يطوف كل جمعة، على أزقة منامته القديمة. يراه عُمال البلدية وهو يُدقق في بعض الزوايا، كأنه مهندس منتدب لفحص سلامة الأبنية. يتلمس جدارًا هنا، بابًا هناك، نافذة قديمة، مخلوعة، أسياخ الحديد شاخت في أُطرها . يلتقط الصور. يراه الآسيويون : هنود، باكستانيون، بنغاليون. كما تعوّد عليه أصحاب الدكاكين. يشرب البيبسي من البرّادة. يشتري كيلو طحين من الشعير من دكان كومار. كيلو جاك فروت من دكانة سيتا الهندوسية، هي تعرفه منذ عشر سنوات. تزن الفاكهة الطازجة وتضعها في الكيس قبل مجيئه العاشرة صباحا. شفي يومه المبارك، ينبثق أمامها. يجلس أمام فم الداعوس الصغير المؤدي إلى المعبد. هنا ترقد الذكريات أسفل المبنى الحديث ذي الطبقات الثلاث. هنا تحت الأساسات ترك لعبة، وجد أخرى . أعواد بخور دُفنت نصف مشتعلة. وهنا أيضا دُفنت طفولة. ذاكرته تعاين وتقارن، الأمس واليوم. مسجد بشمي، شجرة العصافير في حوشه. الفلاتية التي يصطاد بها الطيور مع رفقته. يتقاسمون العصافير الميتة. يضعها في الثلاجة، يظن أنها وليمة شواء. سدرة بيت الزاوية، مقابل المأتم، وذكريات العصاة الطويلة، ذات المخلب. وبيت الأحجار، قدور الطبخ، والحطب ورائحة الاحتراق. لازالت منامته راقدة بسلام في تجويف ذاكرته، لكن واقعها الصلب تفتت. مكتبة العائلة طارت. بيوت العوائل المتحابة والمتجانسة سُكنت بغيرها. روائح مطحنة الحبوب والبهارت تململت في سكونها، ثم صدئت، ثم ماتت فدُفنت في مكَبّ نفايات بعيد.
ذلك الطويل - مثل مالك الحزين - جمعان ، شبيه جمعاته الحزينة - ابن المنامة - العازف عن الزواج، يقول في نوبات فرحه، عندما نستنكر عزوبيته: تزوجت المنامة بكل مافيها، ناسها وحيواناتها وحجرها.
-لولا كونك منحوسا وعنيدا، لكنت الآن ترفل في الهناء.
نرد عليه، نشاكسه، يبتسم، وفي زوايا عينيه، يتوارى حزن عميق.
تلك الجمعة، لم ير الرجل العمال. افتقدته الدكاكين. السنانير تروح وتجيء ، تتشمم الجدران، تنظر في هيئات الناس، تنتظره حاملا هديته؛ كيس بقايا السمك اللذيذ. سيتا توشك أن تغلق، لكن كيس الجاك فروت، يذوي في مكانه. كومار يُفرغ الطحين في البرميل الخشبي. غرشة البيبسي قتلها الحر والانتظار. الدواعيس تشعر بوحشة هذه الجمعة.
جمعان مُمَدّد فوق خشبة المغتسل. الحشود تفترش ساحة المقبرة. الدموع تفر في كل الاتجاهات، تصطدم بشواهد القبور. ها هو الآن محمولٌ فوق الأكتاف. سيتا وكومار، جعفر وعدنان، سمير ومنير، عبد الله وسلمان، يتراكضون صوب المقبرة. سيتا تلطم وجهها. دموع هندوسية ساخنة تبلل ساريها الملون. سلمان يُغشى عليه وهو ينزل الجثمان على شفير القبر. موزة المرأة العجوز تتوكأ على عصاتها تبحث عن جمعانها. سيد مهدي يلهث على الطريق بحثًا عن قمر جمعان المنير في ليالي الفريج.
الفاتحة في المسجد. لا.. الفاتحة في المأتم.
-هو ولد الفريج، ولد الدواعيس، دعوا الدواعيس تقرر مأتمه.
عندما خرجت من المقبرة مبللا بالدموع؛ وجدت المأتم والمسجد متجاورين ، يقفان أمام البوابة الكبيرة، وكان ذراعاهما مفتوحين، يحتضنان المشيعين. وقتها ابتلعني الحضن الدافئ، رأيت المسجد والمأتم صالة مستطيلة، سقط الجدار العازل بينهما. أذنت مئذنة المسجد، فدمعت قبة المأتم. جمعان رحل وأبَى إلا أن يترك بصمته الآخيرة فوق بلاطات متداخلة، نصفها صامت في المسجد، ونصفها الآخر يتململ حزنا في المأتم.