- 11/08/2022 blogsandarticleslife
- 11/08/2022 voip phone system service provider
- 01/08/2022 blogsandarticlesworld
- 29/07/2022 I really like what Nigel said to Angelia in the film.
ضوء قنديل [ 151 ]

” تورط في نجدة حمار “
ما إن اكتمل عقدنا حتى قلنا للسائق اتكل على الله. كان بعضنا معه في القمرة بينما غالبيتنا كانت في الصندوق، الصندوق فضاؤه رحب مفتوح يتيح للمدخن أن يدخن وللمغني أن يغني. تحرك بنا “الشاص” وماهي إلا دقائق حتى ابتعدنا عن العمران ودخلنا بعدها في طريق لم يصمد جيدا أمام الطبيعتين التضاريس والمناخ، لذلك كنا نعلو كلما اعتلى الشاص نتوءا من الأرض، ونهبط كلما هبط بنا خندقا، نميل حيث يميل ونهتز كلما اهتز. بعد ساعة من السير على كف زلزال وصلنا إلى الع ْجمة. توقف الشاص فترجلنا ومشينا نحو المسقط المائي المهيب، شلال الع ْجمة كما نسميه وكما نعشقه، نأتي إليه في كل مرة نتأمل الماء وهو يندفع عبر حافة من الصخر الأزرق ثم يهوي إلى قاع الوادي السحيق. إلى اليسار من هذا المسقط المائي تنبسط خميلة كأنما قد اقتطعت من الجنة، حيث تصطف أشجار العرعر متشابكة الأغصان لتصنع باحة وارفة الظلال توازن المسقط المائي من على مصطبة ترتفع عنه قليلا، تفرشها أعشاب خضراء طرية باردة تغنيك عن أكثر الس ّجاد فخامة. في جهة أخرى غير بعيدة عن مكاننا أنزلنا أمتعة الطبخ: قنينة الغاز والموقد وبضع قطع من الآنية فيها قدر كبير وقدران صغيران وعدة صحون وسكينة وملعقة وكبشة وملاس ومنزاع لنزع اللحم إذا استوى. كانت المهام موزعة فيما بيننا وكأنها قانون. هناك من يجهز اللحمة، وهناك من يجهز الأرز، وهناك من يجهز السلطات، وهناك من ندخره بشكل دائم لإعداد الشاي. ومن يتم واجبه يتمدد تحت ظلال العرعر أو يقرأ صحيفة أو كتابا، وعندما جاء دوري وتمددت كنت أحضن جهاز غراوندينغ، ذلك الراديو الألماني الذي يأتيك بإذاعات الدنيا من حيث لا تحتسب. عندما هممت بتشغيل الجهاز لفت انتباهي حمار يقف في السفح المقابل. هذا أمر غريب فالحمير في القرى وحول المزارع أما هنا فأمر غير معتاد. بدأت يدي اليمنى تشغل الراديو وتدير منتخب المحطات بحثا عن محطة، أبحث وبصري صوب الحمار، ثم ما لبثت أن أغلقت الراديو ورفعت ظهري قليلا ثم قمت منتصبا أدقق النظر في أمر ما. كان الحمار يقف ساكنا مثل تمثال، يتكئ على ثلاثة أرجل فقط، أما الخلفية اليسرى فهي مثنية قليلا وحافرها بالكاد يلامس الأرض. رأيت بوضوح معالم تو ّرم يوشك أن يبتلع الجزء السفلي من الساق. اقتربت خطوتين، ثم عدة خطى. ظهر لي التورم، ظهر أكبر وأبشع وأشد إيلاما مما توقعت، كان يحيط بالمنطقة الفاصلة بين الساق والحافر عند المفصل. أوجس الحمار خيفة عندما سمع وقع خطواتي، تحرك بصعوبة بالغة فتغير لحركته وضع رجله المصابة لأرى حلقة معدنية عالقة في منّتصف الورم، غائرة في طبقات من اللحم المهترئ المتورم، والدم المتجلط، والقيح المتخثر. طبقات طبقات في أعلى الحلقة، وأسفل منها، وبان على وجه الحمار أنه يئن ويتألم بصورة فظيعة، بل أوشك أن أقسم لكم أن دموعه تلك لم تكن إلا نشيج كائن حي لا يقدر على البكاء.
