- 24/06/2022 sdfs
- 23/06/2022 ذكرى عزيزة لبيعة وثيقة العهد
- 23/06/2022 businessm
- 28/05/2022 من أحضان الجبيل الكاتبة عنبر المطيري على منصة التوقيع
ضوء قنديل [ 148 ]

” الله يلعن الشيطان وعمله!”
ثوان قليلة جدا، شعرت بعدها بثقل يبدأ من كتفيّ، ليصل إلى أنفاسي، ندَّ صوتٌ خفيض يشبه سقوط حجارة تتهشّم:
– *ما عمله؟*
-النسيان.
– *أهذا ما تعنيه فقط؟*
-نعم والله.
– *إذن، يكفيك أن تلقّن عمله درسًا قاسيًا.. أما هو فدعْهُ في حاله!*
-أنت ناصح..أم متضرّر؟
بحدّة، وبصوت يخرج من بين أسنان لا تُرى:
– *ليس هذا من شأنك!*
قالها، وانزاح الضغطُ عن كتفي قليلًا، ما هي الإ ثوان قليلة، شعرت بارتياح يتسلّل إلى كامل جسدي ..وحين عاد إليّ نفَسي بالتدريج، قررتُ أن أتركه وشأنه.

رحيل
دخلت ايمان غرفتها وأغلقت الباب دونهم لتبعد عنها أصواتهم المزعجة التي تسعى لتغيير مسار حياتها غير عابئين بما تريد ومالا تريد. انكفأت على وجهها تبكي بحرقةٍ وصمتٍ والدها المسجى في صالة المنزل بلا حراك. فيما إخوتها يتأهبون لنقله إلى المقبرة ليواروا جسده التراب.
شقيقها الأكبر ما زال يحاول حتى الأمس إقناعها بعقد زواجها من شقيق زوجته. تشهق إيمان فجأة عندما رأت والدها يغادر المنزل إلى غير رجعة محمولاً في نعش على أكتاف إخوتها. تتذكر الآن بوضوح تام أنها كانت الابنة المحظية جاءت إلى الدنيا بعد أربعة ذكور أصبحوا الآن رجالا وأرباب أسر.
مرَّ شريط ذكرياتها مع والدها وهي تشيعه بنظراتها الحزينة في ثوان. تذكرت عبر صور مرت سراعًا كيف تعلق بها والدها بعد أن ماتت زوجته وأصبح لا يستغني عنها. تذكرت كيف يرفض أن يقترب منها أحد ليأخذها منه، حتى بلغت الأربعين، وأصبحت، وهي الفتاة الجميلة الجذابة التي كثيرًا ما تقدم لها العرسان، تعي جيدًا أن زهرة شبابها قد ذبلت. وماذا يهم؟ كان عزاؤها الوحيد أنها تعيش في كنف والدها معززة مكرمة، تجد السعادة في خدمته ورعايته وهو في عقد الثمانينيات تكالبت عليه أمراض السكر والقلب والدم فكانت هي الطبيبة والممرضة أيضًا. لكنها الآن وقد أزفت ساعة الفراق الأبدي له، بدأت تشعر بالخواء النفسي، فلا أب ولا أم ولا زوج، ولا ولد ولا بنت… لم يبق لها من هذه الدنيا سوى إخوتها الذين يودون أن يتخلصوا منها بأسرع ما يمكن ويزوجوها بأقصى سرعة، حتى قبل أربعينية والدهم، حتى يخلوا مسؤوليتهم عنها!.
لم يسبق لها أن اتخذت قرارا حاسمًا في حياتها، فكل تجاربها في هذه الحياة كانت تسير بسهولة ويسر في ظل وجود والدها بجانبها ينصحها ويشد أزرها، لكن الآن …أصبح الأمرُ مختلفًا. قررت أن تواجه أخوتها وتضعهم أمام الأمر الواقع الذي قررته: لم يعد الزواج مناسبًا لها في هذا السن.
وجهت إليهم الكلام بعد عودتهم من دفن أبيهم والدمع ينحدر حارًا من عينيها:
أخي أحمد … أخي محمد … أخي سعيد … أخي سعد … أود أن تعرفوا أن هذا البيت هو بيتي قد باعه لي الوالد – يرحمه الله- بكل ما فيه من ذكريات … فإن رغبتم في زيارتي فمرحباً بكم في أي وقت، وإن لم ترغبوا، فذلك شأنكم!… سأحيا بقية عمري في هذا البيت وكأن الوالد لم يمت!… وتابعت:
“لكنكم ستظلون إخوتي وأبناءكم أبنائي وزوجاتكم أخواتي …وسأرسل لكم هدايا وحلوى العيد كما كان يفعل الوالد في حياته” ..
ساد الصمت لحظات والوجوه واجمة. بدأ الإخوة يغادرون المنزل واحدًا تلو الآخر.

الغائب
صمت وهدوء يتراقصان في أرجاء البيت الواسع ذي الحجرات الكبيرة، صمت يرنّ ويدقّ بين جدران المنزل، صمت لم يعتد عليه هذا البيت، لم تألفه صوره وثرياته، ولم يسبق أن ارتاحت أرضيه المنزل من حركة الأرجل وآثار النّعال.
تتلفّت عيناها في أرجاء مخدعها بحثًا عن الحركة، عن صوت، عن همسة، فلا تشعر بها. يشرئب عنقها بحثًا عن الصّوت خارج حدودها… لا جدوى. غريب ، حقًّا إنّه شيء غريب، مالذي حدث، لماذا يرنّ هذا الصّمت؟ لماذا؟؟… فالجميع هنا، لا أحد بعيدًا عن البيت سواه، سواه هو.
-” أين الغداء؟؟ كرّرت دومًا أنّني أحبّ أن أجد طعامي جاهزًا عندما أعود من العمل، لماذا تتكاسلين؟ على من تعتمدين؟ على أمّي المسكينة!! يكفيها تعب السّنين.
– لا تنظري إليّ هذه النّظرة البلهاء! أعرف ما تريدين، وأنا كرّرت دومًا إنّني لا أحبّ أن تجهز الخادمة طعامي، أريد زوجتي أن تعدّه، وأعلم أنّك عدت من عملك متعبة، وأنك تحتاجين إلى الوقت لتعديه، لكنّني لا أحبّ الانتظار“.
هكذا كان يعلو صوته دومًا، ويدّوي في أرجاء المنزل، ناسيًّا أنّه ليس وحيدًا فيه. لا بدّ أن تكون طلباته جاهزةـ وإلّا ازداد حدّة وغضبًا، ويبدأ في الصّراخ. حتى ضحكاته مجلجلة، يضحك على أي نكتة. على أي موقف طريف، وكأنّ في ذلك إثباتًا على أنّه موجود، يتنفّس في هذا المنزل، هو موجود طالما أنّه يثير صخبًا وضجيجًا، “هو يضجّ إذا هو موجود” قياسًا على مبدأ ديكارت المشهور.
لكن ما بال الصّمت يخيّم على المكان، ويحوّله إلى مقبرة تنعق فيها البوم والغربان. مازال الجميع هنا، لم يغب أحد سواه، ها هي أمّه تجلس على كرسيها الهزّاز في زاوية الغرفة تتابع التلفاز تغفو حينا، وتصحو حينًا آخر، وها هم أخوته كبارًا وصغارًا يمرحون في البيت، كلّ في شؤونه، لكن لا صوت… صمت تام، هل نسي الصّغار لذة اللّعب، لذّة الصّراخ والشقاوة، هل يكون المرح صامتًا؟!! وهل يكون اللعب هادئًا؟!!
-” ليصمتوا… أريد أن أغفو قليلًا، يكفيني ما نلت من التّعب، لا تنظري إليّ هكذا، كم أكره هذه النّظرات، لا أحبّ لغة النّظرات، كلّميني ولا تحادثيني بعينيك، أعرف ماتعنين، هم أخوتي، وهم صغار، ولن يكون اللّعب إلّا بإثارة الضّجة، ولكنّي لا أحبّ الضّجيج، أحمد الله أنّني لم أرزق بطفل إلى الآن يكفي ما يفعله هؤلاء الحمقى الصغار”.
لكنّهم يلعبون الآن كما كانوا يلعبون دائمًا، ولم يتغيّر عليهم شيء، ولم يشعروا بما حدث، لأنّهم لم يفهموا ما حدث، فما زالوا يلعبون ألعابهم التي أعشقها، وكم تمنيت أن أعود طفلة لألعب معهم، ولولا غضبه للعبتُ معهم، فما أجمل أن يعيش الفرد مع مرح الطّفولة، أن يعود مرّة أخرى إلى طفولته، أن يضحك ضحكة حلوة… لكن حذار قد يكون في هذه الضحكة صوت يزعجه، يضايقه، فيعلو صراخه.
حتّى أمّه تتحرّك بصمت، تبكيه وتنعيه بصمت، هل حقًّا هذه دموع تنحدر من عينيها؟ لماذا لا أسمع نحيبها؟ هل جفّت دموعها؟ أم أنّها لا تبكي! لكن ما بال بكاؤها بصمت، هل نسيت كيف يكون البكاء والعويل؟!! لعلها خشيت أن يسمع صوت بكائها، فيغضب، وهي تعرف أنّه يكره الصوت المرتفع.
أجل صمت يقبع في أرجاء المنزل، لكنّه صمت لذيذ، له طعم جميل، إنّه الرّاحة، إنّه الأمان، فلا خوف من صوت يعلو، من صراخ، من أوامر، من طلبات مزعجة.
ما أرق هذا الصمت! ما أنعمه! يا إلهي هل حقًّا أرتاح لهذا الصّمت، لماذا أشعر بوخزة في صدري، وكأنّني اقترف إثمًا لأنّني أحبّ هذا الصّمت، ياترى هل سيحبّه هو؟!!
-” عدت مرّة أخرى إلى الحديث بعينيك، عدت تحادثينني من دون لغة، طلبت منك مرارًا ترك العمل والتّفرّغ لي، فما حاجتك إلى العمل، أنت تعرفين أنّني بمقدوري أن أعطيك ضعف راتبك، فلا تعانين من إرهاق العمل، وتوفرين لي الرّاحة التي أريد، لكنّك عنيدة، وهذا ما سيفسد عليك حياتك.”
أجل إنّه يكره صمت الحوار، ولا يحبّ التّحاور بلغة تنعدم فيها الحروف والأصوات، فهو لا يعرف إلّا لغة الأوامر والشّروط، لماذا عليّ أن أشعر بالإثم، ألم يضع هو شرطًا يحدّد علاقتنا، ألم يحدّد الوقت، لتقرير مصير هذه الحياة؟ أيعقل أنّه اختار الحلّ؟!! أيعقل أنّه اختار اختفاءه ليترك لي أن أعيش حياتي كما أحبّ؟!!
-” لن أعيد كلامي مرّة أخرى، قلت لك اختاري بين العمل أو أن تعيشي في هذا المنزل، ولا رجعة في قراري، اختاري، إنّني أضع أمامك حرية الاختيارـ فكّري واتّخذي قرارك، أمامك أسبوع واحد فقط، المفروض أن أقول لك أمامك يوم واحد، لكنّني أتسامح معك”.
