- 24/04/2023 شدو الأعياد
- 20/04/2023 newtopbestblogger
- 02/04/2023 businessmenudirectory
- 24/12/2022 كلية العلوم الإنسانية ونادي أبها الأدبي يحتفيان باليوم العالمي للغة العربية
ضوء قنديل [ 172 ]

الخاتم
تغافلَ أنه يحملُ في إصبعِه خاتمًا وذهبَ يبحثُ عن غيرها ، نزوةٌ ولا سواها صنعتْ غشاوةً على قلبه الذي عشقها ، تطيبَ بأجمل طيب، تأنَّقَ كما لم يتزين من قبل، نسيَ أنها قالت له بأنك أوسمُ واحدٍ في هذه الأرض، كان متواضعًا وهو يراها الأجمل، كلُّ هذا حدثَ في لحظةِ ضعف، لم يتحركْ فيه ساكنٌ وهي تسأله إلى أين في هذا الليل وبكل هذا العطرِ الفواحِ والأناقةِ التي ذكرتني بأجمل أيامنا؟ كذبَ عليها لأول مرةٍ وهو يغادرُ بسمتها التي غلفَها بعضُ الحزن ؛ لأولِ مرةٍ يشعرُ بمرارةِ حزنها وكأنها تشكُ في تصرفه ، أغلقَ البابَ خلفه كي لايزيدَ تفكيرُه فيها وكلُّ همه أن يعيشَ جوَّ العاطفةِ الجديدة، وصلَ وعلى ملامحِه بعضُ الندم، تبخَّرَ عطرُه واختفتْ رائحتُه ، وضحَ عليه الارتباكُ ولم يحسن حديثَ الغزل؛ فلم يكن في يومٍ من الأيامِ ألعوبةً تعبثُ بها النزوات، استقبلتْه بتعالٍ وقد بانَ حالُها ، جلسَ فلم تعجبْها طريقتُه في الحديث، طلبتْ منه أن يزيلَ الخاتمَ من إصبعه ، تريدُ أن تمحوَ بعضَ ماضيه لتتشبثَ أكثر ، فطنَ إلى نواياها، ارتسمتْ أمامه صورةُ حبيبتِه الأولى التي وضعتْ أوَّلَ خاتمٍ في إصبعه ومعها ابتسامتها الساحرة، رفعَ كفَّه قريبًا من وجهه يتخيلُ الماضي ، نادى باسم زوجته بلا إرادةٍ ثم تركَ المكان للأخرى ، عاد إلى بيتِه برائحةِ العرقِ واللسانِ الذي فقدَ خاصيته، طرقَ البابَ بعد وقتٍ قصيرٍ من مفارقته إياه، استقبلتْه بضحكتها الساحرة ، سألتْه عن سببِ عودتِه ولم يجبها ، طلب منها أن تلبسَ أجملَ ماعندها دون تفسير، سبقَها قبل أن تسأله لماذا؟ اختارَ لها خاتمًا أنيقًا وذهبَ بها لقضاءِ ليلةٍ خارجَ المنزل، قالت له : تصدق!! إن هذه الليلة توافقُ الليلةَ الأولى لزواجنا، تنهدَ وهو يخفي غلطةَ العمر، اختار مكانًا أنيقًا يليقُ بخاتميْن جديدين ، أغمضَ عينيه كي لا تَحضُرَ صورةُ مشهدِ الخديعةِ التي نوى فعلَها ثم فتحَهما وهي تتأملُ ملامحَ وجهِه الذي عرفتْه ، تناولا العشاءَ وكأنهما يلتقيان لأولِ مرة، رفعَ إصبعِه أمامَ وجهِها وفي نفسِه سرٌّ لا يريدُ أن يفصحَ لها به.

مرضوضة
كانت النساء في أرضنا يُولدن عظماء، ثم يرحلن بصمت.
بعضهن- في متوسط العمر- تصعقهن دفقة ماء دافئة في شتاء قارس. تنتفض أجسادهن المُتعبة، وترقص آلاف الشياطين داخل شرايينهن، فرحين بزف هذه الأجساد إلى عوالم العدم.
ومنهن من يهرمن وهن في الرابعة عشر من ربيع حياتهن!
أختي مثلا؛ وُلدت يوم اكتمال القمر، فسُميت قمر. كان وجهها دائريا كالبدر في تمامه، مُشرقا وضاءاً.
كانت ترقص على خيوط الفجر، فيرقص كل شيء في المكان. الناس تمشي على وقع رقصاتها. الأمهات تُناغي أطفالها حسب ضحكاتها المتناثرة كل حين في الفضاء.
وبدأت تكبر يوما بعد يوم وفي ليلة زفافها تخشبت!
زفتها الأحبة إلى بيت الأحلام. هناك في ليلة العمر وجدت مسخا ينتظرها؛ فزعت، انتفضت عروقها، جمدت دماؤها وسرعان ما يبس وجهها!
وحين قفز ذاك الهيكل خلفها؛ بقيت ثابتة،حرّكها ،لم تستجب ،سقطت مثل خشبة منخورة.
بنت الجيران حكايتها أغرب. لقد حملت دون رجل!
ووضعته برأس ديك وجسد أرنب. اختبل الملأ في هذه الأرض العجيبة.
لم تُرجم. حُفرت لها حفرة قرب “المزبلة” ؛ وُئدت أمام أعين الناس، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم!
أما المرأة العجوز ، فهذه قصة مُحيرة!
تقول : أنها خدعت الموت أكثر من مرة بعد أن قتلت سبعة أزواج!
الزوج الأول، جعلها عبدة فرضيت في سبيل حبها. استعبد جسدها أولا ثم بدأ يسرق ضحكاتها. بعد سنة أراد عينيها. أزعجه وجهها البشوش؛ فسجنه في خوذة أسلاك! لعبت به الهواجس، أرجحته فوق حبال الشكوك. طالبها بالخضوع التام؛ فرفضت.
وذات ليلة وجدوه هائما على وجهه ويُقال أن كلبا مسعورا مزقه!
