-
تجمعوا بداخل غيمة سوداء بين الحلم والوهم ككومة قش .
أحمد كثيرا ما يلبس بنطاله الأزرق و كنزته الحمراء ذات الأكمام الطويلة ، و كلما طال به الجفاء رفع جيبه نحو أنفه الذي علق فيه رائحة العود ، فيتذكر أنامل أمه المحفورة بخطوط كخطوط الموج الهادئ وهي تمرر عود العطر حول رقبته التي لثمتها بقبلاتها الدافئة .
كل حركة من مشاعره كانت ترصدها عين ياسر ، فيبتسم تارة وتارة يتألم وكأنه يحاكي مشاعره الزجاجية الهشة .
لم تشغله الرياضة التي يعشقها ودرسها سنين طويلة عن المتابعة الصامتة لأحمد ، ملابسه الرياضية الفضفاضة ترتفع مع كل نطة ، كان يلبسها رفيقه الذي حلق مغادرا .
أما عمران لا يبالي بهذا أو ذاك ، كان يسكن عشه الذي شيده تحت وسادته مع حبيبته ينتظر خطبتها ، يجول بخاطره حول عينيها التي تلمع بالشجن فيسكن جمالهما ، لم يستطع أحمد قراءة مشاعره الغرامية ، طاقيته السوداء تلتهم وجهه التي أذنت لتقاسيمه بأن تبوح بكل ما يوجعها و كل ما يمزق نفسه.
أتوا من أقطار شتى ليلتقوا في حلم واحد .
اقترب سواد الليل الذي هو أحلك من غيمتهم ، توضأ الثلاثة ببقايا ماء القارورة ، قبل ان يصرعهم النوم اللئيم ، جلس الثلاثة كل بطريقتة التي إعتادوا عليها .
ترددت أصداء آهات بجميع تلاحينها ونغماتها من خلف الجدار ، الأصوات أحدثت إهتزازاً كانهيار أرضي . جدار مطرز بحروف نسجها بوح الألم ، عل يوما تكون خارطة طريق لغيرهم .
كان الصوت في الجوار مدويا ، مزق الجدارن التي حولهم ، صرخات ونداءات وطرق لا يتوقف ، ألصقوا اذانهم بشقوق ذات الجدار .
إبتسم الثلاثة وكأنه أذان العيد ، نهضوا يجوبون الأرض التي تشدهم نحوها بقوة كجرف سيل ، ضحكوا ثم ضحكوا و أعناقهم للأعلى ترقب الفضاء ، وقعت اعينهم على سقف أسود ، مروحة متكتلة بالأوساخ ، و ضوء أصفر منبعث من مصباح متدلي بسلك ، الزوايا تشابكت فيها قصص من بيوت العنكبوت الواهنة ، كانت تتساقط منها كلما علت الصرخات و ارتج الجدار .
ياسر أمسك بيديهما وشد عليهما ونهض واقفاً: لنلعب لعبة جميلة ، و نتسابق لنرى من منا يستحق الفوز ؟
أحمد ارخى بعينيه : بين هذه الفوضى ؟
_ : ستمر سريعا كالقاطرة .
لنعد معا من الواحد إلى ثلاثة و ونبدأ لعبة القفز والجلوس معا، فمن يتأخر فقد اختار مصير الخسران منفردا .
أحمد ابتسم مازحا وهز يديهما : أنتما ستخسران وأنا سأفوز لأني أخف وزنا .
ضحك عمران ضحكات اختلطت بقهقهة الطرق : سأضع قدمي بين ركبتيك ، لأسقطك فتفوز .
ياسر لم يعلق فقط شاركهم الضحكات ونظر لعينيها وغاص فيهما كغواص محترف ، أطال النظر وكأنه ينظر لطريق ممتد امتداد الرؤية: تمسكوا جيدا .
تشابكت أيديهم ، اتصلت مشاعرهم و توحدت ملامحهم .. بدأ ياسر العد :
واحد
إثنان
ثلاثة
قفز الثلاثة في طرفة عين في الفضاء وجلسوا على الأرض في ذات الوقت وذات السرعة .
ضحك عمران وضحك أحمد وياسر .
_: لنبدأ من جديد ، واحد ، إثنان ، ثلاثة.
تكررت النتيجة .
جلسوا جميعا وأصفقوا أيديهم ببعضها صفقة الإنسجام والرضا ، بينما الأصوات حولهم لم تهدأ .
