عندما فتحت له باب بيتي ورأيت وجهه أدركت أنه في غاية الغضب، أعرف غضب أخي من فمه، عندما يستفزه أمر أو يغضبه أحد يتصحّر فمه، يجفّ حتى يبدو لك وكأن حريقا قد شب فيه ليلة البارحة، وفي الواقع فإن الحريق قد شبّ بالفعل لكن ليس في فمه؛ بل في قلبه، لقد أتى كورونا على بعض أحلامه إن لم يكن قد أتى عليها كلها.
المسكين أغلق صالون الحلاقة بقوة القانون فالحلاقة بؤرة محتملة لانتشار فيروس كورونا، ومع أنه قد حمل حقيبة الحلاقة وخرج تحت جناح الليل لحلاقة زبون خاص إلا أن جاره قد وشى به عند السلطات الصحية وتم تغريمه فاجتمعت بساحته نازلتان: إغلاق الصالون والغرامة، لذلك خرج من جلده غضبا، ومما زاده حنقا أن هذا الوبأ اللعين قد داهم ديارنا فجأة، اجتاحنا مثل سيل منقول حط علينا من علٍ.
كان يقول لي بحنق ظاهر: نشرات الأخبار، أحاديث المجالس والناس، حوارات مواقع التواصل الاجتماعي، كلها لم تكن تتحدث إلا عن الصين. الوبأ المسمى كوفيد 19 لا وجود له إلا في الصين فقط، وتحديدا في مدينة ووهان. ليس مهما لأي سبب من الأسباب ظهر، وليس مهما لأي سبب من الأسباب انتشر، وليس مهما أن نعرف إلى أين سوف يصل، المهم أنه - في جميع الأحوال - حالة مرضية تخص مدينة ووهان لوحدها. وحتى لو تجاوز ووهان فهناك ألاف المدن الصينية المكتظة بالسكان، مدن عملاقة سوف تبتلع الوبأ فتنتهي قصته في الصين كما بدأت. ما دار في خلد أحد منّا أنه سيصل إلى أقصى غرفة نومه وبتلك السرعة!
وقد صدق أخي؛ إذ كنا نتحرك بلا خوف ولا وجلتحت ظلال الاطمئنان تلك. كورونا عند كثيرين منا مجرد خبر عالمي، وعند البعض لا يزيد عن نكتة، ورغم حملة التوعية التي تفتقت عنها قريحة التلفزيون المحلي، ورغم أننا قد ارتدينا الكمامات واستأنسنا سوائل التعقيم في الغدو والرواح إلا أنه ما رفّ لنا جفن ولا تصدعت منا أفئدة. اعتبرنا ذلك وعيا صحيا فقط، وعيا نفاخر به بعضنا، أو مشاركة وجدانية لمن غشى ديارهم ذلك الوبأ،لذلك باتت الكمامات تغطي الشوارع والمحلات ودور العبادة، وباتت المعقمات عطرا اعتدنا عليه كل حين، وأدخلنا أكفنا داخل قفازات شفيفة تسر الناظرين،والأشد نكاية أن أرزاقنا أيضا باتت - تحت وطأته - على كف عفريت في تطورات دراماتيكية متلاحقة.
سرحت قليلا مع هذا الهاجس الذي مر بخاطري كمقطع في واتس أب، هاجس استغرقني بالكامل لبضع دقائق، لم ينقطع من مخيلتي إلا عندما وكزني أخي. وكزني بقوة في كتفي الأيمن وهو يقول أين المفتاح؟ ومثل نائم استيقظ مذعورا سألت: أي مفتاح؟ وقبل أن يجيب تذكرت مفتاح بدروم أبي، ذلك الإرث العظيم الذي تركه لنا أبي. كان البدروم بمثابة المشتى السنوي لعائلتي وعائلة أخي، إذا حل الشتاء وزمهريره انتقلنا إليه إلى أن يرحل الشتاء، وعندما وسّع الله علينا واستأنسنا أجهزة التكييف تركناه، استغنينا عنه لكنه بقي مثل غراء يشدنا إليه، أو مثل رابطة نجتمع حولها، وبقي المفتاح عندي مثل عهدة حكومية! وكثيرا ما كان أخي يصفني بحامل مفتاح البدروم!