والستة الباقين ؛ منهم من أراد أن يُقامر بها فوق منضدة لعبه، ومنهم من أراد روحها قرينة لروحه، آخر وجدها جسدا يُشبع نهمه ويتفضل به على الآخرين. لكنها تمكّنت من كشفهم في الوقت المناسب.
فهاهو الثاني قد فقد عقله، والثالث بقي بنصف وجه. الرابع انشطر شطرين؛ شطر بساق اصطناعية وشطر برجل مريضة!
الخامس هرب في الثانية الحاسمة؛ حملته كفي عشيقته القوية.
السادس مات حتف أنفه. السابع صُلب ظمآنا قرب النهر.
تجتمع الصبايا لسماع حكاياتها العجيبة وهن يضحكن.
قالت واحدة:
-وهل ماتوا كلهم!
وتبتسم ابتسامة عميقة، لايفقهنها:
-لقد تفرّقوا في الأرض مقهورين، لكني رأيت مصارعهم في الحلم!
ركض الموت خلفها، خاتلها، كمن إليها ولكنها دفعته. هاهي حية بعد كل هذه السنين. لا أحد يعرف عمرها على وجه الدقة. وعندما تُسئل، تقول:
-وُلدت في ليلة النجوم!
يدهش الجميع..
-أية نجوم!
فتضحك ضحكات مُجلجلة،تتردد أصداؤها في الوديان.
تغمض عينيها وتتذكر:
-كانت ليلة غاب عنها القمر، ترك النجوم تُضيء مدة غيابه، فقد كان في عجلة من أمره ولم يعد لعدة ليال!
وتروي الجدات عن امرأة ماتت وعمرها ست سنوات، ثم أتت من جهة الشمالبعد مائة عام!
كل مواليد ذاك اليوم؛ كبروا، تزوجوا، خلّفوا ذرية ثم صاروا جدودا ورأى البعض أحفاده وشاخوا وهرموا ،بقيت واحدة نساها الموت، وأخذها الدهر نديمة، هي وحدها التي نقلت قصة تلك المرأة، لكنها اليوم مزارا في بقعة صغيرة، نُسجت حولها الأعاجيب!
وفي سنة من السنين؛ جاء رجل غريب، بدا أنه من غير هذه الأرض، يحمل معه كتبا ودفاتر.
ساكن أهل هذه الأرض؛ فتّش عن أحوالهم، أخذ يُدون كل كبيرة وصغيرة.
يجلس في الصباح تحت شجرة العوسج الظليلة، يُدخن غليونه وأنامله تخربش حروفا غريبة ،كأنها ذبابة تتحرك فوق الأوراق البيضاء!
في الليل،يغشى مجالسهم،يستمع إلى أحاديثهم، يقرأ لحظات الصمت في وجوههم، يشرب قهوتهم، يضحك معهم، يتحدث بلكنته الغريبة ثم يقبض على غلّته ويمضي.
لكن تلك المرأة وجدت قصتها في أحد دفاتره؛ غضبت. قرب الفجر، تطاير الدخان من داره.
يُقال أنه احترق مع كتبه وقراطيسه.
وهذه القصص ،بضعة أوراق ناجية من تلك المجلدات وصلت إلينا بصدفة عجيبة!
على إحدى الأوراق، خُط إسم مرضوضة!
ولكن لم تذكر قصتها وربما تكون قصتها قد أكلتها النار. وهذه الأوراق ملخبطة، استطعنا استخلاص هذه القصص مع مقارنتها بأقوال المعمرة والبقية لا يُمكن معرفة الحكايات لأنها كلمات متفرقة!
لكن ما أثار دهشتي أنني عندما سألت تلك العجوز عن شخصية “مرضوضة” ؛ تغيّر وجهها، احمرت عيناها، تناولت عصاة طويلة ذات رأس خشن، ضربتني فوق جبهتي، ففرت منها وأنا أفكر في أمرها.

(في موكب حب)
قالت وهي تتأمل قوافل النجوم في ليلة ظلماء :
آه لقلبي.. لأمنياتي التي لفظت أنفاسها في عمق ذاتي.. وآه لحب طفولتي.. وعذب صباي.. وآه من ليال عصفت بسجيتي.. وآه من جميل الروح وعطر أنفاسه يعبق بأجوائي.. ويتهادى على بساط سندسي في أروقة دروبي.
في عتم الليل وسكونه.. في وحدتي وتأملاتي كنت أتوسد السهاد.. وأتعاطى القلق والتوتر.. أتدثر موجات اللوعة.. يتبعثر تفكيري.. وتتبادر إلى ذهني ظلال أمنيات أخالها توقفت وتجمدت على جسور الزمن.
أقصى أمنياتي لقاء ذاك المتوشح بشال حريري ناصع البياض كنقاء السماء
يشاركني معاناتي في دروب رحلاتي.. يفهمني دون شكوي.. يدونني في سجل يومياته.. يسكب على جوارحي شلالات من أمواج العطور يعبق شذاها في خيمة العشق.
يا أمنيتي البيضاء.. منذ عشرات السنين وأنت تندس في رحم الوجود كغيمة تداعب الفجر في طلته.. ياضوء قمر في ليال صافية مبعثرة النجوم تخلو من ضجيج السكون..
أنت يا أحلامي التي أجهضها البعاد والتغافل.. لا تتوارى عني خلف كثافة اللامبالاة في قوقعة الدلال.
تعال وأقبل.. سافر معي في (موكب حب وشغف) في رحلة انتعاش وشوق نرحل بعيدََا عن عيون الدنيا لأي دولة عشق بلا هوية.. وبلا جواز سفر.. نتوارى عن فضول البشر.. نمزق شهادة ميلادنا.. وبعمر جديد نحيا بحبنا في درب الاعمار.. نحمل آلام بعضنا دون مقابل..
ونتلافى كل أخطاء البشر في ظل خيمة وجودنا معََا إلى الأبد!!!