أجل. إنّك متسامح معي، فقد طالت المدّة إلى أسبوعين، ولعلّها ستطول أكثر، يا ترى هل أنت الذي اخترت بعدك؟! أم هي الصدفة؟! أين أنت الآن؟ لماذا تصرّ على أن أعيش في حيرة دائمة؟
أرى في نظرات من حولي شفقة عليّ، على هذه الشّابة التي لم تهنأ في حياتها الزوجيّة، وكلّ منهم يحاول أن يأتيني بخبر عنك، منهم من يختلق الأخبار من خياله كي يزرع الطّمأنينة في نفسي. ومنهم من يحشر نفسه، ويحاول مساعدة الجهات المختصّة في محاولة العثور عليك.
لكن …أنا ماذا أريد؟ لا بدّ أن أصل إلى قرار قبل عودتك، ألم تطلب هذا؟ أم أخالك نسيت شرطك، أم أنّك لن تعود… لا لا بدّ أن تعود فأمك لن يهنأ لها عيش بغيابك، وأخوتك بحاجة إليك لتعوضهم حاجتهم إلى الأب، وأنا لا أدري لعلّني اعتدت صراخك، هل أفتقد وجودك؟! هل أحنّ إلى حبّك؟!
-” أعلم أنّك كأية فتاة ترغبين في شخص يعيش معك في جنة الحبّ، ولكنّني أقولها لك بصراحة، أنا اخترتك لأنّني وجدت فيك خير رفيق يعينني في حياتي، وبوجودك معي سنخلق أجمل جنة، لن يكون فيها الحبّ فقط، إنّما الودّ والتّفاهم والإخلاص”.
ويالها من جنّة زرعتني فيها، لا تعرف هذه الجنه إلّا لغة الأوام
والطلبات، لا تعرف هذه الجنة إلّا تحقيق رغبات صاحب الأمر، صاحب الكلمة الأولى فيها.
-“أمّا العمل أو أن تعيشي في هذا المنزل”.
ربما قرّر القدر معاندتك، وسأحقّق الأمرين معًا، أعمل وأعيش في هذا المنزل، فحتّى في طلبك لم تقل أعيش معكَ، اختارك أنتَ…إنّما عليّ أن أختار بين العمل أو أعيش مع جدران هذا المنزل، مع صوره الصّامتة، مع ثرياته الفاخرة.
إذا لن يعود… لن يعود…
ما هذا الصّراخ؟ أين الصّمت؟ ما بال الحركة عادت إلى البيت، ” أين الغداء؟ أريد طعامي. ولكن الطّعام جاهز على غير العادة، أما زلت تذهبين إلى العمل، ما بالك صامتة، ها قد عدت، كان هناك خطأ والتباس بين اسمي واسم شخص آخر مطلوب للجهات الأمنية، فتمّ القبض عليّ، والتحقيق معي بشكل سريّ إلى أن تأكدوا من الخطأ، وها أنا عدت الآن وانتهى الأمر، أرجوكم إنّني متعب ومرهق، أريد طعامي ثمّ أغفو قليلًا، ولا أريد أي صوت أثناء نومي”.
حقًّا لقد عاد… عاد أخيرًا، وذهب الصّمت الّلذيذ، عاد مرة أخرى ولا بدّ من إجابة، لا بدّ من اتّخاذ قرار.
انتظر! لا بدّ أن أحادثك، ولا أدري هل نطقت بها أم أنّني كعادتي تحدثت من دون لغة، كلّ الذي أعرفه أنّه نظر إليّ وانتظر… وانتظر أن أقول شيئًا، ولا أدري بما تفوهّت به، لكنّ عيناي قالتا اليقين:
” كم عشقت صمت غيابك، عشقت جنتك، أحببتك في غيابك، وما أجمل ألّا تعود! فهل عرفت قراري؟

( التلال مفردها : تل ..؟! )
قصص قصيرة جداً
يكتبها حسن علي البطران ، الأحساء
“”””””””””””””””””””””””””””””””””””
١ ( مدفأة ).
رأي مصادفةً قطعة من ملابسها الداخلية في الحمام المشترك ، في ليلة قادمة بعد الرؤية كلاهما على سرير واحد وإضاءة سقف حمراء ..!!
٢ ( المقدسات ).
أختبىء خلفها ،ً
أُدخل السجن ، نذرت ( منى ) : بحق المكان المقدس الذي أمتلكه ..
فسرعان ما أصبح حراً في الهواء الطلق ..!
٣ ( خيط أسود ).
أغواه أحدهم ..
رحل عنه وتسلم الوزارة ، زاره بعد مدة وثقب كرسيه ..
لم يستطع ربط الخيط إلا بخيط آخر لونه مختلف .!
٤( تفاحتان وفستان .. )
طلبت منه أن يقشر لها التفاحة ، بادرها بأن تأتي أخرى تقشر له ولها ..
تغير لونها ، كأن سكيناً طُعنت بها ..! بعد مضي ليلتان لبست فستاناً أبيض ، نظر إليها وتقاطرت دموع من عينيه لم تلمحها ، هنالك أخرى هي أيضاً لبست فستاناً أبيض ..
– سأل نفسه من تقشر لي التفاحة منهما ..؟
٥( ولادة وسط حديقة )
استشعر الألم الذي تعاني منه ، لم يخبرها بأنه بعلم به ، اختفى خلف قناع الخوف حتى يحميها منه ..
علمت بأنه يعرف ألمها ، سخن جسمها ، تصبب عرقاً ، تأوهت ، تألمت ، صرخت ، فقدت وعيها ، بعد حينٍ أفاقت .. ، أفاقت وكأنها وردة ولدت في حضن حديقة .!
