار رغم اعترافه أنه أقرب التبريرات إلى الصحة لأنه كان يرى أن الاستعارة إذا بنيت على استعارة بعدت , وإن اعتبر فيها القرب فماء الملام ليس بقريب وإن لم يعتبر فيها لم ينحصر وبنى على كل استعارة استعارة وأدّى ذلك إلى الاستحالة والفساد . وكذلك رفض ابن سنان ما ذهب إليه الصولي من قياس { ماء الملام } على ماء الشباب فقال : المراد بماء الشباب الرونق كما يقال ثوب له ماء .
ويقصد بذلك رونقه ولا يحسن أن يقال ما شربت أعذب من ماء هذا الثوب كما لا يجمل أن يقال ما شربت أعذب من ماء هذه القصيدة لأن هذا القول مخصوص بحقيقة الماء لا بما هو مستعار له .
وأبو تمام بقوله : { لا تسقني ماء الملام } ذاهب عن هذا الوجه على كل حال , ثم لا يجوز أن يراد هنا بالماء الرونق لأن الملام لا يوصف بذلك وإنما يذم ويستقبح ولا يحمد ولا يستحسن . انظر : سر الفصاحة ص : 134.
أما ابن الأثير فقد عد { ماء الملام } من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم وهو قريب من وجه , بعيد من وجه , ثم فسر ابن الأثير ما ذهب إليه قائلاً : ( أما سبب قربه فهو أن الملام هو القول الذي يعنف به الملوم لأمر جناه وذاك مختص بالسمع فنقله أبو تمام إلى السقيا التي هي مختصة بالحلق كأنه قال : لا تذقني الملام ولو تهيأ له ذلك مع وزن الشعر لكان تشبيهاً حسناً لكنه جاء بذكر الماء فحط من درجته شيئاً , وأما سبب بعد هذا التشبيه فهو أن الماء مستلذ والملام مستكره فحصل بينهما مخالفة من هذا الوجه ) المثل السائر 2/ 152.
يتضح مما سبق أن الماء لدى النقاد السابقين له حقيقة محددة ودلالته لا تخرج عن الرونق الذي ينسجم مع حقيقته والملام إنما يذم ويستقبح ويستكره ولا يمكن أن يحمد وبهذا تتنافر أطراف التركيب تنافراً تأباه المعايير البلاغية لقياس سلامة الاستعارة .
ولم يستطع ناقد معاصر كمحمد مندور أن يفلت من هذا الجمود على المعنى الوضعي للكلمة والخضوع له في تناول الشعر فهو يستنكر التنافر في تركيب { ماء الملام } متسائلاً : كيف يعبر عن هذا الشيء المرّ بالماء العذب ؟ !! قائلاً : إن أبا تمام لا يتصور من كل ذلك شيئاً ولا يحس بشيء وإنما هي صنعة باطلة ثم كيف يقاس ماء الملام بالكأس المرة ؟ بل كيف يكون للكلام ماء ؟ وبعد أن رفض د / مندور ما ذهب إليه الصولي والآمدي في الاعتذار لأبي تمام قال : إنما النقد الصحيح هو أن أبا تمام قد أراد البديع فخرج إلى المحال وقد ذكر ماء البكاء فكان لا بد له وفاء للبديع ورداً للأعجاز على الصدور أو رداً للصدور على الأعجاز من أن يذكر ماء الملام وهذا سخف يدل على الإسراف وصفاقة الذوق عند أبي تمام وعند ناقديه . انظر : النقد المنهجي عند العرب ص : 98.
وليس الأمر كما بدا لمندور ولكنها روح كلية تهيمن على القصيدة بأكملها فتسم معالمها بطابع السهولة حتى يكاد ينضح كل بيت من أبياتها ماء يتراءى أحياناً في الدجنة الوطفاء التي انحل فيها خيط كل سماء في قوله :
ومعرّس للغيث تخفق بينه *** رايات كلّ دجنة وطفاء
نشرت حدائقه فصرن مآلفا *** لطرائف النواء والأنداء
فسقاه مسك الطّلّ كافور الصبا *** وانحلّ فيه خيط كل سماء . 1/ 23-24
ويتجلى تارة أخرى في السلافة التي عندما مزجت تعلمت من حسن خلق الماء :
صعبتْ وراض المزج سيء خلقها *** فتعلّمتْ من حسْن خَلْق الماء . 1/ 29
وتارة ثالثة في القلب الذي تفجرت فيه ينابيع الوعد فظلت تحوم عليه طيور الرجاء :
لمّا رأيتك قد غذوت مودّتي *** بالبشر واستحسنت وجه ثنائي
أنبطتُ في قلبي لوائك مشرعا *** ظلّت تحوم عليه طيرُ رجائي . 1/ 35
وإذا وقفنا وقفة تأمل عند قوله :
لا تسقني ماء الملام فإنني *** صبٌ قد استعذبتُ ماء بُكائي
فإننا نلاحظ أن قوله : { إنني صبٌ } الذي توسط شطري البيت هو الذي فجر الماء في كلا الشطرين ذلك أن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين الصبابة والسيولة حتى إن معاني الصبابة تمتد لتشمل الماء والعرق والدم والعشق وكثيراً ما ارتبطت الصبابة بالبكاء حتى عدّ أبو تمام في بعض شعره الزفرات حقاً من حقوق الصبابة فقال : 2/ 111
ومن زفرة تعطي الصبابة حقها *** وتوري زناد الشوق تحت الحشا الصّلد .2/ 111
فمن سمات الصب أن يكون باكياً سائل الدمع ومن هنا تولدت فكرة استعذاب الصب للدمع واستمرائه له . وفكرة الاستعذاب هذه هي التي أحالت الدمع إلى ماء أو جعلته يسمي الدمع ماء . وما دام الدمع قد استحال إلى ماء يستعذب فإن من شأنه أن يحقق الارتواء والاكتفاء ولذا يرفض الشاعر كل لوم يحول بينه وبين هذا الماء المستعذب , غير أن سيطرة فكرة الماء الذي تفجر في ماء البكاء أحال قوله : { لا تلمني } إلى { لا تسقني } لأنه مرتو بماء بكائه , واللوم من شأنه ان يحرمه من هذا الماء ومن هنا تفجر الماء في لفظ الملام .
ونعود إلى جدلية الألفاظ التي لعبت دوراً بارزاً في تكوين العلاقات بين ألفاظ الأبيات فماء البكاء وهو الدمع المر المذاق يصبح مستعذباً سائغاً , والملام الذي يرتبط عادة بالقسوة والشدة يتفجر منه الماء وهذه الضدية تطل علينا في القصيدة نفسها في السلافة الضعيفة القاتلة :
وضعيفة فإذا أصابت فرصة *** قتلتْ كذلك قدرة الضعفاء . 1/ 30
وفي النار والنور اللذين قيدا بوعاء :
فكأن بهجتها وبهجة كأسها *** نارٌ ونورٌ قُيّدا بوعاء . 1/ 32
وإذا عدنا مرة أخرى إلى قوله { ماء الملام } الذي حير النقاد فإن علينا أن نعلم أن إدراكنا للماء لا يتأتى بفصله عن الملام كما لا يتأتى إدراك الملام بعد فصله عن الماء فالعلاقات المتبادلة بين الألفاظ هي التي تحدد المعنى وتوضح أبعاده وعندئذ لا يغدو لفظ الماء مجرد إشارة إلى ذلك السائل الذي لا يختلف اثنان في إدراكه , وإنما هو رمز يحتضن تجربة الإنسان الأولى فالماء يحتضن الحياة كما يحتضن الموت ويفضي إلى الأمرين جميعاً فقد ينعم به الإنسان غيثاً يهبه الحياة وقد يعانيه سيلاً يجتث كل معالمها .
وبالتالي فعندما قال أبو تمام { ماء الملام } فقد كان يفجر في الماء كل هذه الطاقات الكامنة فيه مقاوماً بذلك الإلف والعادة التي كانت تؤخذ بمقتضاها اللفظة فلا تخرج عن معناها الدارج إلى شيء آخر .ومن الاستعارات المستمدة من الماء قوله :
كأني حين جرّدت الرجاء له *** عضبا صببت به ماء على الزمن . 3/ 339
وهي مما استهجنه الآمدي من استعاراته التي عدها في غاية الغثاثة والهجانة والبعد عن الصواب . انظر : الموازنة 1/ 265. ووصفها القاضي بأنها مما يصدئ القلب ويعميه ويطمس البصيرة ويكد القريحة . انظر الوساطة ص : 40. غير أن الماء هنا تتفجر في معالم القتل والفتك ويغدو وسيلة للقهر والسيطرة والتمكين فطالما قاوم به الإنسان الموت وتغلب على الهلاك فكان سفينته إلى النجاة ووسيلته إلى الخلاص .
إن الغموض الذي يضفيه الماء على ما يضاف إليه من ملام أو ضلال أو دهر أصل من أصول مذهب أبي تمام الشعري تبدو فيه الأشياء شاحبة باهتة فقدت معالمها المادية الصارمة وحدودها العقلية المجردة وتمردت على ما جرى عليه العرف وأخذ به في العادة فارتفعت إلى أفق شعري يأخذ طابعاً مغايراً للواقع وربما كان مخالفاً له ومتناقضاً معه . وهذا أحد أسباب رفض النقاد في عصره وفي غير عصره لكثير من استعاراته وصوره وإمعانهم في هذا الرفض .
والمقرر عند علماء البلاغة أن الاستعارة تقوم في أساسها على التشبيه بين المستعار له والمستعار منه لكن أبو تمام خرج على هذا المذهب , ومن هنا انكروا عليه قوله :
راحت غواني الحي عنك غوانيا *** يلبسن نأياً تارة وصدودا . 1/ 408
وقالوا إن النأى والصدود لا يلبسان إذ لم يعرف عن العرب أنهم شبهوهما بالثياب .
ويقول الآمدي : ومن أخطائه :
دعا شوقُه يا ناصر الشوق دعوة *** فلّباه طل الدمع يجري ووابله . 3/ 22
أراد أن الشوق دعا ناصراً ينصره فلباه الدمع بمعنى أنه يخفف لاعج الشوق ويطفئ حرارته وهذا إنما هو نصرة للمشتاق على الشوق , والدمع إنما هو حرب للشوق لأنه يثلمه ويتخونه ويكسر حده .
وقال المرزوقي في توجيهه : ( ويجوز أن يكون أراد بناصر الشوق الحزن لأنه يضرم ناره ويثير ما كمن منه ويهيج ساكنه فيكون المعنى أن الشوق دعا ماله واستغاث به وهو الحزن فأجابه ما عليه وكان خاذله وهو البكاء , وقد صرّح أبو تمام بهذا المعنى فيما قبله فإنه قال :
لقد أحسن الدمع المحاماة بعدما *** أساء الأسئ إذ جاور القلب داخله
ويجوز أن يكون أراد بناصر الشوق : يا ناصراً على الشوق , وجاز إضافته إليه على طريقتهم في إضافة الشيء إلى الشيء كان له أو عليه أو منه أو به أو معه وهذا مشهور عند أهل العربية ) شرح مشكلات ديوان أبي تمام ص : 228 . وأنكروا عليه قوله في الرثاء :
أنزلته الأيام عن ظهرها من *** بعد إثبات رجله في الركاب . 4/ 46
لأنهم رأوا في تلك الأيام التي يرسمها في صورة مطية تُركب , ويثبت الراكب رجله في ركابها صورة غريبة غير مألوفة لدى العرب لأن العرب لم يشبهوا الأيام بالمطايا . ومن استعاراته قوله :
رقت حواشي الدهر فهي تمرمر *** وغداالثرى في حلية يتكسر . 2/ 191
يشخص الدهر ويتمثله بشكل حسي في الحواشيالرقيقة فكأنه عروس تتثنى في حليها وتنكسر فيزينتها وهي صورة حسية بصرية مجسدة . وأخذوا عليه قوله :
رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه *** بكّفيكما ماريت في أنه بُرْدُ . 2/ 88
فقد أكثر النقاد القدماء من تشنيعهم عليه فذهب الآمدي إلى أن أبا تمام قد أخطأ فلا أحد من شعراء الجاهلية والإسلام وصف الحلم بالرقة وإنما يوصف بالعظم والرجحان والثقل والرزانة وإذا ذموا الحلم وصفوه بالخفة فيقولون خفيف العلم وطائشه , وكذلك أخطأ أبو تمام لأنه وصف البرد بالرقة وهو لا يوصف بذلك وإنما يوصف بالمتانة والصفاقة .
وفطن المرزوقي إلى أن الرقة في هذا البيت نقيض للغلظ وهو الفظاظة والقسوة , فالرقة في البيت تقوم مقام اللطف .
والجدير بالملاحظة أن النقاد والشراح قد أخذوا الحلم في بيت أبي تمام على أنه مرادف للعقل والأناة ولذلك استقبحوا أن يوصف بالرقة ولم يدركوا أن الحلم هنا حالة نفسية تدل على التسامح والعفو والصفح وذلك يتضح من خلال مقابلتها في البيت التالي بالشدة والفتك في قوله :
وذو سورة تفري الفرىّ شباتها *** ولا يقطع الصّمصام ليس له أحد . 2/ 90
وإذا أصبحت السماحة والعفو وقمع الغضب من أقوى مقومات الحلم تجلت لنا رمزية البرد الذي وصف به الحلم لما بين العفو والبرد من ارتباط وثيق فمن شأن البرد إذا اقترن بالحلم أن يجعله يرق حتى تحويه الكفان وأن يصبح له حواشي وأطراف وكل ذلك تربطه شبكة من العلاقات الضدية مع البيت الذي تلاه وهو قوله :
وذو سورة تفري الفرىّ شباتها *** ولا يقطعالصّمصام ليس له أحد
فاللين والتسامح يقابله الشدة والفتك والحلم الذي ترق حواشيه تقابله السورة التي تفري شباتها وإذا كان الحلم قد آل إلى برد رقيق الحواشي فالسورة لم تلبث أن آلت إلى سيف قاطع فصرامة السيف تقابل رقة البرد ومن خلال هذه العناصر المتقابلة تتحدد الأبعاد الشعرية للأخلاق العليا المثالية للإنسان وهذا التقابل عنصر أصيل في إبداع أبي تمام الشعري .
وهذه استعارة قائمة على التجسيد يقول :
أخاف فؤاد الدهر بطشك فانطوت *** على رعب أحشاؤه وأجنّت . 1/ 307
صورة شديدة الرعب قامت على التجسيد حيث جسد الدهر وشخصه في صورة مخلوق له فؤاد وأحاسيس فمن شدة هلعه انطوى على نفسه وأحشائه فهي صورة غريبة عنا , كيف لنا أن نتخيل ذلك الشيء الحسي أو المعنوي بأنه شيء مادي يحس ويخاف ؟ ومن روائعه قوله :
مطر يذوب الصحو منه وبعده *** صحويكاد من النضارة يقطر . 2/ 192
هذه استعارة أخرى فائقة يصف فيها الشاعر فتنةالربيع بأنه مجمع الضدين الصيف في الصحووالشتاء في مطر فالصيف يتراءى في طقسهوالشتاء يتراءى في زهرة بل إن المطر في الربيعليحمل بين أطوائه الصحو المشرق الجميل كمايحمل الصحو بترطيبه للجو نضرة المطر إن هذهصورة غريبة من المطر الذي يذوب منه الصحووالصحو الذي يذوب منه المطر .
واستعار الشاعر للمطر صفة الذوبان وكأن للمطرقابلة للذوبان , وكيف جعل ذلك الصحو من شدةالنضارة يقطر ماء ومطرا إنها فلسفة وعقلية أبيتمام الذي ربط بين الصحو والمطر .