“ويبقي الحب”
جلست قرب نافذة القطار المتهالك شاردة عبر النافذة ، أصوات كثيرةمتداخلة ، لم يستطع صوت منهم أن ينتزعها من شرودها هذا، غير صوترجل خمسيني جلس فوق المقعد الواقع أمامها قائلا لمن جلس بجواره :
-منذ وقوع النكسة وكل شئ أصبح مر ، المحصول لم يعد كما كان وكأنالأرض نفسها تأن لما حدث ، أمسك الرجل بلفافة تبغ يشعلها قبل أن يجيبهقائلا:
-ليست الأرض فقط هى من توقفت عن حصاد ثمارها ، لي ولد واحد تزوجقبل النكسة بعام ومر عامين وحتى الأن لم ينجب ، أشعر أن الجميع أقسمألا يفرح قبل أن تفرح الأرض برجوعها إلينا
تنهدت وهناك صوت يتردد بين جنبات روحها قائلا:
-إذن النكسة لم تلحق بالأرض فقط ، بل لحقت بحالنا جميعا وكأن هناك شئيخفي يربط بيننا وبين بعضنا البعض ، عادت من شرودها على صوت نكاتوتهكمات ونمنمات تسربت إلي أذنيها ،عادت بعينيها من الطريق الذي كانتتتصفح ملامحه طيلة رحلتها ، وجدته يقف مستند بظهره إلي أحدي المقاعديكتم غضبه ، فهمت دون سؤال أن ما سمعته من نكات كانت تقصده ، زيهالذي أنباء أنه أحد جنود الجيش ، أكد لها أنهم أخرجوا ما بداخلهم منغضب حينما رأوه ، ظلت ناظرة بوجهه الخمري اللون وعينيه السوداء وشعرهالبني الناعم وتلك الغمازتين فوق خديه ، شعرت بألمه من خلال صمته ، وقفالقطار فجأة ليهتز الجميع ، نهض من كانوا يجلسون أمامها مغادرين نظرحوله يبحث عن مقاعد شاغرا ليجلس به ، رأها ناظرة إليه ، فهم أنها تودأن تخبره بأن يجلس ، خطى ناحيتها جالسا أمامها وهو صامت ، تحركالقطار مرة أخري يكمل طريقه ، مرت دقائق قبل أن تتحدث إليه قائلة كمنيحاول أن يخفف عمن أمامه لحظة حزن يحياها:
-لا عليك هم فقط يحاولون أن ينفثوا عن حزنهم ، لا تحزن وأترك الأمر جانبا ، رفع وجهه إليها وقد ارتسمت على ملامحه أبتسامة هادئة قائلا:
-لست غاضبا منهم أنا حزين من أجلهم ، كم وددت أن تذهب أنفاسي ولاأحيا ما حدث ..لكنها إرادة الله ، سوف نعود لنحارب من جديد وسننتصر ، أبتسمت له قائلة:
-مؤكد سننتصر ونعود نحيا من جديد فرحين برجوع أرضنا ورجوع أرواحنا ، فقط أبتسم
وضع يديه تحت ذقنه قائلا:
-صدقينى أنت النسمة الهادئة التى قابلتها منذ أن تركت مكانى هناك فىسيناء وجئت أقضي يومين أجازة مع أسرتي ، أخبريني ما أسمك؟
أحتضنت كتب كانت تمسك بها قائلة:
-فاطمة أسمى فاطمة وأنت ما أسمك؟
أتسعت أبتسامته قائلا:
-أسمك هو نفس أسم أمي وكم أحب هذا الأسم ، ألم أقل لك أنك نسمةهادئة ، أما عن أسمي فهو أحمد ، قطع حديثهم أمرآة تحمل طفلها تودالجلوس بجواره ، أفسح لها مكان بجواره لتجلس به ، أردف قائلا:
– أين تسكنين ؟ مدت أناملها ترفع خصلة من شعرها قد سقطت على عينيهاقائلة:
-أسكن حي الحسين وأنت أين تسكن؟ أتسعت عيناه وهو ينظر خارجالنافذة قائلا:
-أسكن حي السيدة زينب ، وكم جئت إلي حي الحسين أصلي بمسجده ، أنني أعشقه كما أعشق السيدة زينب وكل شبرا بمصر ، لاحت نظرة حزنبعينيها قائلة :
-من منا لا يعشقها ..لكن أخبرني هل تؤدى فترة تجنيدك أم أن عملكبالجيش؟ مد يديه يغلق النافذة التى تُسرب البرد إليهما قائلا:
-أنني أؤدي فترة تجنيدى ، أننى أعمل مهندسا مدنيا و أمارس مهنتيداخل الجيش أيضا ، أبتسمت له قائلة:
-يوفقك الله أنت وجميع من معك ، أبتسم لها بحب قائلا:
-وأنت ماذا تصنعين هنا بالأسماعيلية ؟ مدت إليها يديها بما كانت تمسكهمن كتب قائلة:
-أنني أدرس هناك بكلية الآداب قسم تاريخ ، همس بينه وبين نفسه بصوتمنخفض قائلا:
-تاريخ اليوم هو الخامس عشر من شهر يونيو ١٩٧٣ لن أنسي هذا اليوم ، رفعت حاجب عينيها اليسرى مداعبة إياه قائلة:
-فيما أنت شارد هكذا أيها البطل ؟ خرجت من بين شفتيه أبتسامة ساخرةقائلا:
-بطل ؟ لست بطل بعد يصير هذا اللقب صحيح حينما نحارب وننتصر وقتهافقط ستكونين محقة عندما تنادينى بالبطل ، مدت يديها دون إرادة منهاتربت كفه الأسمر قائلة ومازالت أبتسامتها مرسومة فوق شفاهها قائلة:
-سننتصر ، غدا سننتصر طبيعة تلك الأرض يقول هذا أنه مهما مر عليها منانهزامات وسقطات حتما سننتصر ، أكتفي بأن يبتسم لها قائلا:
-متى تعودين إلى الإسماعيلية ؟
أتسعت عينيها كمن سمع للتو شئ كان ينتظره قائلة:
-نهاية الأسبوع تنتهي عطلتي وأعواد وأنت؟ نظر بساعة معصمه قائلا:
-أنا أيضا سأعود فى نفس موعد عودتك ، علت صافرة القطار يعلن نهايةرحلته ووصوله إلي محطة مصر وقف من بالعربة يغادرونها وظلوا هم حتىغادر الجميع ، نهضا مترجلين هم الأخرين وقف يشد على كفها قائلا:
-سأراك نهاية الأسبوع ، قلبي يحدثني أنني سأراك مرة أخري ، تركت يدهابين راحته قائلة:
-أتمني أن يكتب لنا الله لقاء ثاني ، أراك بخير ، تركته مغادرة المحطة وقفيتبعها بعينيه وما وصلت إلي نهاية طريقها حتى وقفت تنظر إليه لوحت لهبيدها مرسلة أبتسامة تصطحبه ، سقط باقى اليوم سريعا وكلا منهم فى بيتهوسط أهله ..لكن هناك شئ ما ينقصهم ما هو لا أحد يعرف كانت تلك هيأطول إجازة شعروا بها ، تمنوا أن تمضي سريعا ويتقابلا ثانية ، هناك شئربط بينهما ، شئ لا يعرفون ما هو وأن كان كلاهما يشعر به ، لملمت”فاطمة” أشيائها ماضية في طريقها إلي جامعتها قبل أن تنتهى فترةإجازتها ، أوقفتها أمها سائلة إياها :
-ماذا حدث بنيتي ؟ لم أنت مغادرة اليوم ، باقي يومين وتنتهى فترة إجازتك ، توقفت واضعة حقيبة ملابسها بجوارها مجيبة أمها:
-لا شئ يا أمي هناك بحث هام يجب أن أنهيه وأسلمه لرئيس القسم بالكليةولا وقت أمامي ، أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه ، مالت تقبل رأسهومضت فى طريقها ، وصلت إلي محطة القطار وقفت فوق رصيفه ،فجأةأعلنت السماء سقوط أمطارها ، بحثت عن مكان تحتمى به ، خطت لتجلسعلى أحدى المقاعد شاردة فى قطرات المطر هامسة لنفسها:
-كاذبة يا نفسي ، تلك هى المرة الأولى التى تكذبين فيها على أمك ، هل حقاهناك بحث تودين الأنتهاء منه ؟ أم أنك تبحثين هنا عنه ؟ أم أنك أحسستبوحشة غريبة فى غيابه ، فجأة رأت خيال يقف أمامها عادت من شرودهاتنظر إليه ، لتجده هو بابتسامته الصافية وعينيه الدافئتين يقف أمامها، أبتسمت له دون كلام دون سؤال ، ظل كلاهما يحدق بالأخر ، جلس بجوارهاقائلا:
-لم أتيتِ إلى هنا وقررتِ السفر قبل أنتهاء إجازتك؟ نظرت إليه قائلة:
-وأنت ما الذي جعلك تأتي إلى هنا قبل أنتهاء إجازتك؟ نظر باتجاه شريطالقطار شاردا به قائلا:
-لا أعرف حقا ، شئ ما جعلني آتي إلي هنا ، شيء أقوى منى جعلنيأبحث عنك دون أن أعرف السبب ، تلك هى المرة الأولى التي أقطع بهاإجازتي وأعود ، أخذت تعبث بأناملها بما تحمله من كتب دون كلام ، وصوتبداخلها يقول:
-هل هذا هو الحب الذي قرأت عنه كثيرا فى الروايات ؟ هل من الممكن أننحب دون تمهيد أو سابق أنذار ؟ يا الله ما هذا الذى يخترق روحي دونتمهيد ؟ لم هو بالذات ؟ ما سبب تلك السكينة التي أحسها بجواره ، وصلالقطار الذي سيقلهم إلي وجهتهم ، نهضوا معا ، جلسوا بجوار بعضهماالبعض ، شق القطار طريقه ، حاول أن يبدأ الحديث قائلا:
-فاطمة ، هل لي بسؤال؟ بتردد جاوبته قائلة :
-تفضل ، أخذ نفس عميق قائلا:
-سوف أروي لك شئ وعليك أن تسميه لي بأسم محدد ، منذ أن تركتك وأناأشعر أن هناك شئ ما ينقصني ، شئ أنتزع منى وبدونه تائه ضل طريقعودته ، نعم لا أعرفك عن قرب ولم يدم حديثنا طويلا ولم أراك ألا مرة واحدة .. لكن سبحان مؤلف القلوب ، تلك هى المرة الأولى التي أعرف أن هناك مننقابلهم ساعات ويصيرون كل شئ بالنسبة لنا ، أخبريني ماذا تسمي ماحدث؟ أحمرت وجنتيها خجلا ، حاولت أن تجمع الحروف والكلمات قائلة:
-صدقنى أن قلت لك أنه نفس الشئ بالنسبة لي ، ضحك عائدا برأسه للخلفقائلا:
-إذن هذا هو القدر الذى لا نملك حياله شئ ، قد جمعنا الله دون موعد وكأننانصفين نبحث عن بعضنا البعض ، فاطمة لا أعرف ماذا سيحدث فى عودتىتلك ..لكن أعاهدك والله شاهد عليٓ أن عدت بخير لن أعود إلا وأسمك معقودبأسمي ، نظرت إليه بعينين يفيضان شوق وحب وخوف ، مسح على كفهاقائلا:
-لا تخافى أدعي من جمعنا أن اعود إليك سالم مرة أخرى ، وصل القطارنهاية رحلته ترجلا من القطار ويديهم متشابكتين ، سارا سويا حتى وصلتإلي كليتها وقف يودعها ووجه يفيض بشرا قائلا:
-أنتبهي لحالك جيدا ، أنتظرينى مهما تأخرت سأعود إليك ، شدت على كفهكطفل صغير لا يريد أن يترك أمه قائلة:
-ستعود أعلم أن الله لن يرضيه أن يجرح روحي ، تركها ماضيا فى طريقه ، ظلت واقفة تتبعه بنظرها حتى أختفى ، قربت كفها من أنفها تستنشق ريحههامسة :
-اللهم أحفظه كما حفظت سيدنا موسى لأمه ، مرت الأيام سريعا وعادتإلي محطة القطار تنتظره ..لكنه لم يأتي ، أعتصر قلبها خوف عليه ، جلستعلى رصيف المحطة تنظر بوجوه العابرين تبحث عنه وسطهم لكن دون جدوى، سمعت بعض الأحاديث التي تموج بها المحطة تقول :
– أن هناك طوارئ بالجيش وهناك أحاديث عن قيام حرب ، وضعت كفها فوققلبها كمن يخاف أن يترك ضلوعه ويخرج قائلة بصمت:
-كن معهم يا الله وأكتب لهم النصر ، مرت الشهور ولم يراه ولم تعرف عنه أي شئ ، جاء شهر رمضان الكريم كان هو دعوتها التى لا تنساها كل يوم ، على صوت المذياع فجأة يعلن أن جنودنا عبروا القناة ورفعوا علم مصر ، بكت وضحكت فى آن واحد بكت فرحا وخوفا عليه ، ضحكت فرحة بالنصر ، مرتالأيام والجميع يتابع ويدعوا الله أن تعود الأرض وهي تدعوا معهم أن يعودأليها الغائب بخير ، أنتهت الحرب ومرت الأيام ثقيلة عليها ، لم يعد ولم تعرفعنه شئ ، بحثت عنه فى جميع المستشفيات ، سألت عنه كل من رأته عائدمن الحرب لكن لا جديد ، لا جديد يخبرها أنه بخير ، جاء الشتاء من جديد..لكنه جاء أكثر برودة وصقيع لأنه جاء خاليا منه ، جلست بنفس المكان الذيجلسوا به سويا من قبل ، لم تعد ترغب فى فعل أي شئ ، جلست شاردةبعيد ، فجأة رأت شخص يشبهه من بعيد ، تعلقت عينيها به لكنها سرعان ماعادت بهما إلي الأرض أنه شخص كفيف ، مرت لحظات وسمعت صوت دقات عصاه التي يتكئ عليها تقترب منها ، لم ترفع رأسها إليه لم تنظرباتجاهه ، جلس بجوارها ، مرت دقائق تسرب عطره إليها ، عقدت حاجبيهاأستدارت تنظر إليه ، شهقت فجأة ، نزلت دموعها دفعة واحدة ، فشلت أنتنطق بكلمة أو توقف سيل دموعها ، أنه هو أنه “أحمد ” .. لكنه كفيف ، كيفحدث هذا ؟ متى حدث ؟ لهذا غبت عني طيلة هذه الشهور ، أمسكت بكفه ، أنتبه فجأة ، سمع صوتها يئن وهو يناديه ، علم أنها هى ، أنتفض واقفيحاول أن يغادر المكان ، أمسكت بذراعه تستوقفه قائلة:
-أحمد اشتقت إليك كثيرا الآن فقط عادت روحي ، حاول أن يتركها ويمضىلكنها تشبثت به متوسلة إليه آلا يغادر قائلة:
-لم تفعل هذا ؟ ما سبب أبتعادك عنى ؟ انتظرتك وبحثت عنك طويلا ، خرج صوته حزين قائلا:
-ابتعدت عنك لأنك تستحقين من هو أفضل مني ، كيف ستحيين مع إنسانفقد بصره فى حرب، أنا أحبك لهذا فضلت أن أبتعد كى تعيشتي حياتك معمن هو أفضل منى ، ضمته إلي صدرها ، أعتصرته بين ضلوعها ، هو الأخرأطبق ذراعيه عليها ، تنفس بعمق كمن وجد واحة سلام عاش بها ، همست لهقائلة:
-أنا عيناك وبصرك ، أنا عصاك اتكأ علي ولن أدعك ترحل مهما فعلت ، أنامعك مهما حدث ، حينما أحببتك لم احب بك جسد رجل ولا عطر رجل بلأحببت روحك ، أمسكت العصا التى يتكأ عليها ملقية بها بعيد ، واضعة كفهابكفه ممسكة به قائلة:
-هيا نكمل طريقنا معا ، تمسك بيدى جيدا سوف نكمل ما بدأناه سويا أن فقدت كل ما لديك لن تفقدني وسيبقى الحب دوما رأس مالنا .
-تمت بحمد الله-

لا أحد!!
في مطعمٍ هادىء يطلُّ على البحر
وحيدًا كعادته،
المكان بأجوائه الحالمة والدافئة يأسره وينسيه عزلته الاختيارية. هنا الموسيقى سيدة المكان، الأنغام الهادئة تسلب الروح. لكنه كان وحيدًا.
العشّاق في حلبة الرقص يتعانقون. يرقصون. يحتفلون بما في قلوبهم من اشتياق ولهفة وصبابة في ذلك المطعم المفتوح المطل على سحر وغموض الماء. لكنه كان وحيدًا.
التفتَ يمينًا وشمالًا، شعر قليلًا بغربة وسط هذا الفرح النابض، حاول جاهدًا أن يتجاهل شعوره. كل روّاد المطعم يرقصون، هو الوحيد الجالس على طاولته مع كأسه وسيجارته سارحًا في ملكوته الخاص. فجأةً تدخلُ سيدة في غاية الجمال والأناقة، كل الطاولات كانت مشغولة، اعتذروا لها بأدب، بدأت تتلفت والحيرة والاحباط على وجهها أو هذا ما شعر به. انتبه فجأةً للموقف، فاقترح على الجرسون أن تنضم إلى طاولته إن شاءت، وبدا أنها لم تمانع فأقبلت عليه وهي تبتسم. مدّت يدها مصافحة وهي تقدم نفسها، فهم منها شيئين فقط أن اسمها إيلينا وهي من السويد. لم يفهم منها أي شيء آخر فهي لم تكن تتحدث غير اللغة السويدية وشفتين لا تكفان عن الابتسام.
جلسا متقابلين ينظران الى بعضهما فقط. إيلينا مثله تمامًا تدخن بينما ترتشف كأسها بعمق. خجل من خجله لأنها كانت جالسة بثقة وكبرياء وبأناقة ورقيّ السويديين دون أي شعورٍ بالإحراج، حسدها على قوتها وجرأتها. دقّق النظر فيها وتمكّن من تقدير عمرها وافترض أنها في الثلاثينات بملامح تشبه شجرة ورد وشعر ذهبي ينسدل على كتفيها مثل شلال خارج من تنور، لكن تنور دافىء.
الموسيقى تنساب مثل حلم … مثل حياة أخرى … لم يتردد كثيرًا .. نهض تلقائيًا وأمسك بيدها وقادها إلى حلبة الرقص وهي مستسلمة بل وارتمت في حضنه بكل جرأة، واضعة رأسها على كتفه، كان عطر شعرها مُسكرًا، جسدها المثير الطري وعبقه الفاخر سافرا به إلى عوالم لا أسماء لها …أغمض عينيه وهو يراقصها فليس هناك أي مجال للتواصل غير الابتسام والتلامس.
أغمض عينيه أكثر وأكثر وغادر وغادر …ربما إلى خارج الزمن …رأى سحبًا ونوارس بيضاء تحلًق في مجموعات فوقه تظلّله بحنانها…رذاذ مطر بارد ينعش وجهه ..أقواس قزحٍ بألوانٍ لم يرها من قبل.. لم يتوقف عن الرقص تلك الليلة. عندما فتح عينيه أخيرًا وجد نفسه وحيدًا في مكانٍ لا يشبه شيئًا ..مكان لا أحد فيه …لا أحد!!!

مُعايدة
قبَّلتْني قبلةً واحدةً يومَ العيدِ وأشاحتْ بوجهها، اكتفتْ بابتسامةٍ واحدةٍ احمرَّ معها خدُّها ، طاردتُها لأقبِّلها أو لتمنحني قبلةً أخرى فابتعدتْ واختفتْ بين الشراشفِ الورديةِ التي تكاد تنطقُ من الفرحِ مثلَ وجنتيْها، قالت لي غدًا عيدٌ أيضًا، جعلتُ وجهي يسوَدُّ ويظلمُ من الجزَع ، قلتُ لها غدًا لن يأتيَ العيدُ ثانية، سيكونُ قد مرَّ يومان عليه، قالت : سأطبعُ لك القبلةَ الثانيةَ وسترى العيدَ وكأنه وُلدَ من جديد، طاردتُها لأسبقَ اليومَ الثاني لأضمَّها ولم أستطع، غابتِ الشمسُ وبتُّ أقلبُ بصري في السماء، أتأملُ الطبقَ العلويَّ الذي تزيَّا بالنجومِ كمن فرحَ بيومِ العيد، انطوتْ الصفحةُ السوداء، حضرتِ الشمسُ برتقاليةً كمن لبسَ للعيدِ لونًا مُشرقًا، أقبلتْ نحوي فأمسكتُ بها، وضعتْ كفَّها على خدِّها، طبعتْ على خدِّي قُبلتَها الثانيةَ واكتفتْ بها ولم تدعني أخرجْ أشواقي وآهاتي وفرحتي بيوم العيدِ في ثاني الأيام، جلستْ إلى جواري تقضمُ بعضًا من الحلوى حتى النصف، وَضعتِ النصفَ الباقي في فمي فالتهمتُه، طلبتُ المزيدَ فحركتْ رأسَها بالرفض، قالت لي بقيَ يومٌ ثالثٌ سنأكلُ المزيدَ من الحلوى ونتبادلُ القبلات، تنهدتُ وأنا أشيرُ إلى الوقتِ وأحسبُ مابقيَ من النهار، بدا الهلالُ الجديدُ صغيرًا جميلًا والنجومُ تتلألأُ في السماءِ والعيدُ لايزالُ يغطي كلَّ الكون، أصبحَ الصباحُ فجاءتْني بلباسٍ جديدٍ وبسماتٍ كثيرةٍ ومعها طبقٌ أبيضُ يزخرُ بالحلوى، دعَتِ البقيةَ ليشاركونا الفرحة، احمرَّ خدِّي من حُمرةِ وجنتيْها، وزَّعتْ قبلاتِها عليَّ وعلى الآخرين، شعرتُ أنَّ النهارَ يمضي أسرعَ من سابقيْه، بتْنا في اليومِ الثالثِ سَهارى كما تفعلُ النجومُ في الطبقِ الأسود، قالت لي يا أبي كم هو العيدُ رائعٌ بوجودك! سيأتي العيدُ الجديدُ وقد كبرنا وأنتَ أنتَ العيد.

عتبة وقت ضائع
هل فارق طول قامتي عن طلاب الفصل أخرني وأخر امنياتي ؟!منذ أن كنت طفلا صغيرا.
في الصف الثالث الإبتدائي، أجلس قصرًا في المقاعد الخلفية، لأن قامتي أطول قليلا من بعض زملائي في الفصل، على بعد عشر طاولات من السبورة.
لا أرى جيدا ما يكتب عليها، ولا أسمع بدقة مايقوله الأستاذ وسط ضجيج طلبة لا يتحكمون بأفواههم، وحدة أصواتهم النشاز وهم يصرخون في صوت واحد:أنا ..أنا. يتشنج إصبعي المرفوع دون أن يراه أحد، حتى شعرت إنني خارج دائرة الأسئلة.
في أحد الأيام طرح علينا الأستاذ سؤالا بعد أن طلب من الجميع الهدوء، وجه السؤال نحوي مباشرة فرحت وجميع الرؤوس تتوجه نحوي:
– ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟
رغم انني سمعت هذا السؤال في الصف الأول والثاني مما يجعلني أكرر الإجابة مع إضافة جديدة في كل مرة؛ في الصف الأول تمنيت أن أكون شيخًا للجامع، فقد كانت أمي تدعو لي عقب كل صلاة بذلك .
وفي الصف الثاني زدت واحدة: أن أحج بوالدتي إلى مكة لأنها تدعو الله أن يتم دعوتها بعد أن أنضم لها الخيط في إبرة المكينة التي تخيط عليها ملابسنا وملابس جاراتها وبناتهن مقابل أجر زهيد تقضي به احتياجاتنا بعد وفاة والدي وسعيها علينا.
