قراءة في ضوء المنهج الأسلوبي
عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ ، |
أو شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا القَمَرْ . |
عَيْنَاكِ حِينَ تَبْسُمَانِ تُورِقُ الكُرُومْ |
وَتَرْقُصُ الأَضْوَاءُ ...كَالأَقْمَارِ في نَهَرْ |
يَرُجُّهُ المِجْدَافُ وَهْنَاً سَاعَةَ السَّحَرْ |
كَأَنَّمَا تَنْبُضُ في غَوْرَيْهِمَا، النُّجُومْ ... |
وَتَغْرَقَانِ في ضَبَابٍ مِنْ أَسَىً شَفِيفْ |
كَالبَحْرِ سَرَّحَ اليَدَيْنِ فَوْقَـهُ المَسَاء ، |
دِفءُ الشِّتَاءِ فِيـهِ وَارْتِعَاشَةُ الخَرِيف، |
وَالمَوْتُ، وَالميلادُ، والظلامُ، وَالضِّيَاء؛ |
فَتَسْتَفِيق مِلء رُوحِي ، رَعْشَةُ البُكَاء |
ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء |
كنشوةِ الطفلِ إذا خَافَ مِنَ القَمَر ! |
كَأَنَّ أَقْوَاسَ السَّحَابِ تَشْرَبُ الغُيُومْ |
وَقَطْرَةً فَقَطْرَةً تَذُوبُ في المَطَر ... |
وَكَرْكَرَ الأَطْفَالُ في عَرَائِشِ الكُرُوم ، |
وَدَغْدَغَتْ صَمْتَ العَصَافِيرِ عَلَى الشَّجَر |
أُنْشُودَةُ المَطَر ... |
مَطَر ... |
مَطَر... |
مَطَر... |
تَثَاءَبَ الْمَسَاءُ ، وَالغُيُومُ مَا تَزَال |
تَسِحُّ مَا تَسِحّ من دُمُوعِهَا الثِّقَالْ . |
كَأَنَّ طِفَلاً بَاتَ يَهْذِي قَبْلَ أنْ يَنَام : |
بِأنَّ أمَّـهُ - التي أَفَاقَ مُنْذُ عَامْ |
فَلَمْ يَجِدْهَا ، ثُمَّ حِينَ لَجَّ في السُّؤَال |
قَالوا لَهُ : " بَعْدَ غَدٍ تَعُودْ .. " - |
لا بدَّ أنْ تَعُودْ |
وَإنْ تَهَامَسَ الرِّفَاقُ أنَّـها هُنَاكْ |
في جَانِبِ التَّلِّ تَنَامُ نَوْمَةَ اللُّحُودْ |
تَسفُّ مِنْ تُرَابِـهَا وَتَشْرَبُ المَطَر ؛ |
كَأنَّ صَيَّادَاً حَزِينَاً يَجْمَعُ الشِّبَاك |
ويلعن المياه والقَدَر |
وَيَنْثُرُ الغِنَاءَ حَيْثُ يَأْفلُ القَمَرْ. |
مَطَر ... |
مَطَر ... |
أتعلمينَ أيَّ حُزْنٍ يبعثُ المَطَر ؟ |
وَكَيْفَ تَنْشج المزاريبُ إذا انْهَمَر ؟ |
وكيفَ يَشْعُرُ الوَحِيدُ فِيهِ بِالضّيَاعِ ؟ |
بِلا انْتِهَاءٍ - كَالدَّمِ الْمُرَاقِ ، كَالْجِياع ، |
كَالْحُبِّ ، كَالأطْفَالِ ، كَالْمَوْتَى - هُوَ الْمَطَر ! |
وَمُقْلَتَاكِ بِي تُطِيفَانِ مَعِ الْمَطَر |
وَعَبْرَ أَمْوَاجِ الخَلِيج تَمْسَحُ البُرُوقْ |
سَوَاحِلَ العِرَاقِ بِالنُّجُومِ وَالْمَحَار ، |
كَأَنَّهَا تَهمُّ بِالشُّرُوق |
فَيَسْحَب الليلُ عليها مِنْ دَمٍ دِثَارْ . |
أصيح بالخليج : " يا خليجْ |
يا واهبَ اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! " |
فيرجعُ الصَّدَى |
كأنَّـه النشيجْ : |
" يَا خَلِيجْ |
يَا وَاهِبَ المَحَارِ وَالرَّدَى ... " |
أَكَادُ أَسْمَعُ العِرَاقَ يذْخرُ الرعودْ |
ويخزن البروق في السهولِ والجبالْ ، |
حتى إذا ما فَضَّ عنها ختمَها الرِّجالْ |
لم تترك الرياحُ من ثمودْ |
في الوادِ من أثرْ . |
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر |
وأسمع القرى تَئِنُّ ، والمهاجرين |
يُصَارِعُون بِالمجاذيف وبالقُلُوع ، |
عَوَاصِفَ الخليج ، والرُّعُودَ ، منشدين : |
" مَطَر ... |
مَطَر ... |
مَطَر ... |
وفي العِرَاقِ جُوعْ |
وينثر الغلالَ فيه مَوْسِمُ الحصادْ |
لتشبعَ الغِرْبَان والجراد |
وتطحن الشّوان والحَجَر |
رِحَىً تَدُورُ في الحقول … حولها بَشَرْ |
مَطَر ... |
مَطَر ... |
مَطَر ... |
وَكَمْ ذَرَفْنَا لَيْلَةَ الرَّحِيلِ ، مِنْ دُمُوعْ |
ثُمَّ اعْتَلَلْنَا - خَوْفَ أَنْ نُلامَ – بِالمَطَر ... |
مَطَر ... |
مَطَر ... |
وَمُنْذُ أَنْ كُنَّا صِغَارَاً ، كَانَتِ السَّمَاء |
تَغِيمُ في الشِّتَاء |
وَيَهْطُل المَطَر ، |
وَكُلَّ عَامٍ - حِينَ يُعْشُب الثَّرَى- نَجُوعْ |
مَا مَرَّ عَامٌ وَالعِرَاقُ لَيْسَ فِيهِ جُوعْ . |
مَطَر ... |
مَطَر ... |
مَطَر ... |
في كُلِّ قَطْرَةٍ مِنَ المَطَر |
حَمْرَاءُ أَوْ صَفْرَاءُ مِنْ أَجِنَّـةِ الزَّهَـرْ . |
وَكُلّ دَمْعَةٍ مِنَ الجيَاعِ وَالعُرَاة |
وَكُلّ قَطْرَةٍ تُرَاقُ مِنْ دَمِ العَبِيدْ |
فَهيَ ابْتِسَامٌ في انْتِظَارِ مَبْسَمٍ جَدِيد |
أوْ حُلْمَةٌ تَوَرَّدَتْ عَلَى فَمِ الوَلِيــدْ |
في عَالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ ، وَاهِب الحَيَاة ! |
مَطَر ... |
مَطَر ... |
مَطَر ... |
سيُعْشِبُ العِرَاقُ بِالمَطَر ... " |
أصِيحُ بالخليج : " يا خَلِيجْ ... |
يا واهبَ اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! " |
فيرجعُ الصَّدَى |
كأنَّـهُ النشيجْ : |
" يا خليجْ |
يا واهبَ المحارِ والردى . " |
وينثر الخليجُ من هِبَاتِـهِ الكِثَارْ ، |
عَلَى الرِّمَالِ ، : رغوه الأُجَاجَ ، والمحار |
وما تبقَّى من عظام بائسٍ غريق |
من المهاجرين ظلّ يشرب الردى |
من لُجَّـة الخليج والقرار ، |
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيقْ |
من زهرة يربُّها الرفاتُ بالندى . |
وأسمعُ الصَّدَى |
يرنُّ في الخليج |
" مطر . |
مطر .. |
مطر ... |
في كلِّ قطرةٍ من المطرْ |
حمراءُ أو صفراءُ من أَجِنَّـةِ الزَّهَـرْ . |
وكلّ دمعة من الجياع والعراة |
وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ |
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد |
أو حُلْمَةٌ تورَّدتْ على فمِ الوليدْ |
في عالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ ، واهب الحياة . " |
وَيَهْطُلُ المَطَرْ .. |
أولاً : التعريف بالشاعر
ولد بدر شاكر السياب عام 1926م في قرية جيكور , وهي قرية صغيرة تابعة لقضاء أبي الخصيب في محافظة البصرة , أشهر مؤسسي الشعر الحر من خلال قصيدته الشهير ( هل كان حباً ) التي صدرت في الخمسينيات ولا يوجد في هذه القصيدة سوى أنها تمثل الجسر الذي عبر عليه السياب إلى مرحلة التجديد .
فقد السياب والدته , وهو في السادسة من عمره فكان لذلك أثر كبير في حياته , بالإضافة إلى فشله العاطفي واضطهاده الفكري والنضالي ضد الفقر والجوع والجهل , كل هذا ساهم في اشتعال تجربته الشعرية .