رآها ذات يومٍ من بعيد قبل أن تستحي الشمس وتسدل خمارها ، لوح بيده ، ابتسمت ، غضب لإبتسامتها ، وقفت تنظر إليه ، لكنه رحل ..!!
٦( الماء في غير مصبه .. )
رفض الزواج مطلقاً ،
أظهرت بنت عمه شيئاً من بياض صدرها ، ألح على أبيه أن يستعجل الزواج ، فرحت أمه وتزوجت أخته من ابن عمها ..!
٧( تل .. )
غرس تلك الشحرة واهتم برعايتها حتى أصبحت كما هي الآن ..
حينما أزهرت وبدأت بالإثمار أُعجب بها جاره ، تقرب منها وحاول نزعها وغرسها في أرضه ، لم يستطع ، رفع تظلماً بأن التل الذي نمت عليه الشجرة جزء من أرضه ..!
اختلف الجاران حولها ، والشجرة تواصل نموها ، وخلفت وراءها عدة شجيرات ، مات الحاج ( مكي ) الرجل العقيم ؛ مالكها الحقيقي ، وورث الشجرة وشجيراتها الثلاث الأخرى جارهما الثالث ..!!
٨( ثروة )
أهداه الله ثروة ، لم يشكره ..
رجل فقير دعا الله الرزق ، فرزقه ثروة ذلك الرجل .!
تمزق ثوب الرجل .. وسكن القصر الرجل الفقير ..!!

وصفوا لي الصبر
ارتدى ملابسه وتعطر من العطر الذي تعشقه وخرج من المنزل
ارتمى على مقعد السيارة صوت أم كلثوم ينساب من مشغل الاسطوانات
ودارت الأيام
ومرت الأيام
ما بين بعاد وخصام
سرح بخياله مع الأغنية وفجأة انتفض عندما سمعها تقول
وصفوا لي الصبر لقيته خيال
وكلام في الحب يا دوب ينقال
أهرب من قلبي أروح على فين
ليالينا الحلوة بكل مكان
مليناها حب احنا الاثنين
وملينا الدنيا أمل وحنين
تنهيدة تخرج من صدره مع دمعة تغالب عينه لتنسكب على خده يغتالها بيده قبل أن تتبعها أخرى
وصل إلى المركز التجاري حيث لقائهما الأول دخل إلى المقهي الصغير في الركن الذي احتضن لقاءاتهما وشهد ضحكاتهما أفراحهما عتابهما حتى لحظات خصامهما
طلب قهوته المعتادة وجلس ينتظر ربما…… يمر الوقت يبدأ رواد المقهى بالمغادرة المحلات من حوله تغلق أبوابها لم يبق إلا هو
هَمَ بالمغادرة وهو يسمع أحد عمال المقهى يقول لصديقه
ستعتاد على وجوده منذ عامين وبعد أن رحلت زوجته في الحادث الشنيع الذي تعرضا له وهو يأتي كل ليلة إلى هنا

ميزان آل باليك
قصة قصيرة للكاتب هاينريك بول
ترجمة نادية عبدالوهاب خوندنة
كان معظم الناس في المنطقة التي ترجع أصولنا إليها يكسبون قوتهم من العمل في مخازن الكتان الخشبية، وعلى امتداد خمسة أجيال كان أولئك الكادحين يستنشقون الغبار المتصاعد من جذوع الكتان المسحوقة، و كأنهم سمحوا لأنفسهم بموت بطئ. وعلى الرغم من هذه المعاناة الطويلة المدى فقد كانوا أناساً مرحين، تراهم خلال النهار يحملون جذوع الكتان إلى المكائن القديمة وذلك بدون أدنى حماية من الغبار أو من حرارة أفران التجفيف الشديدة التي تلفحهم دون رحمة، بينما يقضون المساء في منازلهم سعداء وهم يغزلون ويحيكون الصوف ويغنون ويشربون الشاي بالنعناع ويتناولون البطاطس والجبن المصنوع من حليب الماعز و من حين لآخر كانوا يأكلون أرنباً.
كان كل مسكن يحتوي على سرير واحد فقط، ملاصق للجدار وهو مخصص للوالدين، بينما كان الأطفال ينامون على نضد موجودة على محيط الحجرة. في الصباح كانت الحجرة تمتلئ برائحة الحساء الخفيف، وفي كل يوم أحد تقدم اليخنة، وفي أيام الاحتفالات كانت وجوه الأطفال تشرق بالبهجة وهم يراقبون قهوة جوزة البلوط السوداء وهي تصبح فاتحة اللون أكثر فأكثر بسبب الحليب الذي كانت أمهم المبتسمة تضيفه إلى أكوابهم.
بينما أعتاد الوالدان على التبكير للذهاب إلى مخازن الكتان الخشبية، فقد كانت الأعمال المنزلية تسند إلى الأطفال فيكنسون الحجرة ويرتبونها ويغسلون الأطباق ويقشرون البطاطس، تلك الفاكهة الأثيرة ذات الصفرة الفاتحة والتي كان عليهم بعد ذلك أن يعرضوا قشورها على الوالدين حتى لا يتركوا أي مجال للشك بالإهمال أو التبذير. وحالما كان الأطفال يخرجون من مدرستهم يتجهون إلى الغابة، وتبعاً للموسم يشرعون في جمع نبات الفطر والأعشاب مثل الجويسئة العطرة والزعتر والكراوية والنعناع والقمعية الأرجوانية، وفي الصيف عندما كانوا يحضرون القش من حقولهم الهزيلة، يجمعون زهور القش التي تبلغ قيمة الكيلو منها قرشاً واحداً ويباع في صيدليات المدينة بعشرين قرشاً للسيدات اللاتي يسهل خداعهن.
أما الفطر فكان ذاد مردود عالٍ فيدفع للكيلو منه عشرون قرشاً، وتصل قيمته في حوانيت المدينة إلى مارك وعشرين قرشاً، ومن أجل جمعه كان الأطفال يزحفون إلى عمق الغابة التي اشتدت خضرتها حتى استحالت إلى ظلام، وفي فصل الخريف عندما تدفع الرطوبة الفطر إلى الخروج من باطن التربة كان لكل أسرة تقريباً أماكنها الخاصة المتوارثة جيلاً بعد جيل، التي تجمع منها هذا النبات.
لقد كانت تلك الغابات مثلها مثل مخازن الكتان الخشبية في قرية جدي تخص آل “باليك” الذين يملكون قصراً كبيراً و كان لزوجة كبير العائلة حجرة مجاورة لمعمل الألبان، يوزن فيها الفطر و الأعشاب و تدفع قيمتها لأصحابها حيث كان ينتصب على الطاولة ميزان آل “باليك” الشهير، و هو ميزان ذو طراز قديم و غريب يزينه طلاء برونزي، و قد أعتاد أجداد جدي من الأسلاف على الوقوف أمامه، متهدجي الأنفاس منذ أن كانوا أطفالاً صغاراً تحمل أيديهم المتسخة سلال الفطر الصغيرة، و أكياس زهور القش الورقية وهم يراقبون عدد الأثقال التي كانت السيدة “باليك” تضعها على الميزان قبل أن يستقر المؤشر المتأرجح على الخط الأسود تماماً، خط العدالة الرفيع الذي يعاد رسمه كل عام، و بعد ذلك كانت السيدة “باليك” تأخذ الكتاب الكبير ذا الغلاف البني فتكتب الوزن ثم تدفع النقود.. بضعة قروش أو عشرة قروش أو بعض قطع من ذات العشرة قروش ونادراً جداً ما كانت تدفع ماركاً كاملاً.
عندما كان جدي صغيراً، كان يوجد إناء زجاجي مملوء بحلوى الليمون من النوع الذي تبلغ قيمة الكيلو منه ماركاً واحداً، وعندما تكون حجرة الميزان تحت إمرة السيدة “باليك” وهي في مزاج جيد، فإنها تعطي كل طفل حبة حلوى؛ فتشرق وجوه الأطفال بالحبور، بنفس الطريقة التي تضئ بها وجوههم في أيام الأعياد عندما تضيف أمهاتهم الحليب لأكواب القهوة حتى تصبح فاتحة اللون أكثر فأكثر مثل أطراف شعر الفتيات الصغيرات التي تشبه الكتان بلونها الشاحب.
لقد كان من ضمن القوانين التي فرضها آل “باليك” على القرية عدم السماح لأي شخص بإمتلاك ميزان في منزله و هو قانون جد قديم بحيث لم يتساءل أحد و لو لبرهة متى أو كيف أستن هذا القانون الذي فرضت طاعته، فكل من تسول له نفسه بمخالفته كان يطرد من القرية و لا يستطع أن يبيع ما جمعه من الفطر أو الزعتر أو الزهور البرية ولأن نفوذ آل “باليك” كان كبيراً، فإن من يطرد من القرية لن يجد في القرى المجاورة من يعرض عليه عملاً أو يشتري منه أعشابه، و منذ زمن سحيق حين كان أسلافي أطفالاً صغاراً يجمعون الفطر ليشتريه أثرياء مدينة براغ لإضفاء نكهة على أطباقهم من اللحم أو ليخبز مع الفطائر، لم يجرؤ أحد قط على خرق هذا القانون، فالدقيق يمكن وزنه بالأكواب و البيض يمكن عده، و ما يغزل يمكن قياسه بالياردة و فوق هذا كله لم يكن يبدو على ميزان آل “باليك” العتيق أنه قد أصابه خلل يمكن أن يعيقه من أداء مهمته فإن خمسة أجيال متعاقبة قد استأمنت ذلك المؤشر الأسود.
في الواقع، كان هناك بعض الناس الذين يخالفون هذا القانون،ولكن بهدوء، فالصيادون كانوا قادرين على كسب مبلغ من المال في ليلة واحدة مساوٍ لما يمكن كسبه خلال شهر كامل من العمل في مخازن الكتان الخشبية، ولكن حتى هؤلاء الناس لم يفكروا بشراء أو صنع ميزان خاص بهم.
لقد غدا جدي أول إنسان على قدرٍ كافٍ من الجرأة ليختبر عدالة آل“باليك”، تلك العائلة التي تعيش في القصر الكبير وتمتلك عربتين و تحرص دائماً على كفالة غلام من القرية فتنفق عليه ليتمكن من دراسة علوم الدين في معهد التعليم العالي في براغ، و هي ذات العائلة التي اعتاد القسيس أن يلعب مع أفرادها لعبة “التاروك” كل يوم أربعاء، و يزورها رئيس المجلس البلدي يوم رأس السنة الجديدة في عربته و هي في كامل زينتها العسكرية الإمبراطورية، و هي أيضاً نفس الأسرة التي منحها الإمبراطور لقباً مع إطلالة اول يوم من عام 1900.
لقد كان جدي إنساناً ذكياً ومجتهداً يزحف في عمق الغابة أكثر مما كان يقوم به أنداده من أطفال عائلتنا، وقد وصل في إحدى المرات إلى المنطقة التي تكثر بها الأشجار الكثيفة الملتفة، التي تقول إحدى الأساطير أن العملاق “بيلقان” كان يعيش فيها حارساً لكنز مدفون هناك، لكن جدي لم يخف من ذلك العملاق، بل كان يشق طريقه إلى غور المنطقة حتى عندما كان مجرد صبي صغير فقد كان ينجح في جمع كميات كبيرة من الفطر، بل انه أحضر مرة نصف كيلو من الكمأ فدفعت له السيدة “باليك” ثلاثون قرشاً.
اعتاد جدي على كتابة كل ما يأخذه لآل “باليك”، و ذلك على صفحة منزوعة من التقويم: كل رطل من الفطر و كل غرام من الزعتر، و على الجانب الأيمن كان يكتب بخطه الطفولي المبلغ الذي يأخذه لقاء كل شيء، كان يسجل كل قرش منذ أن كان عمره سبع سنوات إلى سن الثانية عشرة وقد تزامنت ذكرى ميلاده الثانية عشرة مع بداية عام 1900، ولأن آل “باليك” قد انضموا إلى الطبقة الأرستقراطية بقرار إمبراطوري فقد قرروا منح كل أسرة في القرية ربع رطل من القهوة البرازيلية الأصلية إلى جانب مشروب مجاني و بعض التبغ للرجال و قد أقيم احتفال ضخم في القصر الكبير و اصطفت العربات في طريق أشجار خشب الحور الممتد من البوابات الأمامية إلى القصر.
وزعت القهوة في اليوم الذي سبق الإحتفال الكبير وذلك في الحجرة الصغيرة التي تحتوي على ميزان آل “باليك” الذين أصبح لقبهم رسمياً ” “باليك فون بيلقان” لأنه وفقاً للأسطورة السابق ذكرها فإن العملاق “بيلقان” كان يملك قلعة عظيمة في نفس الموقع الذي توجد عليه أملاكهم الحالية.
كان من عادة جدي أن يحكي لي كيف أنه بعد خروجه من المدرسة ذهب ليحضر القهوة لأربع عائلات: “البروتشيرز” وهي أسرته و “تشيكس” و”فايدلرز” و “فولاس” حيث أنه كان عصر يوم عيد السنة الميلادية الجديدة والعمل جارٍ على قدم وساق من تزيينلغرف استقبال الضيوف إلى خبز للحلوى والكعك، ولأن هذه العائلات لم تكن لتستغني عن أربعة صبية ليذهبوا إلى القصر لإحضار ربع رطل من القهوة.
مكث جدي ينتظر وهو جالس على المقعد الخشن في الحجرة الصغيرة بينما كانت ” جيرترود” تعد أربعة من أكياس القهوة المغلفة، نظر جدي إلى الميزان فوجد أن ثقل الرطل لايزال موجوداً على الكفة اليسرى، ولأن السيدة “باليك فون بيلقان” كانت مشغولة بالتجهيزات للاحتفال، فعندما كانت “جيرترود” تهم بإدخال يدها في إناء حلوى الليمون لتعطي جدي واحدة منها، اكتشفت أنه كان خالياً إذ إنه يعبأ مرة واحدة في السنة بكيلو واحد ثمنه مارك واحد، ضحكت الفتاة قائلة: “انتظر هنا بينما أحضربعض الحلوى”.
كان جدي يقف أمام الميزان الذي يوجد عليه ثقل الرطل، فأخذ أكياس القهوة الأربعة التي عبئت و ختمت في المصنع ووضعها على الكفة الخالية، و تسارعت دقات قلبه و هو يراقب إصبع العدالة ذا اللون السود وهو يستقر على جهة اليسار، فإذا بالكفة ذات الرطل تنزل إلى الأسفل ويظل رطل القهوة مرتفعاً في الهواء، و تسارعت دقات قلبه أكثر مما لو كان مختبئاً خلف شجيرة في الغابة خوفاً من العملاق وأخذ يتحسس الحجارة الصغيرة الموجودة في جيبه التي اعتاد على حملها ليستعملها في إطلاق النبل على العصافير التي تنقر ما تزرعه والدته من خضروات الملفوف، فوضع منها ثلاثة، أربعة، خمسة بجانب الأكياس إلى أن رجحت الكفتان و انطبق المؤشر أخيراً على الخط الأسود.
أخذ جدي القهوة ووضع الحجارة الخمس في منديله وإذا “بجيرترود” تعود بمؤونة سنة كاملة من حلوى الليمون من أجل أن تشرق وجوه الأطفال بالسعادة، وشرعت تجعل حبات الحلوى تجلجل في الوعاء الزجاجي بينما كان الطفل الصغير الشاحب اللون لايزال واقفاً في مكانه ولا يبدو أن أي شيء قد تغير.
أخذ جدي ثلاثة فقط من الأكياس فنظرت الفتاة إليه بدهشة وقد رمى حبة الحلوى على الأرض وسحقها تحت قدمه قائلاً: “أريد رؤية السيدة باليك”.
– “السيدة باليك فون بيلقان من فضلك”.
– ” حسناً، السيدة باليك فون بيلقان”.
ولكن “جيرترود” ضحكت فقط، فعاد جدي إلى القرية وأعطى القهوة لعائلات “تشيكس” و”فايدلرز” و “فولاس” وحمل حجارته الصغيرة في منديله وأخذ يغذ السير في الظلام واضطر أن يمشي مسافة طويلة قبل أن يجد شخصاً يملك ميزاناً-أو على الأصح- سُمح له بامتلاكه. ولأنه كان يعلم ألاّ أحد في قريتي “بلاوقاو” و “بيرناو” يملك ما يطلبه، فقد سار خلالهما مباشرة، حتى وصل بعد ساعتين إلى “ديلهايم” المدينة الصغيرة، التي يعيش فيها الصيدلاني “هونيش” الذي كانت تنبعث من بيته رائحة الفطائر الطازجة حتى أنه حينما فتح “هونيش” الباب للصبي الذي كاد البرد أن يجمده كانت رائحة الطعام تخرج مع أنفاسه وهو يدخن سيجاراً رطباً بين شفتيه الرفيعتين، لوهلة أمسك الرجل بقوة يدي الصبي الباردتين وسأله:
“ما الأمر هل ازداد صدر والدك سوءاً؟”
“لا، فأنا لم آت من أجل الدواء، إنما أردت أن…..” وفتح جدي منديله وأخرج الحجارة الخمس وقال “لهونيش”: “أريد منك أن تزنها لي”.