وفي الصف الثالث زدت أمنية ثالثة : أن أتزوج منيرة بنت الجيران! ففي كل مرة تأتي الينا لتقيس فستانها الجديد،اسمع والدتي تقول “جعلك الله من نصيب سالم”،
كانت تضحك وتحمر وجنتاها وأنا كالأبله لا استوعب معنى الكلمة، حتى أخبرتني أمي أنها تتمنى أن تكون زوجة لي عندما أكبر.
وفي كل عام ، يلقي علينا استاذ آخر نفس السؤال! وفي كل مرة أزيد أمنية حتى تكدست الأماني في عقلي وحالت بيني وبين إكمال دراستي.
كنت أرسب وأعيد الصف أكثر من سنه وأغرق في حلم كبير يحمل أمنيات كثيرة في زورق خيال معطل على ناصية وقت مجنون يرحل سريعا دون أن أستطيع التجديف في أمواجه العالية.
لا أدري ! متى نمى لي شنب كثيف غطى شفتي العليا؟ ومتى كَفَّ بصر أمي ؟ قبل أن أحج بها أو أصبح شيخًا .
خذلتني الأيام و أخوتي كبروا، وتبدلت أحوالهم .
بالأمس أتى أخي الأوسط وأخذ أمي للحج وأخبرني أنها لن تعود هنا، ستبقى عنده حتى يعتني بها أكثر .
أختى سعاد أصبحت ممرضة ولديها ثلاثة أطفال لم تحلم بهم .
وأخي الأكبر دخل ابنه الكلية العسكرية لم يتمنى ذلك يوما ما .
أما أنا ! فمازلت اجتر بقية أمنيات متسربه؛أجلس على عتبة منزلنا الخالي من كل شيء! والقي بالحجارة نحو ظل زوج منيرة عندما يمر بي.

طـــــــــــــيف
يدخل المطبخ تثير انتباهه مكنسة سوداء تفترش المكان ..!
يناديها :
ـــ تكنسين الأرض بشعرك ..!
تبتسم :
ـــ لأنه طويل ..
يقترب ليرفعه ، يتساقط في يده .
تختفي صورتها ، ويبقى شعرها متناثراً .
تصدع
يرقد وفي عينيه دمعة ، تدمي قلبه حكاياته التي تحاك خلف الأبواب المؤصدة ..من وراء حيطان محطمة يسرق دقائق من رحم الحلم؛ يؤدي فيها خلسة النشيد الوطني.
شؤم
تتسلل إلى أزقة عتيقة، تقف عند مفترق طرق، تنحني.. تنثر شعرها..
يستيقظ أهل القرية على عويل.
صباحية
يتسابقان عند الشاطئ، خطواتهما تسبقهما في حبور.. يجريان هنا وهناك .. يتراشقات حبات رمل وقطرات مياه .. زفافهما البارحة، ارتديا بذلتيهما الحلم ..
قبض عليها بقوة؛ مزق فستانها الأبيض.. صرخت، ارتاع، وقع من سريره ممسكا بجامته الممزقة…!

من مذكرات طبيب
تشكل صداقتي للمرضى محور عملي وحياتي. خالد رجل أربعيني معافى جسدياً ،وذو شعر كثيف أشيب.
كان في الثامنة عشرة من عمره عندما تعرض لحادث سير، فقد على إثره أسرته، وجزء كبير من ذاكرته. يرقد في المشفى طيلة السنوات الماضية.
تشير تقارير ملفه إلى أنه دخل في غيبوبة كاملة،أفاق منها قبل أيام.
في أول جلسة،أبدى تجاوباً واستعداداً للحديث معي.
– صباحك جميل.
– أهلا وسهلا .
– حدثني عن نفسك؟
أخبرني باسمه واسم قريته. تحدث عن جيرانه وأصدقائه، وملعبهم الترابي.
تكلم بحماسه عن أسرته، أبوه، أمه، أخته… وتوأمه يوسف!.
وراح يُسهب في سرد آخر مساء يذكره، بتفصيل وحنان.
توقف فجأة! ثم طلب ورقة بيضاء وقلم رصاص.ظل جامدا بلا حراك، مع نظره مرتبكة ومظلمة .ثم شرع برسم ملامح شابٍ مشرقٍ .كان بارعاً في إبراز التقاسيم..
– يشبهك كثيرا!.
– ……….
– ولكن…! لمَ هذه الشامة على الوجنة اليمنى!.
– هذا أخي يوسف – قالها بابتسامة .
كان ممتلئاًبالحيوية وهو يتحدث عن أخيه. راح يتذكر ويحيا الأشياء بخياله.
يكبرني يوسف بسبع دقائق فقط. لكني أقوى منه، انظر..!
شمّر عن عضلاته ثم أطلق قهقهة عالية رجّت العيادة…
استوقفني أنه لا يتكلم بصيغة الماضي، بل بصيغة الحاضر…!
رفعت روزنامة التقويم عن المكتب؛ ثم سألته وأنا أخفي حيرتي : في أي سنة نحن الآن؟
أجاب : في عام ألفين، قالها بكل ثقة! .
باغتّه : كم عمرك الآن؟.
تردد للحظة، ، ثم قال : أعتقد في الثامنة عشرة! .
شعرت أن الوقت قد حان لإنهاء جلستنا. رافقته الممرضة إلى غرفة تنويمه.
آثرتُ أن تكون الجلسة التالية مليئة بالأريحية والاستلطاف.
– صباح الخير صديقي العزيز خالد.
لم تكن هناك أي علامة على وجهه تدل على تعرفه عليّ! .
سألته : ألم نلتقِ قبلاً؟
– لا، لا أظن ذلك يادكتور؟
– حسناً، لماذا تدعوني دكتور؟
– من خلال اسمك على المكتب .
– أين تظن نفسك الآن؟
– كل شيء يوحي لي أني في مستشفى ما. ولكن! ماذا أفعل هنا!
هل أنا مريض؟ أم أعمل هنا؟
ربما أعمل هنا؛ فأنا أشعر بشعور جيد … ما وظيفتي؟
أريته الورقة التي رسم عليها توأمه .ذُهل، وأنكر بأن الرسمة تخصه .
