تأملات في قصيدة "السراج" للشاعر علي بن هتان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أقف وقفات تأملية، لقصيدة رائعة ، لشاعر مجيد ، القصيدة بعنوان "السراج" ، والشاعر هو علي بن هتان ، شاعر له مشروع شعري، وهو مشروع يقدم الشعر غضا طريا سهلا ممتنعا ، لكنه ناضج فكريا وفنيا ، مشروع يقاوم شاعرنا به كل الظروف التي واجهته ،فتغلَّب عليها ،ولم تُعِقه ولم تُقعِده ، بينما أعاقت غيره، وأقعدت سواه ، فقد نهض ،وسما على كل الجراحات ، واستطاع أن يكون رقما صعبا في خارطة الشعر السعودي بل العربي .
وُفِّق شاعرنا في اختيار ذلك العنوان "السراج" ، رغم أنه مكون من كلمة واحدة ، لكن فيه دلالة عميقة ، توحي بالمقصود منها، باتحاد المنطوق بالمفهوم ، فكأنَّ الشاعر أراد أن يقول لنا أن جده - رحمه الله - كان سراجا منيرا ، يهب النور والحياة والجمال والهدى لمن حوله ، وهكذا قد كان ، وهكذا كل كبار السن الذين تتزين بهم البيوت ، وعند مغادرتهم تخلو من روحها ، وتفتقد بهجتها، ويخفت بهاؤها.
جاءت القصيدة في غرض الرثاء ، وقد قيل لأعرابي :
ما بال مراثيكم أجمل شعركم؟
قال : لأننا نقولها وأكبادنا تتقطع .
فعاطفة الشعراء ربما تشوبها بعض المبالغة في بقية الأغراض الشعرية المعروفة ، لكنها في الرثاء تكون أصدق ما تكون ، وهكذا كانت عاطفة الشاعر علي هتان صادقة وحقيقية .
بدأ شاعرنا قصيدته بذكر عدد من أوصاف جده الحسية والمعنوية، فمن الحسية الظاهرة ذكر :
إنه يتوكأ على عصا ، يمشي بخطوات واثقة ، شعره أبيض ...
ومن أوصافه المعنوية :
صبور ، زاهد ، ذو عقل رزين ، شاكر...
وذكر أنه قسَّم حياته قسمين ، كلاهما في خير ، وعلى خير ، وهذا دأب الصالحين :
أهدى إلى المحرابِ نصفَ فؤاده والنّصفُ بين النّاسِ إحسانٌ ولين
فكان عمره مقسما بين العبادة وبين خدمة الناس .
نجد أن شاعرنا قد نوَّع بين الجملة بنوعيها الاسمية والفعلية ، كل واحدة حسب مقتضاها ،وحسب سياقها ، وحسب احتياج النص لها ، فيأتي بالجملة الاسمية ، حيث يتطلب السياق ثبوتا واستمرارا ، ومنها :
والشّيبُ من تحتِ العمائم ضوؤهُ
وطن البياض
أغصانها الخضراء شابتْ
ويأتي بالفعلية إن أراد حدوثا وتجددا وحركة ، ومنها :
أهدى إلى المحرابِ نصفَ فؤاده
حمل ابتسامته
سل دومة غناء مدت ظلها
وعلى المستوى الصوتي فقد جاء تكرار بعض الحروف المتحدة أو المتقاربة في المخرج ، ومنه، تكرار حرف السين في البيت التالي ثلاث مرات :
فاسأل سحاب العطرِ عن كلماتهِ واغفر لموجِ البحرِ إن بسط اليمين
وكذلك تكرار حروف الشين والصاد كثيرا ، وكل ذلك يعطي النص بُعدا صوتيا جماليا رقيقا .