بعد أن أنهى تعليمه الثانوي في البصرة انتقل إلى بغداد ودرس في دار المعلمين العالية في قسم اللغة العربية ليقضي فيها سنتين من الدراسة ثم انتقل لتخصص اللغة الإنجليزية , تخرج في الجامعة في عام 1948م , وفي تلك الفترة ظهرت ميوله السياسية وبدأ نضاله لتحرير العراق من الاحتلال الإنجليزي , ومن أجل القضية الفلسطينية . في عام 1962م دخل مشفى الجامعة الأمريكية في بيروت بسبب ألم في ظهره , ثم رجع إلى البصرة وبقي يعاني آلام المرض حتى توفي في عام 1962م .
اتسم شعر السياب بالشفافية وتجلي صوت الروح , فاتسعت لغته لكل المعاني , واستطاع أن يجسد شعره في حياته وحياته في شعره , فكانت القصيدة عنده لقاء بين شكل يتهدم وشكل ينهض .
جعل السياب من الشعر عالماً موازياً للواقع , إذ يمتاز أسلوبه بما يعرف بالتعبير بالصور , أو محاولة إيجاد المعادل الموضوعي في الأدب ؛ لذا فقد كان شعره بمثابة العالم البديل لعالم الواقع المرفوض لأن شعر السياب يكشف عن هويته .
إن الإحساس الصادق في شعر السياب كان انعكاساً لنبضات قلبه وخفقات وجدانه وتوق روحه إلى خلاصٍ ما , إذ كان يؤكد وجوب احتواء الشعر على ديباجة قوية وموسيقى ظاهرة وأسلوب ممتاز ليمكن قراءته أولاً , ولكي تستسيغه الأذن والروح ثانياً .
تميز أسلوب السياب في بداياته بالميل نحو المدرسة الرومانسية , ويمثل ديوان أزهار ذابلة الديوان الأول له صدر في عام 1947م , لكنه ركب بعد ذلك التيار السياسي وتجلى ذلك بشكل واضح في ديوان أعاصير الذي التزم فيه بالقصيدة التقليدية , ومن دواوينه في تلك الفترة : أزهار وأساطير , فجر السلام , إلا أنه منذ بداية الخمسينيات وظف قدراته جميعها لكتابة الشعر الحر وتطويره , فكتب الكثير من القصائد المطولة أشهرها قصيدة الأسلحة والأطفال , قصيدة حفار القبور , قصيدة المومس العمياء , فجمع في هذه القصائد إضافة إلى شعوره الذاتي العديد من القضايا الاجتماعية التي كانت تشغل الجيل في ذلك الوقت .
ويعد ديوان ( أنشودة المطر ) أشهر دواوينه الذي استطاع من خلاله أن يستقطب القراء وينزع منهم اعترافاً بالشعر الحر , فأصبح بعدها الشعر الحر الأكثر قبولاً وانتشاراً بين قرّاء الشعر العربي الحديث .
استعمل الرمز في قصائده ( أنشودة المطر , وحفار القبور , والمومس العمياء ) بشكل يسلب الألباب دالاً على ثروته الثقافية ومخزونه الشعري الهائل وموهبته الفذة التي تدهش القارئ . وساعده على إدخال الرمز بقوة الجرأةُ التي اتصف بها , والتمزق الذي عاناه الشعب العراقي , وويلات الحرب العالمية الثانية , والنزوع إلى الاستقلال والانفتاح على الآداب الغربية وأساليبها في التفكير والتعبير , إضافة إلى الواقع السياسي العربي الذي كان يعاني من الاضطراب في تلك المرحلة .
فيما يخص وتيرة اللغة عند السياب فإنه من الشعراء الذين احتفظوا بالإيقاع العالي , مع لغة سلسة عمد فيها إلى توظيف ما يدعم ذلك الإيقاع كالإكثار من الأفعال المضعفة والتكرار واختيار الصوات ذات الجرس الموسيقى .
ثانياً : شرح القصيدة :
العنوان عتبة من العتبات النصية , وبالنظر إلى تحليل كلمة { أنشودة المطر } نجد أنها مكونة من مفردتين أنشودة , وتنتمي إلى حقل الأصوات , والمطر , وتنتمي إلى حقل الكونيات هذا من الجانب المعجمي . أما من حيث الجانب التركيبي فنجد أنها مكونة من جملة اسمية فيها عناصر غائبة وحاضرة , فالغائبة المبتدأ وتقديره : هذه أنشودة المطر , والموجود تركيب إضافي .
ونلاحظ في عنوان القصيدة ( أنشودة المطر ) أن السياب قد استعار نشيد الطبيعة في مطرها الذي يحول العالم من موت إلى حياة , ومن يابس إلى خصب , فكان نشيده طبيعياً واجتماعيا , حقق به ثورة شاملة في الطبيعة والمجتمع .
تنفتح القصيدة بمطلع غزلي يحدد فيه الشاعر عنصر الزمن , وقت السحر , زمن فاصل بين الموت والحياة بين الظلام والنور , زمن التردد بين منزلتين الأمل واليأس حالة من القلق والتوتر .
وموضوع الغزل في هذه القصيدة عينا الحبيبة حشد فيهما الشاعر الطبيعة بزمانها وبمكانها بأشجارها وبعمرانها , بليلها وبنهارها , خرج فيهما عن صورة العينين التقليدية إلى صورة أكثر طرافة تلتحم فيها الحبيبة بالطبيعة , وبهذا يعلن المطلع عن طابع القصيدة الوجداني , وتبدأ الحركة بالعينين فتنشأ ساكنة سكونا كلياً ساعة الميلاد , ثم تتصاعد حركتها باتجاه العناصر الطبيعية فتشهد تحولات كثيرة : تورق الكروم , ترقص الأضواء . تنبض النجوم . فيقول :
عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ ، |
أو شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا القَمَرْ . |
عَيْنَاكِ حِينَ تَبْسُمَانِ تُورِقُ الكُرُومْ |
وَتَرْقُصُ الأَضْوَاءُ ...كَالأَقْمَارِ في نَهَرْ |
يَرُجُّهُ المِجْدَافُ وَهْنَاً سَاعَةَ السَّحَرْ |
والحبيبة في فاتحة القصيدة هي الأم أو القرية أو العراق كله , أو هذه الثلاثة مجتمعة , والحب قوة سارية في الإنسان والطبيعة على السواء : العينان غابنا نخيل ساعة السحر , وحين تبسمان تورق الكروم , وترقص الأضواء كأنها أقمار في نهر يرجه المجداف , أو كأن النجوم ترقص في غوريهما , فإذا غابتا في ضباب الأسى أصبحتا كالبحر .
ويأتي الخطاب الشعري دفقاً من المعاني وحشداً من الصور تتنامى شيئاً فشيئاً وتتولد صورة العينين ( غابتا نخيل ساعة السحر ) صورة رومانسية توحي بالهدوء والسكينة , واستعماله للفظة ( غابتا ) أوحت بالسعة والعمق والغموض , وتعكس كلمة ( نخيل ) مدى تعلقه بالبيئة ورموز الوطن . وأما ساعة السحر فقد ربط المكان بزمان خاص يزيده سحراً ورهبة معاً , وإنها لألذ ساعة وأشهاها .
والصورة الثانية لشرفتين ينأى عنهما القمر , فبعد التشبيه بالغابتين جاء التشبيه بالشرفتين , فالعينان يطل بهما المرء على ما حوله , وكذلك الشرفتان تطلان على البيئة أمامهما . ولم يكتف السياب بمجرد التشبيه بل حدده بالوصف الذي يجمع بين رسم المنظر وبيان الزمن قائلاً ( راح ينأى عنهما القمر ) .
بل إنه وصف ذلك بدقة شديدة إذ لم يقل : نأى عنهما القمر , بل وصف اللحظة لحظة البدء بالنأي , وهي صورة توحي بحركة الفعل المضارع .
وصورة ثالثة تجلت في ابتسام العينين , وربطها الشاعر بحركة الطبيعة , وكأن الحياة مصدرها عيني الحبيبة , كما يوحي فعل ( ابتسم ) بالسعادة التي تتحقق بفضل حركة العينين , واستعماله للفظة ( حين ) قد توحي أن تلك البسمة قليلة .
والعينان في مستهل القصيدة تبسمان فتدب الحياة في الكون كله , فإذا الكروم تورق دلالة على الإزهار والإثمار , وإذا الأضواء ترقص , فعيناها تبعثان الحياة , فتخضر الكروم بعد يبس . واختيار الشاعر لفظة ( الكروم ) ليوحي بمعنى النشوة بتلك البسمة . وذكر العنب والأشجار فيه دلالة على أن العراق بيئة زراعية , فعندما يعم السلام والسعادة فيه تتحرك كل مباهج الكون وتعزف أنشودة الحياة التي يراها في شجر الكروم الذي كثرت أوراقه . وجمع الأقمار للمبالغة ولأن القمر ينعكس في الماء المتموج أقماراً عدة .
