رمضان، اسم له قدسيته ويحفه التأريخ برفعة خاصة كلما عبر سنينًا من أعمارنا، تبلغ فيه عظمته فكرة الإصلاح والرياضة الروحية بالإضافة للعودة بنا للماضي الذي يُستمد منه طاقة للمستقبل، علاوة على ما قد خصه الإسلام به من خصائص ليست إلا له فهو يصنع فارقًا حقيقيًا فيما قد سار عليه الناس من رتابة في أيامهم المعتادة طوال العام، كحياة أتخذت عادات متشابهة وأحوال مستمرة، ثم إنه شهر فريضة الصيام مما جعل له في قلوب المسلمين مكانة مهمة وأيضًا منذ ارتبط هذا الشهر بأمور مقدسة أخرى وأعمال لها أثرها في حياة الناس الروحانية، فكثير من الأزمنة لها ارتباط بذكريات معينة فما بال بتأريخ له كل هذا الأثر على الأرواح والقلوب والأجساد.
شهر القران وليلة القدر "مدرسة الثلاثين يومًا" كما قيل.ومضاعفة الأجر فيه هيأة سعي المسلمون بإعادة مجده بالتعبد، وتجديد حكايات من الخير والإحسان ، واغتنام فُرصه لصنع نقاط من البديات والنهايات لما كانوا معتادين عليه، متآلفين معه من أعمال أو أقوال يُبتغى تغيّرها.
يقول الرافعي عن فلسفة الصوم " بأنه فقر إجباري يُراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح: أنَّ الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمّها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون".
كما أنه شهر له علاقة وطيدة بالماضي ينقلنا بحب لما قد عبر، فحمله للتراث أيضًا يعد أمرًا من إنسانيتنا فطريًا نألفه، ماضي الأحداث والذكريات وشيء من فطرية الإنسان التي سعى لتطويرها وباقي بها أثر فكرتها البدائية. كبعض المأكولات والملبوسات والعادات ،فتعود إلينا كل عام وكأن كيانه كـ زمن ما هو إلا شيخ يحدثنا بلسان الأيام التي لم تختلف كثيرًا منذ عقود وربما قرون، فلا زالت سُنة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام تربطنا بأفعاله وأعماله التي عبرت التاريخ إلينا كحقيقة تؤصل ذاتها كل عام، في حياة المسلم فتُثبت صدق الرسالة، وفضل هذه الأيام واستقرار النفوس بها.
ورغم أن هناك فجوة تتسع بين الماضي والحاضر كفعل طبيعي مقرون بالحداثة المتسربة إلا أنه ما زال بنكهته واستحضاره لما مضى بطابع خاص واحتفاء جليل، فأقوى ما قد يُنهضه الصوم في الصائم هو تفقد الفقراء ومساعدتهم وقد استمر على هذا بتغير طفيف فصار بطريقة أخرى أحدث و أكثر دقة وأسرع تحقيق، إلا أنه بقي الوقت المختص بذلك التفقد والبذل معًا، التقرب لله يسمو بالروح ويدفع لحياة تتجدد بها الطمأنينة، والمساواة. فما بين الماضي وشهر الصوم نهر الشعور وعملة الرحمة وطهر التأمل الذي ما أن ينتهي من عمق شخص إلا لينشأ في آخر.