نمّت بأسرارِ ليل كان يخفيها *** وأطلعت قلبها للناس مِنفيها
قلب لها لم يرعْنا وهو مكتمن *** إلا ترَى فيه نارا منتراقيها
سفيهة لم يزل طول اللسان لها *** في الحي يجني عليهاضرب هاديها
غريقة في دموع وهي تحرقها *** أنفاسها بدوام منتلظيها
تنفست نفس المهجورة ادّكرت *** عهد الخليط فبات الوجديبكيها
يخشى عليها الردى مهما ألمّ بها *** نسيم ريح إذا وافىيحييها
بدت كنجم هوى في إثر عفرية *** في الأرض فاشتعلت منهنواصيها
نجم رأى الأرض أولى أن يُبوّأها *** من السماء فأمسى طوع أهليها
كأنها غرة قد سال شادخها *** في وجه دهماء يزهاهاتجليها
أو ضرّة خلقت للشمس حاسدة *** فكلما حجبت قامتتحاكيها
وحيدة بشباة الرمح هازمة *** عساكر الليل إن حلتبواديها
ما طنبت قط في أرض مخيّمة *** إلا وأقمر للأبصارداجيها
لها غرائب تبدو من محاسنها *** إذا تفكرت يوما فيمعانيها
فالوجنة الورد إلا في تناولها *** والقامة الغصن إلا فيتثنيها
قد أثمرت وردة حمراء طالعة *** تجني على الأكف إنأهويت تجنيها
ورد تشابك بها الأيدي إذا قطفت *** وما على غصنها شوكيوقيّها
صفر غلائلها حمر عمائمها *** سود ذوائبها بيض لياليها
كصعدة في حشا الظلماء طاعنة *** تسقي أسافلها ريّاأعاليها
كلوءة الليل إمّا أقبلت ظلم *** أمست لها ظلم للصحبتذكيها
وصيفة لست منها قاضيا وطرا *** إن أنت لم تكسها تاجايحلّيها
صفراء هندية في اللون إن نعتت *** والقد واللين إن أتممتتشبيها
فالهند تقتل بالنيران أنفسها *** وعندها أن ذاك القتليحييها
ما إن تزال تبيت الليل لاهية *** وما بها غُلة في الصدرتظميها
تحيي الليالي نورا وهي تقتلها *** بئس الجزاء لعمر اللهتجزيها
ورهاء لم يبد للأبصار لابسها *** يوما ولم يحتجب عنهنعاريها
قُدّت على قدّ ثوب قد تبطّنها *** ولم يقدر عليها الثوبكاسيها
غراء فرعاء لا تنفك فالية *** تقص لمتها طورا وتفليها
شيباء شعثاء لا تكسى غدائرها *** لون الشبيبة إلا حينتبليها
قناة ظلماء ما تنفك يأكلها *** سنانها طول طعن أويشظيها
مفتوحة العين تفني ليلها سهرا *** نعم وإفناؤها إياهيفنيها
وربما نال من أطرافها مرض *** لم يشف منه بغير القطعمشفيها
ويلمها في ظلام الليل مسعدة *** إذا الهموم دعت قلبيدواعيها
لولا اختلاف طباعينا بواحدة *** وللطباع اختلاف فيمبانيها
بأنها في سواد الليل مظهرة *** تلك التي في سواد القلبأخفيها
وبيننا عبرات إن هم نظروا *** غيّضتها خوف واش وهيتجريها
وما بها موهناً لو أنها شكرت *** ما بي من الحُرق اللاتيأقاسيه
ما عاندتها في الليالي في مطالبها *** ولا عدتها العواديفي مباغيها
ولا رمتها ببعد من أحبتها ... كما رمتني وقرب من أعاديها
ولا تكابد حسادا أكابدها *** ولا تداجي بني دهر أداجيها
ولا تشكّى المطايا طول رحلتها *** ولا لأرجلها طرد بأيديها
إلى مقاصد لم تبلغ أدانيها *** مع كثرة السعي فضلا عنأقاصيها
فليهنها أنها باتت ولا هممي *** ولا همومي تُعنيها وتَعنيها
أبدت إليّ ابتساما في خلال بُكاً *** وعبرتي أنا محضالحزن يمريها
فقلت في جنح ليل وهي واقفة *** ونحن في حضرة جلّّتأياديها
لو أنها علمت في قرب من نصبت *** من الورى لثنتأعطافها تيها
وخبّرت أنها لا الحزن خامرها *** بل فرحة النفس أبكاهاتناهيها
وأنها قدمت في حيث غرته *** تهدي سناها فزادت فيتلاليها
1- القصيدة لأبي بكر ناصح الدين أحمد بن محمد بن الحسين الأرّجاني نسبة إلى أرّجان من كور الأهواز من بلاد إقليم خوزستان , ولد سنة 460هـ , ويقول العماد الأصفهاني فيه : منبت شجرته أرّجان , وموطن أسرته تُستر وعسكر مُكرم من خوزستان , وهو وإن كان في العجم مولده فمن العرب محتده , سلفه القديم من الأنصار .
تفجر الشعر على لسانه فقصد به الوزير السلجوقي المشهور نظام الملك منذ سنة نيف وثمانين وأربعمائة , وظل ينظمه إلى وفاته بتُستر سنة 544هـ .
اشتغل بالقضاء وأكثر شعره في مديح السلاجقة , وله في الخليفة المستظهر والمسترشد غير مدحة , وبالمثل يمدح وزراء بغداد وفي مقدمتهم بنو جهير . والمدح عنده غرض مردد كثير مبتذل كل معانيه مكرورة ندر فيها الابتكار .
وشعر شكواه يعبر عن أزمة نفسية إزاء الحضارة العربية والإسلامية وانحسارها واضطراب قيمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية فبدا رافضاً لها .
واستمد حكمه وأمثاله من حياة قلقة أشد القلق متقلبة أعنف التقلب ولم تكن سوى خطرات وانطباعات متصلة بالمرارة والشكوى .
وعبر عن ذاته في فخره الذي اتكأ فيه على التراث واختلف عنه في الصياغة . وله غزليات رقيقة مطبوعة بالطابع البدوي , وهي لوحات رسمها استجابة لنزعة فنية وأثار فيها أجواء نفسية مشحونة بالأمل أو اليأس والرضا أو الغضب بحيث انسجمت مع المدح .
وله رباعيات كثيرة غير أنه فيها شديد التكلف , ومن أشهرها قصيدته في مدح أنوشروان والتي تشتمل على ثمانين رباعية .
أما طبقات العمل الفني فتشمل صوره ومعانيه ولغته وأسلوبه وموسيقى شعره ومعارضاته الشعرية , وأعزو صوره ومعانيه إلى مجتمعه وتكوينه النفسي وثقافته , ذلك أن ذاكرة الشاعر تضمنت آثار الصلة الحسية بالعالم في مجموعات كثيرة من الصور .