والنهر الذي ترقص فيه الأقمار موصوف بأن مجدافاً يرجه رجاً ضعيفاً وقت السحر , وهو تعميق واضح للصورة , فتوظيف السياب للفظة ( وهناً ) مراد به المحافظة على صورة الهدوء النسبي , وتكراره لساعة السحر ليبدي ارتباطه ببيئته , وصورة النهر الذي يجول فوق صفحته زورق يحرك أمواجه تستدعي صورة مشابهة يتهادى فيها زورق على صفحة نهر .
ويمضي هذا التفاعل الخاص بين الكلمات في قوله :
كَأَنَّمَا تَنْبُضُ في غَوْرَيْهِمَا، النُّجُومْ ... |
وَتَغْرَقَانِ في ضَبَابٍ مِنْ أَسَىً شَفِيفْ |
كَالبَحْرِ سَرَّحَ اليَدَيْنِ فَوْقَـهُ المَسَاء ، |
فلفظة ( كأنما ) عنصر لساني يدخل على الجملة الاسمية فيغيرها , وهي كلمة كثيراً ما يستخدمها الشاعر بمعناها الساحر ( الرؤية الضبابية الوشْكية التشبهية ) .
واستعان بالفعل ( تنبض ) لما يحمله من سمة دلالية على استمرار الحياة , جاعلاً الفاعل لفظة ( النجوم ) حية تنبض كالقلوب ولكنها تنبض نوراً وحركة . واستعمل ( غوريهما ) فالضمير هنا يعود على العينين , مما يزيد من الدلالة عمقاً وغموضاً .
ويستمر السياب في وصف العينين بالغموض والحزن فيأتي بصورة للبحر وقد غطّاه المساء ليثير في النفس الشعور بالضيق والاختناق والإحساس بالعتمة , ويجعل المساء مثل كائن عملاق يغطي البحر بكلتا يديه وهي صورة كونية شاملة يأتي بها ليشبه بها حالة الحزن الذي يعتري العينين الساحرتين فيقول : ( وتغرقان في ضباب من أسىً شفيف ) فاستعماله للفظة تغرقان ذات السمة الدلالية الخاصة فالغرق يكون في النهر أو البحر , وهذا ارتباط جديد بالبيئة , واستخدامه للماء على أنه رمز حزين مخيف , ويصبح الضباب في قوله هو ضباب الثورة , والمطر هو الثورة نفسها .
ويعمق السياب دلالة العينين من خلال قوله : كالبحر سرّح اليدين فوقه المساء . ويستعين بلفظة البحر لما يحمله من مدلولات منها السعة والغموض والجمال والخير والرهبة , كما يحس المتذوق السامع بحلاوة العبارة وعذوبة الديباجة ؛ لاستخدامه لفظة المساء , لأن المساء بظلامه واتساعه مارد ضخم يمسح على سطح البحر بيديه !!! تسرح يداه فوقه !!! ويزداد عمق الصورة في قوله : باليدين لما تحمله التثنية من دلالة القوة والطغيان . وتطرب النفس وتتراقص نحو قوله :
دِفءُ الشِّتَاءِ فِيـهِ وَارْتِعَاشَةُ الخَرِيف، |
وَالمَوْتُ، وَالميلادُ، والظلامُ، وَالضِّيَاء؛ |
فَتَسْتَفِيق مِلء رُوحِي ، رَعْشَةُ البُكَاء |
ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء |
كنشوةِ الطفلِ إذا خَافَ مِنَ القَمَر ! |
كَأَنَّ أَقْوَاسَ السَّحَابِ تَشْرَبُ الغُيُومْ |
وَقَطْرَةً فَقَطْرَةً تَذُوبُ في المَطَر ... |
وَكَرْكَرَ الأَطْفَالُ في عَرَائِشِ الكُرُوم ، |
وَدَغْدَغَتْ صَمْتَ العَصَافِيرِ عَلَى الشَّجَر |
أُنْشُودَةُ المَطَر ... |
مَطَر ... مطر ... مطر |
في هذا المقطع يواجهنا بيت مستقل بذاته في انفراده بعنوان القصيدة وهو الموضع الوحيد الذي تذكر فيه تركيبة العنوان , فلذلك كان هذا البيت وهذا المقطع موطن ارتكاز في القصيدة يتطلب التوقف عنده لاكتشاف شعريته من جهة , ولاكتشاف تحول العنوان داخله من جهة أخرى , وهكذا نرى أن البيت ( أنشودة المطر ) وقع وسط هذا المقطع فخلق بالتالي محيطاً لغوياً قبله وبعده , وحين نتأمل هذا المحيط نجد تقابل حالتين ضديتين تمنح كل واحدة للبيت المذكور دلالة مخالفة للأخرى .
ويتولد في قراءتنا جوُّ من الإيحاء بالتناغم والدفء والفرح , فأقواس السحاب مترعة بمياهها والأطفال يمرحون في الطبيعة والعصافير مختبئة بين أغصان الشجر تصغي لأنشودة المطر , الأنشودة في هذا المحيط ضرب من إيقاع القطرات النازلة قطرة فقطرة , وكأن تكرار ثلاثية مطر , مطر , مطر . ليس سوى محاكاة لواقع القطرات وتجسيداً لنشيد المطر .
والفاء في قوله : ( فتستفيق ) عطفت جملة فعلية على جملة اسمية ( والموت والميلاد والظلام والضياء ) ولم يكن الانتقال إلى هذا المعنى منسجماً مع ما قبله جيداً حيث نجد انقطاعا بين الجملتين مما يعكس دلالة الفعل فلن تحدث الاستفاقة إلا بعد فعل النوم , تدل هذه الكلمة ( تستفيق ) على أن تلك الرعشة موجودة كامنة من قبل .
ويعود بنا فعل ( تستفيق ) إلى ذاكرة الشاعر يصوغها في شكل ومضات واقعية تمتزج بالمسار الغنائي الإنشادي وتسمه بنبرة واقعية .
ويلتفت إلى نفسه من خلال لفظة ( روحي ) غير أنه لا يعدو أن يكون مصوراً لإحساسه بهموم المجتمع . ومراده من نشوة الطفل هي نشوة الشاعر المبتهج المنتظر للثورة والخائف مما قد يرافقها من عنف وانحراف . وتوحي كلمة ( كركر الأطفال ) إلى تجدد الحياة وطفولة العالم البريء , وتوحي كلمة ( ودغدغت العصافير ) إلى الحرية و الانطلاق .
وفي قوله : ( وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر ) , تصوير لانقطاع المطر وحدوث البهجة بعد انقطاعه , فإذا الأطفال يتراكضون ويضحكون في عرائش الكروم , وإذا العصافير تزقزق على الشجر .
وينغلق القسم الأول باللازمة التي جعلها الشاعر على لسان الأطفال لأنه ربط بين واقعه وماضيه وأسس التقابلية بين حاضره المليء بالقلق والحزن وطفولته السعيدة مؤكداً حنينه إلى الماضي .
أما القسم الثاني في القصيدة يتغير فيه عنصر الزمن ( تثاءب المساء ) زمن يؤدي به الشاعر معنى الحزن , يقول :
تَثَاءَبَ الْمَسَاءُ ، وَالغُيُومُ مَا تَزَال |
تَسِحُّ مَا تَسِحّ من دُمُوعِهَا الثِّقَالْ . |
كَأَنَّ طِفَلاً بَاتَ يَهْذِي قَبْلَ أنْ يَنَام : |
بِأنَّ أمَّـهُ - التي أَفَاقَ مُنْذُ عَامْ |
فَلَمْ يَجِدْهَا ، ثُمَّ حِينَ لَجَّ في السُّؤَال |
قَالوا لَهُ : " بَعْدَ غَدٍ تَعُودْ .. " - |
لا بدَّ أنْ تَعُودْ |
نرى الشاعر كثيراً ما يتقلب بقلقه واضطرابه النفسي الناتج عن طبيعة حياته وظروف وطنه ؛ بين أنشودة المطر والفرح وكركرة الأطفال وبين الحزن والدموع مباشرة دون فاصل ولا تمهيد , مستعملاً الفعل ( تثاءب ) المساء فهو يملك خيالاً خصباً دلّ على الشعور بالملل فالمساء يمتد ويتطاول حتى ينعس فيتثاءب .