تراجعت نحو الداخل؛ نحو خزائني السرية. غبت قليلا ثم عدت صوب أخي الأكبر ومعي المفتاح الذي أعرف مكانه جيدا. ناولته، وكنت أنوي سؤاله عن هدفه لكن آثرت عدم السؤال، ولماذا اسأله وقد اعتدت على زياراته المتكررة للبدروم. أخي يأتي بين الفينة والفينة ليبحث عن حاجة من الحاجيات المكدسة فيه ويا لها من حاجيات! مرة يبحث عن قدّوم أبي، وأخرى عن مسنّ سكاكين أبي، وثالثة عن منشار أبي، أو عن مسحاته أو عن أي أداة من الأدوات الكثيرة التي رحل أبي عنها مخزّنة في "بدرومه" العتيق، وكثير منها قد تجاوزه العصر ولم يعد له أدنى فاعلية. أخي يجد متعة في تقليب هذه الحاجيات بين يديه، دقائق معدودة ثم يتركها ويعيد لي المفتاح ويمضي.
قال لي وقد عضّ على المفتاح بالإبهام والسبابة: أنزل معي. ثم كرر في صيغة سؤال: هل تنزل معي؟ قلت له حسنا وهبطنا السلم العتيق الذي سينزل بنا. كان السلّم ينضح بالأيام التي دَرَجَت، عليه بصمات قرون خوالي، قرون تركتنا ومضت دون أن تكترث بأحد. وعلى السلم ذاته ذكريات عمر يمر بنا على عجل، وهو بدوره مضى دون أن يكترث بنا. قلت لأخي قبل أن نصل: نعتقد دائما أننا نمضي ونترك الأيام خلفنا وفي الحقيقة فهي التي تمضي وتتركنا خلفها، قال ببرود غريب: وسوف يجتاحنا كورونا ويمضي ويتركنا خلفه مثل جراد ميّت!
عندما وطئت أقدامنا أرض البدروم كانت رائحة أبي تتضوّع في جنباته، وكان خياله يطوف بنا، حتى سجادته التي اعتاد أن يصلي عليها الشفع والوتر ماتزال ممدودة وكأنها بساط السيد أحمد البدوي، وحتى صوته كان ما يزال يتلو سورة الشمس وضحاها في ركعتين اعتاد عليهما في كل هزيع. لقد انتقلت وأخي – بنزولنا هذا- إلى عصر مضى، وكأننا نعبر نفقا زمنيا، أو نستقل مركبة تسافر بنا عبر العصور.
شرع أخي ينقب عن شيء ما. فضّلت ألا اسأله؛ بل قررت أن أشاغل نفسي بالبحث أيضا فإن بدروم أبي مزدحم بالأشياء والحاجيات، ولنا مع كل قطعة منها صحبة وذكرى ومعالم حياة عشناها في كنف أبي الذي جعل مني ومن أخي أشهر حلاقَين ماهرين في طول المدينة وعرضها مثلما كان هو حلاقا ماهرا طارت شهرته في الآفاق، ورغم أنه – عفا الله عنه - قد أحرمنا من مواصلة التعليم إلا أنه قد أسدى إلينا معروفا فمهنة الحلاقة مهنة مربحة، وفوق ذلك فهي مهنة هيأت بيننا وبين الناس عرى تعارف وثيقة فتجد من بين أصدقائنا كبارا ومشاهير ومسئولين وحملة شهادات عليا وذوي مناصب رفيعة.
التقطت جزدانا قديما وشرعت أتملى في دقيق صنعه، ومع كثرة زخارفه ونقوشه إلا أني في واقع الحال كنت أسترق النظر إلى أخي، أراقبه من تحت أجفان منسدلة لأرى ما ذا يصنع، إن حالته النفسية عموما ليست على ما يرام، وزيارته لبدروم أبي في هذه الساعة المتأخرة من الليل لا يمكن اعتبارها أمرا عاديا، فإذا أضفنا لذلك كله طريقته في طلب مفتاح البدروم فإن مراقبتي له من حيث لا يراني هو أمر مبرر تماما.