كما تضمنت الأفكار والأخيلة التي انتقلت إليها من التراث وطبعها بطابعه الخاص به . وأثرت في صوره الثقافة والموسيقى الشعرية , وما لغة الشاعر إلا وليدة تجربته الشعرية والألفاظ هي صلب مادتها .
وقد حمل لنا معجمه اللغوي ألفاظاً غريبة وألفاظاً كثيرة من المعرّب كذلك حمل لنا معجمه الثقافي ألفاظاً كثيرة من القرآن الكريم والحديث الشريف والفقه وألفاظ المنطق والفرق والعلوم المختلفة والقواعد المشهورة في الصرف والنحو .
وأسلوبه متنوع العناصر ومن سماته الوضوح والاتكاء على وجوه الصنعة العربية في تراكيبه , ومن المآخذ على أسلوبه التكرار في معانيه وأبياته وتراكيبه , ومظاهر من التعقيد وركة في التعبير وهبوط في الخيال . ومذهبه الفني تمثل في جانبين : التقليدي والبديعي , وقد بدا واضحاً في شعره ومعايشته عصره واتصاله بمجتمعه ورجاله وانفعاله بأحداث مرت بها الدولة ودأبه على تلمس منافذ التجديد من خلال اصطناعه الثقافة والموسيقى الشعرية ووسائل أخرى للأداء الفني . وهذا كله لا يمنع من أن يكون شعره حلقة في تأريخ الأدب العربي ووثيقة تأريخية لا غنى لنا عنها .
2= أضواء على القصيدة :
الوصف فن قديم , من النقاد من جعل الوصف هو كل الشعر ؛ وذلك نظراً لارتباط الأغراض الأخرى به . يقول ابن رشيق : (( إن الشعر إلا أقله راجع إلى باب الوصف )) فالوصف عمود الشعر وعماده , بل إن كل أغراض الشعر وصف , وتزداد أهمية الوصف حين يتخذ الشاعر الوصف مضماراً للتعبير عن همومه وآلامه وهواجسه ومشاكل أمته .
كثير من الشعراء وقف عند حدود التشبيهات الخارجية لا يتعمقون في الوصف ليضفوا عليه الأحاسيس والمشاعر والانفعالات , ولكنهم عندما يفعلون ذلك يتحول موضوع الوصف عندهم إلى موضوع حيوي وإلى موضوع متجاوب مع الشخص ومجتمعه معتمداً على الابتكار والاختراع , وسبيله إلى القلوب والعقول أداء مبدع وعرض مفتن .
قليلون جداً أولئك الذين تحولوا بالوصف الخارجي إلى وصف نفسي وإلى سبر لأعماق النفس وزواياها المظلمة وإلى تحليق في سماء المجتمع الأرحب . على سبيل المثال : ذو الرّمة من الذين مزجوا أنفسهم مع ما يصفون , فجاء شعره رائعاً تتغنى به الأجيال وتطرب به .
هذه التوطئة نضعها بين يدي النص لنبين أن الأرجاني لم يصف الشمعة وصفاً خارجياً , وإنما أراد أن يعبر عن نفسيته وأحاسيسه تجاهها وتجاه المجتمع والحياة , عاش الأرجاني في مجتمع اختلت فيه الموازين والقيم وتسلق إلى سدة الحكم أناس غير جديرين بتسلم الحكم .
في مثل هذا الجو يجد الشاعر نفسه في حيرة من أمره ولذلك يلجأ بعض الشعراء إلى الصمت التام خوفاً على نفسه , ومن الشعراء من يلجأ إلى طريق الرمز والإشارات والكناية .
وربما كانت قصيدة ابن العلاث الذي رثى هرّاً وإنما في الحقيقة يرثي الخليفة ابن المعتز الذي لم يدم ملكه إلا يوماً واحداً هي واحدة من شعر الإشارة والرمز والكناية .
هذا الاتجاه بالذات هو الاتجاه الذي سار عليه القاضي الأرجاني فجاء هذا الوصف حاملاً بالرموز والإشارات من معاناته الشخصية من ناحية ومعاناة المفكرين والدعاة وقادة الفكر والرأي في عصره وما يقدمون لمجتمعهم من خير محاولين انتشال هذا المجتمع من الحضيض فهو عاش عصر التفكك والتمزق في الفترة التي سيطر على الحكم أناس أنانيون على حساب وحدة البلاد والأمة . والقصيدة تقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : يحمل وصفاً خاصاً بالشمعة وفي هذا القسم حاول أن يعبر عن همومه خاصة وهموم الرواد عامة .
القسم الثاني : موازنة بينه وبين الشمعة ليصل في النهاية إلى أنه أكثر حزناً وهموماً من الشمعة , وأنه يستحق الإشفاق أكثر مما تستحق .
ويذكر البواعث التي دفعته إلى قول مثل هذه القصيدة والأسباب التي جعلته يعاني إلى حد التأزم , والسلبيات التي عمت حياة العصر .
القسم الثالث : عبارة عن جواز عبور لهذه القصيدة لكي تصل إلينا , فقد جعلها في مدح القاضي عماد الدين طاهر بن محمد .
3= شرح القصيدة :
الشاعر يحاول أن يستثير اهتمام القارئ أو السامع منذ البداية بتشويقه إلى معرفة من هي هذه التي { نمّت } من النميمة وكان جزاؤها أن قطع رأسها . منذ البداية يحاول أن يبني القصيدة على مستويين من الفهم : فهم بإيحاءاتها وظلالها . وفهم أعمق لأغوار ومكامن نفسه ونفس الكاتب والشاعر والداعية .
وفي الوقت نفسه نشعر أنه يريد أن ينقلنا إلى عصره أو أن ينقل عصره إلينا فمظاهر العصر ظاهرة بارزة . ولم يقدم لها بأيّة مقدمة , فالموضوع ليس مدحاً تقليدياً وإنما هو موضوع جديد , تعبير عن النفس من خلال موضوع الوصف .
هذه الشمعة أضاءت الليل فكشفت نفسها وكشفت الشاعر وكان جزاؤها أن قطع رأسها وأحرقت , وظهر قلبها من فيها , بمعنى أن فتيلها أخذ يبرز من فيها .
والشاعر يعتمد منذ البداية على أسلوب التجسيم والتجسيد فيقول { نمّت } وكأنها إنسان لها قلب وتتحرك ولها تراقي . ومنذ البداية يقابل بين الصور والمعاني التي توحي بالقوة والجبروت وبين الصور التي توحي بالضعف والسكون وهذا يتناسب مع فكرة الشاعر لأنه أراد أن يقول إن هذه الشمعة على الرغم من صغر حجمها فإنها تؤدي خدمة للإنسانية لأنها تحرق نفسها في سبيل خدمة الآخرين ولم تجد منهم إلا الجحود والنكران , والشاعر كذلك فالذي يقول الحق لا يلق من مجتمعه إلا مصير هذه الشمعة .