أخذ جدي ينظر بقلق إلى وجه الرجل، ولكن حينما لم يتفوه بشيء ولم يغضب، بل حتى لم يسأل عن أي شيء، فقال له جدي: “هذا هو المقدار المفقود من العدالة”.
لما دخل جدي الحجرة الدافئة أدرك كم كانت قدماه مبتلتين، فقد أغرق الثلج حذاءه الرخيص إلى جانب ما أمطرته به أغصان الغابة من الثلج الذي أصبح الآن سائلاً، كم كان متعباً وجائعاً وفجأة بدأ يبكي لأنه تذكر كميات الفطر والأعشاب والزهور، التي كانت توزن على الميزان الجائر وفكر في الأجيال السابقة من آبائه وأجداده الذين أجبروا إلى ترك ما يجمعونه من الفطر والزهور يوزن على ذاك الميزان فتملكته موجة عارمة من الإحساس بالظلم وازداد نحيبه وعلا. وبدون أن ينتظر أن يقول له أحد تفضل بالجلوس، جلس على كرسي متجاهلاً الفطائر وكوب القهوة الساخنة، التي وضعتها أمامه السيدة “هونيش” السمينة اللطيفة، ولم يتوقف عن البكاء حتى عاد “هونيش” من المحل في مؤخرة الدار وجعل الحجارة تتدحرج على كفه وقال لزوجته بصوت منخفض:” خمسة وخمسون غراماً بالضبط”.
قفل جدي عائداً ماشياً خلال الغابة لمدة ساعتين، حتى بعد تعرضه للعقاب بالضرب لم يقل شيئاً، لم ينبس ببنت شفة حينما سئل عن نصيب أسرته من القهوة، أمضى المساء كله يجري حساباته على قطعة الورق، التي كان مدوناً عليها كل ما باعه للسيدة “باليك” وعندما انتصف الليل وسمع المدفع وهو يطلق من القصر وجلجلت القرية بالصخب والضحك وقبلات أفراد العائلة واحتضان بعضهم البعض فإذا به يكسر هدوء السنة الجديدة بقوله: “إن آل “باليك” يدينون لي بثمانية عشر ماركاً واثنين وثلاثين قرشاً”، ومرة أخرى فكر في كل أطفال القرية وأخيه “فريتز” الذي جمع الكثير جداً من الفطر و أخته “لودميللا”، فكر في مئات الأطفال الذين جمعوا الفطر والأعشاب والزهور لآل “باليك”، وهذه المرة لم يبك بل أخبروالديه وإخوته باكتشافه.
عندما ذهب آل “باليك فون بيلقان” إلى الإحتفال الديني الذي يقام بمناسبة بدء السنة الجديدة في عربتهم المغطاة بشعارهم الجديدوهو عبارة عن عملاق رابض تحت شجرة تنوب، ومزينٌ باللونين الذهبي و الأزرق، رأوا الوجوه الجامدة الشاحبة تحدق بهم بدل ما توقعوه من أن يجدوا أكاليل الزهور في القرية او أغانٍ تنشد من أجلهم أو هتافات و تراحيب، ولكن القرية كانت تبدو مهجورة بالكامل عندما كانت عربتهم تسير فيها، وعندما اعتلى الخطيب المنبر ليلقي موعظة السنة الجديدة أحس ببرود و إحباط هؤلاء القوم الذين كانوا عادة هادئين و مسالمين، فتعثر عدة مرات في كلامه إلى أن عاد إلى مكانه يتصبب عرقاً.
عندما غادر آل “باليك” المكان مشوا عبر صف من الوجوه الصامتة الشاحبة، ولكن السيدة الشابة توقفت أمام مقاعد الأطفال وبحثت عن وجه جدي، الصغير الشاحب “فرانز بروتشتر” وسألته: “لماذا لم تأخذ القهوة إلى والدتك؟” فوقف جدي وأجابها: “لأنكم تدينون لي ما يساوي قيمة خمسة كيلو من القهوة” وأخرج حجارته الخمس من جيبه وأراها إياها قائلاً: ” إن هذا القدر، خمسة وخمسون غراماً ناقص من كل رطلٍ من عدالتكم”، وقبل أن تتمكن السيدة من قول أي شيء رفع الرجال والنساء أصواتهم بالغناء مرددين” حكمت عليكم العدالة بالموت”.
وفي أثناء تواجد آل “باليك” في الاحتفال اقتحم الصياد “فيلهم فولا” الغرفة الصغيرة وسرق الميزان والمجلد الضخم، الذي ُقيّد فيه كل كيلو من الفطر وزهور القش أي كل ما اشتروه من أهل القرية.
أمضى رجال القرية عصر أول يوم من السنة الجديدة في حجرة الاستقبال بمنزل أجدادي يجرون حساباتهم، فحسبوا العشر من كل شيء باعوه إلى أن توصلوا إلى ألوف كثيرة من الجنيهات الفضية ولم يصلوا إلى نهاية بعد، وإذا ببعض قوات من الشرطة تصل وتقتحم المكان وتملأه بالصرخات والطعنات وتسترد بالقوة الميزان والمجلد، هذا بالإضافة إلى مقتل أخت جدي الصغرى“لودميللا”، كما جُرح بعض الرجال وطعن الصياد “فيلهم فولا” أحد رجال الشرطة وأرداه قتيلاً.
