تأملاتٌ في قصيدة "شُجونٌ لا تنْتهي"؛للشاعر القدير:محمد السيد النعمي
بقلم :محمد سلطان الأمير.
عندما ينفذ الشاعر المقتدر إلى أعماقه الدفينة ؛ ويقف مستبطناً خفايا أسرارها؛ مطالبها؛ عذاباتها؛آلامها ؛أحلامها ؛سخطها ورضاها ؛يسائلها آنا؛ ويعاتبها آنا آخر ؛يصالحها أحياناً ؛ثم يباغتها منتحياً عليها باللائمة؛والتقريع الأليم الموجع ؛كل ذلك وما إليه من شجون متصلة؛ لاسبيل إلى كشف اللثام عنها؛ إلا إذا أتيح لها؛ إحساس دقيق مرهف ؛وبصيرة نفاذة؛ولغة بيانية خصبة ريانة موشاة بأفاويق الجمال والبهاء؛فضلاً عن عنصر "الصدق الفني" ؛ الذي يعدُّ الركيزة الأساسية في بناء التجربة الشعورية بناء محكماً؛ فإذا تظافر مع العناصر الفنية الأخرى من صورٍ؛ وأخيلة؛وبراعة في التناول ؛جاء العمل حينئذ وافياً؛وحقَّ له أن يبلغ الآفاق سعة وانتشاراً .
وبتعبير آخر ؛أقول:إنَّ الانسيابية التعبيرية البارزة في إطار هذه العذوبة الفائقة التي نراها ؛ونلحظ ملامحها بجلاء ؛في نصّ شاعرنا هنا ؛لتعدُّ إلى جانب ما ألمحت إليه ؛أهم ركائز الشعر الوجداني الصِّرف؛وذلك التصور لاخلاف عليه..
وسأحاول هنا-في وجازة- إماطة اللثام عن بعض السمات التي امتازت بها القصيدة :
القصيدة عينية ؛بحرها الشعري الطويل ؛اعتمد مطلعها على الأسلوب الإنشائي بواسطة (إلام) ؛وهي مختصر "إلى متى"؛
إلامَ أُرجًي الوصْلَ من دون غَايةٍ
وأفْني ليالي العُمْر صباً ملوّعا ؟!
وفي هذا التساؤل البارز؛نلحظ اهتمام الشاعر بذائقة المتلقي؛ والحرص على
جذب انتباهه بعيداً عن الصلف والضجيج والافتعال.
ولقد جاء السؤال الحادّ مصطلياً بهدير اللوعة؛وسهامها الصائبة ؛ممثلاً في الإحساس بفداحة الإخفاق؛فهنالك رجاءٌ عميقٌ متجذّر طال عليه الأمد؛لم يثمر عن شيء ذي قيمة إطلاقاً ؛وهناك ليالٍ أثيرة طويلة؛أفناها الشاعر ترقباً؛ وتلهفاً؛ وانتظاراً ؛باءت جميعها بالخسران المبين ؛وبدت كأنها أجزاءٌ متلألئةٌ من نياط القلب أُهدرت من أصداف العمر الجميل الباسم ؛ليالٍ ناعمة الأطياف؛دافئة اللفتات؛أفلتت من بين يديه؛ ومضت سريعاً كالإشعاعات البرَّاقة في الأفق ؛إلى غيرعودة مرتجاة ؛إذ أنَّ فكرة استعادة أشرطتها الحالمة إلى دنيا الحياة؛عقيمة ؛لاجدوى من ورائها.
كما يلاحظ أنَّ شاعرنا في المطلع ذاته؛ وفي الأبيات المنداحة من بعده؛اعتمد أسلوب: "التفصيل بعد الإجمال"؛وبذلك تأخذ التجربة مناحيها التعبيرية المتعددة ؛في تعاقب دفقاتها الشعورية ؛إلى أن تبلغ نهايتها الطبيعية.
*معايشة النصّ؛والوقوف على بعض سماته الفنية
_________________
تابع شاعرنا المطلع بقوله:
أبيتُ أخا سُهدٍ
أُداري صبابتي
وتعْصِرُني الأشواق
وجْداً وأدمعاً
اتخذ السهد حليفاً ونديماً يشاطره أساه ؛كاتماً لواعجه في صدره ؛ بواسطة تاء المتكلم ؛ في الفعل "أبيت"؛ واستبدت به الأشواق القلبية عاصفة برؤاه وأحلامه ؛حتى أفرزت معركتها عصارةً من التباريح والأسقام ؛كان الشاعر هدف سهامها فإذا اسودّ عليه دجى الليل البهيم وحيداً من الخلان والسُمَّار ؛لاذ بوحدته الكونية؛ والشعورية معاً ؛يسائلها ؛يعابثها؛ يقرِّع كائناتها اللامرئية ؛
ومنها تبدأ رحلته المضنية في الشخوص الخيالية المحدقة به ؛إذ تبدو الأماني كخيول جامحة ؛أعدّها للتصدر في المضامير المختلفة؛ فسارت به وفقاً لهواها ؛منحرفة به عن المسار المؤمل المنشود ؛غير عابئة برغباته التي أفضى بها إليها؛وطموحاته التي يودُّ إليها أن تكون؛
فما إن تلوح له بهارجها وزخارفها؛ أويحين وقت قطافها؛ حتى تكرَّ راجعة القهقرى؛ تستحيل رماداً متطايراً؛
كأنْ لم تكن ..