وفي الحقيقة أنه أراد أن يقول إن الشاعر والمفكر ضعيف من ناحية قوته المادية والجسدية ولكنه قوي من حيث آثاره الفكرية ومن حيث إمكاناته على الإثارة والتأثير , ورُبّ قصيدة أثارت حرباً , ورُبّ مفكر بمقال أيقض الأمة من سباتها .
وكما قلت الشاعر يراوح بين الصور الموحية بالقوة والصور الموحية بالضعف فهي تظهر لنا ضعيفة حزينة سقيمة غريقة , وتظهر لنا رقيقة في غاية الرقة بحيث إن هبوب النسيم قد يهلكها . ولكنه لا يلبث أن يأتي بالصور التي توحي بالقوة والجبروت وهذا ليس تناقضاً من أن يأتي بصور ضعفها ثم يأتي بصور قوتها .
وهذه الشمعة الحزينة السقيمة والتي تعاني من الاحتراق والمعاناة النفسية تشبه حال الزوجة التي هجرها زوجها فهي لا تني تذكر عهده وتذكره .
وفي قوله : بدت كنجم هوى في إثر عفرية *** فيالأرض فاشتعلت منه نواصيها
يصور الشاعر الشمعة في غاية القوة والجبروت فهي نجم هوى من عليائه ليطارد في الأرض أصحاب الحس المتبلد , وينتزع هذه الصورة من قوله تعالى : (( فأتبعه شهاب ثاقب )) وكأن الشاعر أنزل ليوقظ الناس من غفلتهم . ولشدة سرعته في تأديته لرسالته احترقت أطرافه كما تحترق الشهب النازلة من السماء .
ثم يسوق صوراً رائعة للشمعة فهي حين تضيء وتمحو جنح الظلام تشبه الغرة في الفرس الدهماء وهي جميلة وغاية في الجمال فما بالك بالضوء الذي يأتي في الليلة الحالكة الظلمة .
أراد أن يقول : إنه غرة في جبين أمته , بل إن غرة الفرس والشمعة لا تساوي شيئاً أمام جماله فقد أصبحت تحاكي الشمس وأصبحت ضرة للشمس .
وأراد أن يقول أيضاً : إن الشاعر مصدرٌ ينبثق منها نور الخير ونور الضياء للعالم كما أن الشمس تضيء للعالم , والشاعر مصدر إشعاع ومصدر تبصير ووعي للأمة , والشمعة التي كانت هناك تعاني من العجز أصبحت الآن تحاكي الشمس , ويصل إلى أن الشاعر يقوم بدور الشمس والشمعة خاصة إذا كان المجتمع يعيش في مجتمع مظلم .
وهذه الشمعة وحيدة في مقاومة جحافل الظلام , والشاعر وحده يواجه الكثير من المشكلات وله من الشجاعة ورباطة الجأش ما لا يثنيه عن دوره , ولو وقف المجتمع في سبيله فلا يقف عن دوره , فشأنه شأن الشمعة في إرسال الأشعة أمام جحافل الظلام وهي شبيهة بالرمح القوي الذي يخترم عساكر العدو . فهي في أحشاء الظلام تمتزق الظلام كما أنالرمح يمزق الأعداء والشاعر يبدد الجهل .
والمعركة التي صورها هي من معطيات العصر وأن العلاقة بين الشاعر ومجتمعه إذا ما عرقلت رسالته هي علاقة حرب لا مهادنة فيها , وفيها يقرر أن النهاية ستكون بانتصار الحق وتنهزم عساكر الليل فهو يحمل نظرة تفاؤلية .
وهذه الشمعة ما انتصبت في مكان إلا أدّت رسالتها على الوجه الكامل , وأسفرت عن جنح الظلام كما يضيء القمر ظلام الليل ثم اشتق للتشبيه الفعل فقال : { أقمر } ولم يقل : كالقمر , وهذا تشبيه بديع مليء بالحركة والحيوية , ويظهر التشبيه الأكثر روعة في بيت سابق , وهو { سال شادخها } فعندما شبه الشمعة بالغرة قال : { سال } ليدل على الاتساع والحركة .
ولعل الشاعر أحس بالتناقضات في معانيها التي أحسسنا بها نحن فأراد أن يوحي لنا بهذا المعنى عن أحوالها , وأن أحوالها غريبة فهي تارة سقيمة وتارة في غاية الجمال وتارة في غاية القوة .
ويبدو أن الشاعر قد ضمه والشمعة ليل انفرد بها وانفردت به فأخذ يستوحي صوراً متتابعة ويولّد من كل صورة صورة أخرى ومن كل معنى معنى آخر . والذي ساعده في ذلك هو أنه يستمد من نفسه و من مشاعره ما يجعل الوصف يستمر ويمتد .
وتارة تغلب على نفسه صورة الشمعة وتارة يغلب على نفسه هواجسه وهمومه هو وفئة من الكتاب والمفكرين في عصره . وللشاعر غرائب أيضاً فهو يعيش في أحوال ربما أثارت استغراب الكثير من الناس .
ثم يقيم موازنة بين الشمعة وبين الورد , فشعلة هذه الشمعة تشبّه الوردة , والوردة تشبّه بالوجنة فالتشبيه هنا مركب , إنك تستطيع أن تقطف الوردة ولكنك لا تستطيع أن تتناول وردة هذه الشمعة .
وهي تشبه في قامتها الغصن ولكنه لا ينثني وإذا ما تثنت انكسرت , وإذا ما مدّيت يدك لتقطف هذه الوردة فإنه سيصيبك الأذى وذلك بإحراقها يدك , ويظهر ذلك بوضوح في قوله :
قد أثمرت وردة حمراء طالعة *** تجني علىالأكف إن أهويت تجنيها
والورد يدافع عن نفسه بالشوك , أما وردة هذه الشمعة فليس عليها شوك تدافع عن نفسها , لكن لديها سلاح آخر وهو النار . ويعود إلى الحديث عن أثر هذه الشمعة في مقاومة جيوش الظلام بعد ذكر التشبيه في البيت السابق { وحيدة كشباه الرمح } , فيقول :
كصعدة في حشا الظلماء طاعنة *** تسقيأسافلها ريا أعاليها
ربما لأنه أعجبه هذا التشبيه واستملك لبّه , وربما أن هذا التشبيه هو الذي يؤدي المعنى الذي يقصده الشاعر
هذه الشمعة كالصعدة – القناة غير المثقفة – تطعن أحشاء الظلام وتبدده ولكن الغريب أن أعاليها هي التي تسقي أسافلها , وأنواع النباتات الأخرى الجذور هي التي تسقي النباتات وتبعث فيها الحياة . هذه القطرات عندما تتجمد على جدار الشمعة تجعلها كالصعدة .
