في بناية داخليّة في تلّ طرابلس، وعلى غير هدى، يقضي وقته على شرفة خلفيّة بين العصر وأول الليل. لست تدري ما به، لا ملل، لا أمل؛ يقلّب احتمالات عديدة في مسائل خصوصيّة/شخصيّة/ذاتيّة/نفسيّة، وسيناريوهات عدّة لأحداث عموميّة، تعوّد أن يضيّع وقتاً في هذا العبث الافتراضيّ متورّطاً بمشاكل الشرق الأوسط. (مأساتك أنّك لا تستقرّ على شيء. المأساة هي الاستقرار. لكنّ ذلك بات يؤثّر على تركيزك في قول ما ترى، بين اليسار الجديد وبين الوجوديّة)
التزمَ في مرّات معدودة بما وعد به نفسه: "أن يكفّ عن هذا الإدمان العبثيّ، وأن لا يفكّر في شيء سوى التأمّل وما يمكن أن يدلقه أمامه التأمّلُ"؛ يحدّق في الشارع دون أن يراه؛ من حظّ الإنسان أنّ الأشياء حوله لا تعي وجوده. يزعجه عجزه في الإفصاح عن غرابة ما يشعر به: كيف يشعر بالصمت وسط ضجيج العربات والبنايات وباعة الصباح؟ (عليكَ أن تعيد تفكيرك بالفراغ بجديّة- هل هذا الازعاج مرتبط بعطلتك الصيفيّة أم حالة مستمرّة أثناء العمل؟) كيف يشعر بسكون بارد بينما كلّ شيء يتحرّك بفوضى مجنونة لا معنى لها ولا تَعقُل بطبيعة الحال.
الشّرفة الأولى: لا أحد يتجوّل فيها، لا ساكن لا خيالات لا حكايات، ليس سوى بقايا حاجات تالفة، مهما أمعنت النظر فيها وتفحّصتها، فإنّك لن تعلم ما هي تلك العاديات ولسوف يصعب عليك استخراج حكاية ما من وراء ذاك الغبار؛ غبار يتكاثر كلّ قمر وشمس- غبارٌ عدوُّ الرؤية.
إذا ما حنى رأسَهُ باتّجاه الشرفة فزّ في خاطره هاجس الهجرة؛ هذا الغبار الكامن في الشرفة الأولى دعوةُ تحريض للهجرة: "ما الذي يبقيك عالقاً في هذا الغبار؟" (ما زلت مصرّاً على حشر مسألة الهجرة في كلّ كتابة لكَ!! أنت لم تعد مقبولاً في العالم الغربي بالطريقة التي كنت عليها، لا تنتظر من أهل الضحايا أن لا يلوموا أهل الجاني؛ انتبه جيّداً، ضَعْ هذا في حساباتك).
**
يُفترض للمفاوضات أن تبدأ في ظهيرة الغد، أشياء كثيرة سوف تحدث في الغد، على صعيد حياته الشخصية، وكذلك أحوال البلاد بصفة عامة، هكذا قال مذيعو النشرات العثرات-والأخبار العاجلة في تطبيقات موبايله.
