محاولة استلهام أريج الوردة البيضاء في نص (قيثارة المدينة)للشاعرة هند النزاري
*نص القصيدة:
يَا صَبَاحَ الْعِيدِ هَلْ مِنْ وَرْدَةٍ
فِي زَوَايَا رَوْضِ هَذَا الْكَوْكَبِ
حُلْوَةٍ بَيْضَاءَ فِي أَعْطَافِهَا
رِقَّةُ الْفَجْرِ وَعُمْقُ الْمَغْرِبِ
فِي ثَنَايَاهَا جَمَالٌ مُتْرَفٌ يَتَرَامَى فِي خَيَالِ الْمُسْهِبِ
تَجْمَعُ الْأَلْحَانَ مِنْ صَدْرِ الْهَوَى ثُمَّ تَحْدُو لَهْفَةَ الْمُرْتَقِبِ
تَحْمِلُ الشَّوْقَ عَلَى لَأْوَائِهِ وَتُبَارِي الشَّمْسَ قَبْلَ الْمَهْرَبِ
تَسْتَحِثُّ الْبَرْقَ كَيْ يَمْضِي بِهَا مِثْلَ أَيَّامِ الزَّمَانِ الْمُعْشِبِ
ثُمَّ تَسْتَهْدِي إِلَى وِجْهَتِهَا
بَسْمَةً فِي وَجْهِ شَيْخٍ طَيِّبِ
وَلْتَدُسَّ الرِّفْقَ فِي أَنْفَاسِهَا
مَا اسْتَطَاعَتْ إِنَّهُ الْغَالِي أَبِـي ..
*القراءة النقدية
محاولة استلهام أريج الوردة البيضاء في نص (قيثارة المدينة).
هذه المعزوفة الراقصة أخذت من العيد بهجته ؛ومن الصباح المطل عنفوانه وبهاءه؛ ومن الشاعرة إحساسها الرقيق الخصب الجياش بصدق العاطفة ؛وكذلك أخذت من الطبيعة الناطقة وردتها "الحلوة البيضاء" "ذات الجمال المُترف"
تبعاً لوصف الشاعرة ونظرتها ..
والمواصفات الوردية التي علَّقتها الشاعرة على وردتها المنتقاة تبدو للناظر إليها أول وهلة بعيدة قريبة؛وإلى الكينونة المستحيلة أقرب عند الإمعان والتركيز في المتعلَّقات بها ؛ جرياً على رأي العامة في قولهم : "الغالي يرخص لك "..
وللوردة في عالم الحسن صدارتها ولها مساحتها التي لايحلُّ محلها أحد سواها ..
وهي وإن اتصلت بالطبيعة الكونية المرئية من حيث الأصول والجذور المتشابهة والشكل والانتماء إلى الروض ؛إلا إنها عند الشاعرة تأخذ منحى آخر مغاير تماماً لما عهدناه في عالم الورود ؛إنها وردة لها كيانها المستقل؛ وحركتها الفعالة؛ وأسلوبها الحيوي ؛وديناميكيتها ..
ولنساير شاعرتنا في إبراز وردتها ؛والشروط التي اقترنت بها :
هي حلوة بيضاء ؛تشكل نسيجها من رهافة الفجر الوضاء ؛ومن أسرار غروب الشمس عند المغيب ..
في طيّاتها جمالٌ منعَّم ؛يشي بما حظيت به من بذخ ونعماء؛ إلى درجة أن الخيال المحلق وهو يلاحق تركيبتها ؛واستكناه ماهيتها ؛ومحاولة الغوص في مكنوناتها؛ يعود خالي الوفاض ؛ لايكاد يستقر به القرار على تكوين تصور محدد عنها ؛هي فوق الخيال إذن؛ عندما تنداح تصويرات المتكلم عنها في معرض حديث الواصف المسترسل المتلذذ بمرآها وطرائقها المتعددة عنها في محاولة الكشف عنها؛ وإبرازها إلى حيّز الوجود..
وهي -وردة الشاعرة أعني-لها يدٌ ؛كما لها سمعٌ ؛وبصر وذوقٌ رفيع؛إلى ذلك
فهي تدأب على "جمع الألحان "؛باستمدادها من صدور العشاق المغرمين؛ وبدورها ترسلها في المدى الرحب سيمفونيات مؤثرة؛تحت إدارتها ..