ثم يقول : كلوءة الليل مهما أقبلت ظلم *** أمستلها ظلم للصحب تذكيها
كلوءة أي حارسة من كلأ أي : حفظ وحرس , فهذه الشمعة في ضوئها ومقاومتها للظلام في مقابلة الفكر والعلم الذي يقاوم الجهل والظلم . والمعنى : مهما أقبل الظلام وتدافع فإن هذه الشمعة تبقى وحيدة حارسة تحرس وتضيء الليل بينما ينام الغير .
ثم يعود إلى التجسيم مرة أخرى ويربط بين صورة الشمعة وصورة فتاة جميلة { الوصيفة } فيقول :
وصيفة لست منها قاضيا وطرا *** إن أنتلم تكسها تاجا يحليها
إنه يعقد موازنة بين الشمعة وبين الجارية والمعنى : أنه لا ينال منها وطراً إلا إذا دفع لها مهراً وكذلك الشمعة لا تنال ضوءها إلا إذا كسوت رأسها تاجاً وهو الفتيلة .
وتتتابع صور الفتاة بصيغ متعددة فيقول :
صفراء هندية في اللون إن نعتت *** والقد واللين إن أتممت تشبيها
فالهند تقتل بالنيران أنفسها *** وعندهاأن ذاك القتل يحييها
فهذه الشمعة تتحول إلى فتاة هندية وربما لعوامل الاصفرار دور في هذا التشبيه ووجه الشبه في اللون والقد وفي اللين . وهنا إشارة إلى إلمام الشاعر ببعض الأديان فهو قاض وله ثقافة دينية , يشير إلى الديانة الهندية التي لها طقوس معينة من إحراق الميت وذر الرماد في نهر الكنج . وإذا ما ذر هذا الرماد في هذا النهر فإنه يعود إلى حياة جديدة متمثلة في صور مختلفة
وما أتى به الشاعر في هذا الشبه إلا ليريد أن يقول إن الشاعر لا ينتهي دوره في الحياة وأن رسالته لا تتوقف في الحياة , وربما كان لقصيدة من قصائده أثر في تغيير وجه المجتمع . وربما عاد شعره الداعي إلى ثمرة من ثمار هذه الحياة فتأتي أجيال أخرى تتربى عليه , الشاعر صاحب رسالة يحرق نفسه ويهلكها في سبيل إحياء مجتمعات أخرى .
قوله : ما إن تزال تبيت الليل لاهية *** ومابها علة في الصدر تظميها
له صلة بالبيت السابق { كلوءة الليل ... } إنها ساهرة وتحيي هذا الليل , وهذه التضحية ليست لمصلحة شخصية أو علة شخصية وإنما ذلك من أجل الأمة , وذلك أن الدعاة والشعراء كانوا يحملون رسالة لأمتهم .
قوله : تحيي الليالي نورا وهي تقتلها *** بئس الجزاء لعمر الله تجزيها
إنها تهب النور للجميع وتبدد الظلام , والجزاء الذي تلقاه هو النكران والجحود وفي ذلك مقابلة الإحسان بالإساءة وهو كما قال : بئس الجزاء لعمر الله يجزيها . وكذلك الشاعر يقوم بمعالجة الأخطاء ومساعدة المجتمع ولا يلقى في ذلك إلا الجحود والنكران .
قوله : ورهاء لم يبد للأبصار لابسها *** يوما ولميحتجب عنهن غاديها
قدّ كقدّ قميص قد تبطنها *** ولم يقدرعليها الثوب كاسيها
الورهاء المرأة الخرقاء التي لا تتقن أي صناعة , والوره في اللغة الحمق في أي عمل . ومن المجاز : سحابة ورهاء أي كثيرة المطر .
هنا الشاعر يشبه الشمعة بامرأة خرقاء لها عجائب , ومن عجائبها أن الناس يقيسون ثيابهم على قدر جسومهم , ولكن الذي حدث هو العكس في هذه الشمعة فكأن الجسم ثوب وكأن الثوب أصبح جسماً , والجسم هنا الفتيلة . ثم يعود إلى التشبيه بصورة المرأة فيقول :
غراء فرعاء لا تنفك فالية *** تقص لمتهاطورا وتفليها
فهي بيضاء طويلة الشعر فالية أي جميلة لها لمة , فالشمعة هنا السيدة الغراء الفرعاء الفالية وصاحب هذه السيدة يقوم بعمل الوصيفة فهو لا ينفك عن هذه الشمعة يسويها ويهذبها ليحصل على مزية جيدة من الضوء الجيد , وكذا الشاعر إذا ما أحيط بمجتمع نشط مشجع له أتى بنور وعطاء جيد . ولكنها تختلف عن البيت التالي : شيباء شعثاء لا تكسى غدائرها *** لون الشبيبة إلا حينتبليها
وفي ظاهر هذا الأمر تناقض ولكن إذا فهمنا أطوار وتصرفات الشاعر الغريبة زال هذا التناقض , يعود إلى جدلية الحياة والموت في نهاية هذا البيت وهذه الشمعة إذا لم تسوّى أشبهت العجوز الشعثاء . ويقصد أن الشاعر أراد أن يتجدد شبابه إذا ما قبلت دعوته ورسالته
هذه الشمعة قناة توجهه إلى الظلام , أيّ لون من ألوان الظلام الفكري والعقلي , ويجب أن تكون القناة مشرعة في وجه الظلام ولكن في النهاية أن الظلام هو الذي يفني هذه الشمعة , وهو يريد أن يبين أن الشاعر الحقيقي هو الذي يكرس جهده لخدمة مجتمعه . يقول :
ويلمها في ظلام الليل مسعدة *** إذا الهمومدعت قلبي دواعيه
لولا اختلاف طباعينا بواحدة *** وللطباعاختلاف في مبانيها
بأنها في سواد الليل مظهرة *** تلك التي فيسواد القلب أخفيها
يتعجب من هذا الشمعة التي طالما أسعدتني وبددت هواجسي وأحزاني فإذا ما داهمتني الهموم والمصائب والأحزان جعلت منها مساعداً لي ومعيناً ومسلياً وأنيساً . هذه الشمعة فيها شبه كثير بالشاعر ولكن على الرغم من ذلك إلا أن الله تبارك وتعالى لم يخلق اثنين متفقين في كلّ شيء فلا بد من أوجه الاختلاف .
وهي إذا داهمتها الهموم في سواد الليل تبكي فتزيل همها وتظهر ما في قلبها من اللوعة وذلك بالبكاء أي : القطرات التي تسيل منها إذا اشتعلت . وأما الشاعر فلأنه صابر رابط الجأش متجلداً فلا يستطيع مجاراتها في ذلك فهو عصي الدمع . ويتابع القول :
وبيننا عبرات إن هم نظروا *** غيضتها خوفواش وهي تجريها
وما بها موهنا لو أنها شكرت ***ما بي منالحرق اللاتي أقاسيها
هذه الشمعة ترسل دموعها وتطلق لها العنان لتعبر عن ما بداخلها , وأما الشاعر فإن نظرات الوشاة والحساد قد تنال منه إن هو جارى هذه الشمعة بإخراج الدموع فهو صابر متحمل الأحداث . وتعيش الشمعة في نعمة إذا ما قورنت بالشاعر فهي تستطيع أن تعبر عن أحزانها وآلامها التي لا يستطيع الشاعر البوح بها .