وهذه استعارة أخرى يتحدث أبو تمام فيها عن وقعةعمورية فيقول :
يا يوم وقعة عمورية انصرفت *** عنك المنىحفلا معسولة الحلب . 1/ 46
صورة استعارية غريبة فقد استعار ابو تمام الحفلللمنى فأصبحت المنى تشبه بالتي حفل ضرعهاباللبن وهو بذلك اراد ان يوضح أن عودة المسلمينهو انتصار حقق رغائبهم وأتم سرورهم فقال :
حتى إذا مخض الله السنين لها *** مخضالبخيلة كانت زبدة الحقب . 1/ 49
هذه المدينة صارت كالزبدة وأتى المعتصم ففتحهاوهو في هذا البيت استعار المخض للسنين وجعلهمخض البخيلة لأنها أشد اجتهاداً من السمحة فهيتطيل مدة المخض . ومن خلال هذه الاستعارة نجدأن الشاعر قد شبه جمع الله السنين وإظهارها باللبنالذي يظهر من الثميلة لتصبح عمورية زبدة الدهور.
قال الخطيب التبريزي : ( إن هذه الاستعارة التياستعملها أبو تمام لم تستعمل قبل الطائي ) . ويقول المعري : ( هذه استعارة لم تستعمل قبلالطائي , والمعنى : حتى إذا جمع الله خيرات السنينوأظهرها فيها فصارت هذه البلدة زبد السنين أتتهمالكربة )
*= مطالع قصائده :
هناك مطالع في شعر أبي تمام استهجنها القدماء رغم ما فيها من جدة وإبداع , وهناك مطالع إبداعية استحسنها النقاد . ومن المطالع التي عابها النقاد والدارسون ورأوا أنها لا تليق بشاعر فحل كأبي تمام هي قوله :
أهن عوادي يوسف وصواحبه *** فعزما فقدما أدرك السُّؤل طالبه . 1/ 216
والبيت مطلع قصيدة طويلة تبلغ 44 بيتاً قالها في مدح أبي العباس عبد الله بن طاهر , وهي مقدمة تقترب من مقدمة الفروسية والشجاعة , وفيهايتحدث عن النساء اللائي أكثرن من عذله في شعره ويرى أن رأيهن غير صالح وهن يغررن بمن يسمعهن فيصير إلى ما صار غليه يوسف بن يعقوب عليه السلام – فكيد النساء أوقع به ورماه في السجن ولهذا عليه ان يمضي في عزمه ولا ينصت إليهن حتى يدرك النجاح .
وقد درس القدماء بنية البيت ونبهوا إلى مواطن الوهن فيه فقالوا : ( إن ما جعله رديئاً قوله : { أهن } فابتدأ بالكناية عن النساء ولم يجر لهن ذكر قبل , ثم قال : { عوادي يوسف } ومعناه : صوارف , أراد هن صوارف يوسف , وصوارف هنا لفظة ليست قائمة بنفسها ؛ لأنه يحتاج أن يعلم صوارفه عن ماذا ؟ واللفظة القائمة بنفسها أن لو قال : { فواتن يوسف } أو { شواغف يوسف } وكأنه أراد صوارف يوسف عن تقاه أو عن هداه إنما يتم المعنى بمثل هذه الأوصاف لو وصلها بها , ثم ألحق بيوسف التنوين فجاء بثلاثة ألفاظ متوالية كلها رديئة في موضعها )
والمطلع في نظر القدماء يجب ان يكون محكم الصياغة متين البنية خال من الوهن مشرق الديباجة شريف الألفاظ خال من المعاظلة يسبق معناه لفظه , واستهلال أبي تمام المذكور بني بشكل يجعل الوصول إلى معناه متعباً والكشف عن فحواه مضنياً ويجعل مبناه صعباً غير مستساغ وطريقة الترتيب غير معهودة . فهل نشك في قدرته وفي شاعريته وفي تمكنه من اللغة وأساليب البيان , وهو من هو ؟
والحق أن بداية المطلع باستفهام أمر شائع في مطالع الشعر العربي القديم , وظاهرة مطردة كقول زهير بن أبي سلمى في مطلع معلقته :
أمن أم أوفى دمنة لم تكلّم *** بحومانة الدراج فالمتثلم
وقول عنترة بن شداد :
هل غادر الشعراء من متردم *** أم هل عرفت الدار بعد توهم ؟
وقول المسيب بن علس :
أرحلت من سلمى بغير متاع *** قبل العطاس ورعتها بوادع ؟
فالاستفهام في مطلع أبي تمام استفهام غير حقيقي خرج للتقرير وهو يكشف عن قناعة ثابتة ويقين لا يتزعزع في أن من يعذلنه في شعره مثلهن مثل صويحبات يوسف بن يعقوب يمكرن به ويوصلنه إلى ما لا تحمد عقباه .
أما ابتدأوه بالضمير { هن } كناية عن النساء ولم يسبق لهن ذكر من قبل , واعتبار ذلك عيباً أخل بالمطلع وشوهه فالأمر أيضاً يحتاج إلى بعض التروي والدراسة المتأنية .
إن الضمير يقوم مقام الاسم الظاهر والغرض من الإتيان به هو الاختصار . والضمير المنفصل كما هو الشأن في { هن } يصح الابتداء به , وإن ضمير الغائب لابد له من مرجع يرجع إليه وإلا كان غامضاً قاصراً وهو ما اتهم به أبو تمام .
فأبو تمام لم يخرج عن الأساليب العربية في مطلعه لأن سياق الكلام يعين الضمير الذي وظفه ويوضحه وهو لا يحتاج إلى مذكور قبله لفظاً أو معنى لكي تفهم دلالته .
قال تعالى : ( واستوت على الجودي ) فالضمير يعود إلى غير مذكور لفظاً ولا معنى ولكن سياق الكلام يعينه ويضحه وهو العود إلى سفينة نوح المعلومة .
ومن هنا فأبو تمام لم يوظف الضمير على أساس انه كناية عن النساء ولم يجر لهن ذكر قبل وإنما وظفه لأن السياق يوضح المعنى ويجعل الضمير دالاً على النساء وإن لم يجر لهن ذكر , ويكون إيجازه مقبولاً وجارياً على سنن العربية .
وأما نقدهم الذي وجهوه إلى { عوادي } على أنها ليست قائمة بذاتها لأنها بمعنى صوارف , فإذا قلنا : صوارف يوسف فإن الكلام غير تام لأننا نحتاج إلى معرفة صوارفه عن أي شيء ؟ فقوله : { عوادي يوسف } غامض وغير تام .
والصواب أن الكلمة لا تعني صوارف كما وهم النقاد وإنما تعني المصائب والنوائب , فالنساء اللائي كدن ليوسف ومكرن به حتى أصابه ما أصابه من شر هنّ في الحقيقة مصائب حلّت بيوسف – عليه السلام – وإضافة كلمة { عوادي } إلى يوسف جاء للتعريف بنوعية المصائب وتحديدها وعزلها عن بقية المصائب ونسبتها إلى شكل معين يرتبط بهذه الشخصية
واعتبار تنوين { يوسف } خطأ فهو تشدد من الناقد ومغالاة منه لأن الأصل في الأسماء الصرف وكل ما فعله الشاعر هو انه أعاد الاسم إلى أصله وذلك ليس بعيب .
أما الشطر الثاني من المطلع فهو عويص لا يفصح عن معناه إلا بإعمال الفكر وكدّ الذهن , ويروى أن أبا سعيد المكفوف لما رفعت إليه هذه القصيدة اغتاظ وقال للكاتب : ألقها , أخزى الله حبيباً يمدح مثل هذا الملك الذي فاق أهل زمانه كمالاً بقصيدته يرحل بها من العراق إلى خراسان فيكون بيت نصفه مخزوم والنصف الثاني عويص .
وقد ابتدأه بمصدر نائب عن فعله والتقدير { اعزم } وهو أسلوب إنشائي طلبي يفيد النصح والحث على العزم الصادق والإرادة الصلبة .
وهناك تشابه في الأسلوب بين بداية الشطر الأول وبداية الشطر الثاني وتشابه في الإيجاز الذي يدفع المتلقي إلى إعادة بناء العبارة للوصول إلى الدلالة .
وقد أنهى هذا الشطر بجملة تأخر فيها الفاعل عن المفعول به لاتصاله بضمير يعود على المفعول به لذا وجب تقديمه .
إن من أهم خصائص هذا المطلع :
*= الإيجاز وفيه يعتمد الشاعر على ثقافة المتلقي وجهده للوصول إلى الدلالة . ويظهر هذا الإيجاز في شكل إحالة تاريخية تثري النص وتكثفه وظفها أبو تمام في مطلعه توظيفاً جيداً فأصبح عبارة عن فسيفساء من نصوص وتعالق نص قديم مع نص محدث بتقنية من صاحبه وقد أطلق المحدثون على هذه الإحالة اسم التناص
إن الشطر الأول من المطلع يحيلنا ببراعة إلى نص تاريخي ديني هو جزء من قصة النبي يوسف –عليه السلام – وهو مكر النساء به وأثر ذلك المكر وما سببه له من مصائب , ولعل هذا النص استطاع أن يظهر التلاحم بين حاضر الشاعر المتمثل في النساء اللائي يعذلنه ويرى أنهن سيسببن له المتاعب ويقدنه إلى الهلاك وبين قصة تاريخية دينية كانت النساء فيها عامل إذلال ومصدر متاعب .
*= صعوبة الوصول إلى المعنى إلا بعد مشقة ومعاناة ومرد ذلك في تقديري يعود إلى كيفية تعامل الشاعر مع اللغة وطريقة تشكيلها حيث اعتمد على السياق في لفظة { أهن } والإحالة في { عوادي يوسف } والحذف في المصدر النائب عن فعله { فعزما } والتقديم والتأخير في قوله : { فقدماً أدرك السؤل طالبُه } والاعتماد على الأسلوب الإنشائي الطلبي في الشطر الأول في الاستفهام غير الحقيقي الذي خرج إلى معنى بلاغي يفهم من السياق , وفي بداية الشطر الثاني في المصدر النائب عن فعل الأمر الذي خرج من الحقيقة إلى معنى بلاغي آخر . هذا كله يجعل المطلع عسر الفهم لا يفصح عن معناه إلا بعد كد وعناء .
*= المطلع الثاني :
ومن المطالع التي انتقدت قوله في رثاء محمد بن حميد الطائي :
كذا فليجلّ الخطبُ وليفدح الأمرُ *** فليس لعين لم يفض ماؤها عُذرُ . 4/ 79
وعيب منه هذا الاستهلال لأن المعنى يتطلب أن يكون المرثي موضوعاً أمامه ليقول : { كذا فليجل الخطب } وهو أمر مستهجن وقبيح ووصف بعضهم هذا بالبشاعة .
يقول المرزباني : ( وكانت ابتداءات شعره بشعة منها قوله : كذا فليجل الخطب .... قال : وكان بعضهم يقول : يلزم أبا تمام أن يأتي بمحمد بن حميد مقتولاً ثم يقول : كذا فليجل ... )
وهو استهلال ثقيل بسبب طريقة تعامل الشاعر مع اللغة وتشكيله لها فهي لغة صحيحة سليمة ولكن ليس فيها سلاسة وتدفق ينقصها الطبع والرشاقة فالابتداء باسم الإشارة الذي دخلت عليه كاف التشبيه وإرادفه بفعل مضارع مثقل يجعل التركيب مصنوعاً غير جزل ثم عطف بالواو { وليفدح الأمر } فجمع ثقلاً إلى ثقل وكان كلامه أشبه بالنثر .
يقول صاحب الموشح : ( لم يكن أبو تمام شاعراً إنما كان خطيباً وشعره بالكلام أشبه منه بالشعر ) إن أهم ما في الشعر العذوبة والرشاقة والانسجام والصورة وبراعة الإيحاء .
والإيحاء الذي نكتشفه في هذا المطلع إيحاء سلبي لم يراع الموقف ومقتضى الحال وبخاصة في ابتدائه بـ { كذا } . وقالوا : لا يقال : { كذا فليكن } إلا في السرور . وهو استعملها في الحزن . وجاء في الموشح إن بعضهم قال : { رأيت أبا تمام في النوم فقلت : لم ابتدأت بقولك : كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر . فقال لي : ترك الناس بيتاً قبل هذا , إنما قلت:
حرام لعين أن يجف لها شفر *** وان تطعم التغميض ما أمتع الدهر . 4/ 79
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر...
*= المطلع الثالث :
قدك اتئب أربيت في الغلواء *** كم تعذلون وأنتم سجرائي ؟ 1/ 20
يخاطب أبو تمام صديقاً حقيقياً أو موهوماً ويلتمس منه ان يكف عن عذله وعتابه في الحب لأنه اسرف في ذلك وتجاوز الحد وبخاصة أن هذا الذي يعاتبه هو مثله في الحب يكابد مثل ما يكابد ويعاني ما يعاني فلم يلومه ويسرف ؟
وهو مطلع متكلف ثقيل على النفس ليس لأن ألفاظه غير صحيحة وغير فصيحة أو أن نظمها لم يجر على سنن العربية بل لأن اختيارها وطريقة تشكيلها وجمعها وإسنادها إلى بعضها تسبب عسراً في استقبالها وفي الوصول إلى معناها , فأبو تمام يتحرى الغريب ويبدي في أسلوبه وهو الحضري ابن المدنية والترف والنعمة , فالأولى أن يكون تعبيره عن بيئته الرقيقة وعيشته المترفة .
ولعل جمع أبي تمام للألفاظ { قدك – اتئب – أربيت في الغلواء } في مصراع واحد جعله فاتحة القصيدة وغرتها هو الذي تسبب في نفور مؤقت يحس به المتلقي وعدم استساغه النص وشعور بالقطيعة بينهما ولذا وصف بعض الأقدمين هذا المطلع بالبشاعة .
ومن أهم ما يميز أسلوب هذا المطلع هو طريقة التفات الشاعر من المخاطب المفرد في المصراع الأول إلى جماعة المخاطبين في المصراع الثاني والالتفات ظاهرة فنية بديعية وظفها أبو تمام تطرية لنشاط السامع وإيقاظاً للإصغاء إليه , وبه يتحقق الرد على كل من يلومه ويعذله في حبه فلا يبقى الرد مقتصراً على مخاطب واحد بل هو عام وشامل وحازم .
كما يتميز أسلوب هذا المطلع بأنه إنشائي في مصراعه الأول والغرض البلاغي منه هو التماس مبطن باللوم والعتاب قدمه إلى مخاطبه الذي أسرف في تعنيفه وغالى في عتابه على حبه . وهو إنشائي أيضاً في مصراعه الثاني والغرض البلاغي منه التعجب من حال هؤلاء الذين يعذلونه في حبه وهم مثله .
*= المطالع المستحسنة : يقول في وصف الطبيعة :
رقت حواشي الدهر فهي تمرمر *** وغدا الثرى في حليه يتكسر . 2/ 191
وقوله في مدح داوود بن محمد :
غنّى فشاقك طائر غرّيد *** لمّا ترّنم والغصون تميد . 2/ 148
وقوله يمدح محمد بن الهيثم :
ديمة سمحة القياد سكوب *** مستغيث بها الثرى المكروبُ . 1/ 291
وقوله في مدح أبي دلف القاسم بن عيسى :
قد شرّد الصبح هذا الليل عن أفقه *** وسوّغ الدهر ما قد كان من شرقه . 2/ 402
وأحسن ما في هذه الابتداءات جدة موضوعها وصف الطبيعة وهي ابتداءات تنتمي لمقدمات كاملة خصصت لهذا الغرض وهو بذلك يضيف لوناً جديداً من المقدمات يثري به مقدمات الشعر العربي المعروفة كالمقدمة الطللية والغزلية والطيفية والخمرية والحربية .