وتباطؤ الزمن في عبارة ( مطر , مطر , مطر ) أنشودة متصلة متقطعة في أنها تشبه هذيان الطفل الذي قالوا له إن أمه ستعود , ورفاقه يهمسون أن قبرها هناك على التل يشرب قطرات المطر . ويظل هذه الحزن العميق مسقراً في لواعجه لأنه مغاير للحقيقة فمن الحزن يجب أن يتولد المرح كما يتحتم أن يتولد عن المطر خصب وغلال , ولكن الشاعر ناء ولهذا فإن المطر لم يولد في نفسه إلا جوعاً , شوقاً إلى الأم , إلى القرية , إلى الطبيعة والشاعر والعراق سيان لأن المطر لم يولد في العراق إلا الجوع , ولأن الغلال التي يسكبها المطر لا يأكلها إلا الغربان والجراد , وتاريخ المطر في العراق طويل , ولهذا كان تاريخ الجوع فيه طويلاً
فيشبه الشاعر الحالة التي تعتري المرء لدى حلول المساء بما فيه من كرب وحزن بحالة طفل يهذي قبل النوم فيذكر أمه التي فقدها وهو لا يفقه معنى الموت . وهذا البناء لصورة شعرية تقوم على أسلوب القص والتشبيه والممتدة على بضعة أبيات تستغرق تفاصيل الصورة
وفي قوله : ( سواحل العراق بالنجوم والمَحَار ) يستعين بألفاظ كالنجوم والمحار للدلالة عن الخير والخلاص , ولكن الظلم الذي رمز له بالليل يغطيها بدثار من الدم يقتلها . وقوله :
أَكَادُ أَسْمَعُ العِرَاقَ يذْخرُ الرعودْ |
ويخزن البروق في السهولِ والجبالْ ، |
حتى إذا ما فَضَّ عنها ختمَها الرِّجالْ |
لم تترك الرياحُ من ثمودْ |
في الوادِ من أثرْ . |
تنبؤ بالثورة واستشفاف بمقدماتها , وهي عندما تبدأ ستقضي على الظالمين كما قضت الريح على ثمود . وهنا استخدام لرصيد ثقافي تاريخي ديني , فالثورة كما يصورها الشاعر تجتاح الطغاة المستبدين , وقد استعار لهم لفظة ( ثمود ) . وفي قوله :
وأسمع القرى تَئِنُّ ، والمهاجرين |
يُصَارِعُون بِالمجاذيف وبالقُلُوع ، |
عَوَاصِفَ الخليج ، والرُّعُودَ ، منشدين : |
" مَطَر ... |
مَطَر ... |
مَطَر ... |
ونلحظ نبرة الشاعر الثورية تتصاعد , وهو يصور الفلاحين يهاجرون من قراهم بعد أن دهمهم الطوفان . وفي قوله : ( أسمع القرى ) استدعاء مباشر لقوله تعالى : ( واسأل القرية ) . كما أن في لفظة ( تئن ) دلالة على مدى تألم وتوجع الشعوب المستعمرة .
وفي قوله : :أصِيحُ بالخليج : " يا خَلِيجْ ... |
يا واهبَ اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! " |
فيرجعُ الصَّدَى كأنه النشيج |
" يا خليجْ يا واهب المحار والردى |
ويوظف السياب عدداً من الكلمات ( اللؤلؤ – المحار – الردى ) ليعبر عما في نفسه من آلام وآمال فقد أوصلته الأوضاع إلى أن يعبر عما في نفسه بالصياح مستعيناً بالفعل ( أصيح ) لما يحمله من دلالة على إفراغ كل الطاقة الكامنة في النفس فضلاً عن ذلك ( اللؤلؤ والمحار والردى ) دلالة للأمل والخير فجعلهما اثنين , وللخيبة واحداً : الردى .
ثم يواصل قوله : ( فيرجع الصدى ) ولا يكون الصدى إلا في العزلة والخواء مما انقص تفاؤله ويظهر ذلك في قوله : يا واهب المحار والردى . فقد جاء الرد بأمل أقل واحد مقابل واحد , المحار مقابل الردى , بل قد يكون المحار فارغاً بلا لؤلؤ ليدل على صراع نفسي وتردد وحيرة . ويتحول الخليج إلى رمز يجسد فيه الشاعر معنى الغربة والضياع ويساهم الصدى في تعميق غربته صدى يرجع الخليج كالنشيج .
ويتقابل القسم الثاني مع القسم الأول , فالطفولة فيه تنشد الفرح , وفي الثاني يتكثف معنى الحزن عن طريق ذكرى الموت . وفي هذا القسم ربط الشاعر بين الجو الممطر الموحي بالكآبة وبين كآبة الطفل اليتيم وعمق حزنه بسؤاله ( المطر ) .
وفي القسم الثالث يتحول السياب من ذاكرة الغريب اللاجئ إلى ذاكرة المناضل المقموع في العراق يوظف كلمة العراق توظيفاً سياسياً واضحاً ويحمل مدلول المطر معنى الثورة على القهر الاجتماعي والسياسي ويربط بين جوع الفقراء الدائم ويتفاءل بالثورة التي تهب الحياة لكل الناس , يصور البلاد وهي تستعد للثورة وتتهيأ لها فيقول :
أَكَادُ أَسْمَعُ العِرَاقَ يذْخرُ الرعودْ |
ويخزن البروق في السهولِ والجبالْ ، |
حتى إذا ما فَضَّ عنها ختمَها الرِّجالْ |
لم تترك الرياحُ من ثمودْ |
في الوادِ من أثرْ . |
ويقول :
وَكُلَّ عَامٍ - حِينَ يُعْشُب الثَّرَى- نَجُوعْ |
مَا مَرَّ عَامٌ وَالعِرَاقُ لَيْسَ فِيهِ جُوعْ . |
مَطَر ... |
مَطَر ... |
مَطَر ... |
ويصور الشاعر هنا فجر الخلاص قادماً مع الفجر الفتي وهذا الغد الفتي الذي يهب الحياة فيقول :
في كُلِّ قَطْرَةٍ مِنَ المَطَر |
حَمْرَاءُ أَوْ صَفْرَاءُ مِنْ أَجِنَّـةِ الزَّهَـرْ . |
وَكُلّ دَمْعَةٍ مِنَ الجيَاعِ وَالعُرَاة |
وَكُلّ قَطْرَةٍ تُرَاقُ مِنْ دَمِ العَبِيدْ |
فَهيَ ابْتِسَامٌ في انْتِظَارِ مَبْسَمٍ جَدِيد |
أوْ حُلْمَةٌ تَوَرَّدَتْ عَلَى فَمِ الوَلِيــدْ |
في عَالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ ، وَاهِب الحَيَاة ! |
إنه الربيع الذي يمنح الوجود كله حركة وحياة , ويعيد إلى العراق بسمتها وفرحتها بعد أن غشاها الحزن .
ثالثاً : المستوى الدلالي الإفرادي :
أ - دلالة لفظة { المطر } سبب الوقوف على هذه المفردة كثرة استعمالها حيث وردت خمساً وثلاثين مرة , وتنوع دلالاتها وتعبيرها عن هدف سياسي هو تحرير أرض العراق من هذا المستعمر الغاشم أو تخليصه من القمع السياسي الذي يعيشه الشعب العراقي ؛ والشاعر يقرر حقيقة تاريخية هي أن إرادة الشعوب لا تقهر , مهما طال الزمن أو قصر , فإن النصر حليفها ويدل على ذلك قوله : ( ويهطل المطر ) .
لقد صاغ الشاعر هذه الحقيقة في قوالب لغوية مختلفة، تحوي دلالات متباينة، وهي نوع من التجاوز الذي يعمد إليه الباث أو الشاعر ليعبر عن مضمون فكره، وعما يؤمن به. لذا نتلمس هذه المعاني في :
المعنى الأول : دلالاته على ظاهرة طبيعية كونية , وهو معنى أصلي كقول الشاعر :
كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم . وقطرة فقطرة تذوب في المطر ..
إذاً ظاهرة المطر تسبقها مراحل : تكوين الغيوم وتكثيفها , فظهور السحب , ثم سقوط المطر
المعنى الثاني : المطر هو مصدر الحزن في قوله : أتعلمين أي حزن يبعث المطر ؟ إن الشاعر يقر بالأثر الذي يتركه المطر في الإنسان والطبيعة فشبهه بعدة تشبيهات : المطر كالدم المراق – المطر كالجياع وكالأطفال وكالموتى .
فالشاعر قد أحس بالوضعية المتردية التي يعيشها مجتمعه , فالمطر بالنسبة له قد سبّب آلاماً كثيرة ؛ ترك ضحايا { كالدم المراق } وفقراء { كالجياع } ويتامى { كالأطفال } .
المعنى الثالث : المطر بمثابة الواهب والدافع للعمل ؛ يتضح لنا من خلال حاجة الكائن إليه يقول :
أكاد أسمع النخيل يشرب المطر . وأسمع القرى تئن والمهاجرين . يصارعون بالمجاديف وبالقلوع . عواصف الخليج والرعود منشدين . مطر ... مطر .... مطر ...
