-
للحظات السابقة ميلاد النص الأدبي.
من المسلَّم به أنَّ القصيدة قبل أن تبزغ شمسها في دنيا الحياة؛وتصافح آفاق الجمال ؛وقبل أن تصبح كياناً مكتملاً ؛"جسداً لغوياً ملموساً " يسترعي الانتباه ؛لابدَّ لها أن تسلك مسلك البداية التنظيمية في أوّل الأمر .
وهذه البداية الشعورية التي تحتشد فيها طاقة المبدع الفنية ؛تصطبغ بقَدْرٍ جسيمٍ من المعاناة النفسية والمكابدة المتمثلة في انعكاسات القلق الداخلي على المظهر الخارجي ..
إنها أدنى نسباً إلى مرحلة "المخاض" كما يشبهها الدارسون ..
وقديماً قالوا:"البداية نصف العمل"؛في إشارة منهم إلى مراعاة الجودة في إبراز العمل ..
وتتبلوّر هذه البداية التي تقوم على المعايشة الذاتية الفردية للنصِّ قبل تشكله بطبيعة الحال؛ عما اصطلح عليه قديماً بمصطلح :"براعة الاستهلال"؛ولطالما نبَّه النقاد القدماء إلى هذا العنصر الجوهري ؛وكذلك أعارته الدراسات الأدبية والنقدية؛اهتمامها الواسع ؛وأفاضت في الحديث عنه ..
وقد يحدث أن تخون البداية الفنيةُ صاحبها ؛فتكون وبالاً عليه وبلاءً مُرّاً لم يحسب له حساباً ؛كما حدث مع الشاعر جرير في خطابه للخليفة عبدالملك ؛بقوله في مطلع قصيدته :
أتصحو أم فؤادُك غير صاح
عشيَّة هم صحبُك بالروَّاح؟! .
ونذكر جيداً أصداء غضب الخليفة وامتعاضه من هذه الطريقة السافرة !
وهناك مواقف مشابهة؛ أصبحت مجالاً للتندر والفكاهة في القديم والحديث يطول الحديث عنها..
ولتأكيد مصداقية ما أشرت إليه آنفاً ؛بين يديَّ بعض اعترافات شعراء من الوطن العربي ؛صاغوها في قوالب نثرية طريفة؛ يمكن أن توصف بالدراماتيكية ؛عن ملامح المعايشة الساخنة التي تسبق مرحلة الانصهار التام.
الشاعر الراحل غـازي القـصيبي ورد في سيرته الشعرية حديثه بقوله : "إننـي لا أقـرر عنـد كتابـة قصيدة هل ستكون مقفاة أو غير مقفـاة، مـن الـشعر التقليـدي أو الـشعر الحديث، والواقع أننـي حتـى ظهـور البيـت الأول لا أدري مـن أي نـوع ستكون القصيد؟!
ويستطرد قائلاً
«معظم القصائد لا يبدأ الميلاد فجـأة، ولكـن تـسبقه إرهاصـات تـستغرق بضع ساعات، وفي أحيان نادرة بضعة أيام، وفي حالات أندر عدة أسـابيع يقفز في الذهن شطر بيت ثم يختفي لا أدري من أين جاء أو إلى أين ذهب،
ثم يعود على هيئة بيت كامل».
الشاعر المصري الراحل صلاح عبد الصبور؛ أدلى باعترافه ؛ فقال : "والقصيدة كوارد قد تكون حين يرد إلى الذهن مطلع القصيدة أو مقطع من مقاطعها بغير ترتيب في ألفـاظ مموسقة لا يكاد الشاعر نفسه يستبين معناها، قد يأتي هذا الوارد بين الناس أو في الوحـدة أو في العمـل أو في المـضجع لا يكـاد يـسبقه شيء يماثلـه أو يستدعيه،ويعيده الشاعرعلى نفسه فيجدأن هذاالواردقديفتح له سـبيلاً
إلى خلق قصيدة".
الـشاعر العراقي المرموق دكتور عـلي جعفر العلاق؛يستهلُّ الحديث عن تجربته بقوله: «وقد تكون بدايـة الكتابـة أكثـر مراحلهـا أذى و وعـورة؛فكم هو شاق ومض البيت الأول من القـصيدة أو الأبيـات الأولى منهـا،إنها فترة من التهيب والخوف اللذين لا أدري سببا لهما، أهو غموض ما أنامقبل عليه؟ ربما، فالقصيدة تتمرد على صاحبها منـذ البـدء، تتخـذ طريقـا
أخرى تماما حتى تبدو في النهاية قصيدة عن موضوع آخر أو فكرة لا تمـتُّ إلى الفكرة التي توهمتها أول مرة على أني كما قلت لا أضع تخطيطا للقصيدة التي أسعى إلى كتابتها».
الشاعر العراقي حميـد سـعيد ؛أسهم بالحديث عن بداياته فقال: «لعـلَّ مـن المناسـب أن أشـير إلى عـدم استجابة الشعر؛وهروبه من بين أصابع يدي في حالات الاحتدام.
في أكثر الأحداث سخونةًتحتـلُّ قـصيدتي زاويـة الغيـاب؛ و أفـق التأمـل؛ ومحطـة الانتظار.. أعرف أنها تأتي وأظلُّ في انتظارها.. لكنها تأتي في اللحظة التـي تشاء، نعم.. لقد حاولت.. وبين عصيان القصيدة وعظمة الإنجاز.. جـاءالنص معبرا عن حالة الصراع تلك وحقـق تعـددا في الأصـوات وابتعـادا عن الـصوت الواحـد... إن هـذا
الموضـوع أقـصد موضـوع الحـوار مـع
القصيدة، ظل باستمرار من موضوعاتي الـشعرية الأثـيرة ..و كثـيرة هـي قصائدي التي تناولت هذا الأمـر؛ لأن ذلـك آت مـن ضـجيج الـشعر
في رأسي قبل لحظة الكتابة، والذي يستمر أحياناً زمناً جد طويل...
في مفتتح النص يأتي الإخبار بالمعاناة.. عموم المعاناة في كتابة نص شعري يتوفر على حضور إبداعي..
ولعلَّ في ذلك مايحفّز المبدعين هنا وهناك؛ ليرسم من شاء منهم بأنامله ؛صورة ذلك الطقس الفني الاستثنائي الذي يحيط به ؛وهو في غمرة انتظار حضرة القصيدة ؛والوعد المنشود ؛للامتزاج بشرارتها الأولى ؛و من ثمَّ بدء الانطلاقة الفعلية بها ومعها في رصد المعاني المحتدمة في الأعماق.