وفي هذه المقدمة الجديدة يربط الشاعر بإحكام وبراعة بين بهجة الطبيعة وإشراقها وغناها وفوائدها وبين خصال ممدوحه ويقابل بينهما .
ولعل كلمتي الدهر والليل من الكلمات المشحونة بالهموم والمعاناة والآلام والقسوة في الشعر العربي نجد أبا تمام في مطالعه يذللهما ويضفي عليهما نوعاً من اللين والوداعة فالدهر رقت حواشيه , ولم يعد ذلك العاتي الغاشم الذي لا يقهر ولا يبقي على أي شيء .
والليل صار هشاً يندحر أمام الصبح بسهولة ويسر فلم يعد ظلامه مخيفاً ولا زمنه طويلاً ولا كلكله ثقيلاً .
*= ومن مطالعه التي أبدع فيها وحاز السبق والتفرد استهلاله في قصيدته الرائعة في مدح المعتصم :
السيف أصدق أنباء من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب . 1/ 40
يمتاز هذا المطلع بالفخامة والجزالة وإحكام السبك وجودة التعبير ورقة الألفاظ وروعة الاستهلال ووضوح دلالة الألفاظ التي تحمل أكثر من معانيها فكل لفظ ليس مستقلاً في حد ذاته , وإنما جاء به ما بينه وبين غيره من تناسب وتجانس وتضاد فالسيف استعمل هنا رمزاً إلى القوة والحرب , والكتب وردت رمزاً إلى التنجيم , والحد الثاني ومعناه الفصل بين الشيئين أتت به مجانسته للحد الأول حد السيف , والحد الأول إنما أتى به جناس التصحيف مع الجد ولفظ الجد هنا استدعى اللفظ المضاد وهو اللعب .
والألفاظ هنا يستدعي بعضها بعضاً في تناسق ظاهر وصنعة بينة والأمر لا يتوقف على الشكل لبنية الألفاظ وترتيبها وعلاقاتها بينها بل ينعكس على طريقة تفكير الشاعر , وهي طريقة جدلية معقدة تتمثل في عرض الفكرة ونقيضها ومن طرحهما تبرز الفكرة المنقحة ففكرة القوة والحرب التي يرمز لها السيف تناقضها فكرة التنجيم التي يرمز لها الكتب ومن صراع الفكرتين يبرز اليقين وتتأكد الحقيقة ويدرك الناس خسران الثانية ونجاح الأولى .
ومن تقابل فكرتي الجد واللعب وتضادهما تبرز فكرة ثالثة تقضي على التردد بينهما وتحقق الفصل وهي فكرة القوة الفاصلة هذا التوليد للمعاني عن طريق صراع الأفكار وتضادها فالتضاد هنا أساس الأفكار وهذا مذهب شعري مبتكر له علاقة كبيرة بالفلسفة .
اقرأ وتذوق :
السيف أصدق أنباء من الكتب *** في حدهالحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في *** متونهن جلاء الشك والريب
والعلم في شهب الأرماح لامعة *** بينالخمسين لا في السبعة الشهب
= هذه القصيدة أمّ ملاحمه وهي قصيدة تمثل نقلة كبرى في الشعر العربي وروائعه , وأول ما يطالعنافي هذه الأبيات اعتماد الشاعر اعتماداً كلياً علىالجملة الاسمية , فقد خلت المقدمة الرائعة من أيفعل مع أن جو المعركة والقتال من شأنه أن يطبعهابحركة طارئة عرضية تتجلى في الأفعال يتضح ذلكفي مطلع قصيدة المتنبي في معركة الحدث , يقول :
على قدر اهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي علىقدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها *** وتصغر فيعين العظيم العظائم
فالرؤية الشعرية عند المتنبي تنبع من حركية المعركةواضطراب الجيش فيها ولذلك تتوالى الأفعال بينماتستعلي الرؤية الشعرية عند أبي تمام على حركةالمعركة لتنصرف إلى ما تجليه المعركة من حقائقالأشياء وثبوتها .
وقلة الأفعال ظاهرة أصيلة مميزة لشعر أبي تمامالذي يعتمد اعتماداً جوهرياً على الاسمية فيتركيبه , بينما يرتفع منسوب الأسماء ذلك ان لهابعداً عميقاً عنده فهي لتضمنها الحقائق تكتسبتأثيراً متسلطاً على لغة الشعر . فالصدق كامن فيحد السيف , وجلاء الشك كامن في الصفائح , والعلم كامن في الرماح .
وحينما تظهر الأفعال في هذه القصيدة فإنها لاتلبث أن تتقوقع في صيغة الماضي الذي ربماسبقته حروف النفي فتفرغه من أي دلالة علىالحدث , وأما المضارع فغالباً ما يجيء مسبوقاًبحرف النفي لم فلا تفضي به إلى المضي وإنماتلغيه أصلاً , فالأسنة لم تكهم والرامي لم يصبوالمجيب بغير السيف لم يجب وعمورية لم تشبوالشمس لم تطلع ولم تغب . وتحف بالجملة الفعليةأدوات التشكيك حتى تنزل الحدث منزلة الاحتمالالمتعلق بآخر فتكثر أمثال صيغ : لو رجوا , لو يعلمالكفر , لو لم يقد , لو رمى ...
وأعود وأقول هذه المقدمة الحربية ليست مدحاً للمعتصم وليست حديثاً عن فتح عمورية لأنها لو كانت كذلك لوجدنا أن القصيدة قد بدأت مباشرة بالغرض الأساسي ولكنها كانت حديثاً عن واقعة وأحداث وقعت قبل فتح عمورية جعل منها أبو تمام مقدمة جديدة مرتبطة بالمضمون وهي أن المنجمين قد حذروا المعتصم من فتح عمورية في هذا الوقت إذ إنها لا تفتح إلا في وقت معين وهو وقت نضج التين والعنب كما زعموا ولكن المعتصم لم يسمع لهم فجهز الجيوش وعزم على الفتح فنصره الله وكذب المنجمون . إن أبا تمام بذكائه الحاد وقدرته الفنية وتوقد ذهنه اختار هذا الحدث ليمهد به لمدح المعتصم والحديث عن فتح عمورية
*= ومن مطالعه البهية والفخمة استهلاله في قصيدة يمدح بها المعتصم بقوله :
الحق أبلج والسيوف عوار *** فحذار من أسد العرين حذار . 2/ 198
الجملتان الاسميتان في المصراع الأول توحيان بالثبات والمعرفة اليقينية والجملة الثانية منهما كناية عن التأهب للحرب والاستعداد للذود عن الحق ورد المنحرفين عنه , فالحق واضح مشرق وكل من ينحرف عنه ويضل يجابه بقوة لا قبل له بها , والجمع بين الحق والقوة يحقق العدالة والأمن والاستقرار , وهما في يد أسد العرين وهو ممدوحه ووجود القوة بجانب الحق تجعله مهاباً محترماً مصوناً .
وفي المصراع الثاني يفصح الشاعر عن تحذير شديد من غضبة ممدوحه يوجهه إلى كل فكر أو يفكر في التمرد عليه . وجاء تكرار اسم الفعل حذار ليبعث الخوف والهلع في نفوس المتمردين وخاصة إذا جمعنا هذا التحذير بالسيوف المجردة استعداداً للفتك والتي هي في يد شجاع باسل رهيب . وجاءت الاستعارة التصريحية في قوله : { أسد العرين } لتهويل الموقف ومساندة فكرة التحذير وبعث الرعب في نفوس المتمردين .
*= ومن المطالع الطللية التي جمعت بين عبق القديم وجلاله وجمال الحاضر وبهائه وأسلوب أبي تمام في التضاد وإحكامه وصراع الفكر ونظامه قوله في استهلال قصيدة يمدح بها أبا سعيد الثغري :
من سجايا الطلول ألاّ تجيبا *** فصوابٌ من مقلة أن تصوبا
فاسألنها واجعل بكاها جوابا *** تجد الشوق سائلا ومجيبا . 1/ 157
في البيت الأول من المطلع يطرح فكرتين قديمتين ترددتا كثيرا في المقدمات الطللية تتمثل الفكرة الأولى في أن الطلول لا تجيب سائلها قال لبيد بن ربيعة :
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا *** صما خوالد ما يبين كلامها
وقال زهير بن أبي سلمى :
أمن أم أوفى دمنة لم تكلّم *** بحومانة الدراج فالمتلثم ؟
وهي فكرة وقف عندها النقاد ولم يأخذوها بظاهر معناها بل تعمقوها وأولوها وربطوها بالحياة والموت وقضايا الوجود ومصير الإنسان .
وتتمثل الفكرة الثانية في البكاء على الأطلال وهي فكرة اشتهرت في المقدمات الطللية القديمة حيث لا نجد ذكراً للطلل إلا والبكاء يصحبه بل إنه يشكل عنصراً أساسياً في بناء المقدمة الطللية . قال بشر بن أبي خازم :
تغيرت المنازل بالكثيب *** وغير آيهانسج الجنوب
وقفت بها أسائلها ودمعي *** على الخدين في مثل الغروب
وهذه الفكرة أيضاً لم يأخذها النقاد بظاهر معناها بل تعمقوها وربطوها بالفناء والمصير الإنساني والوجود .
وأبو تمام في بيته الأول من المطلع يقابل بين الفكرتين ويجعلهما متكاملتين تتواجد الثانية بوجود الأولى فالفكرة الأولى سبب وعلة في وجود الفكرة الثانية فإذا كان من طبع الأطلال الدارسة ألا تتكلم وألا تشفي غليل سائلها فحق للواقف عليها المتعلق بها أن يسكب الدمع مدرارا .
وفي البيت الثاني نجد الشاعر يؤكد معنى البيت الأول لكن بتشكيل لغوي يتلاعب فيه بالألفاظ ويعتمد على التضاد لإبراز المعنى وهو شدة الشوق وألم الوجد الذي أضربه وجعله يقف ويبكي .
إن أبا تمام لم يكتف في مطلعه ببيت واحد بل دعمه ببيت ثان يشد من أزره ويحقق معناه وهو أمر كان القدماء لا يقبلونه لأنهم يرون أن المطلع يجب أن يكون بيتاً وحيداً مستقلاً , لكن أبا تمام خرج على هذه السنة وأباح لنفسه أن يكون المطلع أكثر من بيت . ولنتأمل قوله في مقدمة أخرى يدعو فيها للوقوف على الأطلال :
ما في وقوفك ساعة من بأس *** نقضي ذمام الأربع الأدراس
فلعل عينك أن تعين بمائها *** والدمع منه خاذل ومُواس . 2/ 243
هنا دعوة للوقوف على الأطلال والبكاء عليها حيث لا يُسعد المشتاق إلا مشتاق مثله , أما من كان غير ذلك – وكنى عنه أبو تمام بأنه يبس المدامع – فهو لا يعين على البكاء , ومن هنا ينطلق لوصف حال تلك المنازل التي فارقها ورحل عنها ...
*= وقال أحمد بدوي : ( كما قالوا : إن أحسن مرثية إسلامية ابتداء قول أبي تمام :
أصمّ بك الناعي وإن كان أسمعا *** وأصبح مغنى الجود بعدك بلقعا . 4/ 99
وهذا المطلع يبين في جلاء شدة وقع النبأ على النفوس والآذان حتى لقد أصابها الصمم بعد أن سمعته من فهم الناعي ولم لا يحزن الشاعر على فقده وقد مات الجود بموته .. ) انظر : أسس النقد الأدبي عند العرب ص : 298. وجعل الناس قول أبي تمام :
يا بُعد غاية دمع العين إن بعدوا *** هي الصبابة طول الدهر والسهد
قالوا : الرحيل غداً لا شك قلتُ لهم *** اليوم أيقنتُ أن اسم الحمام غدُ . 2/ 10
من جياد الابتداءات بجمال موسيقاه من ناحية , وجودة معناه من ناحية أخرى , إنها حرقة يحسها المفارق إزاء البين خاصة لحظة الوداع , والغالب على أبي تمام أنه فخم الابتداء له روعة وعليه أبهة .وكما عنى أبو تمام بمطالع قصائده وراعى أساليب التخلص فيها أحسن خواتمها يقول : 1/290
كتبتُ ولو قدرتُ جوىً وشوقاً *** إليك لكنتَ سطراً في كتابي . 1/ 290
ويقول :
عليها سلام الله أنى استقلت *** وأنى استقرت دارها واطمأنت . 3/ 301
*= أنواع الصورة :
حظيت الصورة الشعرية في شعر أبي تمام باهتمام عدد كبير من الدارسين الذين عنوا بدراسة الصورة الفنية في شعره سواء أكانت دراستها مستقلة أو ضمن غرض من أغراضه الشعرية واستطاع أبو تمام توظيف الصورة الفنية أيما تصوير فجاءت قصائده لوحات شعرية فنية رائعة أوجد فيها جميع مقومات الشعر الجيد عكس من خلالها المعنى المراد وذلك عن طريق صور حسية سواء أكانت بصرية او سمعية او ذوقية أو شمية او لمسية أو حركية أو صور ذهنية , وبالتالي يرتبط النمط الحسي للصورة الشعرية بالأثر النفسي الذي تحدثه في المتلقي والشاعر المبدع هو الذي تمتاز صوره بميزات خاصة وتتلون بتلون عاطفته وتكون معبرة عن خلجات إحساسه وانفعالاته .
وإذا نظرنا إلى ديوانه نجد أن الصورة الشعرية فيه قد شملت معظم الصور البديعة من ذلك :
*= الصورة الضوئية : يقول :
لم يشعروا حتى طلعتَ عليهم *** بدراً يشقُّ الظلمةَ الحِنديسا
ما في النجومِ سوى تَعِلَّةِ باطِلٍ *** قَدُمَتْ وأُسِّسَ إفْكُها تأسيساً
إنَّ الملوكَ همُ كواكبُنا التي *** تَخفَى وتطلُعُ أَسْعُداً ونُحُوسا . 2/ 266
والبدر والهلال يظهران معاً في قوله :
أمسى بك الإسلامُ بَدْراً بعدما *** مُحِقَتْ بَشَاشَتُه مُحَاقَ هِلالِ . 3/ 144
ويقول أبو تمام : له كِبرياءُ المُشْتَري وسعودُهُ *** وسَوْرَةُ بَهرامٍ وظَرْفُ عُطارِدِ
وقوله : وضياءُ الآمالِ أفسحُ في الطَّرْ *** ف وفي القلب من ضياءِ البلادِ . 1/ 360
وقوله : بيضاءُ تَسْري في الظلام فيكتسي *** نُوراً وتَسْرُبُ في الضياءِ فيُظلمُ . 3/ 213
*= الصورة المساحية وهو نمط من انماط الصورة البصرية ونعني بها تلك التي توحي بالامتداد المساحي المكاني فلا تقتصر على الإشارة إلى المحسوس في إطاره المكاني الضيق المحدود وإنما تتجاوزه ليصبح الموضوع الموصوف منسحباً مكانياً على مساحة كبيرة أو صغيرة يقول أبو تمام:
صَدَفتُ عنهُ فلم تَصْدِفْ مَوَدَّتُهُ *** عنّي وعاوَدَهُ ظنّي فلم يَخِبِ
كالغيث إنْ جِئتَهُ وافاكَ رَيِّقُهُ *** وإنْ تحمَّلْتَ عنهُ كان في الطّلبِ . 1/ 113
يتجاوز الممدوح حدوده المكانية، فيمتدّ وجوده متمثلاً بأثره وفعله على رقعة كبيرة من الأرض. إنه كالغيث لا يمكنك الهرب منه، فهو يلحقك إلى كل مكان. ونلاحظ هنا أن الممدوح هو الذي يلحق الشاعر، وفي هذا غاية الشعور بالاستعلاء والأنا. كما يمكننا أن نلاحظ التأليف الفكري للصورة، حيث يعرض الشاعر فكرته ثم يأتي بصورة حسية موضّحة لهذه الفكرة.