تمدد الجميع فوق الأرض اليابسة كأنهم في فوق سطح ماء .
_ فقط سويعات .
ياسر زفر زفرة مرعبة و صمت .
طفرت دمعة عمران وكأن الغيمة تضيق فتتشابك أضلاعه في بعضها .
عيونهم تتأمل الزوايا الأربع و سقوط العناكب مع كل صيحة و كل نداء.
عمران يصغي لكل الأصوات : دعونا ننسى الخارج ، لا تلتفتوا لسقوط تلك السوداء لأنها حتما ستزول ، فقط لنكن خارج هذا الإطار ، نشاهد أحلامنا بعينين شاخصتين.
التفت يميناً ليرى أحمد ويبتسم ، ويساراً ينظر لياسر فيبتسم .
تجهم وجه ياسر : استشعر حديث نفسي فتصعب علي ، أراني والموج في قارب واحد في عمق المحيط وأكون بين الأرض و السماء ، جمال الكون يتراقص في مخيلتي ، إطلالة الهلال ، لمعان النجوم حوله وكأنها في زفة ، صوتي يرتفع فيلامس الأعلى ويرتطم بصفحة الماء فتخرج كائنات البحر ذات الألوان المتوهجة و تحيل مرآة الماء صورا متموجة ، أتوسطها فأكون أميرا أملك ذاتي .
عمران تبسم و كاد أن يمزجها بضحكة ساخرة لكنه توقف : أنا احلم ان أكون شيئا كبيرا يمتد عظمة و رفعة كما تمنى الهدهد من نبي الله سليمان فيذكره الناس ولو توالت عليه الدهور ، فأرفع رأسي عاليا دون انحناء.
أحمد ضحك وعيناه تتجول صفحتي وجههما : أنتما تحتاجان مؤثرات صوتية و معزوفة جميلة لكي تكتمل ملاحم البطولة التي تنتظران .
ضحك الثلاثة معا .
أحمد صمت برهة ، نظر إليه رفاقه نظرة ترقب .
رفسه ياسر في قدمه : هيا أحمد تكلم عن حلمك لنسمع .
إبتسم خجلا : أنا توقفت عن دراستي وأصبحت أشعر بأن جزءا من أعضاء جسمي مبتور ، و لكني سأحلم أني بين رفاقي ، و أحمل حقيبتي البيضاء وراء ظهري و أسبقهم لمدرسة غير مدرستي و أرتقي المقعد الأعلى لأفوز بعلم ليس بعلمهم ، أحمل بين و جداني علما ينطق بكل الأبجديات و لتكن صولات وجولات و أكون أنا لها .
ياسر أغمض عينيه مبتسما ، انتبه على ضربة من عمران فوق جبهته ، و قرصة من أحمد في ساقة ، انتبه ضاحكا : ما بكما ؟
فقط أغمضا عينيكما لتريا الحلم حقيقة و ليس وهما .
أحمد توجس عنكبوتا سقط فوق كتفه ليقذفه برأس إصبعه بعيدا : وماذا نعمل لفضول العناكب المزعج ؟
عمران تبسم وشمر عن ساعديه : إسحقها فهي سامة وتفرغ سمها في حلمك .
لحظات من هذيان ما قبل النوم .
أغمضوا أعينهم جميعا في سبات جامد .
صمت رهيب حتى الجدار هذه المرة لم يسمع له صوت ، وتوقفت العناكب عن التساقط .
بدأ الحلم يسري بين ضلوعهم فيدغدغ واقعهم . من بين ذلك الصمت ، ضحكات تتوالى من الأصدقاء الثلاثة أشعلت شمعةالأحلام من جديد .
ارتفع جفنهم ليروا بعضهم ضاحكين ، و حلمهم لم يتحقق فأغمضوها ثانية.
أحمد ابتسم وبصوت ذابل: هل انتهت أحلامنا ؟
عمران: بل للتو تبدأ .
ياسر: لنغفوا قليلا قبل الصباح .
استلم الجميع للسطان ، تقلبت أجسادهم ، ثم سكنت و هدأت الانفاس .
اخترقت آمالهم الغيمة وتسللت تمسح على أجسادهم بوشاحها الأبيض .
هبت فوقهم نسائم باردة ، ارتسمت إبتسامة عريضة على محياهم ، التفت الأجساد بالوشاح ، تلبدت في مكانها دون الأحلام .