فالمطر يمد الكائن الحي بالحياة والرزق , ويبعث فيه الأمل والتفاؤل , وما النشيد إلا تعبير عن أمل الإنسان الذي لا يتحقق إلا بالعمل .
المعنى الرابع : المطر مصدر الاعتلال يقول : ثم اعتللنا – خوف أن نلام – بالمطر
فالشاعر يدلنا على أن المطر يستفيد منه أشخاص غرباء عن البلاد , والدليل على ذلك أن بلاده كلها خصب وثراء , ومع ذلك فهم جياع . إن الشاعر – لا محالة – يشير إلى ظلم المعتدين والمستعمرين ؛ لأن في البلاد خيراً كثيراً ولا يستفيد منه أبناء الشعب العراقي . المستفيد الوحيد هو الطامع المغتصب , أو الطغيان السياسي يقول :
وكل عام – حين يعشب الثرى – نجوع ــــــ ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع .
فالجوع حالة مستمرة في البلاد , والخير دائمة في أرض العراق , فكيف يحصل الجوع مع دوام الخير ؟
وهذا دليل على أن الأيادي الغاشمة تمتص كل خير ينمو إنها لمفارقة عجيبة .
المعنى الخامس : المطر أمل الإنسان وابتسامة له ومبعث على التفاؤل والاطمئنان وتحقيق الآمال يقول : في كل قطرة من المطر . فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد . فالشاعر يعود إلى الفائدة المرجوة من المطر , بعد أن ذكر آثاره السلبية : فالمطر = أجنة الزهر , المطر = ابتسام .
ب - دلالات ألفاظ مقاربة للفظة المطر : استعمل السياب ألفاظاً أخرى مقاربة للفظة ( مطر ) منها :
النهر : كقوله : { وترقص الأضواء كالأقمار في نهر} فالكلمة تدل على قيمة تعبيرية تتضح من خلال التشبيه التمثيلي بين رقص الأضواء في العينين ورقص الأقمار في النهر. والمفردة من منظار دلالي تدل على اللمعان والصفاء لإمكان رؤية الأشياء فيها .
الضباب : كقوله : { وتغرقان في ضباب من أسىً شفيف } فقد وظف الضباب في معنى الحزن والأسى , ويبدو أنه انعكاس لحالته النفسية لأنه بدأ يشعر بالقلق والضيق .
البكاء : كقوله : { فتستفيق ملء روحي رعشة البكاء } أي أن البكاء بمثابة التنفيس عن النفس لإزالة ما علق بها من آلام وأوهام .
وكذلك الدموع تسح ما تسح من دموعها الثقال , فهو يجد في الدموع راحة نفسية تخرجه من عالم الحزن إلى عالم الاستقرار
السحاب : وتشير إلى الحزن والأسى , والغيوم وتدل على الشعور بالقلق والضيم .
والقطرات : وتعبر عن رجوع الأمل الضائع والتفاؤل بحياة سعيدة . والدموع : وتعبر عن الراحة النفسية والخروج من عالم الحزن إلى عالم الاستقرار .
والغيوم : تدل على بداية الشعور بالقلق والضيم . والأمواج : يقول : { وعبر أمواج الخليج تمسح البروق . سواحل العراق بالنجوم والمحار . كأنها تهم بالشروق }.
فقد وظف هذه الدلالة في معنى الغضب لأن الأمواج تدل في الغالب على غضب البحر فانتقل هذا المعنى المحسوس من مستوى إخباري ظاهر إلى مستوى دلالي تعبيري، يترجم فيه السياب أحاسيسه، وعواطفه بكلمات مستوحاة من عالمه المليء بالمتناقضات.
قوله : { لم تترك الرياح من ثمود , في الواد من أثر . وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق , من زهرة يرّبها الفرات بالندى } . كثيراً ما تعبر الكلمات ( الواد والفرات ) عن معنى الحياة والخصب , فهما من مصادر الرزق والعيش , وإليهما يأوي كل الناس للانتفاع بخيراتهما . والأفعى : رمز للغدر ويقصد بها هنا ( الطغاة المستبدون المستغلون الذين يسرقون خيرات البلاد ) من زهرة يربها الفرات بالندى وينهبونها . ويشبه خيرات العراق بالرحيق الذي تأخذه النحل من الأزهار لتصنع منه العسل . كثيراً ما تعبر الكلمات (الواد، الفرات) عن معنى الحياة والخصب، فهما من مصادر الرزق، والعيش، وإليهما يأوي كل الناس للانتفاع بخيراتهما.
وفي قوله : ( كأن صياداً حزيناً يجمع الشباك ) ترمز صورة الصياد الحزين إلى فشل الثورة , ويكون الصياد هو السياب أو الشعب .
ج- المجالات الدلالية أو الحقول المعجمية :
1- المواد اللغوية الكونية منها : ( القمر , النجوم , الضباب , السماء , السحاب , الغيوم , المطر , الرعود , البروق , الرياح , العواصف ) هذه المواد اللغوية يكثر فيها المجاز , يصف فيها تارة عالمه النفسي , وتارة حال مجتمعه الذي سلبت خيراته .
2- المواد اللغوية الطبيعية منها : ( الكروم , النخيل , الزهر , الشجر , الحقول , التراب , الرمال , الجبال , البحر , المياه , الفرات , الواد , التل , السهول ) واستعماله لهذه المواد ينبئ عن اتصال الشاعر ببيئته القروية التي نشأ فيها , فظل حنينه إلى الوطن ماثلاً في أغلب شعره .
3- المواد اللغوية المتصلة بالكائنات : * الإنسان : ( البكاء , الدموع , الطفل , الوليد , الرجال , الصياد , البشر , الرفاق , الأم )
* الحيوان : ( العصافير , الغربان , الجراد , الأفعى ) توحي هذه العناصر بالنزعة إلى البيئة التي ملكت قلبه , وبالقلق النفسي الناجم عن شعوره بالغربة .
4- المواد اللغوية التاريخية ككلمة ( ثمود ) وهي تدل على اتصاله بالثقافات القديمة والتاريخية واستثماره لقصص القرآن .
5- المواد اللغوية الدالة على الأمكنة والأزمنة والألوان منها : ( الخليج – العراق ، الشتاء ، الخريف , المساء , الغد , السحر, الساعة , الشروق , موسم الحصاد , ليلة الرحيل , حمراء , صفراء , الخريف , عام , موسم ) تدل على معاناته النفسية , وشدة ارتباطه بوطنه , وكرهه للقمع والطغيان والدم المراق .
6- الألفاظ الدالة على الحزن والأسى : ( ارتعاشة الخريف – الموت – الخوف من القمر – يأمل الموت – أسى شفيف – الغيوم – دموع – حزن – تنشج – الضياع – الجياع – الردى – تئن .. )
7- طغيان المعجم الرومانسي : من مثل : ( نخيل – سحر – شرفة – بسمة – كروم – أضواء – نهر – غور – ضباب – أسى – شفيف – بحر – مساء – دفء – شتاء – ارتعاشة – خريف – موت – ميلاد – ظلام – ضياء – ترقص ..)
رابعاً : المستوى الدلالي التركيبي : ندرس في هذا الجانب الظواهر الآتية :
1- جاءت الصورة مركبة ومتناسلة ممتدة حركية صوتية ضوئية كما في المقطع الأول فقد فصل الحديث في المشبه به ؛ فالعينان غابتا نخيل أو شرفتان , وحين تبسمان , وترقص الأضواء كالأقمار في نهر وكالبحر سرّح اليدين ، كما وفق في إسناد التبسم إلى العين , وهذا ما يسميه النقاد بـ ( تراسل الحواس ) .
2- كذلك استثمر الاستعارة كما في قوله : (عيناك غابتا نخيل ) ( شرفتان ) و قوله :( عيناك حينما تبسمان تورق الكروم ) ( ترقص الأضواء ) ( وتغرقان في ضباب من أسى شفيف ) ( أكاد أسمع النخيل يشرب المطر ) ( ونشوة تعانق السماء ) , ( ومقلتاك تمسح البروق ) و ( والمجداف يرج الماء , النجوم تنبض. وارتعاشة الخريف , ورعشة البكاء , والخليج يفهق باللؤلؤ والمحار , والقطرة تتفتح عن أجنة الزهر , والعراق يذخر بالرعود والبروق ) .
3- كذلك نجد أن التشبيه ظاهرة واضحة وبارزة في القصيدة , وكأنه يعقد من خلاله حواراً فنياً بين عالمي الشاعر : الداخلي والخارجي , وجاء أغلبه بالأداة من ذلك : { كأن طفلاً بات يهذي , كالبحر سرح اليدين فوقه المساء , ونشوة وحشية تعانق السماء كنشوة الطفل إذا خاف القمر , كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم , كأنه النشيج , كأن صياداً حزيناً يجمع الشباك كالدم المراق , كالجياع , كالحب , كالأطفال , كالموتى } .