*= صورة المسافة :
ويمكننا أن نعدّ من الصور البصرية أيضاً تلك التي تقوم على قياس مسافة ممتدة في خطّ مستقيم. لهذا كانت صورتا الطول والعرض أبرز ما تجلّت فيه هذه الصورة.
يقول أبو تمام :
كُنْ طويلَ النّدى عريضاً فَقَدْ سا *** دَ ثنائي فيكَ الطويلُ العريضُ
إنّ الثناءَ يَسيرُ عَرْضاً في الوَرى *** وَمَحلُّهُ في الطولِ فوقَ الأَنجُمِ . 2/ 292, 3/ 254
فصورة العرض مستعملة للدلالة على الامتداد الأفقي، أما صورة الطول فإنّها توحي بالامتداد الشاقولي. هذا الامتداد الأخير قد يعبّر عنه الشاعر دون اللجوء إلى صورة الطول بلفظها. يقول أبو تمام :
بَلَوْناكَ أَمَّا كَعْبُ عِرْضِكَ في العُلا *** فَعَالٍ ولكنْ خَدُّ مالِكَ أَسْفَلُ . 3/ 73
فالشاعر يشير إلى الامتداد بصورة العلو والانخفاض. ولا يخفى علينا ما يتضمّنه التصوير في هذا البيت من تضاد فكريّ: فالكعب وهو أسفل الشيء عال، والخدّ وهو أعلاه منخفض، وبين الخدّ والكعب، والعلو والانخفاض، تضاد سافر.
*= الصورة السمعية :
وهي تلي البصرية من حيث القيمة الجمالية، وهما معاً يفضلان الحواس الأخرى من حيث القيمة العقلية والثقافية .
يحدثنا يوسف مراد عن قيمة حاسة السمع بالنسبة إلى الحواس الأخرى فيقول: "فللحواس التي تدرك عن بعد ميزة السبق والتوقّع والتبصّر، غير أنّ حاسة السمع أقلّها مادية وأقواها استخداماً للرموز والإشارات العقلية. وهل من رموز أكثر تحرراً من المادة وأشمل دلالة من الرموز اللغوية التي يصطنعها التعبير اللفظي؟"
لهذا السبب نجد عناية أبي تمام بهذا النمط التصويري. فحاسة السمع أقوى الحواس استخداماً للرموز والإشارات العقلية. لكن ما يلفت انتباهنا في الصورة السمعية عند أبي تمام إكثاره من استخدام الأصوات الخافتة الهامسة. ولعلّ ذلك أقرب إلى طبيعة الشاعر العقلية من جهة، وإلى رمزية الحاسة السمعية وعقلانيتها من جهة أخرى . يقول أبو تمام :
فالمَشْيُ هَمْسٌ والنداءُ إشارةٌ *** خَوْفَ انتقامِكَ والحديثُ سِرَارُ
ومِنَ الرزيَّةِ أنّ شُكْري صامِتٌ *** عمَّا فَعَلْتَ وأنّ بِرَّكَ ناطقُ . 2/ 171, 2/ 454
نلاحظ في هذين البيتين تلك التقسيمات المنطقية في البيت الأول، وأسلوب التضاد في البيت الثاني، وهما من أساليب التصوير الفكري. كما نلاحظ أنّ الصور الصوتية المهموسة عند أبي تمام كلها ذات دلالات انفعالية، وهل يصلح غير الهمس للتعبير الوجداني عن التجربة؟!
وربما عمد أبو تمام إلى الأصوات الجهيرة، مثال ذلك قوله :
كأنّ صوتَ النعامِ فيهِ *** إذا دَعَا صَوْتُ مُستَغيثِ . 1/ 324
صَهْصَلِقٌ في الصَّهيلِ تَحْسِبُه *** أُشْرِجَ حُلقومُه على جَرَسِ . 2/ 239
والمقصود من الجهر، كما هو واضح، المبالغة في التصوير. وفي ذلك دلالة على معاني القوة، على خلاف ما وجدناه في الصور المهموسة من انفعال وليونة.
الصورة الشَّميَّة :
ونضعها في الدرجة الثالثة من سلّم الحواسّ بعد البصرية والسمعية، وذلك من حيث المقدرة على الانفعال عن بعد. والشم يتفق مع السمع في إمكانية الانفعال بالموضوع في غيبة الجسم الفاعل. وكأنّ أبا تمام يشير إلى هذه الناحية بقوله :
وفارَةُ المِسْكِ لا يُخفي تَضوُّعَها *** طولُ الحجابِ ولا يُزْري بِفائِحِها . 1/ 353
فالصورة الشميّة مستعصية على الحجب، إنها صورة منتشرة، بإمكانها التأثير بفعلها وإن كان جسمها غائباً أو محجوباً. لهذا السبب أمكننا اعتبار الشمّ "من الحواس التي تمكّن الإنسان من أن يستبدل بالأشياء ما يشير إليها من أمارات وعلامات" . وفي ذلك الانتقال من استخدام الأشياء إلى استخدام رموزها رقيّ نفسي، يقوى ويزداد تحديداً ويتسع مدى بفضل البصر والسمع ؟
من هنا كانت الدلالة النفسية لحاسة الشم تكمن في أنه من ثناياها "تنبثق تباشير السلوك التكييفيالتوافقي، سلوك التوقع والاستعداد والرويّة" هذا، والتنبيه الشمي تنبيه كيميائي، أمّا الكيفيات الشميّة فكثيرة لا يمكن حصرها
ويرى يوسف مراد أنّ الشم في الحيوان أصدق حسّاً منه في الإنسان، لكنه قابل للتهذيب. ويرجع الكثير من ألوان الترف إلى إرهاف هذه الحاسة، وذلك لما يصحب تنشيطها من الشحنات الوجدانية.
وفي العصر العباسي، حيث انتشر الترف وازدهرت الحضارة، كان لابد أن تتهذّب هذه الحاسة، فتُستخدَم وسيلة للتعبير عن حياة حضرية مترفة راقية. يقول أبو تمام :
إنْ كان يَأْرَجُ ذِكْرٌ من بَرَاعتهِ *** فإنّ ذِكرَكَ في الآفاقِ قَدْ أَرِجا . 1/ 332
لو فاحَ عُودٌ في النَّدِيِّ وذِكْرُهُ *** لَعَلا بطيبِ الذِّكرِ طيبَ العُودِ . 2/ 144
وعناية أبي تمام موجهة إلى الروائح الذكيّة على الخصوص. وفي هذا أبلغ دلالة على الترف الاجتماعي والرقي الحضاري الذي عاشه أبو تمام، والذي ترك بصماته فيه.
*= الصورة اللمسيَّة :
وتحتل المرتبة الرابعة في قائمة صور الحواس، وهي تضم أربعة إحساسات رئيسة: أولاً الإحساس بالتماسّ والضغط، ثانياً الإحساس بالألم، ثالثاً الإحساس بالبرودة، رابعاً الإحساس بالسخونة
أما صور التماسّ اللمسية فيمكننا أن نعدّ منها الإحساس بالملاسة والخشونة، والصلابة والليونة. وأبو تمام تكثر عنده صور الملاسة، كما في قوله :
شَذَّبَ همّي بهِ صقيلٌ مِن *** الفِتيانِ أَقطارُ عِرْضِهِ مُلْسُ . 2/ 229
وتدخل صورة النعومة في إطار الإحساس بالملاسة. يقول أبو تمام :
ناعِماتُ الأطْرافِ لَوْ أنَّها *** تُلْبَسُ أَغنَتْ عن المُلاءِ الرِّقاقِ . 2/ 450
وتأتي صورة الملاسة عنده غالباً في علاقة تضاد بنقيضها. يقول :
قد لانَ أكثرُ ما تُريدُ وبعضُهُ *** خَشِنٌ وإنّي بالنجاحِ لواثِقُ . 2/ 452
الليونة والخشونة معاً يرسمان ملامح الصورة التي أرادها الشاعر. وربما اجتمعت الليونة مع الصلابة في رسمها، أو الملاسة مع الخشونة المتمثلة بصورة الجرب :
وما زِلتُما من نَبْعهِ إنْ عُجِمْتُما *** لِضَيْمٍ، وعند الجودِ من خَيْزُرانهِ . 3/ 296
رَددتَ أديمَ الغَزْوِ أملسَ بعدَما *** غدا ولياليهِ وأيّامُهُ جُرْبُ . 1/ 191
وأبو تمام شديد العناية بإحساس الليونة والنعومة. فإذا بحثنا عن جذور هذه العناية في نفسه ودلالاتها الرمزية، أمكننا أن نجد فيها صورة لحسّ حضري مترف، ملأ على الشاعر كيانه وشعوره، فانطلق لا شعوره يعبّر عن هذا الامتلاء بصورة حضرية.
*= الصورة الذوقية :
ونضعها في المرتبة الخامسة من قائمة الصور الحسية. يقول حامد عبد القادر: ( يظهر من النتائج التي وصل إليها الباحثون في هذا الصدد أن النجاح يبلغ أشدّه بوجه عام في إثارة الصور البصرية والحركية ، ويلي هذا النجاح في إثارة الصور السمعية إذ يصل إلى نحو 46.8% أي إلى أقل من المتوسط بقليل. ويقلّ عن هذا النجاح في إثارة الصور الشميّة إذ يبلغ نحو 39.3%، ثم في إثارة الصور اللمسية إذ يبلغ نحو 35.5%، ثم في إثارة الألم والتغيّرات الباطنية، إذ يبلغ نحو 30.7% ، وأخيراً في إثارة الصور الذوقية أو صور الطعوم، إذ تبلغ نسبة النجاح في ذلك نحو 14.2%"
وهي ذات تنبيه كيميائي، مثلها في ذلك مثل الصورة الشميّة، لكنّها تختلف عنها من حيث طبيعة الاتصال بالموضوع المحسوس. فعلى حين ينفعل الشمّ عن بعد، نجد أن حاسة الذوق لا تنفعل إلاّ إذا وضع الجسم على اللسان، فهي إذاً، حاسة قائمة على التماسّ المباشر. وتتفق الحاستان من حيث "أنهما قابلتان للتهذيب، وكثير من ألوان الترف يرجع إلى إرهاف هاتين الحاستين، وذلك لما يصحب تنشيطهما من الشحنات الوجدانية )
والكيفيات الذوقية محدودة، وهي: الحامض والمالح والحلو والمرّ . أمّا حسّ الحلاوة فيبدو عند أبي تمام في قوله :
على البَلَدِ الحبيبِ إِليَّ غَوْراً *** ونَجْداً والفتى الحُلْوِ المَذَاقِ . 2/ 425
وحلاوة المذاق هذه غالباً ما تتّخذ من صورة العسل وسيلة إليها :
صَمّاءُ سَمُّ العِدَى في جَنْبِها ضَرَبٌ *** وشُرْبُ كاسِ الرّدى في فَمِّها شُهُدُ . 4/ 76
بل إنّ أخلاقِ الممدوح أحلى من الشهد، على سبيل المبالغة البيانية :
وعِذابٌ لَوَ انّها أُطعِمَتْ زا *** دَتْ على الشَّهْدِ بَسْطةً في المذاقِ
ويلحق بحس الحلاوة عند أبي تمام، الحس بالعذوبة، وهو مقترن بالماء ممّا يوحي بمكانة هذه ورمزيتها الإشراقية عند الشاعر:
عَذُبَ اسمُه بِفَمي فَظَلَّ كأَنَّهُ *** لِلرّاحِ بالماءِ القَراحِ مُضَاهِ
*= الصورة المتراسلة :
وهي إحدى أهم الوسائل التي يلجأ إليها الرمزيون سعياً لتوفير الصفات الإيحائية لصورهم. ومن هذه الوسائل "تراسل الحواس ، أي وصف مدركات كل حاسة من الحواس بصفات مدركات الحاسة الأخرى، فتعطي المسموعات ألواناً، وتصير المشمومات أنغاماً، وتصبح المرئيات عاطرة... والألوان والأصوات والعطور تنبعث من مجال وجداني واحد. فنقل صفات بعضها إلى بعض يساعد على نقل الأثر النفسي كما هو قريب مما هو، وبذا تكمل أداة التعبير بنفوذها إلى نقل الأحاسيس الدقيقة . ويمكننا أن نفرّق في الصور المتجاوبة بين نمطين :
نمط تجميعي مؤلَّف من اجتماع عدة انطباعات حسية، ونمط تحويلي قائم على تحويل كيفية حسية إلى أخرى .
من أمثلة النمط التجميعي ما نجده عند أبي تمام في قوله يصف شعره :
أَلَـذَّ من السَّلوى وأطيبَ نفحةً *** مِنَ المِسْكِ مفتوقاً وأيسرَ مَحْمَلا . 3/ 109
يجمع أبو تمام في هذا البيت بين عدة انطباعات حسية : الانطباع الذوقي ( السلوى) والشمّي (المسك )، واللمسي ( المحمل). وهي كلّها تخدم غاية واحدة، بيان جمال هذا الشعر، حتى إنه فاق هذه المحسوسات على جمالها وأثرها في نفس الشاعر. والغاية من هذا التفضيل انفعالية، وقد جسد الشاعر هذا الشعور عن طريق جمعه بين تلك الانطباعات الحسية. وإن عودة إلى سياق الأبيات، ونظرة إلى موقع الشاهد منه، تضعنا على فنية هذا التجاوب الذي رسمه الشاعر لنا. فالصورة هنا تحمل من مضمون العمل وفكرته ما تحمله باقي أنماط الصور المستخدمة، وهي كلّها ذات دلالة واحدة ووظيفة واحدة: بيان شدة جمال شعره. ولعله من المفيد هنا أن نشير إلى أنّ جميع الصور المستخدمة في سياق الموضوع هي صور متجاوبة، تحويلية تارة وتجميعية تارة أخرى :
و والله لا أنفكّ أهدي شوارداً *** إليكَ يُحمَّلْنَ الثَّناءَ المُنَخَّلا
تخالُ به بُرداً عليكَ مُحَبَّراً *** وتحسَبُهُ عِقداً عليكَ مُفَصَّلا
ألذَّ مِنَ السّلوى وأطيبَ نفحةً *** من المسكِ مفتوقاً وأيسر محملا
أخفَّ على قلبٍ وأثقلَ قيمةً *** وأقصرَ في سمعِ الجليسِ وأطوَلا . 3/ 109
أما التحويل فمن المسموع إلى المبصَر لقد غدا شعره بُرداً وعقداً. وفي هذا التحويل مزيد من الإيضاح، فالانتقال من المسموع إلى المبصَر الظاهر الواضح. وأما التجميع فيظهر لنا في البيت الأخير حيث يجمع بين الانطباع اللمسي الوزني مسنداً إلى المجرّد، وبين الانطباع السمعي الزمني . وفي ذاك التحويل وهذا التجميع إيحاء انفعاليّ تعجز عنه الصور الحسية المتماثلة.
ويبدو التجميع أوضح عند أبي تمام في قوله يتحدث عن ثلاثة من ممدوحيه :
بثلاثةٍ كثلاثةِ الراحِ استوى *** لكَ لونُها ومذاقُها وشميمُها . 3/ 274
لكنه تجميع شكلي، لا يعدو كونه اجتماع ثلاثة انطباعات حسية معاً، لكلّ واحد منها استقلاله الخاص، وإن كانت معاً ذات إيحاء انفعالي. وكأنّ أبا تمام قد أدرك هذا القصور الذي تقوم عليه صوره المتقدمة، فعمد في بعض صوره إلى ما يمكننا تسميته بتزامن الحواس، حيث تكون الأطراف المجتمعة متزامنة حسيّاً. يقول :
فكأنّما هِيَ في السّماعِ جَنَادلٌ *** وكأنّما هِيَ في العيونِ كواكبُ . 1/ 174
في لحظة انسجام كوني بدت لأبي تمام قصائده جنادل في السماع وكواكب في العيون، وهكذا يتم التداخل بين الانطباعين والاتحاد بينهما. وبهذا تبلغ براعة التجميع عند أبي تمام مداها، فيحطّم حدودها الشكلية ليبلغ بها أفق التعبير الانفعالي.
ومهما بلغت القيمة الجمالية للصور المتجاوبة التجميعية تبق الصور المحوّلة أشدّ إيحاء منها. أما أبو تمام فبارع في التقاط الشبه بين المدركات الحسية، برغم اختلاف الحاسة المدرِكة. ولا عجب، وهو صاحب النظرة الكلية والرؤية الكونية الشاملة للوجود.
وللتحويل عند أبي تمام مظاهر متعددة، فهو تارة تحويل بصري – سمعي :
بِغُرٍّ يراها مَن يراها بِسَمْعِهِ *** فيَدنو إليها ذو الحِجى وهْوَ شاسِعُ
يَوَدُّ وِداداً أنَّ أعضاءَ جِسمِهِ *** إذا أُنشِدَتْ شَوْقاً إليها مَسامِعُ . 4/ 590
وتارة أخرى تحويل سمعي- بصري:
أحاديثُها دُرٌّ ودُرٌّ كلامُها *** ولم أَرَ دُرّاً قبلَه يَنظِمُ الدُّرّا . 4/ 207
أو سمعي- ذوقي :
تُعطيكَ مَنْطِقَها فتَعلمُ أنّه *** لجنى عذوبتِه يَمُرُّ بثغرِها . 4/ 212
أو ذوقي – شمّي :
خُلُقٌ كالمُدامِ أو كرضابِ *** المسكِ أَوْ كالعَبير أو كالمَلابِ . 4/ 45
يبدو التحويل في هذا البيت في مستويين : المستوى الأول من المجرّد إلى المحسوس، والمستوى الثاني تحويل من الانطباع الذوقي (مدام، رضاب المسك) إلى الانطباع الشمّي (رضاب- المسك، العبير، الملاب). هذا التحويل تمّ للشاعر تركيبه بوساطة الأداة ( أو)، وبمساواتها بين الانطباعين . وربما كان التحويل لمسياً – بصرياً :
صافي الأَديمِ كأنّما ألبستَهُ *** من سندسٍ بُرداً ومن إستبرَقِ
إمليسُه إمليدُه لو عُلِّقتْ *** في صَهوتَيْهِ العينُ لم تتعلَّقِ . 2/ 415
أراد الشاعر تصوير ملاسة الفرس، فأفاد من الحاسة البصرية للتعبير عن هذا الحس اللمسي، فجعل العين تزحل من فوق صهوته. وفي هذه الصورة طرافة من جهة، وإشراق انفعالي من جهة ثانية. وقد يكون التحويل سمعياً- لمسياً :
مِمَّن إذا ما الشِّعرُ صافحَ سمعَه *** يوماً رأيتَ ضميرَهُ يَتَبَسَّمُ . 3/ 217
فالشعر وهو مادة سمعية يصافح السمع، والمصافحة فعل لمسي محسوس مادياً. ونلاحظ في الشطر الثاني تحويلاً من الفكر المجرّد إلى المحسوس البصريّ.
= تراسل الأساليب :
ويعني ذلك تناوب الأساليب في موقعها من الكلام أي تبادلها الوظيفة المنوطة بها في التعبير وهذا التراسل والتناوب لا يقع سوى في السياق الأدبي وفي الأساليب الانزياحية , ومن ذلك توظيف أحد عناصر أسلوب التمثيل في أسلوب التشبيه مثلاً : كإيراد المتشابهات بلفظ المتماثلات في قول أبي تمام :
دمنٌ طالما التقت أدمع المز *** ن عليها وأدمع العشاق . 2/ 447
فأبو تمام أورد المتشابه بلفظ المتماثل قاصداً بذلك التشبيه بين الأدمع وقطرات المطر , فاستعمل من أجل أداء هذا المعنى التشبيهي لفظاً هو أخلق بالاستعمال في موطن التمثيل
*= التحويل الحسي :
ولا تقف الصور المتجاوبة عند حدود الانطباعات الحسية، وإنما تتجاوزها إلى المجرّدات، فتجعل منها مدركات حسية: سمعية أو لونية. وعليه، يبقى حكمنا على طبيعة الصور المحوّلة ضعيفاً مالم نتعرّض بالدراسة والتحليل لنماذج التشخيص والتجسيد عند الطائيين.
أول ما نلاحظ في هذه النماذج أن التحويل يتم باتجاه صور بصرية غالباً، على اختلاف أشكال هذه الصور .
لقد كثر عند أبي تمام تجسيد الزمان وتشخيصه ، مما دفع الآمدي إلى التصدّي له والوقوف في وجهه. والآمدي في موقفه هذا لا يعارض فكرة تشخيص الزمان، وقد وجدنا نماذج منها عند البحتري، وإنما يأخذ على أبي تمام توسعه في المجاز وتجاوزه إلى مالم يعرفه الشعراء قبله، ولم يألفه النقّاد , وكأنه ليس من حق الشاعر أن يخرج على التقاليد السابقة في الاستعارة .
وثاني المجردات التي أكثر أبو تمام من تحويلها حسياً، صورة المجد. يقول :
لو لم تُفَتِّ مُسِنَّ المَجْدِ مُذْ زمنٍ *** بالجُودِ والبأسِ كانَ المجدُ قد خَرِفا . 2/ 375
فألصق بالمجد صفة الخرف وهي صفة بشرية، والصورة تشخيصية. وأبو تمام كثير العناية بمثل هذا النمط التصويري، أي إضفاء الصفات الشعورية المعنوية على المجرّدات، ولذلك صلة بمذهبه الفكري:
كم لَوْعَةٍ للنّدى وكمْ قَلَقٍ *** للمَجْدِ والمكرُماتِ في قَلَقِكْ؟ 2/ 405
ومن كلامه على المجد أيضاً قوله :
مجدٌ رعى تَلَعاتِ الدهرِ وهْوَ فتىً *** حتّى غدا الدهرُ يمشي مِشيةَ الهَرِمِ . 3/ 187
فالدهر هنا يمشي، وفي هذا تحويل من مجرّد إلى فعل، والفعل حركة، والحركة حسية، وهي متصلة من قريب أو بعيد بالصورة البصرية. وغالباً ما يعمد أبو تمام، في تحويله المجرّد إلى محسوس، إلى إضافة ذاك إلى هذا، على نحو قوله :
لِيَزدْكَ وجْداً بالسّماحةِ ما ترى *** من كيمياءِ المجدِ تَغْنَ وتَغنَمِ . 3/ 254
فالمجد مضاف إلى الكيمياء، وفي هذا تأليف ذكي وتوحيد بارع بين طرفي الصورة. وعلى نحو كيمياء المجد نقرأ له { ظهر الموعد } ، و { كاهل الوعد } ، و { رياض الباطل }
وقد يعكس الصورة فيضيف المحسوس إلى المجرّد :
يا ابنَ الخبيثةِ لا تُعرِّض صخرةً *** صمّاءَ مِن مجدي بعِرْضِ زُجاجِ . 4/ 329
فأضاف الزجاج إلى العرض. وفي البيت صورة أخرى تحويلية من المجرّد إلى المحسوس، فالمجد مشبّه بصخرة. وهنا نتساءل عن تلك العناية بتجسيد المجد عند أبي تمام. إن عناية الشاعر بصور المجد ماهي إلاّ تعبير غير مباشر عن نزوعه إلى المجد وطموحه إليه وإلى العلياء.
وتصادفنا عند أبي تمام مجموعة من الصور الحسية يكثر التحويل إليها من المجردات. الصورة الأولى هي صورة اليد :
وصَلْتُ كفَّ مُنىً مِنّي بِكفِّ غِنىً *** فارَقْتُ بينَهُما هَمِّي وأَحزاني
حتى لبسْتُ كُسىً لليُسْرِ تنشرُها *** على اعتِساري يَدٌ لَمْ تَسْهُ عن شاني
يدٌ من اليُسر قَدَّتْ حُلّتَيْ عُسُري *** حتى مَشَى عُسُري في شخصِ عُريانِ . 3/ 312
واليد رمز لفعل. فالشاعر في تحويله يختار من الجوامد ما تضمن فعلاً وحركة، وفي هذا إشارة بعيدة إلى مذهبه في حياته، وسعيه وحركته في سبيل العظمة والمجد.
أما الصورة الثانية فهي صورة الأنف :
جَدَعْتَ لَهُم أنفَ الضلالِ بوقْعَةٍ *** تَخَرَّمْتَ في غَمَّائِها مَنْ تَخَرَّمَا . 3/ 236
وأنف الشيء رأسه ومقدمته. يقول الزمخشري: ( ومن المجاز: هو أنف قومه، وهم أنف الناس.. وأنف الجبل وأنف اللحية، وعدا أنف الشدّ، وهذا أنف عمله. وسار في أنف النهار، وكان ذلك على أنف الدهر، وخرجت في أنف الخيل ).
إن استعارة أبي تمام الأنف، إذاً، ماهي إلاّ تعبير عن نزوع كامن في لا شعوره إلى العظمة والإمامة والقوة. وأما الصورة الثالثة فهي صورة الوجه :
لقد انصَعْتَ والشتاءُ له وَجْهٌ *** يَرَاهُ الكُمَاةُ جَهْماً قَطوبا . 1/ 165
هنا أيضاً نرى في استعارته صورة الوجه رمزاً إلى القوة وتوقاً لا شعورياً إلى العظمة. يقول الزمخشري عن مجازية الوجه: ( ومن المجاز: هذا وجه الثوب، ووجه القوم، وهؤلاء وجوه البلد، ورجل وجيه: بيِّن الوجاهة. وله جاه وحرمة... ).
*= الرمز الحسي : صورة الثياب :
أولى هذه الصور، صورة الثياب، ويندرج تحتها كل ماله علاقة بفن الحياكة من مصطلحات وأدوات وأفعال. يقول أبو تمام :
فإذا مَرَّ لابِسُ الحَمْدِ قال *** القومُ : مَنْ صاحِبُ الرّداءِ القشيبِ . 1/ 122
فالحمد رداء ملبوس . وقد كثر تشبيه العرب الثناء بالبرد الحسن. هذا ما يراه التبريزي في تعليقه على قول أبي تمام :
والحمدُ بُردُ جَمالٍ اختالَتْ بهِ *** غُرَرُ الفَعَالِ وليسَ بُرْدَ لِباسِ . 2/ 248
وتتكرر صور اللباس بكثرة عند الشاعر، فالصنيعةُ مُلبِسة ملبوسة , والنأي والصدود، وبينهما تضاد، ملبوسان ، وللندى أثواب منشورة ، وللصدق ثوب ، وطول التأوّه قميص، والسقام رداء . وتتجسد صورة اللباس في فعل الحياكة. يقول أبو تمام :
أمهْدِيّاً لَحَيْتِ على نوالٍ *** لقد حُكتِ الملامَ لغيرِ واعِ . 2/ 339
والشاعر أبو تمام بارع في استعارة مصطلحات فن الحياكة، على نحو إفادته من السّدى واللُّحمة :
فالبَسْ ثيابَ فضائحٍ أسدَيتَها *** أَشْراً وأَلحَمَها أَخُوكَ البارِدُ . 4/ 349
وتكثر صور الثياب بخاصة في موضوعين : في وصف الربيع والطبيعة، وفي مقام الحرب والمعركة. يقول أبو تمام في وصف الربيع :
وأَلبسهُمْ عَصبَ الربيع ووَشْيَهُ *** ويُمنَتُهُ نَبْتُ النّدى المُتلاحِكُ
إذا غازلَ الروضُ الغزالةَ نُشِّرَتْ *** زَرابِيُّ في أكنافِهِمْ ودَرَانِكُ
إذا الغيثُ سَدَّى نَسْجَهُ خِلْتَ أَنهُ *** مَضَتْ حِقبةٌ حَرْسٌ لَهُ وهْوَ حائِكُ . 2/ 457-458
يستوقف البيت الأخير الآمدي فيقول: "فأما جعله الغيث كأنه كان حائكاً، فمن مضاحيك معانيه وألفاظه" . وهو يأخذ عليه بذلك التوسّع في المجاز، وكأنه ليس للشاعر أن يخرج إلى ما ليس مألوفاً مستعملاً عند العرب.
والواقع أن أبا تمام كان مدركاً واعياً لأسرار صنعته وفنه، لم يخرج بذلك على حركات التجديد الكبرى في عصره، فهو حتى في تجديده، لا يخرج على النماذج الرفيعة السابقة عليه. لقد أخذوا عليه التوسع في المجاز مستغربين صوره فيه، حتى كان من أحدهم أن أخذ وعاء وذهب يطلب منه قطرات من ماء الملام (تعليقاً على قوله: لا تسقني ماء الملام . فكان ردّ أبي تمام أبلغ من أيّ جواب متوقّع. إنه لن يعطيه شيئاً قبل أن يأتيه بريشة من "جناح الذل"، إشارة إلى قوله تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} .
ويقول أبو تمام في مقام الحرب والمعركة مستعيراً صور الثياب :
غدا غَدْوَةً والحمدُ نسجُ ردائِهِ *** فلم يَنْصرِفْ إلاّ وأكفانُه الأجرُ
تردّى ثيابَ الموتِ حُمراً فما أتى *** لها الليلُ إلاّ وهْيَ مِنْ سُندُس خضرُ 4/ 81
يستوقف هذان البيتان برمزية الثياب فيهما مصطفى ناصف، فيرى ( أن الثياب رمز متداول بكثرة في الشعر العربي... فالرداء يرتبط بالكرم ويرتبط أيضاً بكل معاني الفضيلة الخلقية والعقلية فضلاً عن ارتباطه بفكرة العافية الجسدية ) .
أبو تمام إذاً لا يستخدمُ رمزاً منقطعاً ، بل هو رمز ذو تاريخ طويل. والجديد عنده هو أنه لا يستخدم هذا الرمز بدلالته التقليدية السطحية المباشرة، وإنما يفيد من هذا الرمز فيعيد تكوينه ببراعة وابتكار. يشرح مصطفى ناصف ذلك بقوله : ( أبو تمام عرف أن فكرة الثوب ترتبط بفكرة التطهير، وأنّ الكفن -في هذا الضوء - هو إعطاء الميت فرصة العبور إلى أرض الطهارة والصفاء في نقاء وأمان من النجس والأذى. الميت يترك هذه الحياة ويكفن. وهذا الكفن يتم الغسل والتطهير، ويحفظ الجسد من كلّ شائبة. الكفن إذاً قمّة التطهر . والتطهرّ كامن في استعمالات الشعر الخاصة بالفضائل الأخلاقية والنفسية .
يقول أبو تمام إن أبا نهشل تردّى ثياب الموت حمراً، ويقول الشرّاح : إنه قُتِل . والنثر دائماً بسيط وحيد الجهة أقل من أن يعطى إمكانيات الشعر. أبو تمام يذكر الكفن صراحة في البيت السابق. الكفن فكرة منبثقة عن سياق الموت وسياق الرداء وسياق الأجر: نجد أن القتل والكفن فكرتان متناوشتان، بينهما مابين طرفي الاستعارة من تفاعل. القتل جعل الكفن أحمر، والكفن جعل القتل إعداداً للحياة الآخرة. وبهذا نجد أن فكرة الكفن أو الثوب عدّلت من مفهوم القتل تعديلاً غير قليل. إننا هنا إذاً، نتحرك في داخل علاقة متناقضة بين القتل أو الدم والثوب. ونرى أن الدم قد استحال في الحقيقة معناه ).