في هذه اللحظات الدرامية ؛وفيما هو يمني النفس بشيء من السلو الهادىء ؛يثب القلب ؛مندداً بقراره هذا؛ ومسفِّهاً رأيه؛وموصداً دونه باب النسيان ؛أواسترواح بعض نسمات حريّة الانفصال عن تجاذباتها الحادَّة ..
في خضمِّ هذا التوتر العارم ؛يخلب ألبابنا شاعرُنا؛ مفصحاً عن أمنيته المتشبثة به ليل نهار؛بواسطة "ألا "الاستفتاحية؛وهوبذلك يريد أن يقرر :
ماذا يحدث لو عادت عقارب الزمن به إلى لُييلاته الحيّة في نسيج ذاكرته؛ هانئة ناعمة وادعة؛ إلى ماضٍ عابق بسحر اللقاء ؛وأناقة المشهد؛وبهاء الأماسي ؛وصفاء الأجواء الغرامية؛
إلى محبوبته؛ مَمْشُوقَة الْقوَامِ،شبيهة بدر السماء؛المياسة كغصن البان إذا مال وانحنى ؛ ذات الطرف الآسر؛
تلك التي تعلقها منذ اليفاعة ؛وتذوَّق معها نعيم الحياة ؛وألوان لذّاتها ومسرّاتها ؟!وهو يذكر أن تغلغل حبها في قلبه ؛وبلوغه هذا المبلغ من الولع والهيام؛سيبقى لابثاً ومقيماً على مرّ الليالي والأيام ..
ثم يستدرك مفنداً أي وجهة نظر من شأنها التقليل من قيمة الحب في الحياة بقوله:
ومنْ قَالَ يَبْلى الْحبُّ ما أنْصف الهوى
ولا هَامَ في واديهِ مُضْنىً وسَاجِعا
ويمضي شاعرنا بعد ذلك الرصد مع تيار الحنين العاصف ؛ فيقف ملوّحاً بالسلامِ على زمن النضارة والبهاء؛واصفاً لياليه الآفلة في تخوم الزمن-وهو يستشعرروح اليقين - بكؤوس أنسٍ تدار على صفوة الأصحاب؛ وصفحات منطوية من أريج الأرواح ؛ومباهج السويعات ؛ أتعبت القلب ذكراها الملحة؛وألقت به في صراعات دامية مع يقظة الفكر ؛وهو يحدو به إلى مواجهة واقعه الحاضر؛وهو واقع لاسبيل إلى نكرانه ؛أو مجافاته ؛أواصطناع أسباب التحدي لمفاجآت أحداثه ؛فضلاً عن الوقوف أمام سلطته الآخذة في السير..
واقع يقرع الأسماع قائلاً:
ما مضى فات والمؤمَّل غيبٌ
ولك الساعة التي أنت فيها
ويختم الشاعر قصيدته الوجدانية هذه ؛مستحضراً صوت الوعي في الكشف عن طبيعة هذه الحياة الفانية ؛وتلاشي أزمنة السرور ؛واضمحلال أوقات الهناء؛في زوال اللذّة وانطفاء البهجة ؛متناغماً بذلك مع نظرة الحكماء بقوله:
ومنْ شِيمِ الأيامِ
إنْ رَاقَ صَفْوها
أهَالتْ عَليهِ
منْ قَذَاها
نَواقِعا
فَعِشْ
بالذي يَصْفو
على قَدْرِ صَفْوهِ
وعنْ كأسِكَ الْمكْدورِ
غُضَّ الْلَواذِعا
*الخاتمة
_________________
سايرت قصيدة شاعرنا الكبير النعمي مسايرة ؛ غلب عليها طابع الاختصار ؛ فأشجتني أنغامه ؛وأذهلتني قدرته الفنية على الغوص البارع؛ والسباحة الماهرة في أغوار النفس الشجية من الداخل واستنطاقها ؛وهو مع هذه الحلاوة في النغم ؛والطلاقة في التعبير؛ والانفساح الرحب في الخيال المجنح ؛ ومع هذا الكشف الدقيق لأبعاد تجربته ؛من خلال شعوره الدقيق بإيقاع الزمن ؛ولعبة الحياة
يدفعنا إلى التجاوب المطلق ؛والإصغاء إلى مآلات المراحل التي انتهى به المطاف إليها؛ومن ثم المؤازرة الوجدانية لنفثات قلمه المصقول..
إنها -وعلى الرغم من طابعها الذاتي - عبّرت بألسنتنا جميعاً في علاقتنا الجدلية ؛ غير المتوائمة أبداً مع طبيعة الحياة المؤقتة ؛التي لايقرّ لها قرار ؛وأومأت إلى إخفاقاتنا ونحن نلهث راكضين في استعطافها ؛واستمالتها إلينا؛ وشعورنا بالمرارة ؛تجاه فقدان الأشياء العزيزة علينا .
ورحم الله القائل:
ماهذه الدنيا سوى بوابةٍ
ولسوف نعبرُها ليوم آخر ..
تلك كانت "لحظات تأمل "حاولت فيها معايشة نص شاعرنا الكبير ؛ملتقطاً بعض اللواعج والهموم التي أحاطت به ؛في لغته المونقة الريَّانةبالشحنات الانفعالية الموَّارة ؛ راجياً أن أكون قد أصبت المرمى ؛والله الموفق.
تحياتي وتقديري ودعواتي الصادقة لشاعرنا الرائد؛وصديقي الفاضل ؛السيد النعمي؛بالصحة والعافية والازدهار الإبداعي المستمر؛ومثل تلك الأمنيات للقراء الكرام ؛ندماء الحروف الألاقة؛
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ..