تسـافرُ به اللحظة خلف قطيعه من الأبل ويزدادُ شوقاً وحنيناً كلمـا رأى قريته من فوق جبال تهامة الشمّاء .. يتكئ برهةً ع عصاه ، ويسبحُ في صوت زوجته " نالة " التي قد رحلت عن الدنيا وهي في شهرهـا الأخير، وتأخذه دمعته بعيداً نحو وجه عمته القاسية زوجة أبيه، صوتهـا مازال يزلزله ويحجَّم طفولةً تصرخ داخله ، وعصاهـا الظالمة ..
ومازال صوتهـا ينادي بقايا ألم ستعيش بين هذه الأبل وتشيخ بينها ..
تقولهـا وهي تمسك بتلابيبه تحملق فيه النظر ، ثم تدفعه للوراء بعدما نفضت يديها ، يطيل هادي النظر وهو يؤمن بأن لعنة الأرواح التي يعتقدها تلاحقه في كل مكان ..
هكذا تمرُ في ذاكرة هادي الأحداث سريعاً ، ويقطعهـا رفيق مهنته أدريس السوداني وهو يهمس له :
يا " شيخ هادي " والله داير أعطيكـ كتاب الجن " ؟
هادي :
كتاب الجن...!!!
أدريس:
أنتظر يا هادي !
كتاب " شمس المعارف "
هل تود أن تملك الجن وتعيش حياتك في أمان أنت وأبلك وأحلامك ؟
هادي :
بكم بكم سعره ؟!
أدريس : بمائة ريال .
هادي :
غالي يا شيخ أدريس والله العظيم !
أدريس :
والله ليس بغالي ..
في السودان يبيعونه بالآلآف !
يفتح هادي حزامه الأسود ويخرج مائة ريال ويأخذ هذا الكتاب بقوة يغمض عينيه بكفيه ، وكأنه رأى فيه انتصاراً لطفولته الشاردة ..
قضى هادي يومه ينظر لكتابه ولا يعلم ما بداخله فهو أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب !
سطورٌ ورموز وطلاسم لا يعرفها ..
يسيرُ يومه سريعاً كلمـا أراد أن يفتح كتابه تعصف به حالة من الخوف ويعود مع رفيقه السوداني أدريس للقرية ..
يعبرُ طريقه كأنه لأول مرة يسير معه ويقذفونه الصبية بالحجارة كالعادة يردَّدون أهزوجتهم الساخرة :
هادي المجنون !
هادي المجنون !
يهربُ منهم ويهرع بأبله ؛ كي يصل لبيته في أطراف قريته يحمل كتابه يشعر بأن كل الدنيا تنظر له ..
يلقي نظرته الأخيرة على أبله ، ويتفقد غنمه ، ويبتسم لدجاجاته ثم يداعب ديكـاً أحمراً جميلاً قائلاً :
عقل عليه بك ..!!!!!!
يفتحُ هادي كتابه يقلب صفحاته يجهشُ بالبكاء كأنه أحس بِشَيْءٍ ينازعه.. يتناول عصاه ويقوم ليصلي على سجادته الخضراء يقرأ المعوذتين ويدعو الله بالعفو والعافية..
كفَّه المسنَّة ترتجف وهي تضع ذاك الكتاب بجانب رأسه ، ويخلدُ هادي لنوم عميق ، عميق !
ليلة هادي تغادره في لحظةٍ باكية ؛ كي يجد نفسه وسط سوقٍ عظيم التقى بزوجته " نالة " انطلق لهـا يضحك ويبكي وكأن العالم لا يسعه فرحاً ،وبينما هو في سعادته الباكية صارعته شكوك وتساؤلات فما كان منه إلا سأل زوجته بفزع ناله ..
من هذا الولد ؟
قالت :
تبتسم وهي تقول :
هذا ولدك محمد ،بالله ما يشبهك
حتى عينيه أليس كذلك ؟
بين كل الوجوه الحاضرة يرى امرأة تحملُ كومةً من الحطب توجس خيفةً منهاقبل أن تقع عينه في عينهـا !
رأى فيهـا ظلماً وسوداً وبكاءً ووجعاً يسري في عظامه ..رأى فيهـا طفولته !
مازالت نظرتها ومازال خوفهـا يسكنه ومازال جسده يشعر بضربتها ورفسها وركلاتها ..
مازال يمسح عن وجهه بصقاته عليه ، تقتربُ منه تحاول أن تعيده لقيودها يهرب من وجههـا متوكأً على عصاه وصوتهـا يلاحقه في كل مساريب عمره نادته زوجته ناله :
كتابك يا هادي ..
كتابك يا هادي ..
التفت إليها خلفه ،ورفع عصاه عالياً ليلقي بهـا دفعةً واحدة على رأس عمته فتسقطُ أرضاً .. !
تلطخت بالدماء يقوم من نومه وهو يصرخُ بقووووة وقد تخضّبت لحيته البيضاء بالدموع تختلجُ في صدره لحظات الانكسار والثأر ..
ومازال صوت طفولته الراحلة يسكنه ويصرخ من حلمه :
فزت ورب الكعبة يا هادي !
فزت ورب الكعبة يا هادي !
علم بأنهـا لعنة الجن الأولى .