لم أجد صعوبة في كسب تعاطف أصدقائي مع الحمار بينما أخفقت تماما في إقناع الجميع بضرورة إسعافه، وتخليص قدمه من تلك الحلقة المعدنية التي علقت بها رجله. قمت عليهم خطيبا فلم يزدهم خطابي إلا إصرارا، بل وتهكما، حتى أن البعض قد وقف على قدميه ليقول لي: هناك العشرات من الناس بحاجة إلى المساعدة ولم تفكر إلا في مساعدة حمار، وزاد بعضهم في تهكمه عندما قال لي أنت عاطفي أكثر من اللازم لأنك
“ولد كهلة”. اتخذنا قرارا، الذين آمنوا معي وأنا، رأينا تجميد حسابنا في هذه الرحلة والتبرع بوقتها للحمار. درسنا الموقف من شتى جوانبه ثم وضعنا خطة تتضمن أدوات العمل وآليته. رأينا أن موقعة التحرير المنتظرة تتطلب مقصا يقص المعادن وحبالا قوية، ولما كانت مثل هذه المتطلبات غير موجودة كان علينا أن ننطلق إلى سوق المدينة لجمعها من هناك ومن ثم العودة بها ثم إجراء مناورات بسيطة ثم ننطلق في موقعة تحرير قدم الحمار. عند عودتنا وجدنا بقية الأصدقاء في انتظارنا وعلى وجوههم كانت مفاجأة، بل كانت المفاجأة الكبرى حقا، ففي غيابنا استولت عليهم الدهشة من تصميمنا على نجدة الحمار، ثم تحولت تلك الدهشة إلى إعجاب ثم تحول الإعجاب إلى انضمام للمجموعة، لذلك رأيت أنمنواجبيأنأضعخطةعملفأناأقودالجميعالآنوعل ّيأنانفذمعهمخطةتجريبية نتدرب فيها لنضمن النصر. في منطقة تواجه منتصف المكان الذي يقف فيه الحمار تمركز أحدنا وفي يده رأس الحبل، وتحرك آخر وفي يده الطرف الثاني للحبل، كنا نتدرب على الالتفاف حول الحمار وإحكام الحبل على أرجله، وفي نفس الوقت كان هناك آخر في يده أنشوطة ينبغي أن تلتف حول رقبة الحمار وفي لحظة واحدة يجب أن يسقط الحمار على جنبه الأيمن ثم نتكاثب عليه وأقوم أنا بقص الحلقة الحديدية وتخليص الحمار منها. نجحنا في طرح الحمار أرضا وفي الارتماء عليه، لكننا لم ننجح في حماية أنفسنا من الأذى، كنا كمن يقاتل فرقة مدربة من حاملي الهراوات، وتعرض اثنان منا لنهشات مؤلمة من أسنانه التي تبدو مثل أسنان منشار كبير قاطع. تلطخت ثيابنا بالدماء، دماؤنا ودماء الحمار، لكننا لم نكترث لذلك كله، بل لم نلتفت إليه لأننا قد عقدنا العزم على نجدة الحمار طوعا أو كرها. استلمت الرجل المصابة وجعلتها بين ساق ّي، استصرخت ثلاثة كانوا على مقربة مني لمساعدتي، مساعدتي في تثبيت رجل الحمار التي كان يحركها بقوه وجنون، مددت مقص الحديد وأنشبته في الحلقة الحديدية بينما رجل الحمار تنتفض في أيدينا ألما، وقبل أن أكمل قص الحلقة انبثقت نافورة من دم وقيح لتغطي وجهي بكامله، بل وتدخل إلى فمي، ومع ذلك واصلت قص الحلقة الحديدية رغم ملوحة الدم والقيح فوق لساني.

-الكائن الذي شرب ترياق الحياة –
السماء تدثرت بسحاب أسود، تسوقه رياح الربيع بفرح عارم، حتى بللت المكان برذاذ حليبها الناعم. ألوان قوس قزح تدلت على المكان في مشهد ينضح جمالا ورقّة، وأزهار نيسان البيضاء والبنفسجية نبتت بين ساقي الخشبيتين. اعشوشب المكان حتى غطّى الصخور الرمادية بالخضرة. عبق السنديان ينزُّ بين حناياي فيختلط مع قبلات الأحبة وحكايا العاشقين. حنين اللقاء والأجواء جمعت العشاق في حضني الدافئ بعد فصل بارد وجاف، بعدها يغادروني تاركين بقايا جوري أحمر ورائحة عطر فاخر فيعود الصقيع على سطحي بالتوهج.
في سويعات الأصيل يضج الممشى بالنساء والأطفال، وبخطى أصحاب الكروش المتدلية ، الذين يبذّرون دقائق معدودة ثم يلقون بثقلهم عليّ كي يستريحوا ساعة، بعدها يغادروني تاركين نتانة عرقهم، وبقايا قوارير ماء خالية ، وفتات كعك وبسكويت أدنياهما بغير قصد نهبا لعصافير الأشجار. أكثر ما يضايقني أن يستريح على صدري من هؤلاء المارة ساعة، ثم يخرج علكة دبقة من فمه بعد أن ملّت المضغ ويلصقها في خاصرتي! استغرب من هؤلاء الكائنات التي تدخر الشحوم في كروشها ومؤخراتها ثم تحاول التفريط فيها خلال ساعة من نهار ! كائنات لا تمل الأكل حتى وهي تمشي أسنانها لا تتوقف عن المضغ! وحين يهجع المكان بعد أن قرض سواد الليل آخر فتات النهار يهجع المكان إلا من صنصنة الجنادب وفراش مبثوث يتراقص على انتصاب أعمدة الإنارة المتباعدة التي تبث ضوءاً شحيحاً على المكان. كل شيء يشح في هذا المكان وكأنها عدوى تسري في الأوصال، حتى أصبح في مهب الخراب. شح المياه وشح النظافة جعلت المكان مأوى للكلاب الضالة والجرذان، ومن لفظته الشوارع فغدوتُ مسكنا وفراشا له. المكان يسع الجميع فهذا الرجل العجوز الذي ينام في حضني بعد أن أثقل في الشرب حد الثمالة وهو يحتضن قارورة الخمر، تقفز القطة على وجهه في مشهد يبعث على النفور ، وتلعق خده ووجهه وهو في سبات عميق، فقد اعتادت شخيره كل يوم في هذا المكان ، ثم تلعق بقايا القارورة حد الارتواء ، بعدها تتمطى على بطنه وتنام. وما أن ينبلج الفجر حتى يتساقط الذباب على وجهه ويستيقظ بتأفف وهياج. يزيح القط عن بطنه ثم يرفع القارورة ويهزها ، يفتش عن آخر قطرة فيها ثم يرميها ويتمطق. بعدها ينهض ويذهب إلى داخل المدينة كي يفتش عن بقايا طعام أو يستجدي المارة باسترحام.
***
هذه الليلة أتى العجوز على غير موعده يتراقص في مشيته وهو في أوج انتشائه وسكرته، ارتمى بثقله في أحضاني ، سقط رأسه على صدره وهو مغمض العينين، تبسم قليلاً ثم أخرج ريحا استمر طويلاً أشبه بمفرقعات نارية. بعدها أخذ ينزّ بوله حارّاً حتى أغرقني به وهو يتبسم بخبث. بللني حد الغرق تماما كمن شرب برميل خمر. أخذ يسعل ويسعل حتى تقيأ كل مافي جوفه، حاول الوقوف بصعوبة بالغة ولكن قواه خارت فارتد على قفاه، فارتطم رأسه بحوافي المدببة وتمدد علّي محتضنا بوله وقيأه ، وزاده الدم بلّة في مشهد يبعث على الأسى والقرف.
مضى أسبوع ولم يُسعفه أحد! كان الجميع يمر من أمامه ويعتقدون بأنه نائم، أو كانوا يتعامون عن موته ، فمثله فائض عن الحاجة والمدينة ممتلئة بالمشردين أمثاله. انتفخ بطنه حتى انفجر، تقاتل الدود والذباب ، والنمل، والغربان على جثته ، فضجّ الممشى من رائحته . أتت الشرطة والإسعاف بعد بلاغات متكررة من رائحة عفنة تفوح في المكان. تم إقفال المحضر قبل فتحه وتسجيل حالة موت لرجل مجهول ولسبب مجهول وتم نقله إلى المقبرة فورا دون تشريح!
مضت أيام قبل أن تخف حدّة الرائحة. لم يعد للمكان أُلفة دافئة أو حنين رطب سوى تباريح الغبار والأوراق المتفسخة ، والفصول تترى وأنا كقبر مفتوح يهفو إلى جنازةٍ طازجة، أشتاق إلى سماع حفيف الأثواب ومواءات القطط ، أشتاق إلى نقر العصافير وهي تأكل بقايا الفتات في حجري، بل صرت أشتاق حتى إلى نتانة العرق الذي ينزّ من الأجساد المترهلة، المهم أن يوليني أي أحد الحد الأدنى من الاهتمام فأنا كائن أتوجع من كابوس الغياب.
في صباح يوم قائظ أتى إلى المكان كتيبة بائسة من العمال، مدججين بالمطارق والمعدات، أخذوا ينبشون المكان، ويقتلعون الصخور والأشجار ، سحقوا الأعشاب والذكريات الجميلة، وصلوا نحوي رفعوا مطارقهم أرادوا تفتيت أوصالي التي سرى فيها الخوف، فأشار إليهم كبيرهم بأن يتوقفوا ! فكأن القدر كان لي كريما في ساعة نحس، أتى لمعاينتي ، تفحصني جيداً، تأملني طويلاً، رفع قبعته وحك رأسه كمن يستذكر معادلة صعبة. أخذ يضرب على كل خشبة في جسدي، والعمال ينتظرون أوامره، تمنيت أن يكون لي في هذه اللحظة أياد كالبشر كي أبتهل بها لخالق السماء كي لا يؤذيني. تراجع قليلا ثم أمر عمّاله بحملي ووضعي في صندوق شاحنته. حمدت الله كثيرا ولكني بقيت على وجل، لا أعرف مصيري ، ولكن ما أنا واثق منه أنهم قطعوا حبل مشيمتي بالمكان، وسأفارقه إلى الأبد.
بعد الظهيرة وبعد انتهاء ساعات العمل، قادني إلى خارج المدينة ، كنت أرى الأشياء تصغر وتصغر حتى تلاشت في الرمال. مشينا قرابة الساعة حتى وصلنا إلى مستودع لخردوات الأخشاب. أنزلني اثنان من الرجال حتى ناءوا بحملي. قبض ثمني البخس على عجل ثم رحل غير آسفٍ عليّ.
بقيت أياما معدودات حتى جاء اليوم الذي رأيت فيه مسامير خاصرتي وظهري مبثوثة في المكان تتناشج بحسرة، قطعوني أوصالا متفرقة، ركموا سواعدي وساقيّ على ظهري وبطني، حتى تاهت ملامحي. حملوني بعدها إلى ماكينة ضخمة، يُسمع أزيزها من بعيد، أدخلوني في جوفها المظلم قطعة قطعة ، مررت على آلة حادة سنفرت ظهري وبطني ، خرجت منها وقد جلت أوساخ السنين ، بدوت في منظر لامع تماما كمن لبس ثوباً قشيباً. بعدها تم نقلي إلى طاولة عريضة بها أنواع كثيرة من الدهانات والأصباغ النفيسة. أخذ العامل يمرر فرشاته الدبقة ويغرقني بألوان السنديان الزاهية حتى غدوت ناصعا كبطن عروس.
بعدها حملني بعناية فائقة وأدخلني في غرفة بها أضواء صفراء ساخنة. بعد ساعة أخرجني منها وقد جف الدهان. أعاد الكرة ، أشربني الدهان حد الشبع، ثم أعادني في الغرفة. بعد ذلك حملني إلى عامل آخر ولكن هذه المرة كانت العناية أكبر، تم تغليفي بورق فاخر ، ثم وضعني في صندوق تم إغلاقه بإحكام.
حُمل الصندوق في سيارة وسارت بي مسافات طويلة. بعدها حُملت في وسيلة أخرى كنت أسمع من خلالها أصوات النوارس والعصافير. تناقلتني الأيدي والوسائل، جالوا بي الديار والمحيطات، حتى نزلت في مكانٍ ينشر الارتياح، مكان يشي بقصر منيف ينضح عطراً وبهجة، انتشرت في باحته سجاجيد حمراء تدوسها أحذية لامعة، وأشخاص في بذلات وفساتين ضيقة راقية أنيقة، وألحان هادئة وعذبة سرت في المكان.
تم فتح الصندوق، وتم تجميعي مرة أخرى ولكن بشكل مغاير، بشكل مربع زواياه قائمة، وبجانبي مجموعة كثيرة بنفس الشكل. بعدها تم نصبنا على جدار القصر الرخامي ، وهكذا انتهى بي المطاف بعد أن كانت أضلعي الخشبية مكانا يليق بالعاشقين والمشردين، أصبحت بروازا لصورة نفيسة رسمها فنان مبدع في متحف أوربي فاخر وكبير .

✍️ “وُجُوه”
كان صغار الحي يتقمصون أدوار عُزير وصبايا الحي أدوار إلياذة.
انتصر حبهما والتصقت أنفاسهما بأرواحهما العارية.
سَألَتْهُ بتردد : هل الحاضر يذر رماد الحرب؟
_ أتقصدين رُدينة؟
_نعم.
همس لقلبها : “إن تقمص الحب أثناء فتيل الحرب، ما هو إلا قنديل تفرغ فيه أرواحنا بعضاً من نزواتنا. وما كانت رُدينة إلا ذلك القنديل. وبانزواء الحرب وإخماد براكينها أرقتُ زيت القنديل وأطفأت توهجه… ولم يتبق سواك”
احتفالات رأس السنة أججت المكان.
جدار عازل ، ألوان قوس قزح ازدانت بها الأجساد. . أقنعة تنكرية تخفي أصحابها.
وصلت إلياذة متأخرة، نضت معطفها، وراحت تجول ببصرها بحثا عن عُزير!…
تشابه الأقنعة صعب مهمة البحث عنه .
تعالت صيحات الصخب، وتمايلت الأجساد فوق بعضها .
استنزف اليأس قواها .
حملت معطفها، وأدارت ظهرها نحو الخروج.
إحدى الأجساد المتمايلة التصقتا بالباب.
صرخ النادل : “فلتسقطوا الأقنعة إيذانا بالانصراف ….”
كل الأقنعة استجابت للنداء، بما فيها ذلك الجسدان الملتصقان بالباب : رُدينة و عُزير…!

اعتذار
على عجلةٍ من أمري؛ لكن صوتَ الملاعق والأطباق في المطبخ جعلني أتريث وأستلقي على السرير في الصالة القريبة من حجرة الطبخ ، ضربتْ بآلةٍ معدنية لا أعرف إن كانت السكين أو طرف الملعقة التي تغرفُ بها لتذوق الطعام؛
المهم أن الصوت وصل إلى مسامعي وهي تقول : ألستَ على عجلةٍ من أمرك؟
ابتسمتُ وحيدًا بين الجدران الأربعة، لم أقل لها إن صوتَ تحريكِ يديكِ تارةً في مغسلةِ الصحون وتارةً لتقطيع الخضار والفاكهة أثار نوازع الحب داخلي، ذهبتُ إليها مسرعًا كي أرى المنظر أكثر،
وجدتُ الأطباق مرتبة نظيفة، الطاولة المعدة للطعام وقد فرشت عليها سفرة باللون الأحمر القاني،
جلستْ على أحد الكراسي لتكمل عملها،
جلستُ إلى جوارها لأرتب معها السفرة، نظرتْ في ساعتها وهي تشير إليَّ بالمغادرة قبل فوات الموعد الذي ينتظرني، نظرتُ في ساعةِ يدي وأنا أتألم من ذهابي الذي سيحرمني من الاستماع لآخر مقطعٍ في النوتة الموسيقية،
أعني صوتَ آخر طبقٍ تغسله وتضع فيه شوربة اللحم المفضلة لدي، نهضتُ مسرعًا ولكن سرعان ما شمرتُ عن ساعدي وقد بقيتْ دقائقُ قليلة على الإفطار، ضحكتْ بأروع صورة وكأنها لم تبتسمْ في وجهي من قبل، قالت عسى مابك؟
على طريقتها، قلتُ لها لقد تأجل الموعد، لم أخبرها بأنني اعتذرتُ برسالة عن
الحضورِ لأمنحَ بسمتها مزيدًا من الوقت لرؤيتها، وضعتُ الملعقة في يدي لأرتشف الشوربة الساخنة وهي تقسمُ عليَّ بأن تضعها هي بنفسها في فمي وأنا غيرُ مصدق بأنني جالسٌ معها والكل ينتظرني بشوقٍ في الخارج.

مع نازك والملائكة أُغني
١ / أمسكُ بيدي فنجاناً ..
تراودني نملة ، أختفي عنها ، تبحث عني ، تشتم رائحتي ، تتسلل إلى مخدعي ،
أرمي إليها قطعة سكر ، تتركها وتتجه نحوي ، ابتسم في وجهها ، تخلع ملابسها ، أغطي بيدي عيوني كي لا أرى عوراتها وأمسك باليد الأخرى فنجاناً ..
تنفجر بكاء وعيونها كالبالون المملوء بالماء حينما يوخز بشوكة ..
شخص من وراء الستارة يراقبها ، يعض بأسنانه شفتيه ويفرك بحرارة كفيه ولسانه يهمس في أذنه : لم النملة لا تشمُ رائحتي ..؟!!
٢ / إتجاهان
صمت طوال أيام السنة ، حينما قَدِمَ رمضان بدأ يغرد ، ملأت الموسيقى أرجاء المدينة ، ابتسم الناس ، لكن أكثرهم بكى ..!
٣ / عرجاء
عاد من رحلته ، استقبلته مجموعة من الضفادع ؛ إحداهن عرجاء ..
لم يبتسم ، لكنه لوح بيده نحو الجهة الأخرى ، غادرت الضفادع ، بقيت العرجاء ، بقيت حتى الصباح ثم غادرت وهي ممسكة وردة ، لكنها غير صفراء ..!
٤ / كوب قهوة
أتناول الشاي بجوارها ، أسترق النظرات إليها ، تتظاهر لي بالخجل وتغطي جزءاً من وجهها ، لكنها تبرز شيئاً من أنوثتها ، يزداد ضعفي في وجودها ..!
أهرب من أماكن تتواجد فيها .. أسدُ بابي ولا أقفز من فوق الجدار ، أحفظ شريطاً في ذاكرتي ، أسترجعه كلما أردت تناول كوباً من الشاي أو القهوة .
٥ / قاض
احتكمت الأم وابنتها عند قاضي المدينة ، كلتاهما تعشق رجلاً واحداً ؛ هو نفس الرجل .،!!
الرجل الهدف تحير أياً منهما يختار ؛ يختار البنت لجمالها وبداية نمو أنوثتها ، أم الأم ذات الأنوثة الطاغية والعقل الراجح ..؟
خلع القاضي عباءته ، واقترب من الفتاة ، همس في أذنها : إنه يشبه أباك وهنالك غطاء آخر يدفئك أكثر حرارة منه ..! أدركت الفتاة مغزى القاضي ، خلعت عباءتها وقالت أنت كأبي ، بل كجدي ، وهو كزوج لي ..!!
٦ / آخرون
نسيتُ قبعتي في غرفتها ،
اتهموني بقراءة الكتاب المقدس .!
٧ / مع نازك
زرته ذات صباح باكر ورحب بي كثيراً ، لكنه طلب مني أن أجلس قليلاً ؛ كي ينهي حواره مع نازك الملائكة التي زارته قبلي بلحظات ، راق لي حوارهما الشعري وانتابتي شعور بالسلام على نازك لولا خوفي من قطع حوارهما ، وكذلك خوف نازك من الكورونا ..!!
٨ / ماء به خرس
يرتفع صوتهما تلك الليلة أثناء العشاء في بيت أمها ، ينتهي خلافهما ويدلفان إلى منزلهما المتساقط طوبه ، كأساً من الماء يتناول أحدهما ، بعد تسعة أشهر وبضعة أيام تلد طفلاً يروي حكاية أبويه التي حدثت قبل أن يشرب أحدهما الماء قبل تسعة أشهر وبضعة أيامٍ ..!!
تُصاب الأم بالخرس ويصاب الأب بعدم القدرة على ممارسة ذكورته مع جميلات الجن ..!!
٩ / ثعلب
ظل يلاحقه ذنبه ؛ اقترابه من زوجة أخيه أيام المراهقة ..
قدم قربان التوبة ، انتحر الثعلب ، انسلخ من أرضه ، أمطرت السماء عليها ، هربت الغيوم ، وتناثرت النجوم ، لكن شبح الخطيئة مازال يلاحقه ..!!
١٠ / ( ديك .. )
في آخر ليلة من شعبان ، فزع من نومه ، ظن أن القيامة قد بدأت ..!
هدأته زوجته ، نظر في وجهها ، ابتسمت ، اقتربت منه ، أصابه غثيان وتوتر ، رائحة المشموم توتره .! فجأة طلب من زوجته الثالثة إحضار ديكاً ملوناً ، قالت له :
ديكنا أبيض الريش ، صرخ في وجهها ، فجاء الديك ذو الريش الملون مهرولاً ، نظرت في عيني زوجها فبكى ..!!

وَحَلْ
تخرج بكامل جسدك، من بوابة علق على جانبها الأيمن، لوحة صفراء كبيرة، كتب عليها بالخط الأسود العريض “إصلاحية الحائر”. تحاول عد الزمن الذي مر، منذ دخولك منها قبل عشرين عاماً، لا ربما اثنين وعشرين عاماً، ينفرط منك عقد الأيام، بقدر مقاومة عينيك للضوء الساطع، في رحابة الشارع أمامك، يشدك منظر المرأة التي تحتضن الرجل، الذي خرج بمعيتك، وهي تجهش بالبكاء، خرجت من عينك دمعة، وأنت تشيح بوجهك للاتجاه الآخر، في داخلك صوت يقول إنها أمه، تتذكر أمك التي توقفت عن زيارتك، منذ عشر سنوات وثلاثة أشهر وسبعة أيام، كانت الوحيدة التي تتجشم عناء زيارتك عقد من الزمان، أخبروك أنها ماتت، ولحقت بأبيك، الذي سبقها بعد إصابته بجلطة عندما قبض عليك
.
في زيارتها الأولى، بعد سجنك بثلاثة أشهر، أخبرتك أن أخاك توظف، وبدأ يصرف على المنزل بسخاء، حتى أنه غير أثاث المنزل، وأعاد دهانه في فترة وجيزة، وأنه يستعد للخطبة والزواج، كانت سعيدة وهي تحدثك، رغم ألمها لفراقك .
استغربت !
في زيارتها العاشرة، أخبرتك أن أخاك خطب ابنة خالتك التي تحبها أنت! تمزقت في روحك كل رسائل الحب والعهود، وأيام تلظت بحرارة الأشواق، احتبس البكاء في داخلك؛ فهو يعرف العلاقة بينكما! وهي كيف وافقت؟ انقطع أول خيط لك مع الحياة .
في آخر زيارة لها، أخبرتك أنهما رزقا مولودهما الثالث، وأنها طلبت تسميته على اسمك!
تدور عيناك في فراغ الطريق أمامك، حيث ينتهي كل شيء بالصمت، إلا من ضجيج داخلك، وأنت تنتصب في وسطه بحقيبة ملابس عتيقة، وورقة مستطيلة، تبللت بعرق يديك، وأنت تقرأها في كل مرة، لتتأكد من الرقم المكتوب، “مليون ريال”، لا يصرف إلا للمستفيد الأول الذي هو أنت، تعيدها إلى جيبك، تتوقف بجوارك سيارة أجرة، يشير لك صاحبها بالركوب، تفتح الباب الخلفي وتلقي بجسدك المنهك على المقعد، وبكلمات مبتورة تخبر السائق عن وجهتك وعيناك تودع اللوحة، وتتساءل ماذا أصلحت في داخلك المهشم؟ تظهر صورتك في المرآة الأمامية، تذهلك تجاعيد وجهك الذي استطال من شدة النحافة، تتأمل أصابعك التي فقدت بعض الأظافر كل شيء متيبس فيك حتى المشاعر .