سألني مستنكرا : أين أسرتي؟
قلت وأنا أناوله مرآة : انظر في المرآة، وأخبرني ماذا ترى؟
شحب وجهه فجأة، وأمسك بشعره الأبيض…
هاج بشدة وقام مذعوراً.
صارحته :أنت تعاني فقداً شديدا في الذاكرة الحديثة، خلاف الماضي الذي تعيشه بوضوح.
تغير لونه ، ثم قال :
– إذاً أنا مريض، وتلك مشكلتي..!
اصطحبته إلى النافذة، أشار إلى أولاد يلعبون كرة القدم. استعاد لونه وبدأ يبتسم.
انسحبتُ بهدوء…
كنتُ معصوراً بالعاطفة نحوه، لقد كان روحاً ضائعة.
تاهت حياته في حالة من عدم اليقين، وأذابها النسيان.
عايدته هذا الصباح في حجرته.
عندما فتحتُ الباب، التفتَ ناحيتي، وارتسم على وجهه تعبير بهيج.
قال : أهلا وسهلا! تريد أن تتحدث إليّ.. ؟
قلت له : هل تسمح لي أن أجري عليك بعض الاختبارات؟ وإن تجاوزتها؛ فسآخذك لفسحة خارج حدود المستشفى.
أظهر خالد مقدرة ممتازة في اختبار الذكاء، كان سريع البديهة وشديد الملاحظة. ليست لديه في أية صعوبة في حل المسائل السريعة.
لكنّي اكتشفت أن آثار ذاكرته الحديثة سريعة الزوال، وعرضة لأن تمحى في غضون دقائق !. عدا بعض الصور الباهتة عالقة كصدى مبهم أو شعور بالاعتياد.
فقد وضعت أمامه قلم وسماعة ومذكرة صغيرة، وطلبت منه أن يذكرها، ومن ثم غطيتها.
وبعد أن تحادثنا لبرهة، سألته عن الأشياء التي وضعتها تحت الغطاء، لم يستطع أن يتذكر شيئاً منها.
ألزمته أن يحتفظ بدفتر يوميات، يدون فيه يومياته، أسماء شخوص وأماكن، تجاربه، مشاعره وتأملاته…
كتبتُ في جدول بياناته : “حياة مبكرة يتذكرها خالد بصورة حية. ولكن لسبب ما، توقفت ذكرياته هناك. وهذا يؤكد بأن توقف ذاكرته عند العام ألفين كان حادا، مما خلف لديه هفوات عميقة في الذاكرة الحديثة. ”
طمأنته بأني لازلت على وعدي له بالفسحة.
ظل مبحلقاً، ثم تمتم: أي فسحة…!

( خاطرة في أقصوصة )
في رقة الأنثى.. بهمس ناعم.. ربتت على كتفيه في حنان بالغ.. لمست خصلات شعره التي تتخللها فضيات السنين المتناثرة..
جلست بجواره قالت له بكل معاني الحب والأمل المذاب في عمق اللهفة.. وقد عشقت في محياه الطفولي ذاك الوهج الجميل :
لقائي بك غير مافي تكويني.. لحظات معك لكنها بحجم مسافات الفضاء تضج حبََا وشغفََا..
بعد غيبة طويلة في ذاكرة الزمن أظنها تكفي لغرس ذكرياتنا في زمن أغفلنا وجوده..
فرحتي بوجودك مدججة بألوان الشوق.. حولت بسمتي الباهتة إلى هزجة مفعمة بنغمات طربية مع أوتار نبضك.
لا أريد لخيالاتي البلهاء تصور لي رحيلك عني.. لايمكن أن أبكيك كل حياتي.. في قلبي نبضة وأدتها لتبقى أنت نبضي.
كفانا ياحبي وجع السنين.. وأنات الأحداث.
أنحنى على كفيها يلثمهما وفي أحداقه دمعات عالقة كحبات اللؤلؤ البراق
قال لها : رجعت إليك حبيبتي.. أنا لك حتى يحين الرحيل.

انتظار مُرّ …
انتظار مُرّ …
قصة قصيرة…
يذرع الرصيف ذهاباً ،
وإياباً على قدميه المشنوقتين
في حذاء جلدي له شراكان متصالبان مهترئان ،
الشمس تلسع
سحنته الحنطية ،
وكفيه وهامته
المعصوبة بشماغٍ بالٍ ،
لا يكترث لحرارة الشمس ،
بل يزيدها اتقاداً بدخان سيجارته المرتعشة بين اصبعيه الناحلتين ،
و شفتيه الصخرية اللون ، هكذا قضى جل الظهيرة ، مابين ، الرصيف وحبال السكة
الممتدة أمامه، يركل بتجهمٍ
حجارة الملل ، وينفث دخان سيجارته بمرارة انتظارٍ طال ،
بينما تمر الكثير من سيارات الأجرة، بعض سائقيها توقفوا
لبرهة يدعونه للركوب معهم
فيلوح لهم بالمضي ، مشيحاً عنهم بوجهه تلقاء المجهول
الذي رسمته خطواته الوئيدة
على الطريق ،
الطريق التي ملت دهسه البائس ،
جيئةً وذهابا ، مر النهار طويلاً ،
مال عمود الشمس قليلاً ،
توقف فجأة، لوَّحَ لسيارة سوداء خاصة توقفت بجواره ،
وخرجت من زجاجها الخلفي
يد منتصبة سبابتها
بغلظة.. فيما يبدو أن
الراكب بالخلف كان يهدد
الرجل المسكين بأمر ما !!
ثار الرجل ساخطاً ،
متراجعاً للخلف
يضرب كفاً بكف ، بطريقة تنبئ
بأن هناك خلافاً نشب بينهما..
تحركت السيارة
بسرعة كبيرة كادت تدهسه ،
رفع كلتا يديه للسماء
عائداً يذرعُ
الرصيف ثانيةً ..

هل ياترى يعود ؟
وأنا معه أرقب لحظات أفراحنا عند اللقاء (فهل ياترى يعود)؟