4- ولم يقتصر عليهما بل عمد إلى استعمال المجاز المرسل : ففي قوله : ( يا واهب المحار ) مجاز مرسل علاقته المكانية فالخليج هو المكان الذي يعيش فيه محار اللؤلؤ . وفي قوله : ( يا واهب الردى ) مجاز مرسل وعلاقته المكانية أيضاً , فأعماق الخليج هو المكان الذي يلاقي فيه الغطاس حتفه حينما يغطس بحثاً عن اللؤلؤ . وفي قوله : ( ظلّ يشرب الردى ) مجاز مرسل علاقته السببية , فالغريق يموت بسبب شربه للماء , ومن نفس العلاقة قوله : ( سيعشب العراق بالمطر )
وفي قوله : ( ويكثر الغلال فيه موسم الحصاد ) علاقته الزمانية , لأن موسم الحصاد هو وقت جمع الغلال ونثرها على البيادر في القرى .
5- ولم يغفل الكناية كما في قوله : { لتشبع الغربان والجراد } كناية عن جشع وطمع المحتل الغريب عن شعب العراق , فهم كالغربان والجراد لا يتركون وراءهم شيئاً يقتات به الشعب العراقي . وفي قوله : { أكاد أسمع العراق يذخر بالرعود } كناية عن الثورة وربما على الظلم والطغيان .
6- اتكئ كثيراً على { كأن } للانطلاق من صورة إلى صورة أخرى . اقرأ : ( كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم , كأن طفلاً بات يهذي قبل أن ينام ) .
7- مال كثيراً إلى استخدام المفارقة – وهو أسلوب لغوي يقوم على مبدأ النقيض – كما في قوله :
- كل عام – حين يعشب الثرى – نجوع . - وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق . لأن الأفعى دلالة على الخطورة والرحيق دلالة للخيرات .
- أصيح بالخليج يا خليج . يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى . فيرجع الصدى
ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع / مطر ... مطر .... مطر .... وفي العراق جوع . وينثر الغلال فيه موسم الحصاد / لتشبع الغربان والجراد .
وكل هذا تصوير للحالة النفسية التي يعيشها ويشعر بها نحو المحتل أو الظلم الذي سلبه هذه الثروة .
8- ومن المظاهر الواضحة في قصيدته استخدامه الجمل الممتدة من مثل :
{ عيناك غابتا نخيل ساعة السحر / كنشوة الطفل إذا خاف من القمر / فتستفيق ملء روحي رعشة البكاء /
كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم / وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع }...
9- كذلك نجد ملامح سردية يتضح ذلك في الحوار مثل قوله : " قالوا له : بعد غدٍ تعود / لابد أن تعود .
10- ونجد البنية المفتوحة في قوله : فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد , ويهطل المطر .
11- ويتلاعب بالزمن الاسترجاعي والمستقبلي فيقول : ومنذ أن كنا صغاراً كانت السماء تغيم في الشتاء , ويهطل المطر .
وقوله : أكاد أسمع العراق يذخر الرعود , أكاد أسمع النخيل يشرب من المطر .
12- كذلك من المظاهر الواضحة في القصيدة تعدد الأصوات : { صوت الشاعر السياب , الخليج , همس الرفاق , الرعود , القرى تئن , صوت شرب أقواس السحاب تشرب الغيوم , صوت الكركر , صوت الطحن , تثاءب المساء , الطفل يهذي , النشيج .
13- الأسلوب الخبري كما في قوله : ( أكاد أسمع العراق يذخر الرعود ) , وينم عن مدى القلق الذي يعانيه الشاعر .
في قوله : ( ويخزن البروق في السهول والجبال ) , وينم عن استطلاع ذاتي عن بعد . وفي : ( حتى إذا ما فضّ عنها ختمها الرجال ) , وينم عن الغيرة والانتظار . وفي : ( لم تترك الرياح من ثمود ) , ويوضح الحزن والأسى واليأس ....
14- الاستفهام , فقد استفهم عن واقعه الذي أحس فيه بالوحدة والضياع يقول : أتعلمين أي حزن يبعث المطر ؟ وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر ؟ وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع ؟ وقد تلا أداة الاستفهام فعل مضارع , وفي ذلك شحن لمعاني الحيرة وعدم الاطمئنان , وهذه المعاني متحركة مرتبطة بحركة الفعل الذي يفيد التجدد , وهذه التساؤلات تثير ذهن المخاطب وتبعد عن رتابة الأسلوب التقريري لأن الشاعر لم ينتظر جواباً , وإنما يسأل الحبيبة الغائبة عن طبيع الحزن ويستثير علاقة وجوده بها كعلاقة الحزن بالمطر .
ونجده يغير ويلون في الأداة ومتلوها , فيقول : وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع . والاستفهام هنا يعطي ظلالاً غنية محملة بالاستغراب من خلال إظهار كمية الدموع المذروفة ليلة الرحيل .
15- طغيان الجمل الفعلية على القصيدة وكأنها توحي ببداية الحياة , واقرأ إن شئت : أكاد أسمع العراق ...
ويعد استعمال صيغة الأفعال المضارعة أو الماضية , المجردة أو المزيدة , المتعدية أو اللازمة , المشتقة أو الجامدة , أو غير ذلك من البنيات الصرفية لا يجري اعتباطاً فلكل بناء دلالة خاصة به , فتصير داخل النص الشعري بنيات إيحائية تمثل جزءً من مظاهر واتجاهات وأفكار وحالات نفسية .
ولقد تنوعت الأفعال في قصيدة ( أنشودة المطر ) فمنها الماضي والمضارع , وبلغ عددها ( 92 ) فعلاً , من بينها ( 5 ) خمسة أفعال ناقصة , ويلاحظ على القصيدة انعدام الأفعال المبنية للمجهول . ونلاحظ أن الفعل المضارع أكثر الأفعال تكراراً فقد بلغ ( 69) فعلاً , يليه الماضي مع فارق كبير إذ بلغ عدد وروده ( 23 ) فما سر زيادة الفعل المضارع وما الغرض وما الدلالة ؟
ولعل تسويغ هذا الولع بالفعل المضارع يكمن في حرص الشاعر على تناول أفكار عصره , ومشاكل مجتمعه الراهن , وحرصه كذلك على أن يتفاعل مع ما يجري من أحداث , ويظهر بذلك تشبثه بحاضره مهما كانت نظرته المستقبلية معتمة أم مضيئة .
والرفع في الفعل المضارع دلالة على الحالية , كما أن النصب دلالة على الاستقبال , والجزم دلالة على المضي , والمضارع يدل على الحدث المستمر , اقرأ الأفعال المضارعة التالية وتأملها : ( ترفض , يرجه , تغرقان , فتستفيق , تسح , تسف , تعانق يلعن , يشعر , تنشج , فيسحب , تطيفان , ينثر , أكاد , أسمع , أصيح ...}
والفعل الماضي يدل على التحقيق لانقطاع الزمن في الحال , ووروده في القصيدة يعود سبب ذلك إلى ارتباط الفعل بحوادث وقصص ومواقف وذكريات يستعيدها من خلال الشعر , ومن هنا يتمكن الشاعر من استدراج السامع ويحمله في رحلة ذهنية داخل عالم الدلالات المتنوعة , وكأننا بالشاعر يقص علينا أنشودة الأناشيد رابطاً بين همومه والعالم الخارجي فاستعان بالأفعال (خاف لا- كركر – دغدغ ) على لسان الطفال لأنه ربط بين واقعه وماضيه , وأسس التقابلية بين حاضره المليء بالقلق والحزن وطفولته السعيدة مؤكداً حنينه إلى الماضي .
وليس في النص أفعال أمر وذلك ليؤكد الشاعر أن التجربة التي يعانيها يقينية , وأن مصيره حتمي , فهو واثق بحتمية التغيير , وهو يراه قادماً من خلال رؤية القهر والطغيان والاستبداد
وتأمل هذه الأفعال : ( تثاءب – بات – أفاق – لج – تهامس ) تجدها تشترك في الدلالة على عنصر التذكر , وقد تفاعلت لترسم ذكرى السياب لماضيه , وايام طفولته .
واستعان بالجمل الاسمية لبلورة الصورة الشعرية التي يصبو إلى إيرادها , وكشف حيثياتها وجزئياتها للقارئ , ومرد ذلك رغبة الشاعر وإلحاحه على تصوير حقيقة بلده التي أضحت بين أيادي الطامعين المحتلين المغتصبين المستغلين , وذلك من خلال وصف حياة شعبها وسلبيتهم في مواجهة الأزمات والنكبات , ولأن الجملة الاسمية توحي بالسكون والهدوء ولأن الاسم يخلو من الزمن ويصلح للدلالة على الدوام والثبوت والاستقرار . اقرأ إن شئت : في كل قطرة من المطر . حمراء أو صفراء من أجنة الزهر إلى الحياة . واقرأ المقطع الأول : عيناك غابتا نخيل ...
وعند دراسة القصيدة وجدنا أن الأسماء ( 231 ) منها ( 70 ) اسماً نكرة , و ( 111 ) اسماً معرفاً بالألف واللام , و ( 44 ) معرفاً بالإضافة , واسم واحد معرّف بالعلمية , واسم إشارة واحد , واسم موصول واحد , وثلاثة ضمائر . الإضافة إلى المشتقات .
16- حشد ألفاظاً من الجموع والتثنية , من مثل : {عيناك , أقواس , الغيوم , الجبال , السهول , النجوم , الأقمار , العصافير , الأضواء , الرفاق , الدموع , الأطفال , الرعود , النخيل , المهاجرين , القرى , البروق , الرجال , الغلال , الحقول , الجراد , الرمال , العبيد ، العظام }. كذلك حشد أسماء الجنس من مثل : المطر الخليج , الأجاج , المحار, الصدى , الندى , السحر , السماء , السحاب , الضباب , المساء , الضياء , الدم , الحب ؛ ولا يخفى ما لكل مفردة من دلالة موحية في نفس الشاعر .
17- واستعمل أداتي العموم ( كل و ياء النداء ) كما في : كل عام – حين يعشب الثرى – نجوع / كل دمعة من الجياع والعراة / كل قطرة تراق من دم العبيد . يا خليج ، يا واهب , مع ملاحظة تكرار هذا النداء الذي يشعر بالتحسر والاستنهاض لكل الخليجيين .
18- واستعمل الطباق المبني على التضاد بين الاثنين , فكأنه يشرح ألم المعاناة ويرجو أمل الثورة والاستنهاض ضد هذا العدو كقوله : ( الموت والميلاد , الظلام والضياء , السهول والجبال , العصافير والغربان , والأحرار والعبيد , السماء والأرض , الخير والشر )
ويزداد هذا التناقض في الصور التالية : ( المطر يهطل , والغلال تنثر , وموسم الحصاد يدق البواب , والرحى تدور , جوع يلف البشر , تشبع الغربان والجراد .. ) ؛ للدلالة على واقع مرير اختل فيه التوازن , وكلها لإبراز حركة الصراع الدائم في العراق .
ويعتمد الشاعر هنا على مراكمة عناصر اليأس بعضها فوق بعض نحو : ( رحيل – خوف – جوع – عري – دم – عبيد ) ثم يبدأ بعدها بمراكمة عناصر الصورة المضادة ( ابتسام – جديد – حلمة – وليد – الغد – الحياة – الفجر )
كذلك نجد الشاعر قد لجأ إلى الرمز للتعبير عن تجربته الشعورية , فالنخيل رمز للعرب , فهو طعامهم المفضل والمطر رمز للخصب والنماء والحياة , والغربان والجراد رمز للذين احتكروا الخيرات واستلبوا الثروات , وكذلك رمز لهم بالأفعى , والخليج رمز للخير المتمثل باللؤلؤ , والرعود والبروق رمز للثورة , والواد والفرات رمز للخصب والحياة وسعة الرزق
19- واستخدم السياب الضمير في ربط النص ليبرز أجزاء اتساقه كان على وعي تام , فهو لا يستخدم اللغة اعتباطاً , بل لديه حاسة وحساسية خاصة في تعامله مع اللغة , لذلك وظف الضمير أحسن توظيف فجاء نصه مترابطاً متماسكاً كأنه أفرغ إفراغاَ واحداً .
ويمكننا القول إنه عند حصر الضمائر فقد وصلت ضمائر الغيبة إلى ( 54 ) ضميراً , والمخاطب إلى ( 40 ) ضميراً , والمتكلم إلى ( 12 ) ضميراً , فغلبة ضمائر الغياب بفارق كبير وذلك لتصوير أبعاد تجربة الشاعر النفسية القاسية ومدى إحساسه بالضياع داخل وطنه , ولإبراز حالة الخصب والنماء والحرية التي كان العراق يعيشها قبل الاستعمار .
خامساً : البنية الموسيقية : في هذه القصيدة نمطان من الموسيقى :
1- الموسيقى الخارجية التي تعتمد على الصورة الزمنية التفعيلة .
2- الموسيقا الداخلية هي الإحساسات الخاصة بالأصوات والألفاظ والتراكيب
بالنسبة للموسيقى الخارجية , فقد جاءت قصيدة { أنشودة المطر } على طريقة الشعر الحديث , وهو شعر يعتمد الدفقة الشعرية حيناً , والتفعيلة الواحدة أحياناً , وجاءت تفعيلاتها على بحر الرجز ووزنه الأصلي : مستفعلن مستفعلن مستفعلن , وهو في القصيدة متراوح بين المجزوء والتام , وقد طوّع الشاعر بحر الرجز بما يناسب عواطفه التي اتسمت هنا بالفوران والحساسية المفرطة بإزاء ما تعانيه العراق من جوع وعري وجدب .
والرجز ذو فعالية راقصة استغله الشاعر لاستثارة المطر كي يتحرك لينهي الجدب ويوجد الخصب ,
فكأن الشاعر هنا يشخص المطر فهو اختار المطر عارضاً حاله وحال بلاده العراق ملتمساً الحل والخلاص .
ولم يهمل الشاعر القافية وهو ينظم قصيدة التفعيلة هذه بل أعارها اهتماماً كبيراً لأنها ركن مهم في موسيقية الشعر الحر تثير في النفس أنغاماً وأصداءً , وهي فوق ذلك فاصلة قوية واضحة بين الشطر والشطر , والشعر الحرّ أحوج ما يكون إلى الفواصل .
وقد تنوع الروي في القافية والحروف المستعملة هي : { التاء المربوطة , والجيم , والدال , والراء , والفاء , والقاف , والكاف , واللام , والميم , والنون , والهمزة } وهذا التنوع يوحي بالاضطراب النفسي الذي يعانيه الشاعر مما أدى إلى عدم التزامه بقافية واحدة , وليخرج القارئ من إطار الرتابة والنمطية محافظاً على نمط من التقفية الحرة يلزم به نفسه بما يتفق والتدفق الشعري والنفسي . والجدول التالي يبين حالات تغيير الروي
الروي | الراء | الدال | الجيم | اللام | الميم | القاف | التاء | الفاء | الهمزة | النون |
العدد | 55 | 22 | 4 | 5 | 5 | 3 | 2 | 2 | 5 | 2 |
أما الموسيقا الداخلية أو الجرس اللفظي , له قيمته الجوهرية في الألفاظ وبنائها اللغوي , وهو أداة التأثير الحسي بما يوحيه من السامع باتساق اللفظة وتوافقها مع غيرها من الألفاظ في التعبير الأدبي
ولم يكن معروفاً عند نقادنا القدماء مصطلح الجرس , بل كانوا يستعملون لفظتي الفصاحة المتعلقة باللفظ والبلاغة المتعلقة بالمعنى , ولهذا يقول الجاحظ : " أن يكون لفظك رشيقاً عذباً وفخماً سهلاً , ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً وقريباً معروفا " .
وتكون دراستنا مقصورة في هذا الجانب على المفردات الأكثر حيوية في البيت , ولهذا سنعرض بعض الأمثلة التي تبين أهمية المفردة بما تمتلكه من جرس موسيقي له أثره في البيت . لو أخذنا على سبيل المثال هذا المقطع :
عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ ، |
أو شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا القَمَرْ . |
عَيْنَاكِ حِينَ تَبْسُمَانِ تُورِقُ الكُرُومْ |
وَتَرْقُصُ الأَضْوَاءُ ...كَالأَقْمَارِ في نَهَرْ |
تجد أن حرفي المد في الاسم غابتا أضافة إلى المناخ المعنوي للاسم الموحي باتساع رقعة الخصب وكثافته , فضلاً على تنوين اللام في ( نخيل ) أضاف مدلولها العميق وحرف المد الطويل ( الياء ) الذي أكسب اللفظة بطئاً إيقاعياً .
وخذ قوله : { وقطرة فقطرة تذوب في المطر } لا يخامرنا الشك في كون الجرس الصوتي مرسومة أبعاده في السمع عبر تكرار لفظة ( فقطرة ) الذي يعد تدعيماً إيقاعياً دلالياً مفعماً بالإحياء , فالفاء المقترنة بالقطرة الخيرة تشير إلى الهطول المنظم القليل الكثير في الوقت نفسه .
كما أن ( قطرة ) بدلالتها حين تضاف إلى الفعل ( تذوب ) وبانسجامه المعنوي مع الفضاء الدلالي لــــــ ( قطرة ) يشكل إيقاعاً داخلياً من نوع خاص يتسم بالتهادي والهدوء والتناسق والامتداد ؛ لأن الشاعر يستحثها على التساقط لئلا تمتصها الرض الجافة وتضيع .