قوله : ما عاندتها في الليالي في مطالبها *** ولا عدتهاالعوادي في مباغيها
ولا رمتها ببعد من أحبتها *** كما رمتني وقرب منأعاديها
ولا تكابد حسادا أكابدها *** ولا تداجي بنيدهر أداجيها
هنا يكمن همّ الشاعر وهو معاندة الليالي له , وعداء العوادي له , هنا يشعر أن أهل هذا الزمن يناصفونه العداء وبأنه وضع سدٌّ منيعٌ بينه وبين طموحاته نتبين ذلك من كلمة { عاند التي تعني المشاركة . كذلك الليالي رمته ببعد عن أحبته وقرّبته من أعدائه وهذا أشد وسبب من أسباب قلقه . كما أن الشمعة لا تعاني مثلي في مكابدة أولئك الحساد الذين ينالون مني ومن مداجاة ومداهنة الناس . وكأنه يلمّ بمعاني أبيات أبي الطيب المتنبي .
قوله : ولا تشكى المطايا طول رحلتها *** ولالأرجلها طرد بأيديها
هذه الشمعة ليس لها من الهموم ما يجعلها في رحلة دائمة , والشاعر كأنما يعاني من حظ عاثر , ويدأب في السعي وراء موضعه في مجتمعه وأنه يتعب من ذلك , وأن المطايا قد تعبت حتى شكت من كثرة الأسفار , وهو لم ينل مطلوبه بعد .
ولهذه الشمعة مطايا دائمة الركب وعندما قلت طموحاتها ارتاحت وهدأت , أما ذوي الهمم العالية فهي التي تتعب أصحابها إلى :
إلى مقاصد لم تبلغ أدانيها *** مع كثرةالسعي فضلا عن أقاصيها
وعلى الرغم من كثرة الأسفار إلا أنه لم يحقق مطالبه ومقاصده فلم تتحقق أدانيها فضلاً عن أقاصيها . ولم يعبر عن المقاصد وإنما جعلها حبيس نفسه , وعندما يصل إلى هذا الحد بينه وبين الشمعة فإن القارئ يشعر بالبون الواسع بينه وبينها . لذلك قال :
فليهنها أنها باتت ولا همي *** ولا هموميتعنيها وتعنيها
أي : لتهنأ هذه الشمعة بما فيها من نعم وحسبها أنها ليست لها من الهموم ما تتعبها وتبلغ بها درجة العناء . ثم يخرج إلى المديح , وهذا المديح هو هبوط بمستوى القصيدة وخير ما فيه هو الحديث النفسي .
4= التعليق :
عاش الأرجاني عصراً اختلت فيه الموازين والقيم , هذا العصر شهد تحولات خطيرة , فالبلاد الإسلامية تصبح نهماً للغزاة , ودولاً تتساقط وأخرى تقوم وعالم إسلامي ممزق الأوصال , لقمة سائغة في أفواه الحكام والطامعين من الأعداء , ولا يهبّ حاكمٌ لنجدة أخيه , بل ينتظر وصول الحريق والطوفان إليه .
في مثل هذه الظروف وهذه الأحوال قد يكون للفكر النير وللبصيرة النافذة اليد الطولى ويقع ذلك على الرواد والمفكرين والدعاة والأدباء في تبصير الأمة وإضاءة الأمل في حياة الظلام الدامس .
وتقع على عواتقهم رد الثقة إلى نفوس أبنائها التي تسرب إليها اليأس والقنوط , ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هل تلقى مجالات الرواد في مثل هذه الظروف الترحيب من كافة المجتمعات ؟ وهل يسير في طريق مغروس بالورود ؟ أغلب الظن لا , لن أغلب المحاولات لا تسعد كثيراً من الناس ولا يرضى كثير منهم وبخاصة أولئك النفر التي تتحكم فيها المصلحة الخاصة .
وهذه الفئات تضع العراقيل أمام الرواد لأن هذه الفئات لا تعيش إلا على جروح المجتمع , ولكن مثل هذه العراقيل هل تفتّ في عضد الدعاة والمفكرين والأدباء ؟
مثل هذه العراقيل يجب أن يتمرن عليها وأن يتيقن أنه سيصيب منها , ويبدو أن شاعرنا الأرجاني كان أحد هؤلاء النفر الذي أضاء شموع الأمل في الأمة .
ويبدو أنه عاند وكابد في هذا الزمن من قسوة المجتمع وجحوده ومن سوء الجزاء ومرارته , وقد عبر الشاعر عن ذلك بقوله : { بئس الجزاء لعمر الله يجزيها }
ويبدو أن الشاعر قد عاش تجربته بكل أحاسيسه ومشاعره فاكتوى بشواظ النكران ولفح وهج سوء الجزاء , وماذا عسى أن يفعل شاعر لا حول له ولا قوة ولا سلاح معه إلا الكلمة الصائبة وإلا الحرف يحمله أشواق قلبه ونبض عروقه ويشحنه بلهيب معاناته ووهج تجربته
ففي الجزء الأول أسقط الشاعر همومه وآماله وهموم معاصريه وآمالهم وبخاصة فئة الرواد وأسقط ذلك على الشمعة فأخذ يصفها بوصف ينبض بالإيحاءات والتأملات .
ونقف من هذه على رؤية الشاعر لنفسه التي تملأ كيانه وتسكن أعماقه متمثلة في أن الشاعر يحرق نفسه من أجل أن يبقى شموعاً تضيء الحياة ونبراساً ينير دياجيرها وغياهيبها ليهدي أمته إلى السعادة وإلى الحياة التي يسودها الخير والكرامة وترفرف فوقها الفضيلة .
وتتمثل رؤية الشاعر أيضاً في أنه وإن كان يستحق التقدير والاحترام جزاء تفانيه في خدمته هذا المجتمع ولقاء إعلانه الحرب على جيوش الجهل فإنه لا يجد من هذا المجتمع الجاحد إلا الإنكار لدوره والإهدار لمنهجه والعرقلة لجهوده , بل قد ترد عليه تضحيته وإيثاره وبالاً وذلك من قبل الذين يؤذيهم أن يسمعوا كلمة الحق . ويؤذيهم أن ينير الشاعر الظلام الذين اعتادوا أن يعيشوا فيه , غير أن الشاعر لا يعبر عن هذا الموقف تعبيراً مباشراً بل وظف روعة التصوير والرمز والإيحاء المكثف والتصوير الأنيق فاتخذ من الشمعة في سائر أحوالها وأوضاعها وإيحاءاتها رموزاً في سائر تأملاته ومخاوفه .
قد استطاع الشاعر أن يثير فينا مشاعر الإشفاق على الشمعة وعلى الرمز الذي اختفى وراءها . واستطاع أن يحملنا على التعاطف الذي يضحي كل منهما بلحظات عمره ويستهلك بقايا عمره من أجل إسعاد غيره لا يثنيه عن ذلك ما غرس في طبعه من حب الإيثار والتضحية وما يلقاه من تعرض للمخاطر , ومن موت بطيء يدب في أوصاله مستغلاً الشاعر فكرة المقابلة بمعناها الشامل أبعد استغلال وأنجحه , إذ يظهر الشمعة وهي تعادل الشاعر بصور توحي بمنتهى الضعف وتقبل على مصيرها راضية وقانعة وغريقة في دموعها . وتخشى تحية النسيم فتحرقها لفح الأنفاس وتكاد تذوي فيها جذوة الحياة فتتلاحق أنفاسها وتوشك أن تسكن سكونها النهائي .
وكما أثار فينا مشاعر الإشفاق والعطف عليه وعلى الشمعة من خلال الصور التي تفيض بالضعف وانعدام القوة فقد استطاع أيضاً أن يثير فينا الإعجاب من خلال صور المقابلة التي أستطاع أن يجعلها تتميز بالقوة والجبروت ولئنالشاعر كائن علوي في نفسه وإلهامه فقد آثر الإقامة بين أهل الأرض لتبصيرهم فهو نجم ثاقب نزل من السماء يلاحق شياطين الجهل والحس المتبلد , وهو فسحة الأمل التي تشدخ في جبين اليأس وهو معرفة تتألق وتشع لتهزم جيوش الظلام وهو مشكاة تبعث الدفء والخير .
وإذا كان الشاعر قد استتر وراء شمعته من الجزء الأول كاسياً فكرته غلالة من الرمز الشفاف وناثراً مشاعره من خلال الصور المتلاحقة فقد تخلّى عن ذلك في الجزء الثاني عندما ترك التلميح إلى التصريح ومن العموم إلى التخصيص .
وبرز لنا من خلال غلالته الرقيقة ليضع نفسه في مواجهة مباشرة مع الشمعة وليقيم موازنة بينهما دقيقة تسفر عن أن الشمعة أحسن حالاً منه وأنها وإن كانت تستحق الإعجاب منا مرة فإن الشاعر يستحق ذلك ألف مرة .
ويكشف الشاعر عن بعض طباعه وأخلاقه ويرفع الستار عن بواعث أزمته ويبث قارئه أسباب معاناته ويطلع الدارس على روافد تجربته التي تمخضت عنها هذه القصيدة . يقر بها الشاعر الأرجاني : أبياً عجوفاً لا تلين له قناة عالي الهمة متطلعاً إلى المعالي لا تزعزعه عوالي الزمن ولا تفنيه عن مطالبة معاندة الأيام .
وإذا كانت الليالي السود قد حالت بينه وبين أحبته وقربت بينه وبين أعدائه , وإذا كانت الليالي السود قد أجبرته على مداجاة بني عصره فإنها لم تستطع أن تطأ كبرياءه أو تنال من رباطة جأشه .
ومهما ضاقت فرجة الأمل أمامه فإنه يظل عصي الدمع يغيض عبراته ويكتم أحزانه وآهاته خوف حاسد يتربص به أو شامت يظهر له الإشفاق ويخفي له سوء الظن واللوم .
إن أصحاب الهمم العالية والنفوس الكبيرة يمرؤون المعاناة من أجل تحقيق الهدف الأسمى يقول المتنبي :
وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام
فلتهنأ هذه الشمعة ولتغتبط لأن همتها دون همته فالطموح الكبير والآمال الكبيرة والهموم العريضة لا تتحقق إلا بالهمة الكبيرة والنفوس الكبيرة .
5= ظواهر بارزة في القصيدة :
1= محور التجربة وفكرة المقابلة :
هذه هي أبرز الظواهر ولا شك أن التعرف على محور التجربة الشعرية أو تلمس بؤرة التجربة الشعرية يسهم إلى درجة كبيرة في كشف كثير من الظواهر الفنية والفكرية في النص إذا ما حاولنا أن نطبق هذا المبدأ النقدي على القصيدة ففي تقديري أن أول ما يطالعنا هي ظاهرة المقابلة في النص , والمقابلة ليس المقصود بها معناها البلاغي , وإنما هي المقابلة الشاملة النابعة في الأصل من كونها مقابلة التضحية بالنكران والجحود أو الإيثار بالتنكر أو الإحسان بالإساءة , وبين موقف الشاعر ورد الفعل الذي يتوقعه الشاعر من المجتمع .
ولا شك أن المقابلة هنا مرتبطة بمحور التجربة وهي الفكرة التي ملأت نفس الشاعر ودعته إلى نظم هذه القصيدة . ولهذا نرى أن الشاعر أقام بناءه الفكري على أساس من هذه الفكرة فجاءت معاني القوة والجمال والصحة يقابلهامعاني الضعف والعجز والاستكانة والمرض والسقم والقبح , ولا تكن المقابلة مشتملة على هذه المعاني فحسب بل امتدت إلى الصور فانصبت الصور المشعة بالقوة والحياة والصحة وقابلها بالصور الأخرى في الجانب الآخر . واتسقت القيم التعبيرية والتراكيبية مع هذا التقابل . وانتثرت المقابلات في القصيدة حتى كادت تزدحم فالليل يقابله النهار والسماء بالأرض والبياض بالسواد والأسافل بالأعالي . وهذه الأضداد أسهمت في التعبير عن فكرة الشاعر , والقارئ هنا يشعر بأنها لم تأت في القصيدة متكلفة وإنما أبرزت التجربة هذه الأحاسيس .
2= ظاهرة التصوير وأبعادها الفنية :
التصوير إحدى وسائل التعبير عن الفكرة وله دور كبير في نقل الأحاسيس والمشاعر , والتصوير ليس الاستعارة ولا التشبيه البليغ فحسب وإنما التصوير هو شيء فني أبدع فيه الشاعر أيما إبداع , واعتمد عليه اعتماداً كلياً بدليل مساحته الكبيرة في القصيدة .
وتنوعت مصادر الصورة الفنية في القصيدة وجاءت مشحونة بالمشاعر والدلالات والإيحاءات التي أبرزت في النهاية أزمة الشاعر . والمصادر المتناثرة وجدنا أنها مستمدة من عصر الشاعر الذي عمت فيه الأحداث وما ظهر في هذا العصر من سلبيات كثيرة . واستمدها من الإنسان وأوضاعه وأحواله وما ينتابه من سقم ومرض وصحة وجمال وقوة . واستمدها من الكون الرحب الواسع , واستمد بعضها من عالم الحيوان , وبعضها الآخر من عالم النبات وبعضها من ثقافته ومعرفته بأديان الشعوب وعاداتهم .
فمن الصور التي استمدها من العصر قوله : { نمّت بأسرار ليل كان يخفيها – ضرب هاديها . وقوله : قناة ظلماء ما تنفك يأكلها – عهد الخليط فبات الوجد يبكيها – وصيفة لست منها قاضيا وطرا } .
ومن الصور التي استمدها من الحروب وما يحصل فيها من قتل وما يستعمل فيها من أسلحة وما ينجم فيها من آثار وانتصارات وهزائم : { غريقة في دموع – تحرقها أنفاسها –كشباة الرمح هازمة عساكر الليل – كصعدة في حشا الظلماء طاعنة – يخشى عليها الردى ما طنبت قط وغيرها }
أما الصور التي استمدها من البيئة الاجتماعية فمثل : { نمت بأسرار – ولا تكابد حساداً – أو ضرة خلقت – ما عاندتها الليالي – ولا تشكي – تنفست نفس المهجورة وغيرها }
وصور الإنسانية مثل : { سقيمة – تنفست – صفراء هندية –غراء – شعثاء – شيباء – مفتوحة العين – نال من أطرافها –وصيفة .. }
وصور الكون وما فيه من اختلاف كالليل والنهار – و ضياء وظلام – بدت كنجم هوى– نجم رأى الأرض – إلا وأقمر للأبصار – أو ضرة خلقت للشمس }
ومن عالم النبات مثل : { فالوجنة الورد – وردة حمراء –الغصن – أثمرت – ورد تشاك – وغيرها }
ومن عالم الحيوان مثل : { كأنها غرة سال شادخها في وجه دهماء } , ومن ثقافته ومعرفته بالشعوب مثل : { فالهند تقتل بالنيران أنفسها } . ولهذه الصور خصائص يبدو لنا منها :
3 - التجسيم : فقد بدت مقدرة الشاعر الفائقة على خلع الصفات الإنسانية على موصوفه وهذه القدرة أكسبت القصيدة حياة وحركة .
4- الحسية : أغلب هذه الصور حسي يعتمد على إدراكه بالحواس ويغلب عليها الطابع الحسي ولعل حاسة البصر أكثر من غيرها وإن كان منها ما حاول الشاعر أن يشرك فيه صفة أخرى وهي صفة اللمس .
5- وهذه الصور تمتاز بالكلية فليست صوراً جزيئة فأغلبها مما تجاوز فيه الشاعر تصوير جزء بجزء وإنما حاول أن يستغل الشمعة بأحوالها وحركاتها ليربط بينها وبين مظاهر أخرى وليستغل هذه الظروف .
6- التركيبية : فكثير منها جاء تركيباً فربط بين ثلاثة أشياء أو أكثر فغالباً ما يرسم صورة للشمعة وهي صورة الشاعر , عبر مستويات ثلاثة : الشاعر والشمعة والصورة .
7- التلوين : استطاع الشاعر أن يستغل طاقات الألوان وقدرتها على الإيحاء والتلوين . وهذه القدرة تضافرت مع الصور الأخرى لذلك وجدنا اللون الأبيض هو البارز ويمثله : النهار والنار والنجم والشمس والقمر والغرة وكلها ترمز إلى مظاهر الصفاء والخير والإشعاع في الحياة . ولم يغفل اللون الأسود في الليل والظلام والجهل والأدهم والموت الأسود والذوائب .
وجاء اللون الأحمر وهو لون الشبيبة والوجنة والوردة والموت الأحمر المتربص بالشاعر . وجاء اللون الأصفر والذي يوحي بالحسد كالضرة والقناة الهندية والموت .
8- الحركية : صوره ليست جامدة وإنما تتحرك في فضاء واسع وهذا التحرك ساعده على حرية التعبير وساعده من أن يرصد حركته الشعورية .
6= مظاهر الوحدة في القصيدة :
على الرغم من أن القصيدة لم تخرج عن النظام القديم للقصيدة إلا أنني أجد عناصر من الوحدة التي ربطت بين أجزائها , وأهمها :
1= وحدة الموضوع وهو معاناة الشاعر , ومهما تعددت الصور والمعاني والأفكار فإنها تلتقي حول هذا الموضوع وهذا أكسب القصيدة وحدة موضوعية .
2= وحدة الجو النفسي : تسبح القصيدة في جو من الحزن الأسود , وهذا الجو يسيطر على كل أجزاء القصيدة وربما ساعد على توفير هذا الجو كثرة صور القتل وصور الموت والفناء بالإضافة إلى ما شاع فيها من ألفاظ شاركت في رسم هذا اللون كألفاظ المعاندة والمداجاة والمعاداة والبعد والحرقة وغيرها . وألفاظ أخرى تدل على الحزن مثل : الدموع والهجر والبكاء والردى والسقم والقتل والنيران والغريق أدّى انتشارها إلى المساهمة في بناء هذا الجو الحزين . وهكذا فإننا نلاحظ أن المعجم الشعري أسهم في التعبير عن تجربته عبر الألفاظ المتسقة مع المعاني والإشارات .
كما ساعد على تحقيق هذه الوحدة : استغناء الشاعر عن المقدمة التقليدية لأنها قد فقدت القدرة على الإثارة , وأصبحت في العصور المتأخرة اجتراراً لما كان عليه أهل الجاهلية .
7= موسيقى القصيدة :
سكب الشاعر موسيقاه في البحر البسيط وهو بحر يتميز بامتداده لطول تفعيلاته وتنوعها وهذا يعطي الشاعر فرصته للتعبير عن الهموم الثقيلة والمعاناة الطويلة . واستطاع الشاعر أن يوفر في القصيدة أنغاماً إضافية من الموسيقى الداخلية التي تناسب مع الموسيقى الخارجية في إبراز الجو النفسي للقصيدة , ومن هذه العناصر الإضافية التي رفدت الموسيقى الداخلية :
1= عنصر التصريع في أكثر من موضع وذلك لما يضفيه على القصيدة من طلاوة ولما له من موقع من النفس لأنه يحرك الإحساس بالقافية في نهاية البيت قبل الوصول إليها , ولما له من قدرة على جذب انتباه السامع وتوفير كثافة موسيقية مؤثرة .
2= التوازن في القصيدة , حيث وفر الشاعر كثيراً من التوازن في الجمل الموسيقية فجاء البيت وفيه كثير من الجمل المتساوية والمتوازنة إلا أن قمته ظهرت في تقسيمه البيت إلى أربعة أجزاء .
3= استخدام ألفاظ ذات قيمة موسيقية فنية مثل : { غراء –فرعاء – شعثاء – شيباء – غريقة – سقيمة – وحيدة – ضرة –غرة – تكابد – تداجي – عاند – ساهرة – طالعة – هازمة –فالية – مسعدة – مظهرة .. }
8= القافية : بصوتها الممتد المكون من امتداد الياء ثم الهاء وحرف المد بعدها يعطي إيحاءاً بصوت الندب وهو يساهم في رسم الجو النفسي الحزين , وهذا الامتداد الذي يتكئعليه الشاعر بعد كل بيت , فما يكاد يصل إلى نهاية البيت حتى يصرخ , وبذلك ساهمت القافية في التعبير عن تجربته وعمق الالتياع .
9= استغلال إمكانات الرمز :
من البداية قلنا إن الشاعر لا ينتمي إلى مدرسة أدبية بعينها , الشاعر هنا استطاع أن يستخدم اللفظ العربي ويستعمله في اتساع ويضمنه الإيحاء , واستطاع الموازنة بين استعمال الرمز وبين الأسلوب المباشر في التعبير , لذلك نعرف مقاصده ومراميه , وابتعد الشاعر عن المباشرة والتقريرية , قد أعطى القصيدة خصوصية راقت للسامعين وتذوقها المحللون وأثرت فيهم .
10= الروح الاتباعية في القصيدة :
الروح الاتباعية واضحة في شعر هذا العصر لأن الشعراء قد وجدوا إمكانات شعرية سامقة فنسجوا على منواله ولكن الأمر لا يخلو من تفوق لبعض هؤلاء الشعراء ومحاولة الوصول إلى الرعيل الأول من أولئك الشعراء . والمحتذي والمقلد يتفوق على السابق مع الاحتفاظ بالريادة والسبق لمن سبق .
الروح الاتباعية واضحة في بعض أجزاء القصيدة وبخاصة في معاندة الليالي له , ومقاصده التي لم يبلغ أقصاها فضلاً عن أدناها . وهو يقترب من روح المتنبي في حديثه الشجي عن همومه المتكالبة عليه وعن همته التي نجد ما يعرقلها دون تحقيقها , والصلة المعنوية قوية بين هذا البيت :
ولا رمتها ببعد من أحبتها *** كما رمتني بقرب من أعاديها
وبين قول المتنبي :
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى *** عدواً له ما من صداقته بُدُّ
وقوله : واحتمال الأذى ورؤية جانيه *** غذاء تضوى به الأجسام
كما أننا نجد في قوله : غراء فرعاء .... اتكاءً على الأعشى في قوله :
غراء فرعاء مصقول عوارضها *** تمشي الهوينى كما يمشي الوجل الوحل
أما قوله : { صفر غلائلها } فقد قيس قياساً على قول الشاعر الجاهلي بشامة بن حزن :
بيض مفارقنا تغلي مراجلنا *** نأسو بأموالنا آثار أيدينا
وقول صفي الدين الحلي :
بيض صنائعنا سود وقائعنا *** خضر مرابعنا حمر مواضينا
وهذا الالتقاء على هذه المعاني يؤكد أن محفوظ الشاعر من الشعر القديم قد رشح على قلمه أو على لسانه في أثناء صياغة القصيدة , فالثقافة الشعرية تتحول إلى غذاء ثقافي يسري في عروقه الفنية
11= ظاهرة الطبع والتكلف في القصيدة :
الصنعة واضحة فيها يلمح القارئ التأني والتأمل والعمق في رسم صوره وتشكيل معانيه , وأحياناً نلمس آثار ثقافته الفقهية وعمله القضائي , ونلمس القدرات العقلية والمنطقية له , فضلاً عن إحكامه الصنعة الشعرية سالكاً مدرسة شعراء مدرسة الصنعة الذين سبقوه إلا أن هذه الصنعة لم تفقد قصيدته رقتها وعذوبتها فهي تمتاز برقتها وعذوبتها وما فيها من غنائية سواء في الالفاظ والتراكيب ام ملاءمة التراكيب والألفاظ مع بعضهما أم للقالب الموسيقي لذلك رأينا القدامى يشيرون إلى هذه العذوبة في أحكامهم النقدية .
يقول ابن خلكان : (( جمع بين العذوبة والطيب )) ويقول : (( وله ديوان شعر فيه كل معنى لطيف )) ويعبر الأرجاني عن هذا الجانب فيقول :
أنا أشعر الفقهاء غير مدافع *** في العصر أو أنا أفقه الشعراء
شعري إذا ما قلت ردده الورى *** بالطبع لا بتكلف الإلقاء
كالصوت في قمم الجبال إذا علا *** للسمع هاج تجاوب الأصداء
والطبع لا يتعارض مع التنقيح والتهذيب بل إنه يزيده جمالاً ويسد ما في القصيدة من ثغرات واستبدال بعض الألفاظ ببعض على حسب ما يرتضيه ذوق الشاعر ومدى خدمته لصناعته .
12= مآخذ على القصيدة : يؤخذ على الشاعر ما يأتي :
= وقوعه في بعض التكرار والصور المعادة مثل : تكراره لمعنى الموت المتبادل بين الشمعة والظلام في قوله : { تحيي الليالي نوراً وهي تقتلها } { تفني ليلها سهراً } وفي اتكائه الشديد على صورة الرمح التي تطعن أحشاء الظلام { وحيدة كشباة الرمح } و { كصعدة في حشا الظلماء } و { قناة ظلماء ما تنفك } وفي اعتماده على الورد في صورتين متقاربتين الأولى فالوجنة الورد , والثانية ( قد أثمرت وردة حمراء ) وقد يكون في إلحاح فكرة الإحسان بالإساءة على نفس الشاعر بوصفها بؤرة التجربة الشعرية مسوغاً للتكرار الأول .
ولعل في حماسته الشديدة في فكرة تبديد الظلام ونشر أشعة الخير والنور ما جعل الشاعر شديد الإعجاب بصورة الرمح الطاعن في الأحشاء على أن الصورة كان يجري عليها بعض التطوير والتحوير في كل تكرار فهي في الأولى هازمة جيش الظلام , وفي الثانية طاعنة أحشاء الظلماء , وفي الثالثة تأكل الظلماء أسنانها ويمكن أن يقال ذلك في التقاء صورتيه الأخيرتين على الورد , ففي الأولى عقد صلة كاملة عن طريق التشبيه البليغ الذي يجعل المشبه هو عين المشبه به . وفي الثانية جعل الشمعة ثمرة حمراء خالعاً عليها صفة من صفات النبات بشكل عام .
13= مكانة القصيدة في شعر الوصف :
حازت قصيدة الأرجاني على إعجاب النقاد القدماء فذهب النويري في نهاية الأرب إلى أنها من جيد ما قيل في هذا الباب . واعترف لها الصفدي بالإحسان فقال : (( وله قصيدة يصف فيها الشمعة أحسن فيها كل الإحسان , وقد استغرق سائر الصفات ولم يكد يخلّي لمن بعده فضلاً كما فعل ابن الرومي في قصيدته الرائية في وصف السوداء ))
ومن الواضح أن القصيدة من جيد الشعر لأن الشاعر لم يقتصر على أوصافها الخارجية بل وصفها من داخلها وأغوارها كما عبر عن هموم مجتمعه وجسّد صورة عصره من خلال هذا الوصف فمزج الشمعة بهموم وأحواله وبعصره وبمجتمعه فإذا بذلك الوصف يتحول بثاً شجياً وتعبيراً عن تجربته الذاتية في آن واحد .