تأملات في نص « أمِّمي دهنك »للشاعر: جبران محمد قحل.
-النصُّ الشعري:
أَمِّمي دُهنَكِ ...
.....................................
أَمِّمي دُهنَكِ ...
في زيتك مايكفي ....
لإنقاذ الحِكاياتِ ...
وللغربةِ ....
ان تقْطُرها ...
لثغةُ فيهْ ...
كلنا المنفيُّ في العمرِ...
على عيدكِ ...
توَّاقٌ إلى تمركِ ...
مجنونٌ بلا خمركِ ...
لكنْ أبداً ...
يكمن في ينْعِك ِ...
مايُرضي ...
وفي منعك ...
مايُفضي ...
فبُثِّي بعضَ درَّاقِكِ ... هيا…
وامنحينا قلب نيرانك ...
حتى نبذلَ الفجر َ...
إلى جمركِ ...
أسْلمنا نواصينا ...
فَتُلِّي ...
ثمَّةَ الحُب ...
ولا تستغفري ...
من عاشقيكْ...
&&&&&&&&&&&&
-التأملات:
*الجوُّ العام :
هذا النص من أكثر النصوص استفزازاً لمخيلة القارئ إن صحَّ التعبير ؛وفي مضامينه تجسَّد الداء والدواء جرياً على الأعراف الطبية ؛الداءُ ممثلاً فيما يندرج تحت مسألة التذبذب في العطاء ؛والدواءُ -موصوفاً بواسطة رؤية الشاعر المتبصر- ؛لهذا الغريب المتشرذم الذي لايلوي على شيء من حُطام الدنيا ؛ولهذا اليائس الذي رأى إلى معالم الأرض وجمالياتها من منظاره الأسود القاتم؛وللقانط الجاحد أيضاً فضل الأيادي الممتدة إليه؛وخيراتها المنسكبة عليه؛ والنعماء التي تحيط به من جهاته الستِّ..
-في النص حضرتْ «ذات الزيت» ؛وصوت الشاعر المتمازج مع أصوات الجماعة..
-وفي النص أتيح لكاف الخطاب النصيب الأوفى من مساحات البروز كما في: "عيدكِ ...تمركِ ...خمركِ ...
ينْعِك ِ... منعك ...درَّاقك..عاشقيك ..
وفي النصَّ أيضاً ائتلق فنّ الرمز الدقيق الموحي؛والتكثيف البياني ؛ذلك الرمز الذي يشفُّ عما وراءه من معانٍ متوارية؛دون أن يخذل القارىء؛ أو يشطح به بعيداً في أودية التيه و الوهم والخيالات والتفسيرات الجوفاء العقيمة ؛وهو-على قصر أبياته- من أعجب النصوص الفنية المسكونة بنوازع شتى من الشعور بالغربة ؛ واستشعار الأعمار المنفية؛وما يواجهه الإنسان في رحلة تشظيه المجهولة من أرض إلى أرض؛ بحثاً عن رغادة العيش؛ ومرافىء الهناء هنا وهناك ..
-القيم الفنية والتعبيرية:
ابتداءً من تركيبة " أمّمي دهنكِ"؛وهو أسلوب طلبي قائم على صيغة التأنيث؛فحواه تتمحور على فاعلية: "تأميم الدهن" ؛من خلال هذا المنطلق احتدمت الأسئلة ؛وتلاطمت أمواج الرغبة ؛لمحاولة اكتشاف إفرازات التجاذب الذي تبلور في تفاصيل التجربة وأخرياتها..
ثم الانتقال للتقرير في الإدلاء بالقول: "في زيتك مايكفي "!!
ولسائلٍ أن يسأل :
كيف يكون تأميم الدهن ؟!
ومن بوسعه فعل ذلك ؟
وأي دُهنٍ هذا الذي لم يفصح عنه الشاعر؛ إلاَّ بلغة التلميح ؟!
ومن المخاطبة ؟!
وإلام أفضتْ انفعالات الشاعر ؟!
وعلى أي جسرٍ متين منيعٍ استند شاعرنا في التعبير الجمعي ؟!