يأمل أن تنتهي المفاوضات سريعاً كما تمّ التحضير لبنودها؛ بينه وبين أطراف عدّة (منهم شخوصك على ما أظنّ) اختلافات متشابكة تُهدّد سير المواسم. (أ) أوّل نقطة على جدول الطاولة: اختيار الشرفات/البرندات الخاصّة بموسم الطاولة، هناك مَن أصرَّ على تدوينها (بلكونات) في مضبطة/إضبارة/مذكرة/محضر/مدونة الهدنة الصيفية (توقّف عن حشر المترادفات؛ لن تبلغ عظمة المعري وجنون الشدياق وما يمتلكان من غزارة معجمية، وإبداع عبثيّ في تدوينها. الصياغةُ تقيةٌ في الحالتين، لا تنس ذلك، وتأمّل ما طرحا من موضوعات تخالف الثقافة السائدة وطواغيتها. نحكي عن الترادف وليس عن حرفيّة الصياغة لسلامة تمرير الأفكار). (ب) جدولة زمنيّة متّفق عليها لمواعيد طاولة المحبوسة (ج) عدم تدخّل أطراف خارجيّة بسير اللعبة. (د) التوقّف نهائيّاً عن سؤاله عن صحّته وأحواله. (أنصحك بحذف كلمة نهائيّاً، فهي مفردة متطرّفة لا تتوافق مع طبيعة التفاوض). (هـ) نوع الطاولة: دمشقية خالصة؛ (و) بنود سريّة: تمّ اتفاق بالأحرف الأولى بين الأطراف على مناقشتها دون تدوينها في المضبطة. (هل على القارئ أن يخمّن هذه البنود؟ كلمة "سريّة" هنا قد تحصر ذهن القارئ في تابوهات جنسيّة و/أو سياسيّة؛ يمكنك استبدالها تحت مسمّى "بنود أخرى" ما رأيك؟ حتى وإن كنتَ تعنى الدلالتين اللتين أشرت إليهما، فذهنك مشغول بهما، أعرفك جيّداً، وأعرف هوسك)
عُلّقت دعوة التفاوض على جدران البناية الداخلية والخارجية، لم يكتف الوسيط بوسائل التواصل الاجتماعي؛ قرأها أحدٌ من خارج المهتمين بالطاولة، واستنبطَ منها (حضرة العبقري) نوايا غير سلميّة فتوجّه إلى قوى الأمن الداخلي.
**
الشرفة الثانية: مسوّرة بارتفاع قضبانها الحديديّة ذات لون برتقالي باهتٍ ومخدوش بفعل تعاقب مياه الشتاء وشموس الصيف، خوفاً على ولد مشاغب؛ تبدو الشرفة هادئة وخاضعة لاشتياق خاص. تستفزّه أن يتذكّر أشياء لا يريد أن يتذكّرها: جسد طفل مسجّى على طاولة خشبيّة، أجساد ملقاة على قارعة الطريق- ما أبعد هذه الصور. ما أقربها أيضاً. (ما أشبه الليلة بالبارحة). توجد على أرض الشرفة كرة/طابة تلعب فيها الريح، والريح وفيرة عند منعطف البنايات. لا يظهر الولد المشاغب، ولا يسهر على الشرفة أبواه. بالكاد يخرجان إليها في حالات طارئة- أو نتيجة صياح عالٍ هزّ شبابيك البنايات.
**
هدف المفاوضات هدنة لأجل الاستمتاع بالصيف (وطاولاته) دون مواجهات تفسد على النفس متعة اللعب بالنرد والطاولة والسيجار الكوبي على البلكونة المفتونة بما يقابلها، وما يمكن نهمه من مشروبات، غفلةً عن عيون الكارهين في طرابلس، أو الساهرين معك حول الطاولة.
الشّرفة العاديّة-شرفتك/المطلّة كغيرها على شرفات أخرى مماثلة، المطلّة على سواتر ونوافذ وصحون لاقطة، لكنّها على مفرق طرق أيضاً، تطلّ على قلعة صليبيّة عبر فرجة واسعة بين البنايات. يبدو الأفق في هذه الفرجة كأنه يتعارك مع نفسه تحت وطأة ارتدادت طيران الخفافيش/الوطاويط طي على غير نظام (هذا افتراضك لغياب معرفتك عن الطريقة الإحيائيّة التي يتبعها الطيرُ. يمكن لخيالي أن يفترض قصصاً واحتمالات عديدة، بل إنّ المخطوط الأول للقصّة كان بعنوان "الطير الأعمى" هل تذكر؟ أرسلته لك قبل سنوات، قبل (مواسم الربيع الهالكة) وأخذ مساحة كبيرة من المخطوط، قبل أن يتمّ حذفه).
**
مقطعٌ من مخطوط القصّة بصياغته الأولى، تمّ حذفه ولست في وارد نشره: (لاحظت البارادوكس هنا بين نفي النشر وفعله).
فرجة بين البنايات مسرح لطير لا يطير إنّما يرتدّ، لا يطير جماعات بل فرادى. ليس له خطّ طيران بهيج، يتخبّط في الآفاق كأنّه يتألّم. الطير/الحيوان الذي لا ريش لجناحيه بل لحم ودم، وليس له عينان بل إشعاع وعمه وغم. ليس يراك هذا الطير المتخبّط الضّلّيل قرب نافذة، وما يدري ما الأفق ما النوافذ! ماذا تريد الشّرفات بأهلها؟ كيف هي إذا حرّضك الفراغ على وصفها؟
(تخييّل مسار القصّة إن أبقيت فكرتها الأولى في تسليط الضوء على الطير الأعمى وشرفات البناية السبعة المقابلة! لماذا أبقيت مقطعاً من الصياغة الأولى؟ من باب التجريب ربّما، أو ما رأيك بحجّة الدخول لعقل القاص؟ قال يعني عقله غير شكل!!! كااااارثة لو بالإمكان الاطلاع على العقول من داخلها)
**
تتشابه الشرفتان، يتشابه الوشمان.
إمّا إن تخرج للبلكونة لتغسلها، أو تخرج مع ركوة قهوة تشربها وحيدة بفنجان عربي "أبو شفّة" وكمشة جرايد معها.
للمرأة-الأرملة عادة، إذا رشفت أوّل شفّة في القهوة هزّت رأسها راضيةً مبتسمةً وجالت بعينها سريعاً على الشرفات. (لماذا تقع في الخطأ الاجتماعيّ، يزعجني هذا المسمّى كما يزعجك، وأنت تعرف اسمها. صحيح أنّي أعرف اسمها، واسم سعاد جميل على قلبي ويليق بها، لكنّ ساكنات البناية يتحدّثون عنها بالأرملة- ولي غاية، فتضمين المسمّى هنا/في القصّة، هو انعكاس لحالة اجتماعيّة لم تتجاوز مفهوم العيب في عيش امراة مطلّقة أو أرملة بمفردها دون تصنيفها تحت مسمّيات تضمر اتهامات وتحذيرات، وملاحظتك أو تساؤلك أفاد هذه الغاية فأبقيت الملاحظة وردّها) ما الذي يدور في بالها كلّ مساء على الشرفة؟ (ما الذي يدور في بالك أنتَ؟)
كم مرّة أطالَ النظر في عينيها، في الوقت الذي كانت تحدّق فيه؛ أحدهما لم ينتبه -على الأرجح- أنّ الآخر يحدّق فيه، وربّما كلاهما لم يكن ينتبه لوجود الآخر، بوجود يخصّه هو وليس وجوداً مرتبطاً بطبيعة الشرفات وساكنيها؛ مرّت سنوات سابقات ولم يلتقيا في الشارع أو أسفل البنايتين رغم مصادفات قليلة في التلّ أو أسواق البازركان الداخلية، ولكنهما يلتقيان كلّ يوم في علاقة مجهولة القوانين بين (هنا وهناك): هو في الشرفة الثالثة هنا، وهي في الشرفة الثالثة هناك.
***
وصل المتفاوضون إلى الشرفة، تنتظرهم بالترحيب قهوة مغليّة بهدوء على نارٍ قديمٍ، وطاولات دمشقيّة.
إيه.. رائحة القهوة. أحسنتَ اختيارها. تجعلني أكثر مرونة للتنازل عن شروطي شرط استنشاقها. ها أنت وضعت شرطاً جديداً. من أين جئت بها؟ محمصة الأندلس. تعجبني رائحة القهوة وطعمها في مقهى فهيم. هل لاحظتم فعل القهوة؟ تقصد جمّعتنا حولها وحيّيدت خلافاتنا وجدول الطاولة!. كيف إذاً لو جرّبت قهوة عمّك جوني وييكر؟ استغفر الله يا رجل.. لا تُجاهرْ بالمعصيّة. كان سؤالاً ولم يفصح عن نواياه فلا تظلمه. لا تنس الزلمة حجّ السنة الماضية ورجع على الزيرو. كما ولدته أمّه. الصيف يستحقّ الهدنة. متعة الجدل والصراع في بقيّة المواسم. ألا يكفي ثلاثة مواسم للصراعات وموسم هدنة. أين الطاولة، الليلة محبوسة أو افرنجيّة؟ تمّ الاتفاق إذاً؟
(أظنّك تحتاج لتوضيح ما يعزّز للقارئ أنّ الجمل الحوارية المتسارعة في المقطع السابق عائدة للمتفاوضين جميعاً، وليس حواراً بينك وبيني، أو بين متفاوضين اثنين
تحديداً)
**
اشترت الأرملة سوليلير/موبايل/خليوي/محمول/جوال/ سماعة/ماكينة/ آباريه..(فعل "اشترت" هنا افتراضٌ من عندك، فربما جاءها هدية أو بأيّ طريقة أخرى، ما بالك تعود إلى الترادف ألم نتّفق سابقاً بالحذر من الإفراط في استخدامه. الترجمات والاستخدامات المختلفة ليست استعراضا شدياقيا، بل تأكيداً أنّ العرب يتحدثون لغة واحدة فقط من ناحية التنظير والتوهّم، أمّا على هواء الواقع وأرضه فالمسميات غير مشجعة لهذه النتيجة)..
(عُدْ للقصّة أنتَ في المقطع الأخير، لا تنس سُعاد !! تقصدُ أرملة الشرفة المتشابهة؟ أقصدُ الذي تعرفه جيّداً، الرمز يحتاج إلى علاماتٍ ذي دلالة مع الرمز المعني، والأجدى الوضوح إن أمكن)
**
لم يظهر الولد المشاغب في الشرفة الثانية، الغبار ما زال يتكاثر في الأولى مطمئنا بالهجران، والأرملة بين رشفات القهوة وتصفّح الموبايل تهزّ رأسٍها وتزدان خدودها بابتسامات جديدة تلحقها بضحكات عفويّة لم تكن ضمن روتين جلستها. لم يتوقّع أن يجنح خياله إلى صور شتى ذاك المساء وتركيب سيناريوهات يحظر سردها أو تدوينها (فما بالك بنشرها). للمرّة الأولى ينتبه إلى أنّها امرأة مثيرة رغم ارتدائها عباءة أخفت صدرها ذاك المساء،. أثارته ضحكتها- وتعلّق في تأويلات الضحك. يغيّر الضحكُ ملامح الإنسان إلى الأحلى. يصبح إنسانا بالضحك. يصبح إنساناً موجوداً. ترى؟ ماذا أضحكها في هذا العالم الذي صار بين يديها؟
**
كانت تبتسمُ حينما انتبهَتْ لوجودي (كأنّي جارٌ جديدٌ وكأنّها..) وكذا، انتبهتُ أنّها تنظرُ فيَّ؛ مرّت لمحةٌ، ثمّ، فجأةً ضحكنا طويلا (ومعاً) (و)بصوت مسموع، يُهيّأُ لي أنّ وجوهاً كثيرةً أطلّت من الشرفات، وأصابها ما أصابنا من عدوة الضحكات، فضحكنا وتابعنا الضحك دون أسباب، لا شيء يستدعي الضحك كان انتصاراً على فوضى الحياة وجنونها. لم التفت للشرفات الباقيات الضاحكات، رغم فتنة الضحك الجماعيّ؛ أضحكُ، تضحكُ.. وعيوني تحتضن الشرفة المتشابهة، وعلى عنقي كوفية الأرملة التي اسمها (سعاد).
في الشّرفة الثّالثة امرأة أرملة، صدرها ساطع (تمّ حذف بداية جملة توصيفية بسبب النشر في الصحيفة) وبعض شقوق ظاهرة وعروق خضراء؛ تربط حول جبينها كوفيّة عربيّة؛ يرشدك نسيم معطّر طافح: أنّ الأرملة قد خرجت تغسل شرفتها من أجواء الصيف. كان فقيدها ضابطاً في قوات حركة فتح. تركت أهلها في بيروت بعد خروج القوّات الفلسطينيّة/الفدائيّين/مقاتلي منظمة التحرير ولحقت به إلى تونس، قبل أن يعودوا مرّة أخرى في أحداث 1983ويستوطنا طرابلس.
على زندها الأيسر وشمُ خنجرٍ أو وشمُ خارطة فلسطين؛ المصادفات لا تتوقّف عن نتائجها ومقارباتها تأمّل العلاقة بين الخنجر والخارطة والوقائع على الأرض، ليست المصادفات عبثيّة على الدوام كما قد يظنّها الشقّ الواهم في الوعي إذا تأمّلها منفصلاً عن عوامل الزمن والتجربة والتكرار. (لا-محدوديّة الزمن، لا قيود على التجربة، لا سقف لعدد التكرار) كم مرّة سوف ترمي النرد؟ إن كانت حريّة الرمي لا-محدودة فإنّ المصادفات تتحوّل إلى قوانين تتجاوز الإحصاء وتجعل ورود الأرقام جميعة في متناول يديك.