في البيتين المذكورين أربع صور للثياب - نسيج الحمد، أكفان الأجر، ثياب الموت الحمراء، السندس الأخضر. وهي جميعها رموز لمعنى واحد: الفضيلة والعظمة والطهارة.
يقول الشرّاح إن ثياب الموت الحمراء كناية عن الموت والقتل، وإنّ السندس الأخضر كناية عن الطهارة والسعادة الأبدية في جنان الخلد. ولكنّ تركيب الصورة يبدو أعمق من هذا التحليل الشكلي , جاء أبو تمام بثلاث صور مترادفة رمزياً، وهي معاً متعادلة مع الصورة الرابعة. وعليه يمكننا أن نرى العلاقة المعقّدة الذكية القائمة بين تلك الصور الثلاث: نسيج الحمد = أكفان الأجر = ثياب الموت الحمراء.
وهذا معناه أن ثياب المرثيّ المضرّجة بدمائه قد باتت كفناً له، فألبسته الحمد. وقد مرّ معنا أن الكفن رمز الطهارة والنقاء، وعليه تتخلى صورة الموت القاني عن دلالتها المنفّرة لتكتسب دلالة جديدة إيجابية من خلال علاقتها وترادفها مع صورة الكفن وبهذا تصبح المعادلة الكبرى: ( نسيج الحمد = أكفان الأجر = ثياب الموت الحمراء) = السندس الأخضر .
وإذا كانت الصور الثلاث الأولى مرتبطة بالحياة الأرضية، فإن الصورة الرابعة رمز إلى حياة الأبرار الصالحين المتسربلين بلباس المجد والنقاء. وهكذا تصبح حياة الإنسان الآخرة استمراراً لحياته الدنيوية .
من زاوية أخرى نجد ان أطياف الصورة متنوعة متداخلة بين زمان ومكان ولون فالمشهد الأول ثياب الموت { سوداء } وشحت { بالأحمر } دلالة القتل , ثم الدجى { الأسود } فالمشهد الأول قاتم يغلب عليه ( الأسود x الأحمر x الأبيض ) ثم يقابله المشهد الثاني وفيه الليل { أسود } والسندس { أخضر } ثم الشهادة { بيضاء } وإن لم يصرح بها بل ذكرت تلميحاً فالمشهد متكون من الألوان { الأسود –الأخضر – الأبيض }
في الصورة مشهدان مشهد الظلمة والعتمة والدم وغبار المعركة ينتشر في المكان ثم مشهد الفرح والسرور والخير والسؤدد والفوز بالجنة . صور أبو تمام المشهد الأول وقد طغى عليه السواد بما فيه من عتمة ونكوص وظلمة , وكذا اللون الأحمر بما فيه من رهبة وخوف ولون للدم ثم أورد المشهد الثاني { الذي أراد له ان يتفوق على مشهده الأول } حيث الخضرة , خضرة السندس الفوز بالجنة , والأبيض بما فيه من بهجة وفرح وانتصار فالشاعر أراد للمشهد الثاني أن يطغى على المشهد الأول فأضفى ألوان البهجة واغدق عنوانات الفرح والفوز عليه .
يستخدم أبو تمام الثوب برمزيته التقليدية , لكنه قد يتوسع في تلك الرموز قليلاً. فإذا كان الرداء رمزاً إلى الكرم والفضيلة، فإنه يجيز لنفسه أن يستخدمه رمزاً مناقضاً إلى العار
( فالبس ثياب الفضائح...). إن ارتداء الثوب يعني اكتساب الفضيلة وخلعه يعني التجرّد منها. أفاد أبو تمام من هذا المعنى وأعاد صياغته من نقيضه، فألبس مهجوّه ثياب فضائح، جاعلاً الثياب بذلك رمزاً إلى العار...
ولما كان الثوب رمزاً إلى الفضائل ومرتبطاً بالعافية الجسدية، كان من الطبيعي أن يستخدمه الشاعر رمزاً إلى العافية الكونية وجمال الطبيعة في الربيع. ( وألبسهم عصب الربيع...).
هذا، وقد تطورت صناعة النسيج في عصر الشاعر وباتوا يميلون إلى استخدام الفاخر منه. فرقّة النسيج تتناسب أكثر مع طبيعة الحياة المتحضّرة، لذلك لا نستغرب استخدام الشاعر صور النسيج الرقيقة الناعمة في مقام الغزل.
وفضلاً عن هذا وذاك نجد أن الثوب يكتسب معاني رمزية جديدة من خلال علاقته بالموت والقتال، فهو وقد استُخدِم رمزاً تقليدياً إلى الطهارة والفضيلة، أصبح أيضاً رمزاً إلى القوة والشجاعة. إن أبا تمام لم يقف عند حدود الرموز التقليدية في صوره، وإنما تجاوزها متوسعاً فيها، من غير أن يخرج على الإطار العام للفكرة الرمز. فرمز القوة والشجاعة غير منفصل عن سياق المعارك والحرب ورمزية الشهادة، وكذلك رمز جمال الطبيعة غير منفصل عن رمز العافية والحياة، والأمر نفسه نقوله في رمزية العار وغيره.
وهنا، نتساءل عن سرّ هذا الحشد من صور الثياب، لابدّ أن يكون لذلك دلالة وتفسير، ولابدّ أن يكون له صلة بذات الفنان، أمّا الجواب عن هذه التساؤلات فيمكننا أن نجده في طفولة الشاعر، فقد أجمع أكثر المؤرّخين له على أنه نشأ بدمشق وأنّ أباه كان عطاراً فيها، وأنه ألحقه بحائك كي يحسن حياكة الثياب . ربّما استمدّ أبو تمام إذاً عنايته بصورة الثياب من تلك الحرفة التي أرادها له أبوه ، وربما كان للعصر وطبيعته أثرهما في ذلك. لكّننا نميل إلى الاعتقاد الأول ، ولاسيما أنه قد وصلنا ما يؤكد صلة الشاعر بحرفة الحياكة.
*= صورة الماء :
وثاني الصور الرامزة صورة الماء، ولطالما استعملها القدماء في شعرهم. واستعمالها عندهم في العظيم المخبر والحسن المظهر ، لهذا غالباً ما نجدها في مقامي المديح والفخر.
لقد كانت لصورة الماء مكانة بعيدة من نفس أبي تمام، مما يشي بعلاقة خاصة له بها، ربما أمكننا إرجاعها إلى عمله سقّاء في مصر . هذه المكانة يمكننا أن نستشفّها من خلال استخدامه صور الماء في قوله :
إن يَنتَخِلْ حَدَثانُ الدّهرِ أَنْفُسَكُمْ *** ويَسْلَمِ الناسُ بين الحوضِ والعَطَنِ
فالماءُ ليسَ عجيباً أنّ أعذَبَه *** يَفْنَى ويَمْتَدُّ عُمْرُ الآجنِ الأسِنِ . 4/ 139
والصورة كما هو ظاهر فكرية تقوم على التجسيد الحسّي لفكرة مجرّدة مستَخَلصَة من معنى البيت الأول، كما أن الصورة بتركيبها العام قائمة على التضاد بين الحياة والموت، بين الماء العذب والماء الآسنِ. ولعلّ كون الماء أحد عناصر الحياة الرئيسية هو الذي استدعى إلى ذهن الشاعر صورتَها في مقام تجسيد العلاقة الجدلية بين الموت والحياة، وعشوائية الانتقاء.
وتظهر العناية بصورة الماء أشدّ في استخدامها وسيلة للتحويل من المجرّد إليها عن طريق الإضافة،وفي الإضافة إلصاق :
وعلا عارضَيْه ماءُ النَّدى الجا *** رِي وماءُ الحِجى وماءُ الشّبابِ . 4/ 52
وللصورة المائية عند أبي تمام أشكال عدة تختلف باختلاف رموزها، وإن كانت جميعها تنتهي إلىمعنى واحد. فنحن نجدها في صورة البئر :
أَلَمْ تَرَ أنَّ الجَفْرَ جَفْرَكَ في العُلَى *** قريبُ الرِّشاءِ لا جَرورٌ ولا ثَمْدُ . 2/ 93
واستعمال الشاعر صور الرشاء والبئر والدلاء يَشِي صراحةً بصنعته سقّاء. كما نجد هذه الصورة المائية عنده في صورة الغيث :
بنانُ موسى إذا استَهلَّتْ *** للناسِ نابَتْ عن الغيوثِ . 1/ 325
وتلحق بها صورة الأنواء ، والمطر . وتتصل بصورة الغيث صور السيول ، والسحب والبرق والرعد . ولصور الكواكب والنجوم صلة وثيقة بالماء عامة وبالمطر خاصة. هذا ما يصل إليه نصرت عبد الرحمن أيضاً في قوله: ونرى أنّ صورة النجوم في الشعر تربط عادة بالمطر , كما يمكننا أن نجد لصورة الوادي أيضاً صلة بالماء، والوادي مجمع المياه
والصور المتقدمة جميعها على اختلافها شكلاً واتفاقها جوهراً، ذات مدلول رمزيّ واحد، فهي جميعها تفيد معنى الجود والكرم والعطاء، وفي العطاء حياة. فالماء، إذاً رمز الحياة، ولا شيء أدلّ على ذلك من ربطه بالثراء. هذه الصلة بين الماء والجود يشير إليها أبو تمام بقوله :
لو سِرْتَ لالتَقَتِ الضلوعُ على أسىً *** كَلِفٍ قليلِ السِّلْمِ لِلأَحشاءِ
ولَجَفَّ نُوَّارُ الكلامِ وقلّما *** يُلفَى بَقاءُ الغرسِ بعدَ الماءِ . 1/ 18
والماء عند أبي تمام ذو طبيعة ليّنة رقيقة :
باشَرَ الماءَ فَهْوَ في رِقّةِ الصَّنعةِ *** كالماءِ غيرَ أَنْ ليسَ يجري . 4/ 201
لكنه أحياناً يتسم بطابع القوة، ويتجلّى هذا خاصة في صورة السيل :
لَعَزْمُكَ مثلُ عَزْمِ السَّيْلِ شُدَّتْ *** قُواهُ بالمذانِبِوالتِّلاعِ . 2/ 340
وهو في كلتا الحالين محافظ على رمزه الإشراقي.
لقد بلغت عناية أبي تمام بصور الماء مبلغها، حتى إنّه خصّ بعض مقدمات قصائده المدحية بها ، بل إنه بنى بعض قصائده المدحية عليها . والصلة بين المدح بصفتي الجود والكرم والماء واضحة وثيقة.
وللماء عند أبي تمام في صوره المتقدمة صفة التدفق والغزارة . فالممدوح عين ماء غزيرة لمن أراد أن ينهل، وورود الماء منه سهل لا يحتاج إلى رشاء أو دلو . كما إنه نوء وغيث وسيل، وهذه كلها توحي بمعنى الغزارة والتدفق. وما الصلة بين الماء والتدفق في رأينا إلاّ نوع من أنواع المبالغة للدلالة على عظمة عطاء الممدوح وشموله واتساعه.
ونتساءل هنا: هل تعود كثرة استعمال أبي تمام لصور الماء إلى عمله سقاءً في مصر وحسب، أو أن هناك أمراً آخر يمكننا ادّعاؤه؟ إن الأخبار لا تخدمنا كثيراً في هذا المجال، ولكنّه يمكننا أن نرى للماء صلة بطبيعة البلاد الشامية الزراعية. فما اهتمام أبي تمام بالماء إلاّ نوع من التعبير غير المباشر عن أهمية الماء بالنسبة إلى الشاميين، فثراء البلاد واقتصادها يقومان أولاً على الجانب الزراعي. وعليه، فإن العطاء لن يكون وفيراً إلاّ إذا كانت الغلال وفيرة، وعليه أيضاً فإنّ العناية بالماء ماهي إلاّ صورة من صور الرغبة في الثراء والمجد والعظمة التي طمح أبو تمام إليها جميعاً.
*= صورة المرأة :
أما الصورة الرمزية الثالثة فهي صورة المرأة. وهي تحتلّ عند أبي تمام مكانة تتقدم على تلك التي احتلّتها الصورتان المتقدمتان. هذه المكانة لا تستمدها الصورة من كثرتها وحسب، وإنما من طبيعة استعمالها أيضاً.
وللمرأة الرمز صور متعددة تبرز فيها، فنجدها مثلاً في صورة العذرية. يقول أبو تمام في وصف الخمرة :
أو دُرَّةٌ بيضاءُ بِكْرٌ أُطبقَتْ *** حَبَلاً على ياقوتةٍ حمراءِ . 1/ 32
وصفة العذرية مستملحة عند أبي تمام ، بل إنها الصفة الرئيسة المعبِّرة عن جمال المرأة في نظره. ومما يتصل بهذه الصفة صورة الناهد ، والكاعب . وصفتا النهود والكعوب يؤثرهما أبو تمام في المرأة، فيشير إليهما في قوله :
أبا جَعْفَرٍ إنّ الجَهالةَ أُمُّها *** وَلُودٌ وأُمُّ العِلْمِ جَدّاءُ حائِلُ . 3/ 117
والجدّاء صغيرة الثدي، أما الحائل فهي المرأة ليست ذات حمل. وهاتان الصفتان لا تكونان إلاّ في العذراء صغيرة السن . ومما يدلنا على إيثار الشاعر هذه الصفات في المرأة إلصاقها بالعِلم، الأمر الذي يوحي بالصفة الإشراقية الإيجابية لهذه الصفات، وبمكانتها من نفسه. وفي البيت تضاد سافر بين ولود وحائل . مما يدلّنا أيضاً على إيثاره من النساء صغيرة السن البكر، ميله إلى ناعمات الملمس، المُلد:
إذا حَضُرَتْ ساحَ الملوكِ تُقبِّلتْ *** عَقَائِلُ منْها غيرُ ملموسةٍ مُلْدُ . 2/ 95
والمَلَد الشباب، والأَملد الناعم اللَّيِّن من الناس أو الغصون.
إن أبا تمام بناء على ما تقدّم يحصر الجمال الأنثوي في البِكر العذراء ، كاعبة الثدي، ناعمة الملمس.
وربما أفاد أبو تمام من صفات المرأة، بمختلف صورها للإيحاء بفكرة التضاد، فنجد لديه البكر والثَّيِّب متقابلتين , وكذا البكر والعوان في قوله :
لِيُنْجِحْ بجودِ مَنْ أرادَ فإنّه *** عوانٌ لهذا الناسِ وهْوَ لنا بِكْرُ . 4/ 574
وكذا أيضاً البكر والنصَف ، أو البكر والأيّم .
هذا ، وصور المرأة وثيقة الصلة بفكرة العطاء والجود، فهي غالباً ما تكون المعادل الحسي للصنيعة الحسنة والنعمة :
وصنيعةٍ لكَ ثيِبٍ أَهدَيْتَها *** وهْيَ الكَعَابُ لعائذٍ بك مُصْرمِ
حلّتْ محلّ البكرِ مِنْ مُعْطَىً وقَدْ *** زُفَّتْ مِنَ المُعْطى زِفافَ الأيِّمِ . 3/ 253
والصورة هنا أيضاً توحي بفكرة التضاد. والتضاد قائم بين الكاعب والبكر من جهة، وبين الثيِّب والأيّم من جهة ثانية. والأيّم من لا زوج لها، أما الثيّب فهي نقيض البكر، المتزوجة. وهنا أيضاً نلاحظ سيطرة صورة العذرية وتقدّمها على الصور الأخرى، مما يشي بإيثار خاص لها. وتشيع عند أبي تمام الصور الجنسية، فتكثر لديه صور الافتراع. يقول مادحاً :
انظرْ وإياكَ الهوى لا تُمكِنَنْ *** سُلْطانَهُ مِنْ مُقْلَةٍ شَوْساءِ
تَعلَمْ كَمِ افْتَرَعَتْ صدورُ رِماحِهِ *** وسيوفِهِ من بَلْدةٍ عذراءِ 1/ 13
فتعامُل الممدوح مع البلدان كالتعامل مع المرأة البكر.وعناية أبي تمام بهذه الصور ما هي إلاّ تعبير لا شعوري عن نزعته الذكورية. ولا شيء أدلّ على ذلك من تكرار هذه الصورة لديه وتلذّذه بإيرادها. يقول في وقعة عمورية يصف هذه المدينة :
بِكرٌ فَمَا افتَرَعَتْها كفُّ حادثةٍ *** ولا تَرَقَّتْ إليها هِمَّةُ النُّوَبِ . 1/ 48
فهذه المدينة بكر عذراء لم يتمكن من افتراعها إلاّ المعتصم . ومن هذه الصور عنده قوله يمدح :
حَمَلَتْ رَجَايَ إليكَ بِنْتُ حديقةٍ *** غَلْبَاءُ لم تُلْقَحْ لِفَحْلٍ مُقْرِفِ . 2/ 396
يقول التبريزي: يريد سفينة لأنها من خشب الحديقة، وجعل الحديقة التي هي الأرض ذات الأشجار مؤنثة، وجعل السماء فحلها، لأنها تلقحها بمطرها .
هذه العلاقة بين الطبيعة والسماء تستدعي إلى ذهن الشاعر العلاقة بين الرجل والمرأة، وكأنّ الأرض زوج السماء. وبهذا الشكل يكون الكون كله في نظر أبي تمام متحداً في الوجود كاتحاد الرجل بالمرأة، وذا علاقة جدلية بين أطرافه كتلك العلاقة القائمة بين الزوجين. وثمرة التفاعل هذه هي الولد، وهو حياة جديدة. والحياة الجديدة في علاقة الأرض بالسماء هي النبات. هذا، والعلاقة بين الطرفين هادئة منسجمة مشرقة. يقول أبو تمام في وصف المطر:
ترى الأرضَ تهتزُّ ارتياحاً لوَقْعِهِ *** كماارتاحَتِ البِكرُ الهَدِيُّ إلى البَعْلِ . 4/ 521
إنَّ كلاًّ من الصورتين ( الأرض والمطر، والبكر والبعل) تعطي الأخرى معناها الرمزي. ومن ثمّ الصورتان معاً توحيان ببعد رمزي مشرق .
ولمّا كانت هذه هي علاقة أركان الوجود بعضها ببعض، فإننا لا نستغرب أن يجعل أبو تمام صنعة الشاعر شبيهة بعلاقة الرجل بالمرأة. إنّ مثله مثل الكون من حوله، لن يكون هناك مولود جديد أو حياة جديدة بغير علاقة التواصل هذه. وعليه، فالشعر هو الحياة الجديدة المولودة من تفاعل تجربة الشاعر بفنّه :
والشعرُ فَرْجٌ ليستْ خَصِيصَتُهُ *** طولَ الليالي إلاّ لِمُفْتَرِعِهْ . 2/ 350
وهذه الصورة مستعملة عند الشاعر في غير هذا المكان , ومثلها في الإشارة إلى هذا المعنى صورة الحمل ، وصورة الزواج والطلاق .
هذه الصور عند أبي تمام تشي بنزعة ذكورية في تعامله مع المرأة. وهذه النزعة تظهر لنا بجلاء في قوله :
ليتَ نصفي على الفرا *** شِ لحافٌ لِنِصْفِها
فأنالُ الذي أريدُ *** على رغمِ أَنفِها . 4/ 237
في فعل الغضب هذا تتجسّد لنا كلّ معاني الذكورة والأنانية والقوة والتعالي التي كانت تتسم بها شخصية أبي تمام.
وإذا كان الشاعر في بعض الأحيان يصور لنا تعاليه عن التأثّر بدموع النساء ومفاتنهن، كما في قوله :
وما الدَّمْعُ ثانٍ عَزْمَتي وَلَو انَّها *** سَقَى خَدَّها مِنْ كلِّ عَيْنٍ لها نَهْرُ . 4/ 568
فإنه قد أحبّ المرأة في الصميم، وحبّه لها لم يكن حباً بريئاً، وإنّما هو حبّ مادّيّ. أما صيحات التعالي والكبرياء هذه فما هي إلاّ غلالة يستر بها شغفه بالمرأة، مما يتناسب مع نزعة القوة والتعالي لديه. هذا الشغف وذاك الحب العميقان يظهران لنا بجلاء في قوله :
يقولونَ هل يبكي الفَتَى لِخَرِيدةٍ *** متى ما أرادَ اعتاضَ عَشْراً مكانَها
وهل يستعيض المرءُ مِنْ خَمْسِ كفِّهِ *** ولَوْ صاغَ مِنْ حُرِّ اللُّجَيْنِ بَنَانَها؟ 4/ 143
وأبو تمام في موقفه يخالف البحتري، وإن كان هذا الأخير أعمق وجداناً وتعبيراً، وله قصة حب عنيفة مع علوة الحلبية فقد ذهب البحتري إلى إيثار موت البنات وبقاء البنين :
ومِنْ نِعَمِ اللهِ، لاشَكَّ فيه، *** بقاءُ البنينَ وَمَوْتُ البناتِ . ديوان البحتري 1/ 382
بل إننا نجده في تعزيته أبا نهشل عن ابنته يعاتبه على حزنه. فهل يُبْكَى من لا ينازل بالسيف ومن لا يعدل الأموال والبنين زينةً في الحياة الدنيا، ومن ولدت الأعداء، ومن كانت عاراً وذلاًّ لبعض الناس، ومن كانت سبب زلّة آدم؟ : ديوان البحتري 1/ 39
أَتُبَكّي مَن لا يُنازِلُ بالسَّيْـ *** ـفِ مُشيحاً ولا يهزُّ اللِّواءَ؟
ولعمري ما العَجْزُ عنديَ إلاّ *** أن تبيتَ الرجالُ تبكي النساءَ . ديوان البحتري 1/ 39
ويبدع أبو تمام في رسم صورة الفراق وقسوته وشدة أثره يقول :
ما اليوم أول توديع ولا الثاني *** البينُ أكثرُ من شوقي ومن أحزاني
دع الفراق فإن الدهر ساعده *** فصار أملك من روحي بجثماني
خليفة الخضر من يربع على وطن *** في بلدة فظهور العيس أوطاني . 3/ 308
مضمون هذه الصورة يدور حول الزوال والفراق وما يشبه العدم , وأن الفراق إن ألم بشخص أثر في نفسه وأصبح ملازماً له يهيج الذكري ويزيد الوجد والشوق , ولكن يخفف من ذلك ظهور العيس التي اتخذ منها موطناً ولعله بهذا يرمز إلى التنقل من بلدة لأخرى ومن موطن لآخر .
*= الصورة الحركية :
أدرك أبو تمام بعمق إحساسه جمالية الحركة، فهو يرى من خلال التضاد أن الحركة هي الأصل في حسن الطبيعة وجمال الأرض على خلاف الأشياء المصنوعة الثابتة : 2/ 194
أَوَلا ترى الأشياءَ إنْ هِيَ غُيِّرَت *** سَمُجتْ وحُسْنُ الأرضِ حينَ تُغَيَّرُ
والتضاد عند أبي تمام وسيلة من وسائل الإيحاء بالحركة. يقول :
لَحِقْنا بأُخْراهُمْ وقد حَوَّمَ الهَوَى *** قلوباً عَهِدْنا طيرَها وهي وُقَّعُ . 2/ 319
فبين (حوَّم ) و( وقّع ) تضاد، الغاية منه الإيحاء بشدة حركة التحويم بالنسبة إلى سكون الوقوع . هذه الحركة ما كان بإمكان الشاعر أن يرسمها لنا أو يوحيها إلينا لولا علاقة التضاد بين التحويم والوقوع. والحركة هنا شعورية تصوّر حالة نفسية زاخرة بالحياة والاضطراب. وأبو تمام بارع في رسم هذه الصورة الباطنية الداخلية، كما في قوله :
قَدْ أُتْرِعَتْ منهُ الجوانحُ رهبةً *** بَطَلَتْ لديها سَورةُ الأَبطالِ
لو لم يزاحفْهمْ لزاحفَهمْ لَهُ *** ما في صدورهمُ مِنَ الأوجالِ . 3/ 133
وقد تتخذ الحركة عند أبي تمام شكلاً أفقيّاً، يعبّر بها عن الاتّساع والانتشار. يصف الخمرة فيقول :
إذا هيَ دَبَّتْ في الفَتَى خالَ جِسْمَه *** لِما دبَّ فيهِ قَريَةً مِنْ قُرى النَّمْلِ . 4/ 519
والحركة هنا بطيئة وأبو تمام بارع في التقاط الصور الحية من حوله، وإن كانت غريبة. لكنّ البطء ليس سمة عامة للحركة عند أبي تمام ، وهو القائل بالحركة والفعل، وصاحب المزاج العصبي المتناقض. فالحركة عنده تغلب عليها صفة السرعة، والسرعة مرسومة بأشكال متعددة، فنحن نراها في ( سرعة النبل ) : نهاية الأرب 2/ 55
ألحاظه في الخَلْق مُسْرِعَةٌ *** فيما يُريدُ كَسُرْعةِ النَّبْلِ . نهاية الأرب 2/ 55
كما نراها في صور التدفّق ، والخضخضة ، واللعب، والانحطاط من العالي ، والانقضاض ، والانهمار ، بل إنها خَطْفٌ ولَمْحٌ :
بَرْقٌ إذا بَرْقُ غَيْثٍ باتَ مُخْتطِفاً *** لِلطَّرْفِ أصبَحَ للأعناقِ مُخْتَطِفَا . 2/ 372
وقد يفيد أبو تمام من الأمثال ليكني بها عن السرعة، كما في قوله :
قَبيلٌ وأهلٌ لم أُلاقِ مَشُوقَهُمْ *** لِوَشكِ النّوى إلاّ فُواقاً كلا ولا . 3/ 104
يقول المعري في شرح هذا البيت: ( يقال كان ذلك كلا ولا أي وشيكاً عَجِلاً، والمعنى أن الإنسان إذا نَهَى غيرَه يُكّرِر { لا } مثل أن يقول له اذهبْ إلى موضع كذا فيقول لإرادة المبالغة { لا لا } فيجيء الحرفان متصلين لا تفاوت بينهما فجعلوه مثلاً في السرعة ).
هذا، ونلاحظ فيما تقدَّم أن الحركة السريعة عند أبي تمام مرتبطة بصفة القوة. هذه الصفة في الصور الحركية تبدو أوضح في قوله :
أَذَابَ سنامَها قطعُ الفيافي *** ومزّقَ جِلدَها نَضْجُ العصيمِ . 4/ 534
وتحتَ ذاكَ قضاءٌ حَزُّ شفرتِهِ *** كما يَعَضُّ بأعلى الغاربِ القَتَبُ . 1/ 249
فصور الإذابة والتمزيق والحزّ والعض، كلّها صور حركية تقوم على فعل قوة. وأمر آخر نلاحظه في هذه الصور، وهو تأسيسها على أفعال.
وهذا في رأينا بتأثير الفكر، بل هو أحد أساليبه. ولعلّنا نجد في هذه الفعلية ما يعمّق الصفة الحركية في الصورة , هذا المنحى الفكري الغالب على صور أبي تمام الحركية، يبدو لنا واضحاً في قوله :
نَوىً كانقضاض النَّجمِ كانتْ نتيجةً *** مِنَ الهَزْلِ يوماً إنّ هزلَ الهوى جِدُّ 2/ 81
حيث يقوم بتحويل المجردات إلى أفعال حركية ، فالنوى ينقضّ، وسماء الجود تنهمر . وفي هذا التحويل أبلغ دلالة على حركية ذهن أبي تمام، فهو لا ينظر إلى المجرّدات بجمودها الفكري وإنما يسبغ عليها حركية حسية، والحركة زمن والزمن فكر . إن نظرة أبي تمام إلى الكون نظرة حركية ترى الأشياء متحركة متفاعلة بعضها مع بعض، لهذا كان لابدّ أن تظهر هذه الحركية حتى في صوره المجرّدة. وما هذا الامتزاج بين المجردات والحركة الحسية، في الواقع، إلاّ صورة لمذهب الشاعر القائم على مزج الحسّ بالفكر.
هذا التجسيد الحركي لصور المجردات يبدو لنا أيضاً في قوله :
مُقَصِّرٌ خُطُواتِ الهم في بَدَنِي *** عِلْماً بأنّي ما قَصَّرْتُ في الطَّلَبِ 4/ 549
يقول الآمدي: ( فجعل للهم - وهو أشد الحزن- خطواتٍ في بدنه، وأنه قد قصرها، لأنه ما قصر في الطلب، وهذا من وساوسه المحكمة ). فالآمدي، برغم مآخذه على الشاعر، معترفٌ له بإحكامِ الصنعة والتصوير. والصورة هنا قائمة على التجسيد الحركي لصورة مجرّدة وحالة نفسية شعورية.
ومثلما برع أبو تمام في تحريك المجرّدات، كذلك برع في تحريك الجمادات، مما لا يمكن تحريكه، كالوجوه والعيون :
لو يقدِرون مَشَوْا على وَجَناتهمْ *** وعيونهمْ فضلاً عن الأقدامِ 3/ 206
وفي هذا دليل آخر على حركية ذهن أبي تمام. إن جميع هذه الصور قائمة على المبالغة، والغرض منها التعظيم والتفخيم والتهويل.
بقي أن نلاحظ الحركية في صورة الجمع، والحركة فيها داخلية تدور حول نقطة واحدة، هي ملتقى الإشعاعات على اختلافها. يقول أبو تمام :
جَمَعْتُ شَعَاعَ الرّأيِ ثُمَّ وَسَمْتُهُ *** بِحَزْمٍ له في كُلِّ مُظْلِمةٍ فَجْرُ . 4/ 568
ولمّا كان الجمع يعني الائتلاف الذي قد يكون بين المختلفات، فإن صورة الجمع بالتالي صورة فكرية تقوم على موقف فكري من الكون قوامه التأليف بين المتناقضات.
*= حرفية الصورة :
أما الحرفية، وهي أحد أنماط التصوير التقليدي وأحد أساليب الوضوح التصويري، فإننا نجد لها نماذج كثيرة عنده مثال هذه الحرفية الشكلية عند أبي تمام قوله :
كأنّ بني نبهانَ يومَ وفاتِه *** نجومُ سماءٍ خَرَّ مِنْ بينها البدرُ . 4/ 81
ومن جيدِ غيداءِ التثنّي كأنّما *** أَتَتْكَ بِلَيْتَيْها مِنَ الرَّشَأِ الفَرْدِ . 2/ 111
فجعل بني نبهان في البيت الأول نجوماً كما جعل المرثي بدراً في صفة الضياء الغالب على ضياء النجوم. أمّا وقد مات فإن الفاجعة شديدة، وكأنما البدر قد سقط من بين النجوم، فساد الظلامُ الكونَ. وفي البيت الثاني جعل جيد فتاته شبيهاً بجيد الرشأ الفردِ في صفة الحسن، وهي صورة تقليدية.ومن هذه الصور الحرفية التي تعتمد على الحسية الشكلية أيضاً قوله :
أصداغُهُ ألِفٌ ولامٌ **** ولِحاظُهُ سَيفٌ حُسَامُ . 4/ 270
وقد يعتمد أبو تمام في بعض قصائده على هذه الصور الحرفية أساساً للتصوير الشعري. نجد ذلك مثلاً في القصيدة السادسة حيث يقول : رقم القصيدة 15654
الحسنُ بنُ وَهْب *** كالغيثِ في انسِكابِهْ
في الشَّرْخِ من حِجَاهُ *** والشَّرْخِ من شَبَابِهْ
وحُلَّةٍ كَسَاها *** كالحَلْيِ والتهابِهْ
وفي هذه الحرفية، بالشكل الذي وردت عليه، إشارة إلى كذب العاطفة. فالشاعر في القصيدة معنيّ بتتبُّع الصور بغية التعجيب دون التعبير عن عاطفة حقيقية. لكنّ الحرفية عند أبي تمام ليست خالصة، فهناك دائماً شيء جديد داخلٌ فيها. يقول :
وجوهٌ لَوَ انَّ الأرضَ فيها كواكبٌ *** تَوَقَّدُ لِلسَّاري لَكُنَّ كواكِبا . 1/ 139
فجعل الوجوه شبيهة بالكواكب، لكنه قيّدها بالشرط وهو أحد أساليب التصوير الفكري، فأخرج الصورة بذلك عن الجمود التقليدي والجفاف التصويري. ويقول أيضاً :
لَمَعَتْ أَسِنَّتُه فَهُنَّ مَعَ الضُّحَى *** شَمْسٌ وهُنَّ مع الظَّلامِ نُجُومُ . 3/ 290
في هذا البيت يشبّه أبو تمام الأسنّةَ بالشمس تارة وبالنجوم تارة أخرى. ولو اقتصر الأمر على ذلك لكانت الصورة جامدة جافة، لكنّ الشاعر ببراعته الفكرية أخرجها مخرجاً جديداً عن طريق الاقتران الزمني في صورة المشبه به: فهذه الأسنة شمس مع الضحى ونجوم مع الظلام. وهذا الأمر دليل واضح على نزعة أبي تمام التصويرية، وميله إلى عدم الإخلاء. فالصورة الواحدة (الأسنة) كانت تستدعي إلى ذهنه أكثر من مثيل ونظير (الشمس والنجوم).
وتبلغ براعة أبي تمام التصويرية به أن يفيد من الصور التقليدية، فيركّب من أكثر من صورةٍ صورةً جديدةً هي خلاصة هذه الصور مجتمعة، وإن لم يكن لها رصيد واقعي. فعمق ثقافة الشاعر ورهافة إحساسه ويقظة فكره أهّلته لأن يفيد من تلك الصور التراثية، فيفكك علاقاتها ويخلق منها صورة جديدة. يقول في وصف فرس :
هَادِيِهِ جِذعٌ مِنَ الأراكِ وما *** خَلفَ الصَّلا مِنْهُ صَخْرةٌ جَلْسُ . 2/ 226
إن جيد الفرس يشبه جذع الشجرة من حيث الضخامة، كما يشبه نبات الأراك من حيث الملاسة. والصورتان بهذا الشكل العلاقة فيهما حرفية حسية شكلية. فأخذ الشاعر هاتين الصورتين وفكَّك تلك العلاقة فيهما، ثم أعاد تركيبهما في صورة جديدة(جذع من الأراك)، وهي صورة غير واقعية، إذ إنّ نبات الأراك لا جذوع له.
*= وتنقلنا الصورة الحرفية إلى أسلوب تصويري ثالث، طالما أُعجِبَ القدماء به وعدّوه عنواناً لبراعة الشاعر. هذا الأسلوب هو أسلوب التكثيف التصويري، حيث يعمد الشاعر فيه إلى حشد الصور في قصيدته. وكلما استطاع أن يكثّف هذا الحشد في بيت واحد كان أبرع وكان البيت أروع.
وأبو تمام شاعر الصور، وإذا كان لا يتكلم إلا بصور فإن هذا لا يعني تقليديته، فالتكثيف عنده يخرج على الحدود الحسية ليتناول الأمور الفكرية. إنه تكثيف فكري، وهذا في رأينا أصعب من النمط الحسي الذي شاع في بعض نماذج الشعر القديم.من هذا التكثيف عند أبي تمام قوله :
كالخُوطِ في القَدِّ والغزالةِ في البهجةِ *** وابنِ الغزالِ في غَيَدِهْ 1/ 427
ثلاث صور اجتمعت في هذا البيت لترسم صورة المحبوب. إنه كالغصن في حسن قوامه، وكالشمس في إشراق وجهه، وكولد الغزال في تثنيه. والصور جميعها حسية حرفية.
ومن تكثيفه أيضاً قوله :
إِقدامَ عَمْرٍو في سماحةِ حَاتِمٍ *** في حِلْمِ أحنفَ في ذكاءِ إياسِ . 2/ 249
يأتي هنا لممدوحه بأربع صور، فهو مثل عمرو بن معد يكرب في صفة الإقدام، ومثل حاتم الطائي في السماحة والجود، ومثل الأحنف بن قيس في صفة الحلم، ومثل إياس بن معاوية في صفة الذكاء.
والصورة هنا حرفية تقليدية، لكنّ أبا تمام يرفدها بصورة فكرية، الأمر الذي يُخرج هذه الحرفية مخرجاً فكرياً :
لا تُنكروا ضَربي لَهُ مِنْ دُونِهِ *** مَثَلاً شَروداً في النّدى والباسِ
فالله قد ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُورِهِ *** مَثَلاً من المِشكاةِ والنِّبراسِ . 2/ 250
وإذا كان أبو تمام قد رفد الصورة الحرفية هنا بصورة فكرية، فإنّه قد يكثّف في الصور الفكرية نفسها :
فاضْمُمْ أَقاصِيَهُم إليكَ فإنّهُ *** لا يَزْخَرُ الوادي بِغَيرِ شِعابِ 1/ 88
والسَّهمُ بالرّيشِ اللُّؤَامِ ولن تَرَى *** بَيتاً بلا عَمَدٍ ولا أَطنابِ
يأتي أبو تمام هنا لفكرته بثلاث صور حسية. أما الفكرة فهي عظمة شأن الممدوح بقومه وأقاربه، وأما الصور الحسية فهي صورة الوادي والسهم والبيت: مثل الممدوح مثل هذه الصور، فكما أن الوادي لا يعظم سيله حتى تدفع فيه الشعاب التي حوله، وكما أن السهم لا تستقيم إصابته إلاّ بلأم ريشه، وكما أن البيت لا يستقيم إلاّ بعمده وأطنابه، كذلك الممدوح لن تتم سيادته إلاّ بقومه وأقاربه. وهو بذلك يحضّه على التأليف لهم، والصبر على مكرههم، واحتمال أذاهم، والصفح عن جانيهم، لأنه لن تتم له السيادة بغير ذلك.
وغالباً ما يعمد أبو تمام إلى هذا التكثيف في مقدمة قصائده، وكأنما يريد بذلك لفت النظر إلى صنعته، حتى إذا ما مضى في القصيدة قلّ هذا التجمّع الصوري، وبدأت تنساب الأبيات انسياباً، ولكنْ من غير أن تبتعد عن الصنعة التصويرية والزخرف البديعي.
يقول في مقدمة قصيدته في عمورية :
السيفُ أصدقُ أنباءً مِنَ الكُتبِ *** في حَدِّهِ الحَدُّ بينَ الجِدِّ واللَّعِبِ
بيضُ الصّفائحِ لا سودُ الصحائفِ *** في متونهنَّ جلاءُ الشكِّ والرِّيَبِ
والعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامعةً *** بين الخَمِيسَيْن لا في السبعةِ الشهبِ 1/ 40
ويقول في مقدمة قصيدته في الربيع :
رقَّتْ حواشي الدَّهْرِ فَهْيَ تَمَرْمَرُ *** وغدا الثّرى في حَلْيِهِ يَتَكسَّرُ
نَزَلَتْ مقدّمةُ المصيفِ حميدةً *** ويدُ الشتاءِ جديدةٌ لا تُكفَرُ
لولا الذي غَرَسَ الشتاءُ بكفِّهِ *** لاقَى المصيفُ هشائماً لا تُثْمِرُ 2/ 191
إن الفنان عامة، والشاعر خاصة، يتألف عمله من مجموعة دفقات، كل واحدة منها تبدأ شديدة عنيفة غزيرة، ثم تهدأ لتعود من جديد إلى شدتها وعنفها. هذه الدفقة قد تكون في وسط القصيدة، وقد تكون في أوّلها، وقد تكون في آخرها. أما أبو تمام فإنها تبدأ معه من أول القصيدة لتستمر غالباً إلى نهايتها. وهذا دليل واضح على براعة الشاعر الإبداعية، وعلى تملكه أداته التصويرية.
وليس غريباً أن يعمد أبو تمام إلى التكثيف في شعره، وقد قلنا إنه يتكلم بصور ولا يكاد يخلي بيتاً من غير أن يضمّنه صورة. مثال الكلام بصور عنده قوله :
فَسَقَاهُ مِسْكَ الطَّلِّ كافورُ الصَّبَا *** وانحَلَّ فيهِ خَيْطُ كُلِّ سماءِ . 1/ 25
أنضرَتْ أَيكَتي عطاياكَ حتّى *** صارَ ساقاً عُودِي وكانَ قضيبا . 1/ 171
وعناية أبي تمام بعدم الإخلاء والتكثيف في الشعر قد تخرجه إلى التكلّف والإغراق في الصنعة. نجد ذلك في قوله :
بِحَوَافِرٍ حُفْرٍ وصُلْبٍ صُلَّبٍ *** وأَشاعِرٍ شُعْرٍ وخَلْقٍ أَخْلَقِ . 2/ 410
*= التجديد في رسم الصورة الشعرية :
لم يستند إلى الأوصاف الجاهزة أو المعلبة ولم يتعكز على الصورة المكررة وإنما سعى نحو أطر جديدة ومضامين مبدعة حيث عالج المعاني الجديدة وفتق أكمامها كما تفتق شمس الربيع أكمام الأزهار وأزاح عنها غبار السنين كما تنزاح عن وجوه الجواهر . ومن المعاني التي فتق أكمامها قوله :
إلى الحسن اقتدنا ركائب صيّرت *** لها الحزن من أرض الفلاة ركائبا
هذه الركائب قد ركبت الأرض فالأرض ركائب لها , واعتمد المشهد على التلاعب في فكرة الثابت والمتحول فهذه الأرض لم تعد ثابتة بل غدت متحولة منتقلة تنتقل بانتقال الممدوح , فالأرض جميعاً راغبة في أن تسعى إلى ذاك الممدوح ليدلك على عمق الرغبة التي ملكت من على الأرض لتغدو الأرض ومن عليها في شوق وتلهف إلى الممدوح ولا شك أن الصورة حادثة مبدعة فيها أنسنة للأرض وإخراج من إطارها الثابت المألوف .
ويقول :
أطلّ على كُلى الآفاق حتى *** كأن الأرض في عينيه دار 1/ 149
كلى جمع كلية , واستعارة للآفاق لأن من أطّلع على كلية الشيء فقد خبر أمره إذا كانت الكلية لا تكون إلا في الباطن . إن استعارة الكلى الحيوانية إلى الآفاق هو تجسيم لها إذ جعل من الآفاق كائناً مشاهداً ليدلل على بعد نظر الممدوح وعلى قدرته على التعمق في أصل الأشياء فهو لا يكتفي بالاطلاع على المظهر بل يتعمق في الجوهر , وبالتالي فإن تجسيم الآفاق وتحويلها إلى مشاهد مرئية ينضج فكرة القدرة الاستشراقية التي يتمتع بها الممدوح .
ويقول أيضاً :
حتى غدت وهداتها ونجادها *** فئتين في حلل الربيع تبختر 2/ 136
صورة رائعة وغريبة , والأغرب هذا التداخل بين الزمان والمكان في صورة الشاعر وهداتها ونجادها وحلل الربيع . وكيف تحولت تلك الوهاد والنجاد بما تحمله من خضرة ربيعية متبخترتين في حلتها البهية , ماذا علينا لو رسمنا هذه الصورة , فكيف سنرسمها بل كيف سنتخيلها وهاداً ونجاداً تتبختر على حجمها وجمالها .
وتصادفنا صورة رابعة عند أبي تمام، طالما أُولعبها، وكثرت استعارته لها، وهي صورة الأخدع في قوله :
فضربْتَ الشتاءَ في أخدعَيْهِ *** ضَربةًغادرَتْهُ عَوْداً رَكُوبَا 1/ 166
وقد لفت أبو تمام بولعه بهذه اللفظة أنظار النقادقديماً وحديثاً حتى تمنى بعضهم لو صفع الشاعرفي أخدعيه . وأبو تمام مسبوق إلى هذه اللفظة،فقد سبقه إليها الصّمّة بن عبد الله والفرزدقوغيرهما , لكنّ الفارق بين هؤلاء وبينه، هو أنّ : هؤلاء نَحَوا في الاستعارة منحى قريباً، فجاءتمقبولة في شعرهم سائرة على مذاهب العرب فيالاستعارة، أمّا أبو تمام.. فكانت استعارته مغرقة فيالتقعّر، مما أطلق ألسنة النقّاد عليه , صورة طريفة إذ جعل الشتاء بوعوثة ثلوجه فرساً جامحاً وجعل انتصار أبي سعيد فيه كأنه ضربة سددت إليه فقضت على جموحه وشراسته , ويتم الصورة فيقول :
لقد انصعت والشتاء له وجه *** يراه الرجال جهماً قطوباً
طاعناً منحر الشمال متيجاً *** لبلاد العدو موتاً جنوباً
*= نخلص إلى أن أبا تمام لم يكن له مذهب جديد وإنما كان له طريقة جديدة في الالتقاط والاعتناء والتأليف فكل جزئية من جزئيات هذا المذهب قد سبق إليها فمسلم اعتنى بالبديع والجناس وأبو نواس بالمعاني وغزارتها وإمامهم في هذا بشار ولكن كل هذه الجزئيات – مبالغاً فيها – لم تجتمع لأحد مثل ما اجتمعت لأبي تمام فخرج على الناس بنوع جديد من الشعر تضافرت فيه العاطفة الجياشة الصادقة إلى جانب العقلانية والتكثيف التخييلي , فهو يغوص على المعاني العقلية غوصاً ثم يرفعها إلى السماء ويعمل فيها خياله البعيد ويختار لها الألفاظ ويعنى ببديعها وجناسها فتم له من معانيه العميقة إلى القاع وخياله المرتفع إلى السماء وألفاظه المتجانسة نوع جديد من الشعر لم يسبق إليه .
*= وينبغي أيضاً أن نكشف أن أبا تمام التزم بأمرين رئيسين في منهج قصائده : أولهما يتعلق بالشكل الفني العام وما احتواه من جزئيات استوقفت الناقد العربي القديم حتى بدا أبو تمام شديد الأمانة في التعلق بأهداب التراث فلم يشأ أن يضرب عنه صفحاً ولا أن يوليه ظهره بل راح ينهل منه ويسجل ولاءه للنموذج التقليدي لقصيدة المدح العربية تلك التي لم يكن ليخرج على روحها بحال ولم يعلن ثورته ولا تمرده عليها .
والثاني : أن أبا تمام قد استبطن التراث ووعاه ولكنه لم يستسلم له في موقف الخاضع المستعبد بقدر ما طوعه لطبيعة ثقافته ولنمط تكوينه العقلي فاقتحم مجال التصوير والصياغة اللفظية ليعكس من خلالهما معا ما أراد من فروع ثقافته ومصادرها العديدة والمتنوعة .
وبعد .... ذلكم أبو تمام حامل لواء الشعر العربي في عصره , أحد جهابذة الكلام وقبلة أصحاب المعاني وقدوة أهل البديع من الشعراء الذين أسسوا عظمة الشعر العربي وصنعوا مجدنا الشعري .