كلُّ ذلك كانت تتراءى ظلاله تلميحاً لاتصريحاً ؛وتلك هي رؤية الشاعر ذو الحسِّ الدقيق ؛والنظرة الثاقبة لفن الشعر؛ومساراته المتشعبة..
وقد رأيت أن أستأنس بالمعجم في رحلة البحث عن دلالتي: "أمم ؛الدهن"..
أمَّمَ يؤمِّم تأميمًا :فهو مؤمِّم ، والمفعول مؤمَّم
أَمَّمَهُ في وَقْتٍ مُبَكِّرٍ : قَصَدَهُ
أَمَّمَتِ الدَّوْلَةُ الشَّرِكاتِ الكُبْرى :جَعَلَتْ وَسائِلَ الإِنْتاجِ وَإنْتاجَها ملْكاً لَها
تأمَّمَ ؛يتأمَّم ، تأمُّمًا ، فهو متأمِّم ، والمفعول مُتأمَّم به
تأَمَّم به: اقتدى
تأَمَّم بالتراب: تيمَّم
تأَمَّم امرأة: اتخذها أُمَّاً
تأَمَّم الشيءَ: قصده وتعمَّده
الأَمَمُ
الأَمَمُ : مقابلُ الشيءِ.
و الأَمَمُ القُرْب، يقال: أخذته من أُمَمٍ: مِن كثب.
و الأَمَمُ اليسير القريب التناوُل.
يقال: ما طلبت إلاّ شيئاً أَمَماً.
وما الذي رَكِبتَهُ بأَمَم: بشيءٍ هَيِّنٍ قريب.
و الأَمَمُ البَيِّن من الأُمور.
و الأَمَمُ الوسط.
وماذا عن دهن؟!
دهَنَ يدهُن ، دَهْنًا ، فهو داهن ، والمفعول مَدْهون
دهَن الرَّأسَ والشَّعرَ وغيرَهما: طلاه بالدُّهْن أو الزَّيت أو الطِّيب
فلانٌ يدهُن من قارورة فارغة - (مثل): يُضرب للكذّاب يَعد ولا يَفي.
وهنالك "الدَّهن" بمعنى الخداع..
الخ ما يتعلق باللفظة ..
لقد بدا شاعرنا وهو يلقي أمره بقوله: أممي ؛كالذي يمدُّ طوق النجاة لإنقاذ كيان الأرض من شعورها المتعاظم بالجفاف؛ أو النضوب؛ أو العلل التي تساهم في إيقاف عجلة نهضتها ..
فهو يقول :اجعلي هذا الطلاء الجمالي متاحاً لبني الإنسان؛اجعليه في كل بقعةِ أرض ؛لاتخشي النفاد ولاالبوار ؛ففي ضخِّ هذا الزيت -وهو أقرب مايكون إلى النفطي- تأطيرٌ لأحاديث الرجم بالغيب؛وتكميمٌ ..
للألسن العدائية المتغطرسة ؛وليس لها سوى القطرات من نصيبها ؛وفقاً لمقاديرها الرخيصة ؛ومقاماتها الهزيلة..
ثم يعبر شاعرنا بصيغة الشمولية؛ بقوله" كلنا المنفيٌّ في عيدك"؛على أنَّه مازال في حضرة خطاب المؤنث الذي ابتدأه؛ ومازال الحوار بينه وبين الأرض أو ما أشبه ذلك ؛على قدم وساق ؛إنه في هذا التقرير يسند الاغتراب أوالإقصاء المستوحى من النفي إلى العموم ؛على حدِّ مايستشف من قوله :كلُّنا المنفي "؛ فكيف يكون النفي في يوم عيدها ؟!
لربما أراد أن يقول إننا جميعاً نستعذب كلَّ عناء يمرُّ بنا ؛وكلَّ عذابٍ يصطرع في أعماقنا هو لك ؛وهو علينا دينٌ مستحق ؛ولربما أراد الشاعر إزجاء العتاب ؛إذ من غير المستساغ؛أو المستوعب؛ ألَّا تبادل محبيها العطاء في يوم سرورها الغامر بالسعادة؛ والعامر بالرحابة الإنسانية العالية..
ولنا أن نتلمس مساحة الصوت في كمية العتاب الرقيق الممتزج بروح التلهف العارمة في قوله مستخدماً صيغة المبالغة في كلمة:"توَّاق ؛واسم المفعول في كلمة :"مجنون"؛وفي الجمع بين التوقان والجنون ؛بحار دفاقة من أحاسيس الولاء والاحتفاء والاستماتة في عشقها.
فهو يقول :على الرغم من تسرُّب الشعور إلينا بالغربة نطمع جاهدين في طلعك النضيد ؛وخمرتك المعتقة الصافية البريئة ؛وبدون هذا الإكسير المانح للحياة ؛سنسقط في أفخاخ المجانين سواء بسواء.
ويمضي شاعرنا في تعزيز الثقة بقوله مخاطباً : "في ينعك مايرضي"؛ "وفي منعك مايفضي"؛ ولنا أن نلاحظ هنا جمال التجنيس الشكلي؛ولغة الحصر الواردة في أسبقية الجار والمجرور للفظتي :الينع والمنع ومابعدهما ؛ولنا أيضاً أن نربط ذلك بالصيغة السابقة:"في زيتك مايكفي ".
ويتلو ذلك استدراك :"بلكن"؛ مردفة بلفظة "أبداً" وهما تصبان في ذات النهر الجاري الذي هو بصدده ؛
وفي السياق نفسه بعدان متناظران؛ أو قطبان متنازعان ؛قاما على حالتي:القبول والرفض ؛ الينع ومايحمله من بُشريات الخصوبة
واليُنوع والينع من خصائص الثمر
إذا حان قِطافه؛ ومن ذلك قول الحجاج في خطبته المشهورة «وَالَّلهِ إنِّي لأرَى رُؤوساً قَدْ أيْنَعَتْ وَحَانَ قِطَافُهَا».
وهو هنا يؤكد أنَّ في بذلكِ العطاء اللامحدود؛مايفتح أبواب الرضا ؛ويعمِّق أسباب المحبة في قلوب سكان البرية جميعاً ؛وعلى العكس من ذلك يكون المنع بغيضاً ؛فهو دربٌ غويٌّ يفضي بك ؛وبالبرايا جميعاً إلى مزالق التأخر ؛والذبول؛ والكساد؛ وما إلى ذلك من ظلالٍ توحي بها كلمة: "يفضي" المرتدية زمن المضارع المستمر .
ويتابع شاعرنا مستهدياً ببوصلته الفنية اللماحة في ترجيح كفَّة العطاء بقوله مخاطباً إياها:
فبُثِّي بعضَ درَّاقِكِ ... هيا…
وامنحينا قلب نيرانك ...
حتى نبذلَ الفجر َ...
ويلاحظ في ذلك التركيب المائج موران الحركة السريعة التي يومىء إليها الشاعر؛على مستوى الفعل والنتيجة؛ففي توالي صيغ الأمر بالفعل "بثِّي"؛واسم فعل الأمر "هيَّا" ؛و"امنحينا" المقترنة بضمير ناء المتكلمين؛مطالب تقع على عاتقها هي وحدها؛وعليها أن تنهض بها الآن دون إبطاء؛وستكون انعكاسات النتيجة الحتمية مشرقة كإشراقة الفجر بعد ليل دامس طال عليه الأمد..
ويلاحظ هنا أنَّ شاعرنا جعل "الدُرَّاق" ؛
وهو الفاكهة المعروفة بالخوخ؛
على سبيل الاستعارة- جعلها للأرض ؛ بمنزلة الحديث المُكتَّم عند الإنسان نفسه؛فهو يريد لها أن تتحدث بلغة الفواكه اليانعة؛وفي طيات هذا الحديث الناعم الفاتن ؛تتجلى إمكاناتها النوعيَّة ؛وتتبدى نهضتها وخصوبتها ؛دون أن تلقي بالاً للقانطين الجاحدين الساخرين من مكانتها ؛وقدرتها على التطور؛ومسايرة الحضارات الكبرى ؛وهو بهذا يخلع الحياة على ماليس فيه حياة ؛وذلك شأن الشعراء النابهين؛في كل زمان ومكان؛ في التعامل مع الكائنات الصماء ؛يخلعون عليها من أرواحهم فإذا عنصر الحياة الممنوحة متصلاً بها وداخلاً في نسيجها البنائي.
على أنَّ البثَّ كما ذكرت مختصٌ في أصله القاموسي بإذاعة الأخبار وما شابهها كقول الشاعر القديم :
لقد كان يرجو أن يبثَّ اشتياقه
شِفَاهَاً فَلَمْ يَقْدِرْ فَبثَّ بِلبِّهِ .
بيد أنَّ شاعرنا المقتدر أراد له هذا المسلك الفني المعبر المترع بالطاقة..
-خاتمة النص:
يلقي شاعرنا عصا التسيار خاتماً نصه بهذا الاعتراف الساطع المبتلِّ بمياه الولاء الإنساني ؛
وذلك في مقام الخطاب؛بقوله:
إلى جمركِ ...
أسْلمنا نواصينا ...
فَتُلِّي ...
ثمَّةَ الحُب ...
ولا تستغفري ...
من عاشقيكْ...
وفي الخاتمة هذه تجلَّى عنصر التفاني؛ وحرارة الاستماته في عشقها المتجدد ؛فجمرها المتقدة نيرانه ؛-وهو مسبوق بانتهاء الغاية فيما أفاده حرف الجرِّ "إلى" ؛في مقام الفداء المطلق-حبيبٌ إلينا ؛ ميسورٌ علينا احتمالُه..
وفي الجمر المتقد اصطبغت ألسنة اللهب بصفوة مافي الروح ؛ من أمانٍ وتطلعات ؛ دفعت إليها فوراً عبارة "أسلمنا نواصينا "المعبرة بصيغة الجمع ؛والنواصي جمع ناصية وهي من الألفاظ التي وردت في كتاب الله (ناصية كاذبة خاطئة).
وإسلامنا لنواصينا؛ والمراد "مقدمات رؤوسنا" - جاء على سبيل الكناية-مرسخة قيم المحبة؛والتضحيات ؛ودحر الأقاويل وزبانيتها عن ميادين عزِّك؛وسؤددك ؛وأصالتك الشامخة؛ ؛ذلك هو برهاننا الدامغ ؛وحجتنا الواضحة؛ فافعلي بنا ماشئت؛فما سوى الحب المكنون الخالص من رباط وثيق ؛شددنا به الأواصر ؛وعلَّقنا على أنهاره الخالدة المصائر ؛فلامعنى إذن للاعتذار؛ أو اللجوء إلى التأكيدات المطوَّلة ؛فقد أغنى الصباح عن المصباح ..
وتذكرني هذه الخاتمة الحماسية المترعة بالولاء المطلق -على نحوٍ ما -بقول المتنبي من أواخر قصيدة همزية له:
يا رجاءَ العيون في كل أرضٍ
لم يكن غير أن أراك رجائي
ولقد أفنت المفاوزُ خَيلي
قبل أن نلتقي وزادي ومائي
فارمِ بي ما أردتَ منِّي فإني
أسدُ القلب آدميُّ الرُّواء!
-كلمة أخيرة
وبعد ؛فماذا قبل؟!
لقد كان النصُّ ثرياً في معانيه؛دقيقاً في صياغته؛أخَّاذاً في انفعالاته ونغماته -والشعر حمَّال أوجه -حاولتُ مسايرته على قدر الاستطاعة ؛مسايرة المتلذذ المتفاعل بطبيعة هذا البناء المبتكر ؛وطفقت ألتمس المقاربة مستهدياً بضوء تجربة شاعرنا الطامحة ؛ورؤيته الفنية المستقلة..
وأرجو بتلك القراءة على مابها من نقص؛ المساهمة في إضاءة بعض جوانبه الفنية التي تيسرتْ لي ؛وكلي أملٌ -يلازمني دائماً- أن أكون قد أصبت الهدف؛أو حللتُ قريباً من ساحته..
ودمت لنا شاعرنا المختلف جبران الشعر والفتوحات ؛ والله من وراء القصد..