جذبه حفيف السعف وهو يختلط مع أصوات البلابل كمقطوعة كونية، شنّفت أسماعه وهو يلفُ "كرُّ" النخل حول خصره النحيل، استعدادا لصعوده. رفع رأسه مبتسما ينظر إلى هام النخلة كمن يستأذن سيدة نبيلة للرقص. يتأكد من ربط الحبل جيداً، يقبض عليه بسواعد قروية جافة كتربة قبر منسي، ثم يضع رجله على جذعها المموج الدافئ بحكايا الأجداد. أخذ في الصعود وهو يستذكر موطئ قدم أبيه وجده، وفي كل مرة يباعد الكرّ عن جذع النخلة، يلتحم معها كمن يريد ضم معشوقته لأول مرة، يتنشق عبق تمرها يخطو في مدارجها وصوته يبحُّ عن همهمة خفيضة، يبتعد عن الأرض فيصغر الحقل في عينيه كطائر مسافر، يقترب من نصفها فتهرب العصافير من سعفاتها، يتردد صدى الذكريات في رأسه:
النخلة أُمنا يا ولدي، تغذينا وتطعمنا صيفا وشتاءً، وإن كنت بارّاً بها، فاحرص على رعايتها كحرصك على عينيك.
هم هم هم.. تعلو همهمته بعد أن وصل إلى صدر النخلة، لاحت له ضفائر الشمس في صبح ريفي وهي تسقط على جبينه القمحي، الذي نحت الدهر خطوطه العريضة، وترك له أخاديد من اليباس. حلّقت حوله فراشة ذات أجنحة رقطاء، فتذكر طفلته ذات الثلاثة أعوام التي كانت تطارد فراشة مشابهة، وسقطت في بركة الحقل العميقة، ولم يمهله الوقت لإنقاذها، وفارقت الحياة. حاول أن يطرد تلك الذكريات الموجعة، ولكنها كانت تلح عليه بعناد حاد خصوصا أن الفراشة كانت تسابقه في الصعود، وتحوم حوله ببطء كمن نذرت نفسها بحراسة تلك الذكريات، وعدم مغادرتها من رأسه.
هم هم هم.. أخذ يُسرع في الصعود كي يتحاشى تلك الفراشة المزعجة، ولكنها أبت أن تفارق وجهه. وقف قليلاً مستنداً بثبات على الكرّ، هشّ عليها بيديه فطارت بعيداً، وما أن بدأ في الصعود إلا وعادت مخاتلة إياه من الخلف، انزعج كثيراً منها، فتوقف وقرر أن يطبق عليها بيديه. حبس أنفاسه ورأسه يدور مع دورانها، يتحين الفرصة؛ ليقضي عليها، ولكنها حلّقت عالياً وكأنها فهمت نواياه المتشفية، فاستقرت على أطراف سعفة قصية.
وصل أخيراً إلى رأس النخلة، استراح على إحدى سعفاتها المقابلة للفراشة، أرخى كرّه، وأخرج منجله، أخذ يصرم عذق النخلة واحداً تلو الآخر، ثم أخذ يدور حولها إلى أن وصل إلى السعفة التي كانت تقف عليها الفراشة. وطئ على السعفة بكل ثقله، فهوت السعفة إلى الأسفل، فهربت الفراشة، وحلّقت في الفراغ لا تلوي على شيء.
أطبق على منجله بأسنانه، وأعاد ربط الكرّ حول خصره، وأخذ ينزل من النخلة. فوجئ بالفراشة وهي تحلق حول وجهه. اندلق الدم في صدغيه كنافورة ملكية، أطبق عليها بيد واحدة، وأحكم قبضته حتى أحس بفتات أجنحتها تنسحق في يده، قذفها إلى الأعلى، ولف يده على الحبل بسرعة. باعد رجله عن كرب النخلة كي ينزل، ولكنها فرطت في الهواء، فارتطم حنكه في جذع النخلة، وهوى إلى الأسفل، وعيناه تنظران إلى الأعلى، حيث كانت الفراشة تدور بشكل حلزوني وهي تسقط إلى القاع.
رنّت الذكريات في رأسه مع الارتطام، تذكر صوت زوجته ولمسة كفوفها الحانية عليه، لم يقل لها " أحبك " طوال الثلاثين سنة خجلا من هذا الشعور. تذكر طهوها اللذيذ كل يوم دون تأفف منها، والذي لم يشكرها عليه في يوم ما، حتى روث حماره كانت تنظف له الحظيرة، وتخضّبه بالحناء بين الحين والآخر، وتعتني به دون تذمر أو شكوى!
تذكر عياله الذين كبروا ولم يحتضنهم قط، تذكر عامله في الحقل، والذي لم يكن يعطف عليه في يوم من الأيام، أو يترك له حتى بقايا التمر المتناثر حول النخلة!
ارتطم رأسه وظهره بالأرض، ظلّت عيناه معلّقة في الهواء كمن يرى الحياة لآخر مرة. سقط المنجل بجانبه، ووصلت الفراشة بعده. ركض إليه العامل، وأسنده إلى ذراعه، انتفض من غشوته وهو يئن من تباريح الألم، بالكاد أوقفه على قدميه، وأخذ يسحبه نحو الظل. سحق الفراشة وهو في طريقه، وصفع العامل على قفاه يؤنبه بفك يشخب دما، كونه رآه وهو يأكل من شجرة التين أثناء عمله. أمره بأن يذهب إلى البيت ويزجر زوجته بلعنات حامية؛ كونها لم تسرج له الحمار هذا الصباح، ويستعجلها في الغداء، ويعود إليه قبل أن تزول الشمس.