وقف أخي أمام مكتبة صغيرة وتناول منها مجلدا، يبدو من شكله الخارجي أنه مخطوط مألوف لديّ عنوانه: فتوح وادي السيسبان. قلّب صفحاته بتوتر ظاهر حتى تحوّل التقليب إلى فرّ سريع. فرّه ثانية؛ ولكن من اليسار إلى اليمين في هذه المرّة، ثم أعاد الكرة ثانية في الاتجاه المعاكس. توقف عند عنوان المخطوط، تأمل بعض الوقت ثم أعاد الكتاب إلى موضعه بطريقة قلقة جدا.
تغيّرت وتيرة البحث عند أخي فلم يعد يتوقف عند الأشياء، بل يمرّ بها عجلان وعيناه تبحثان عن شيء ما، يحمل بعض الأشياء ويزيحها قليلا ليفتش عن شيء تحتها ثم يعيد تلك الأشياء. كنت أراه مثل آكل نمل يفتش عن فرائسه بين أوراق الخريف، وظل على هذا الوصف حتى أتمّ دورة كاملة أوصلته إلى حيث كنت أقف، عندما وقف أمامي وجها لوجه سألني: أما زلت تذكر بئر الخفافيش؟
صعقني هذا السؤال، صعقني وأخافني أيضا، صعقني لأنه سؤال مفاجئ يحمل فكرة مفاجئة لا علاقة لها بالحسبان إطلاقا. وأخافني لأنه بدا لي لأول وهلة مثل علامة أكيدة على جنون أخي، أو تأكيد على الجنون الذي كنت أتوقعه لأخي بعد سلسلة كوارث كوفيد-19 التي حلّت بساحته. لا بد أن يكون السؤال عن بئر الخفافيش سؤال مجنون وإلا فما علاقته ببدروم أبي الذي نجتمع فيه الآن؟ وما علاقته بهذا البحث والتنقيب الذي يقوم به أخي؟
قلت له: نعم، أعرفها. بئر الخفافيش في منتصف الطريق بيننا وبين سلاسل الجبال، كنا نمرّ بها جيئة وذهابا ونحن في طريقنا إلى المدن الواقعة وراء الجبال، ولكن! ما لذي جاء بتلك البئر على لسانك في هذا المكان وفي هذا التوقيت؟ وهي بئر مهجورة وجافة ليس فيها سوى طيور الوطاويط كأنها فئران مجنّحة. قال لي: أدري عن ذلك، وستعلم الليلة ما الذي جاء بها على لساني في هذا المكان وفي هذا التوقيت.
قبل أن أفيق من ذهول بئر الخفافيش سألني: وأين شوزن أبي؟ كان السؤال مثل حفنة من الرمل الساخن قذف بها في وجهي، تأكد لي ساعتها أن الخلل قد اعترى ذاكرة أخي وعقله وإدراكه فاقتربت منه. اقتربت منه مربتا على كتفه بينما يتمزق فؤادي من أجله واقترحت عليه بعض الراحة عندي وفي بيتي. من حقه عليّ أن أرعاه في هذا المنعطف الخطير ومن واجبي أن أحميه إذ لم يعد لدي شك انه قد فقد عقله وأن صدمته كانت فوق احتماله وهذا هو الوقت المناسب لأكون أخا وفيّا.
أعاد السؤال بثقة العاقلين المدركين متجاوزا كل ما قلت: أين الشوزن؟ بندقية أبي الأثيرة أين هي؟ ألم تكن معلقة في هذا الحائط؟
سأل وتحرك نحو الحائط، نحو الموضع الذي كانت بندقية الشوزن معلقة فيه فأضاف: كانت هنا، في هذا المعلاق كانت شوزن أبي، أين هي الآن؟ اقتربت منه ومن المعلاق وقد تغيرت نظرتي نحو عقله، إن تحديده هذا هو تحديد دقيق وصائب لا يصدر عن مجنون أو خَرِفٍ أبدا.
رأيت أن من واجبي توضيح أمر مهم فقلت له: لقد نقلتها إلى مكان آمن، عندما كبر أبناؤنا وبدأوا يجوسون أطراف البيت في حضورنا وفي غيابنا خشيت أن تقع هذه البندقية في أيديهم فيحدث منهم وعليهم مالا تحمد عقباه.