ولها مع اشتعالات الشوق بين الجوانح والأفئدة قصة ذات شأن ومغزى ؛عند نزوع النَّفْس
إِلى أحبابها ،أوتَعَلُّقها بأطيافهم الماثلة في تلافيف الذاكرة ؛تنشدهم الإياب ؛بعد الغياب؛ والعودة إلى نهر التلاقي
فهي ترقُّ لذلك الشوق الحالم ؛على الرغم من (لَأْوَائِهِ) "مرضه وسقامه "الناتجين واقعياً من بواعث الحنين الصاهر ولواعجه؛ وانحصار أزمنة الوصل والتلاقي بين المحبين المغرمين ؛
إزاء تلك العناية الفائقة يفيق الشوق من مرقده ؛ويلتحم معها في سباق الشمس ؛ومنافستها الضياء الساطع الممتد قبل استتارها؛ أو هروبها وسقوطها في خضمّ الظلام الدامس..
يذكرني حمْل الوردة للشوق؛ وملاطفتها له ؛بقول شاعر قديم :
وبتُّ أُداري الشَّوقَ والشَّوقُ مُقْبِلٌ
عليَّ وأدعو الصَّبْرَ والصَّبرُ مُعْرِضُ !
وللوردة ذات الذوق المهذَّب ولعٌ في اجتذاب البرق المرافق لهطول المطر؛ باستنهاضه إلى المسير معها حيث تشاء ؛فنراه على الفور يتجاوب معها ؛ ويتناغم مع طلاقتها وحريتها غير المؤطرة أو المحدودة؛ فيرسل أشعته اللامعة في أجواء السماء فرحاً غامراً واستبشاراًممتداً ؛وسيتلو عن هذا التعالق بينهما اخضرار المحاصيل النباتية ؛شأنها شأن الأيام المتجددة الرافلة في ثياب الفرح؛والزهو؛ والانشراح ؛ تلك الأيام المنضوية تحت تعبير(أيام الزمان المعشب)؛ وكم تتوق نفوس البرايا إلى زمان كهذا الزمان الطلْق الضاحك !!..
وماذا بعد هذه التفاعلات
التي نفذتها هذه الوردة بمقدرة عالية ؛وتأثير ملحوظ؟!
أين انتهت بها رحلتها؟!
إنها "استهدت إلى وجهتها" التي أضمرتها في أعماقها ؛كانت تقصد مكاناً فوصلت إليه في منتهى الدقة؛ وإذا هي الآن
تستحيل بسمة رقراقة مشعة؛هنالك أصدرت الشاعرة أمرها إلى وردتها بقولها "ولتدسَّ الرفق في أنفاسها "والرِّفْق: ضد العنْف ؛وفي الحديث الصحيح "إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ ،وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ"
إذن هي تطلب إليها إخفاء مشاعر العطف؛ والحنان؛ واللطافة؛والوداعة ؛ في روائح عطرها الزكية ؛تريد لها أن تكون بمثابة الهدية القيّمة الثمينة ؛حين تُقدَّم مغلَّفةً بالحبِّ المثالي والتقدير؛ والإجلال؛ لأعز الناس ..
وتختم نصها "بشطر المفاجأة" - في قولها :"إِنَّهُ الْغَالِي أَبِـي "!
فالوردة الاستثنائية النادرة هذه ؛وفي ضوء تلك الأوصاف الأسطورية التي خلعتها عليها الشاعرة؛ أولى بها أن ترسل أطيابها؛ ونفحات عبيرها؛ في حضرة أبيها العزيز الجليل بتؤدة وهدوء ؛هذا الأب الشيخ لايدانيه أحدٌ على وجه الأرض ؛ولايبلغ مكانته كائنٌ من كان؛ولتحمل هذه الوردة الاستثنائية لطائفها؛ وما انطوت عليه من فنون ؛
بعد طوافها محبةً شاعرةً استثنائيةً ؛أحبَّت أباها؛وأناطتْ بها أن تكون رمزاً نابضاً؛ وشاهداً حياً ؛ونموذجاً فريداً للباقة ولين الجانب؛ وما يتصل بها أو يدخل في نطاقها من عرفان وثناء وما إليهما!!
تلك كانت قراءة غير مستقصية تماماً ؛جاءت مواكبة لقصيدة شاعرتنا ؛آملاً أن أكون قد وفقتُ في تسليط الضوء على بعض جوانبها.
وختاماً أهنىء شاعرتنا الملهمة؛ بشاعريتها الأخاذة ؛وحضورها المتميز في عالم الإبداع؛راجياً لها المزيد من التألق والاستمرارية.