وعلى المستوى الدلالي، فقد استخدم شاعرنا "كم" الخبرية التي تدل على الكثرة ، وهي تُغنِي عن شرح كثير؛ لما تحمل في مضمونها من دلالات قادرة على توصيل المعنى :
كم طائرٍ غنّى على أهدابها
كذلك وظَّف شاعرنا خاصية انزياح المعاني كثيرا في نصه ، وهذا توظيف موفق، واستغلال حسن لثراء اللغة العربية ، ومن ذلك :
توضّأ من نداهُ الياسمين
أما صرفيا فقد أكثرَ الشاعر من استخدام اسم الفاعل ،وهذا مناسب لأنه يتحدث عن شخص يقوم بأفعال ، وهذا المشتق هو أنسب ما يمكن استخدامه في هذا السياق دون بقية المشتقات :
الصائمين ، الشاكرين ، العاشقين ...
وبلاغيا فقد حشد شاعرنا عددا كبيرا من الصور البلاغية ، وكانت جميعها غير مفتعلة، وأدت دورها في خدمة النص، وتوصيل مشاعر الشاعر ، ومنها :
الاستعارات في :
توكأها الحنين
حيث شبه الحنين بإنسان يتوكأ على العصا ، وحذف المشبه به " الإنسان " ورمز إليه بشيء من لوازمه ، وهو "توكأ" على سبيل الاستعارة المكنية.
هناك قاعدة تقول : حذف ما يعلم جائز ، وهنا أكثرَ شاعرنا من الحذف ؛ لأن المحذوف معلوم ضمنا ، وهذه قمة البلاغة ، ومن ذلك أول بيت في القصيدة ؛ حيث قال :
شيخٌ تقاسمهُ العصا وزر السنين وتكادُ تورقُ إن توكّأها الحنين
شيخ تعرب خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هو ، أي هو شيخ ، وحذف المبتدأ هنا للعلم به والاختصار.
وكذلك يقال في :
جدّي الّذي مزج الصباح بروحه طهرا
كما برع أيما براعة في توظيف حديث نبوي توظيفا مميزا، حينما قال :
أهدى إلى المحراب نصف فؤاده
وذلك من قوله صلى الله عليه وسلم : " ورجل قلبه معلق بالمساجد"
نجد الجناس بجرسه الصوتي الموسيقي بين : يحيى ، أحيا ، والطباق بدلالته على توضيح المعنى بين : بردت ، الجمر
ويبرز التشبيه في : حمل ابتسامتهُ كشمسٍ
إذ شبه ابتسامة جده بأنها مثل الشمس تضيء طريق الناس
وهنا تشبيه جميل آخر في قوله :
كالعيدِ في عين الصّغار
ومَن مثل العيد فرحا لدى الأطفال ؟ّ
استفاد الشاعر من تقديم ما حقه التأخير؛ لتحقيق دلالات معنوية ، ومن ذلك :
كالعيدِ في عين الصّغار لمحتهُ
وترتيب الجملة الطبيعي هو :
لمحته كالعيد في عين الصغار
ولكن تقديم "العيد" فيه من البشرى، وبث معاني الفرح ما لا يكون لو تأخر.
بدأت القصيدة بالتصريع ،وهو توافق حرف الروي في نهاية شطري البيت الأول ؛ مما يهب النص بُعدا موسيقيا قويا منذ البداية :
شيخٌ تقاسمهُ العصا وزر السنين وتكادُ تورقُ إن توكّأها الحنين
القصيدة عمودية التزمت البحر العروضي ، والتزمت التفعيلات المحددة والقافية الثابتة ؛ إذ جاءت القصيدة على بحر الكامل وبه تذييل ، والكامل بحر قادر على استيعاب فيوضات الشاعر من أحاسيس الحزن التي تعتصره لفراق جده، و حرف الروي هنا هو النون ،وهو حرف ملائم جدا لغرض الرثاء ، وإبراز مشاعر الحزن.
أخيرا
كما عنون شاعرنا لقصيدته بالسراج، فقد ختم به، فكان السراج بدءا وختما:
وطنُ البياضِ مع فتيل سراجهِ نام القصيدُ ولم يزلْ في السّاجدين