سمع أخي هذه الكلام فانفتحت أبواب وجهه وتهللت أساريره، شدّ على يدي بحماس شديد وأضاف: إذن هو عندك؟ قلت له: ليس تماما. هو خلف ذلك الدولاب، عندما تزحزحه إلى الأمام ستجده مموها ببعض الأغطية في فتحة يستند عليها الدولاب بظهره.
أخذ بندقية الشوزن وشرع يقلبها في يده، طلب مني تجهيز أكبر كمية من الطلقات ثم الانطلاق في ذلك الهزيع من الليل إلى بئر الخفافيش، ثم أقسم بالطلاق أنه لن يترك على الأرض خفّاشا فالخفافيش هي الحاضنة الماكرة لوبأ كوفيد-19 ولا بد من مسحها تماما عن الوجود.
انتابتني حالة من عمى البصيرة فقلت له: مجنون أنت؟ في هذا التوقيت نخرج لملاحقة الخفافيش؟ هل أصابك شيء في عقلك؟!
ندمت سريعا على موقفي هذا فهو أخي الأكبر وفي مقام أبي، وهو موجوع تماما بسبب عقابيل جائحة كورونا، ولذلك قلت له: العالم كله من شرقه إلى غربه في حالة إغلاق، والسلطات هنا تمنع التجول طوال الليل وطرفا من النهار، ليس في مقدور أحد أن يخرج لشراء حاجته من الخبز في هذا الوقت وتريدنا أن نخرج ومعنا سلاح ناري محرّم دوليا؟ ثم اقتربت منه وقبلت رأسه وأضفت: والمهمة ذاتها مهمة غير منطقية وإلا فما شان خفافيش بئر الخفافيش بكوفيد-19؟ هل ترى من الحكمة أن نعاقب طيورا لا ذنب لها؟
التصقت بأخي ثم احتضنته، قلت بأنه يمزح، وقلت بأننا نمتاح منه الحكمة دائما، وقلت له بأني لا أصدق أن تبدر منه فكرة كهذه، قلت ذلك وزيادة ثم شرعت أقبل رأسه ثانية لكنه أزاحني بقوّة، وعندما وقعت عيناي على عينيه قرأت فيهما شيئا مخيفا، كانت عيناه أقرب إلى عين ميت طلعت روحه للتو، غير أن الحياة ما لبثت أن دبت في عينيه فحدق في وجهي هنيهة ثم أمرني بصرامة: خذ معك الطلقات واتبعني الآن.
وقفنا على حافة بئر الخفافيش بعد أن سلك بنا طريقا مهملا لم يعد يسلكه أحد، وجه مصباحه اليدوي نحو جنبات البئر فرأينا الخفافيش معلقة وكأنها ملابس داخلية سوداء على حبل غسيل، جهز الطلقات التي ترشّ الموت رشّا، وكل طلقة كانت قادرة على قتل العشرات من تلك الطيور الآمنة.
أطلق طلقة فثانية فثالثة فرابعة وتساقطت الخفافيش كالخرق البالية على وجه الماء. استدار أخي حول فوّهة البئر وتدلى قليلا ليتخذ لنفسه وضع إبادة أفضل، مد رجله نحو نتوء صخري في حلق البئر لكن قدمه زلّت به فتردّى.
رأيته يهوي فدخلت في طور كابوسي استمر ثانية أو ثانيتين ثم خرجت منه لأصرخ مذعورا وأتجه نحو الحافة التي تردى منها، انحنيت فوق الحافة وصرخت، ناديت باسمه مرة ومرتين وثلاثا فما سمعت غير الصدى.
وجهت مصباح هاتفي المحمول نحو حائط البئر، مررته مثل قارئ الباركود ابتداء من الأعلى، واصلت الكشف حتى توقفت عند سطح الماء.
كان المنظر قاتلا بكل ما تحمله كلمة القتل من المعنى، وكنت في غاية الضعف بكل ما تحمله كلمة الضعف من معنى، لا حبال معي، وحواف البئر مزلقة تغطيها الطحالب وأخي يطفو فوق ماء يختلط بالخفافيش ودماء الخفافيش.
من مجموعة " منازلات الامبراطور الأعمى" وهي مجموعة تدور جميع قصصها حول جائحة كورونا وتداعياتها المختلفة