تراقب الطريق عبر النافذة، تمر الأشياء سريعة أمام ناظريك، تعطيك ملخصًا موجزًا لما حدث، وأنت خلف الأسوار، تعيش في لحظة بين الحقيقة والخيال لائذًا بصمتك، لم تخبر أمك عن اليوم الذي أخذ فيها أخوك العاطل سيارتك كالعادة، ولم تخبرها عن بقع دم على ملابسه، وجزء من يديه، لمحتها وهو يعيد لك المفتاح، ولم يمهلك لسؤاله، لم تخبرها عن حالة الفزع التي أصابتك، ورجال الشرطة يحملون أدلة جريمة لم ترتكبها من شنطة السيارة الخلفية، لم تعترف لأنك لا تعرف شيئاً. ولم تخبرها حتى لا تثلم فرحتها بوظيفة أخيك، وقراره بالزواج، وكان هذا كافيًا لإسعادك .
قبل أسبوع أُشعرت أنه سيفرج عنك، لأنهم قبضوا على المجرم الحقيقي، بعد أن أفشى سره شريكه المصاب بالسرطان وهو يحتضر، اليوم أعطوك شيكًا تعويضيًا و أمرًا بالإفراج .
ها أنت تقف أمام باب منزلكم تغيرت ملامحه، والجوع ينهش أمعاءك وروحك، يصلك صخب أطفال يلعبون في الداخل، وأمهم تحدثهم بصوت تعرفه جيدا، استندت على الجدار، وجلست وأنت تخرج الشيك من جيبك، تطالعه للمرة الأخيرة، ترتخي يدك ويسقط، تحمله هبوب خفيفة في طريقها، وروحك تحلق خلفه بهدوء!
.

ريان
محمود منهمك في العناية بمزرعته ، ريان يلعب بجواره ، فجأة اختفى ، ذعر محمود ، بحث عنه بسرعة ، خوفا عليه من البئر العميقة ، لم يجده فيما حوله ، نظر في البئر ونادى وقلبه يكاد ينفطر : يا ريان ، يا ريان ، أين أنت يا بني ؟ ارهف السمع لعمق البئر ، وهو يجهش من الخوف ، جاءه صوت بعيد ، التقطه بصعوبة ، قال : هل أنت لي البئر يا ريان ؟ جاءه صوت بعيد : أخرجني يا والدي . انفطر قلب محمود ، واسودت الدنيا في عينيه ، صاح بأعلى صوته من اللاشعور : ، يا ريان ، يا ريان ، سمعته زوجته خديجة ، جاءت تجري ، وهي خائفة وجلة ، ما باله ريان ؟ أشار لها محمود إلى البئر ، وهو في غاية الحزن ، وقال لها : وقع في البئر . صاحت بكل صوتها ، يا ريان ، يا ريان ، فكر محمود وفكر ، انطلق لمقر الشرطة بسرعة يبلغهم بأن ابنه وقع في البئر ، طلب منهم مساعدته باخراجه ، سمع أهل الاعلام ، نشروا الخبر في كل مكان ، في يوم وليلة تضامن العالم معه ، وتعاطف مع والديه ، بدأت الحكومة تحفر بجوار البئر ، الوقت يمر ببطء ، الناس ينتظرون ماذا يحدث ، وقلوبهم خائفة على ريان ، الوالدان يتألمان ، الكل خائف على ريان ، طال الوقت ، وفي مساء اليوم الخامس ،اعلنوا أنهم وصلوا إلى جسد ريان ، التقطوه وهوفي حالة يرثى لها ، انطلقوا به إلى المستشفى ، زاد خزن محمود وخديجة وخوفهما ، الكل ينتظر اخبارا طيبة ، طلع مذيع النشرة الوطنية ، قال وهو حزين : بكل حزن والم نعلن وفاة الطفل ريان ، متأثرا بجراحه ضج المكان بالبكاء ، انهارت خديجة ، ولم تعد قدماها تحملانها ، تماسك محمود بصعوبة ، أعرض ابو ريان عن كل ضجيج العالم، وانحشر في زاوية من البيت يناجي ربه بصمت..

المهر
كانت تمشي بخطوات بطيئة والحزن أكل شيء من جمالها ، وقفت أمام والدها والخجل يكسو وجهها وقالت بصوت هادئ: لقد سمعت صوتك تناديني
تفضل أبي ما الأمر؟
⁃ هلا ابنتي الغالية حصة .
⁃ تدرين مر على وفاة المرحوم سليمان زوجك سنة وخلال هذه السنة أكثر من واحد تقدم لخطبتك لكن ، كنت أقول في نفسي سأنتظر فترة وفاءً لزوجك الراحل وحتى تستعدي نفسيًا و يمر بعض الوقت العمر، يجري يا ابنتي يمكن الله يرزقك بذرية ينفعونك في كبرك أريد الاطمئنان عليك وهذا يشغل بال كل أب.
⁃• حاضر أبي العزيز أنا طوع أمرك.
انكمشت في ، مكانها على الكنبة المرتخية في صالة البيت ، وسرحت في حديث أبيها وشعور غريب يختلج في داخلها ..
يوم زواجها الأول كانت ، وقتها تبلغ من العمر اثنين وعشرين سنة مازال فستانها الأبيض يترنح في دولابها لم يتغير فيه شيء وبقت مع سليمان خمسة عشر سنة ، وهي الآن على عتبة الأربعين ترى ماذا كتب لها القدر ؟ هذه المرة كانت غريزة الأمومة تراودها في كل حين ، تتمنى أن ترى بطنها أمامها كبقيت المعلمات ، في المدرسة لكنها صبرت وكانت ترى فرحتها في عيون تلميذاتها تحضنهن تبتسم لهم كم من مرة تلمّح لها حماتها وتسمع همسات أخوات زوجها وكأنها هي المذنبة، مع هذا كانت تبلع حزنها وألمها بصبر ،حتى أمها لم ترحمها من السؤال: حصة ألم تراجعي الأطباء؟ هل العيب منك أم من زوجك ؟
كانت هذه الكلمات كالسكاين تقطع فيها. ظل الصمت رفيقها و المعلمات في المدرسة يتهامسن ، تقول إحداهن في حضورها :صدري يؤلمني ،تراكم الحليب في صدري اليوم الدراسي طويل ساعة للرضاعة لا تكفي .
