وهم
ذات ليلة شتوية باردة، كنت مع صديق قديم -غاب عني مدة طويلة- في طريقنا إلى أحد مطاعم المدينة المشهورة. كانت الأجواء الدافئة والمعتمة داخل السيارة وصمت صاحبي، تستدعي السكينة، مما أضفى على الحديث نوعا من الحميمية، وساعد الإنسكاب الناعم لصوت غنائي مخملي على انعاش الروح لتبوح بحرية صادقة عن مكنونات أعماقها. كنت ممتلئا حماسا وسعادة أثناء حديثي عن ذكريات أسفارنا البعيدة، عن المطارات والمقاهي، عن ردهات الفنادق وسهراتنا الليلية الطويلة. أخذتني النشوة المنعشة إلى الإحتراق شوقا للترحال من جديد إلى بلدان العالم. لكن سرعان ما تحولت المتعة إلى مأساة جمَّدت الشغف والحماس في داخلي!
أشعل صاحبي مصباح السيارة الداخلي ثم التفت إليَّ وقال:
أرجوك، توقف، مزاجي لم يعد يحتمل.
بدا لي صوته متوترا.
بقيت مندهشا لبرهة ثم سألته؛
ما بك؟ مالذي حدث؟
قال بصوت مرتعش؛
لا أريد سماع الماضي، إنه يثير تعاستي!
ارتسمت على شفتي ابتسامة استغراب! تبادلنا بعض الكلمات في نفس الوقت، ثم صمتنا.
نظرت إليه بتمعن، ملامحه المشدودة وعيونه الفزعة حملت أفكاري بعيدا.. هل الكآبة أمسكت به أخيرا؟!
أبطأ السرعة قليلا معتقدا أنه حدس ما أفكر فيه وقال:
لست كما تظن، أنا لا أتعاطى شيئا ولله الحمد، لكن بعد موت زوجتي وأبنائي الثلاثة أصبحت أيامي مضطربة، كانوا يمثلون كل شيء في حياتي لدرجة أنني كنت لا أنظر للوجود إلا من خلالهم، وفجأة رحلوا جميعا وتركوني وحيدا مع قدري المثقل بالألم.
ومنذ ذلك الوقت قطعت كل صلاتي بالبشر، ولم أعد أبالي بفراق أحدهم أو حتى موته.
ظل يحاول كبح دموعه لكنها غلبته في الأخير، سقطت حبات ساخنة على وجنتيه القاسية.
أكمل بعد صمت ثواني:
الوحدة تخفف شعوري بالعذاب والقلق من نظرات الناس الحادة. والآن لا أجد الرغبة في تبادل الأحاديث مع أحد، وكلما أرجوه أن ينسحبوا من حياتي ويبتعدوا عني.
قلت له؛
لكن الوحدة باردة ومظلمة يا صديقي، إنها تبقيك منعزلا، تتأمل المآسي. افتقادك للعلاقة مع الأشياء والبشر ربما تأخذك إلى هوة سحيقة لا تسطيع الخروج منها بسهولة. يجب أن تكون قويا، ولا تيأس إذا لم تجر الأمور كما تشتهي. مأساتك لا يوجد بها أشخاص حقيقيون، إنه الوهم ليس إلا، يجرك من بؤس إلى آخر.
لجأ إلى الصمت خلال ما تبقى من الطريق، وأنا كذلك، ولكن على مضض، تشكل على إثر ذلك الصمت فراغ حذر.
وصلنا أخيرا إلى وجهتنا. كان على جانبي الشارع سلسلة من المطاعم والمحلات التجارية المتنوعة. انعطف يمينا وتوقف على مقربة من المطعم المقصود. حركة المرور الكثيفة اضطرتني للنزول من السيارة لأعطيه الفرصة لركنها في أحد الممرات الضيقة -لم يكن من السهل العثور على موقف في مثل هذه الأماكن- وما أن هممت بإغلاق الباب حتى انحرف باتجاه الشارع وانطلق سريعا. شعرت بالحزن وأنا أراه يبتعد، ورحت أشير باتجاهه وأنادي بصوت مرتفع، وكأن لا أحد في المكان سواي؛
هيه .. أنت .. مالذي تفعله ؟ لماذا تذهب وتتركتني لوحدي يارجل؟
هل نسيت صداقتنا القديمة .. هه .. ألم تقل عنها يوما من الأيام، إنها أفضل من يواسيك حين يخذلك الآخرون ؟
أيقظ انتباهي اصطدام أحد المارة بكتفي، نظرت إلى الوراء، أنوار المحلات تمتد إلى ما لا نهاية، سرت بخطى مترددة، لا تدري إلى أين تتجه. كان في الجهة المقابلة، مقهى صغير، بدأ هادئا وجميلا، رفعت بصرى إلى الأعلى، تنفست بعمق، ثم اتجهت نحوه، وقبل أن أدلف داخله، عاودت النظر إلى الشارع، ودار في خلدي تعاسة صديقي القديم، كم كان احتياجه شديدا إلى امرأة تهتم بشأنه وتلطف بجسدها الدافيء هيجان مشاعره، فمنذ إصابته بطلق ناري أثناء الحرب وهو غير مُصدِّق أنه فقد القدرة على أن يكون زوجا حقيقيا.