وتأمل التجانس الخلفي الأمامي في قوله : ( كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم ) . فحرف السين يتكرر في نهاية الكلمة الأولى ( أقواس ) وفي بداية الثانية ( السحاب ) , ولكونهما من الحروف الصفيرية فإنهما يسهمان في إبراز الخاصية الإيقاعية للقصيدة
ومن مظاهر الموسيقى الداخلية التكرار , وندرسه من زاوية موسيقية سواء أكان صوتاً أم تكرار مفردات مثل : ( السحر , القمر , المطر , الكروم , الخليج , الجوع , الردى ) , أم تكرار بنية تركيبة : ( أكاد أسمع العراق يذخر الرعود – أكاد أسمع النخيل يشرب المطر ) ( يا واهب المحار والرّدى ) , أم تكرار جملة بكاملها مثل : ( كل قطرة تراق من دم العبيد , فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد ) ؛ لأن التكرار يحدث أثراً موسيقياً , ويخلق مجموعة من المحاور التي تغير من شكل التجربة . وندرسه من زاوية لفظية لأن تكرار كلمات معينة له دور في إضاءة التجربة وتعميقها .
وعند دراسة القصيدة نجد أن حرف ( الراء ) فقد تكرر كثيراً تقريباً ( 126 مرة ) الأمر الذي أشاع إيقاعاً اهتزازياً في لوحات القصيدة ما بين انخفاض وارتفاع , اقرأ إن شئت المقطع الأول إذ يندرج هذا المقطع ضمن إطار التكثيف السمعي , وهذا التكثيف ناتج عما حققه صوت الراء من ترنمات صوتية وأبعاد دلالية . ونجد حرف العين قد تكرر كثيراً وحقق هذا الصوت لغلظه وقوته الشديدة وإيقاعه المتكلف دوراً مهماً في الإيحاء ورسم الصورة .
ويأخذ الإيقاع شكلاً آخر وهو تكرار حروف المد الألف كما في : ( المزاريب – الضياع – الأطفال – المراق – الموتى –أمواج – المحار ) , وهذا التكرار أفاد معنى آخر هو الشعور بالأسى والحزن وبالوحدة والضياع , واستثارة هموم العيش تحت وطأة الاحتلال والشعور بالعزلة
وتضم الألفاظ ( الرعود – البروق – السهول – شروق ) حرف الواو والذي أفاد معنى آخر هو استعداد العراقيين وحلمهم بالثورة والمقاومة وتغيير الواقع . وكما في ( نجوع – جوع ) لدلالتها على الحسرة والألم .
وهناك تكرار الحرف داخل الكلمة نفسها كما في ( كركر – دغدغ – شفيف ) وهو إشارة إلى إعلان الفرحة , فرحة الميلاد والبعث والحرية التي تنطلق رويداً مع توقيع العصافير مدغدغة على افرع الشجر . مطر .. مطر .. مطر ...
ونجد السياب يكرّر ألفاظاً بعينها بأغراض شتى ملائمة للمعنى , اقرأ قوله : ( وقطرة فقطرة تذوب في المطر ) , حيث تمثل مفردة ( قطرة ) بؤرة الانطلاق الدلالي وعصب الحياة الرئيس التي يتشكل منها الوقع الإيقاعي في البيت , وهي مؤطرة بملمح كنائي ناجم عن بداية الحركة والحياة , وهو تكرار مفعم بالإحياء , فالفاء المقترنة بالقطرة الخيرة تشير إلى الهطول المنظم القليل الكثير في الوقت نفسه , والشاعر يستحثها على التساقط لئلا تمتصها الرياض الجافة وتضيع .
وفي قوله : ( تسح ما تسح من دموعها الثقال ) , يقودنا إلى القول بأن التكرار في : ( تسح ما تسح ) إشارة إلى كثرة هموم الشاعر المتراكمة في شعوره ولا شعوره , فهي تحمل الإحساس بالألم والشعور بالمرارة ومعاناة الهجر والفراق والبعد عن الوطن والحنين إلى الحرية .
وفي قوله : قالوا له : ( بعد غد تعود ... لابد أن تعود ) . تعكس التكرار مدى إصرار الشاعر على الكفاح والنضال من أجل حرية العراق وتجاوز عبوديته .
وفي قوله :( وكل عام ... في كل قطرة ... وكل دمعة .. ) نجده يبرز حالة اليقظة التي تعم كل شيء في ثورة شعبية تضم أصغر الأشياء وأكبرها لولادة عراق جديد ومستقبل أفضل
ونجد تكرارا آخر ساهم في قوة الإيقاع الموسيقي , تكرار البنية كما في قوله : ( أكاد أسمع العراق يذخر الرعود . أكاد أسمع النخيل يشرب المطر ) . وقد ورد هذا التركيب مكرراً في آخر القصيدة ؛ ليكثف التركيز على الدلالة تارة ويعطي حركة موسيقية هادئة للبيت تارة أخرى مبتعداً بذلك عن دائرة الملل والفتور التي تميت الصورة . فتكرار عبارة ( أكاد أسمع ) لتجسد أملاً اجتماعياً وسياسياً وإنسانياً يتمناه الشاعر وهو الثورة والقضاء على الظلم , كما تدل على أن الاستعداد لهذه الثورة ما يزال في بدايته ولم يكتمل بعد .
ومنها قوله : ( عيناك غابتا نخيل ساعة السحر . يرجه المجداف وهْناً ساعة السحر ) . فتكرار عبارة ساعة السحر أجمل لحظات التحول في مدار الليل والنهار , وهي اللحظة التي يشرق عندها الفجر وينبث النور من تلافيف الظلام , وهذا يتناسب مع تجربة الميلاد والبعث التي يحلم بها الشاعر وتخليص العراق من ليل داج .
ويكرر الصورة , وهو أبلغ أنواع التكرار , وأكثرها تعقيداً لما يحتاج إليه من جهد وعناية ولا يعتمد هذا التكرار على التشابه في إيقاع أو نغم وحركات الألفاظ , إنه تكرار يقوم الشاعر بخلق توازن خيالي أو موضوعي بين حالتين أو معنيين .
ومن ذلك تكرار صورة الأم وطفلها , وهي صورة تلح على ذاكرته في كثير من قصائده , وهي صورة للأسى والحرمان من الحنان الصافي التي ظلت كامنة في لاوعيه جراء موت أمه وهو ما يزال في السادسة من عمره
ومنه صورة العينين , عيناك غابتا نخيل ... عيناك حين تبسمان .. إلى آخر المقطع . ففي القمر والنجوم وساعة السحر وغابتا نخيل وينأى عنهما القمر وفي غوريهما . ما يوحي بالبعد وبالعالم الحالم والمعاني العميقة لا يسهل إدراكها .
وغابة النخيل وورق الكروم والمياه العميقة صور أراد الشاعر أن يخلق منها معادلاً موضوعياً فهو بدل أن يكرر علة حبيبته أن عينيها زرقاوان وأنه عالم بعيد الغور نسج لها صوراً منسجمة متقاربة في جوها العام مع هذا المفهوم , وحبيبة الشاعر هي البصرة ثغر العراق الأخضر .
وعلى كل حال فإن موسيقى السياب الداخلية كانت هادئة ناعمة في بداية القصيدة , ثم انقلبت إلى موسيقى شديدة صاخبة تضج بالثورة والنقمة على الجوع في بقية القصيدة حيث حشد أكبر قدر من حروف الشدة لتعبر عما في نفسه أيضاً من مرارة الحرمان وشدة الوحدة والضياع في الغربة مثل قوله : { وقطرة فقطرة تذوب في المطر , بعد غد تعود لا بد أن تعود } .
3- الجناس كقوله : { خريف وشفيف , تزال وثقال , جديد وليد } .
وبعد فلقد أوقفنا الشاعر على معاناته , ورسم لنا خريطة واقعية للحدث تجلت في هيمنة هذا المستعمر على بلاده , أو الطغيان السياسي المستبد بهم ؛ فدموع العراقيين كالمطر , وغصصهم كوقع المطر , وتشتتهم كتناثر المطر , وما المطر إلا غشاء شفاف خلفه أنين الجياع ودموع المنشدين .
والشاعر يقرر حقيقة تاريخية هي إن إرادة الشعوب لا تقهر , مهما طال الزمن أو قصر , فإن النصر – بإذن الله – حليفها , إنه يحس بحركة التاريخ التي سيفض عنها ختمها الرجال يوماً
حقاً : أنشودة المطر صورة يتلاحم فيها الخصب والجوع , واليأس والأمل , والحياة والموت , وشرخ الصبا ويتم الطفولة , بل يتلاحم فيها الشاعر بالعراق والعراق بالشاعر ...