مما تجعلها تعيش لحظات من الصعب وصفها ، تتمنى أن يكون لديها هذا الإحساس تتحسس صدرها لا شيء أحيانا كانت توهم نفسها بأنها ترضع طفلها وهي تداعب دميتها ،و هي تحاول أن ترضعها من ثديها في غياب سليمان من البيت.
تركت مكانها ودخلت حجرتها في بيت أبيها وفتحت أنوار الغرفة ووقفت أمام المرآة .
تحسست وجهها، لعبت في خصلات شعرها تناثرت الرقاق الأبيض في خصلات شعرها كأنها أقمار أضاءت سواد شعرها
إذن سأتزوج للمرة الثانية لكنني خائفة كبرت شيء من عمر الزواج المعتاد لا أدري ماذا ينتظرني ؟ منذ سنة وأنا لم أخرج من البيت إلا نادرًا،حتى عندما أنهيت العدة كانت على أبواب الإجازة الصيفية منذ ثلاث شهور رجعت إلى عملي لكنني طلبت نقل إلى مدرسة أخرى، خفت من نظرات الشفقة أو الشماتة في هذا العالم الغريب كل الألسنة تتحدث تجرحني في أحيانٍ كثيرة حدد والدي الأسبوع القادم زواجنا طلب مهر بسيط لأنني أرملة
يا إلهي كيف أدخل على رجل غريب لم أعرفه من قبل سوى النظرة الشرعية كما يقولون ذهبت إلى صالون التجميل بعد إلحاح من أمي أن أصبغ شعري غيرت اللون تمامًا صبغته باللون الكستنائي وضعت لي المجملة بعض المكياج وقفت أمام المرآة مرة ثانية لقد تغير شكلي في ليلة الزفاف كنت أرتجف خوفا وهو يقول اقتربي لا تخجلي لا يدري ما يشغلني
فجأة صرخ بكر أنتِ بكر!!!

ذاكرة صغيرة ..
– منصور !
-نعم !
-هيا نخرج قبل أن يمسك بنا صاحب المحل.
– صه! فلننتظر حتى يقفل المحل؛ ثم نخرج من النافذة الخلفية.
لم يدم طويلاً انتظارنا؛ أطفأ الإنارة؛ أوصد قفل الدُرج.
لم يكن همنا المال؛ هدفنا كان سرقة بعض الألعاب والدُمى للمباهاة بها أمام أترابنا.
-منصور! أنا خايف.
-لا تخف .
تخبطنا ونحن نتلمس الطريق إلى النافذة ؛ الظلام زاد من ارتباك صالح ؛فوطئ برجله لعبة الجمل الصغير فصاحت:
“سمّو الجمل مرة سفينة الصحراء. وحامل الأثقال بقمة الجبال”
سقطت قلوبنا الصغيرة على الأرض؛
أسرعتُ لإسكاتها .
وصلتُ أولا للنافذة؛ فتحتها ببطئ؛ ولج نور خافت ساعد صالح في الوصول؛ نحول جسمي ساعدني على الوثب بخفة للخارج.
حاول صالح القفز فلم يستطع.
جمع أشتات شجاعته، أغمض عينيه وسط تشجيعي وقفز، ارتطم رأسه بصخرة فسقط مغشيًّا عليه.
سِنون مرت على فقدان صالح لذاكرته إثر تلك الحادثة .
زرته الليلة بيدي إحدى الدُمى.
فرح بها وكأنه لا يزال طفلاً.
أخذها مني وراح ينشد معها.
دمعت عيني وأنا أشاطره الحداء :
“سمّو الجمل مرة سفينة الصحراء.. وحامل الأثقال بقمة الجبال”.

” صرخة “
تبًا لكم هجرتموني واعرضنم عن أصالتي
يكفيني فخرًا أن عرق كفاحكم ، وسهركم كي تتقنوا أناقتي حتى أظهر حين ولادتي إصدارًا مميزًا لكنني مللت المكوث في أرفف كئيبة.
انبرى له سناب وتيك توك ويوتيوب وتوابعها بصوت واحد :
– ازعجتنا بنواحك، انتم ابها العرب خاصة من دون مسلمي العالم زرافات ووحدانًا مصدر بقاء توهجنا ، في مسقط رؤوسنا نحن الغرب لا نضيع او قاتنا طيلة خمسة أيام لا نعبأ فيها بمواقعنا، ولا نشاهد برامج تلفزيون ولا نستمع الإذاعات، يومين فقط لهواياتنا والمطاعم واللهو …وساعتين باليوم للقراءة في كتب ، قصص ، روايات، تراجم اختراعات ، لانتايع اي نشرات اخبار ولا تحليلات سياسية .
في ايام الدوام نتناول إفطارنا ، ومع تناول أقداح شاي الصباح نتصفح عناوين صحف ورقية يدرجها موزعون ناشطون تحت باب الشقة ….
وأضاف، ومن المؤسف ان قرآنكم المقدس تتلونه من هواتفكم النقالة و تحفظوه مع صور وفيديوهات في ملفات وربما إذا أتخمت ذاكرتها، تعمدون لحذف ملفات كتابكم الكريم .
صمت الكتاب ثم انفجر غاضبًا :
– ياللعار … لا تثريب عليكم اهجروني لكن كلام الله تتلونه من هواتف نقالة… سأصمت إلى الأبد واصمد لعل يومًا بزمن قادم وقد ألغت مواقعكم الإلكترونية مجانيتها .. تبحثون عني وقد ابتاعني الغرب ليصدروها لكم بأثمان باهظة..ولات حين مناص .

سهم الزمن ..
الزمن محبوسٌ داخل دائرة يكرر نفسه، وأنت الأبله الذي يعيد أخطاؤه في كل فرصة حياة.
السنة الرابعة لي ما بين هذه الرموز الفيزيائية، تشحن مخيلتي بالعديد من الأفكار لاستعادة الزمن، انتظر نهاية هذه الجولة في حياتي، لأبدأ من جديد حياة واضحة المعالم.
الحياة مغرية بلا أخطاء، بلا عثرات، حياة معلومة النهايات، مكشوفة الأقدار، غير أن هذا الوباء يهدد أحلامي بنجاحٍ مجاني، الجامعة تتوعدنا بالنجاح خوفًا من كورونا، وأنا لا أريد أن أنهي دراستي قبل العثور على ثقب دودي في جسد هذا العالم، يمكنني من السفر إلى الوراء، ويحقق رغبتي في تصحيح حياتي.
أتمنى أن يمهلني هذا الوباء قليلاً، عالَم الضوء الداخلي أصبح مفهومًا بالنسبة لي، فوتوناته تطاوعني كثيرًا. أعتقد أنني قريبٌ من مهمة امتطاء ظهر فوتون مطاوع، يقفز بي نحو الزمن الماضي، ويحقق اتصالي به، أتجول بين الوقائع الأكثر إيلامًا، وحينها أقوم بدوري، أعيد ترتيب الفوضى في خطتي، أعتق ذاتي من لحظات الوجع، لكن هذا النجاح الإجباري إن وقع سيعطل أحلامي.
أقسم لكم أنه لدي مجموعة من اللحظات الشائكة التي لطخت حياتي، صنعت لي مشاكل لا حل لها، إلا بالعودة إلى الوراء وإطفاء جذوتها من تاريخ الزمن.
أعلم أنكم تريدون أن تتعرفوا على هذه المشاكل أو حتى بعضها، صحيح أنها سرية وخاصة، بل وخاصة جدًا، لكن لا بأس سأعتبركم من أفراد أُسرتي التي أنجبها ماء لا مسؤول، أهم مشاكلي يا رفاق ظهر جدي المزدحم بماءٍ دبق، يثرثره هنا وهناك، في الظلام والنور، وما أن يقذفه في ظلام امرأة حتى يتشكل وجوهاً قاسية. أنجب لأمي الكثير ممن يسمون أخوة وعليّ مناداتهم بخال وخالة، وخلال حياة كاملة ملزوم بتقبيل أيديهم، وخدمتهم والتنازل لمؤخراتهم بالمقاعد الأمامية، مزيج من السقوط الأخلاقي: الداعر، السارق، المنافق، المتطفل.
أمي إلى لحظة الكتابة تلزمني بالتلطف لهم، وكلي رجاء أن ينظر إليهم كورونا، لا ألوم أمي على قسوتها، فهي فرعٌ صغير من شجرة القسوة العتيقة، وهذا لا يعني أنني متصالح مع اغتصابها لي. حادثة الاغتصاب تلك أيضًا من المشاكل التي تحتاج إلى عودة لنقطة البداية فيها وإطفاؤها، كنت صغيرًا في الرابعة من عمري، وأصبعها يحفر في بوابة جسدي السفلى، أشتكيت لأبي فرد بضحكة حفرت جرحي، أختي الكبرى تشارك في مهمة تثبيتي:
“أصبر .. سنخرج الدود وتنتهي الحكة”
سيلٌ من الأخطاء الصغيرة في تاريخي، عملقها تضخم سهم الزمن، ولا بد من عكسه، والقبض على اللحظات الزمنية التي تقع قبل السقوط. اللحظة الفارقة التي تسبق تجربة التدخين الأولى بلفافة من ورق الجرائد، اللحظة التي بإمكانها عرقلت اكتشافي الثقوب في جسد ابنة عمي، اللحظة التي تفصل بين تسليمي ورقة الإجابة لأستاذ مادة “النظرية النسبية” وتذكري قصاصة الغش بداخلها، اللحظة البلهاء التي تسبق تحرشي بامرأة مستديرة، تنتظر نجاحي لأدفع ثمن غلطتي وأقضي ما تبقى من عمري مدفونًا بين طيات بطنها.
اللحظة الحاسمة في تاريخ البشرية اليوم، التي خلقت الفاصلة المنقوطة لما نحن فيه، إنها اللحظة المتهمة باللعنة عندما فغرت فمها السيدة الصينية الأولى، لتلتهم خفاشًا موبوء، آه لو أنني أستطعت القبض على تلك اللحظة وإنقاذ حياة هذا العالم الممزق، أعدكم أنني سألقمها ضبًا حيًا وأتركها تتحشرج بذيله الشوكي، وفي أحسن الأحوال سأعوضها بجربوع ذي شوارب لطيفة، وقد يكون الأخير أكثر قبولاً لديها، فهي بكل تأكيد صاحبة سوابق مع أخوته الفئران.
أرأيتم كيف أنني أمتلك رزنامة ضخمة من الأيام المتعرجة، ولدي من التلهف ما يكفي لإجبار الزمن على الاستدارة، وتمزيق تلك الأيام من عمري، لكن كورونا جاء ونسي أن يحضر معه مفتاح بوابة الزمن، أم أنه هو خارطة الطريق نحو كون آخر؟ .. ربما.
قاطع ثرثرتي الصامتة رنين هاتفي ليخبرني برسالة نصية جديدة:
“نظرًا للإجراءات الاحترازية تم اعتماد تخرجكم من الجامعة” .