لم تكن قريتنا هي الوحيدة التي تمردت فقد تبعتها أيضاً “بلاوقاو” و “بيرناو” ولمدة أسبوع تقريباً لم يكن هناك أي عمل في مخازن الكتان، وانتشر الكثير من أفراد الشرطة يهددون الرجال والنساء بالسجن فعادوا إلى العمل، كما أجبر آل “باليك” أحد رجال الدين على عرض الميزان على الجميع في مبنى المدرسة ليروا كيف أن مؤشر الميزان يعمل بدقة، ولكن لم يذهب أحد إلى المدرسة فوقف الرجل هناك بلا معين، وحيداً مع الميزان و الأثقال وأكياس القهوة.
عاد الأطفال إلى جمع الزعتر والزهور، ولكن في كل يوم أحد وبمجرد رؤية آل “باليك” فإن الترنيمة كانت تبدأ ” حكمت عليكم العدالة بالموت” إلى أن صدر قرار بمنع غنائها في جميع القرى.
اضطر والدا جدي إلى ترك قبر ابنتهم الصغيرة و مغادرة القرية بأكملها وأصبحوا صانعي سلال و لكنهم لم يستقروا في أي مكان لأنهم كانوا يتألمون حينما يجدون أن العدل مفقود في كل مكان، فإصبع العدالة كان دائماً يتأرجح بطريقة خاطئة فكانوا يمشون خلف عربتهم التي تزحف ببطء على الطرقات الريفية و معهم عنزتهم النحيلة و ربما أستطاع المارة في بعض الأحيان أن يسمعوا صوتاً من العربة يغني: ” حكمت عليكم العدالة بالموت”وكل من أراد أن يصغي، وقليل ما هم، كان بإمكانه أن يستمع إلى حكاية آل “باليك فون بيلقان” الذين نقص العشر من عدالتهم.

قيد الحلم
ربما لو بقيتْ (نبيلة) قيد الحلم لبقيتْ طول حياتها سعيدةً, لكنّها سعت لتحقيق حلمها الّذي هو اللّقاء بأمّها, وموقفها هذا أعاد لي من ذاكرتي قصّة بائع البلّور في رواية الخيميائيّ للرّوائيّ البرازيليّ (باولو كويلو), ذلك الرَّجل المغربي المسلم الّذي عمل عنده (سنتياغو) بطل الرّواية لوقت عند عبوره مسافراً إلى صحراء مصر, فقد كان حلم تاجر الأواني البلّورية أن يجمع المال؛ ويكون على قدر من الثّراء ليزور مكّة ويؤدّي فريضة الحجّ, وعندما سأله سانتياغو: ولمَ لمْ تذهب إلى مكة الآن؟ قال التّاجر: لأنّ مكّة هي الّتي تبقيني قيد الحياة, وهي الّتي تمنحني القوّة على تحمّل كلّ هذه الأيَّام المتشابهة. وبعد مدّة من الزّمن وحصوله على الثّراء لم يذهب للحجّ وبقي قيد حلمه, لم يخرج من شرنقة الحلم بقي ينام ويصحو على لذّة الحلم, أو كما عبّر باولو كويلو عاش أسطورته الشّخصيّة..
وكذلك في رواية ذهب مع الرّيح, فضّل (آشلي) بطل الرّواية أن تبقى (سكارلت) حبيبته وأوّل نبضات قلبه؛ أن تبقى حلمه الّذي يجعله على قيد الحياة, ولا يمزّقه بتحويله إلى واقع رغم أنّ الفرصة في الزّواج منها قد تهيّأت له أكثر من مرّة, لكنّه فضّل أن يعيش حياته وهو يحلم بها وهي قريبة منه, بل أقرب من أنامله إليه…
لذيذٌ أن نبقى نعيد صياغة حلمنا بتفاصيله ونحن نعد السّيناريو في خيالنا, ونبعد عن الحلم كل المعكّرات والمزعجات, ونحن نعيد صياغة الحلم لنضيف الشّخصيّات الّتي نحبّها ونرتقي بها حتَّى تصل إلى سحابة حلمنا, ونجعل الحلم أبيض نقيّاً صافياً, كلّ السّبل إليه مستقيمة, وكلّ الأشخاص الّذين فيه يلقون علينا بهالة المباركة للإنجاز، لكنّه يبقى حلماً عالقاً بين سحائب أفكارنا، الواقع هو الصّدمة الحقيقيّة عندما تقترب من حلمك، ففي كثير من الأوقات لم يبق على حلمك إلّا أن تتناوله بيدك فتحضر عيون التّلوّث وقلوب الحسد وتؤذيك وبدلاً عن التّصفيق لك, تمزّق فرحتك وتنثر الرّماد على عيونك..
نعود (لنبيلة) الّتي كانت كلّ يوم تسأل عن أمّها, تسأل عن اسمها, وعن ملامح وجهها وعن لون بشرتها, وكيف هو صوتها, وهل هي جميلة كما في حلمي؟ كانت سعيدةً وهي تحلم وعندما طرقت بابها بلهفة وبين ذارعيها كلّ زهور الحبّ وعطور الجمال انتظرت اللّحظة الّتي تفتح لها أمّها الباب وتملأ جوفها الفارغ؛ الّذي بقي لعشرين سنةً جائعاً ينتظر حضن أمّها لتملأه بالحبّ, وتمسح من على أهدابها ألم السّنين, وتقبض على يدها الّتي أصبحت كالشّوك من لهفة اللّقاء، انتظرتها تقرأ الشّوق في عيونها وتغفو بها غفوة تنسى فيه كل الهجران والبعد والاحتياج الّذي كانت تتوقّد حتَّى كادت تكون رماداً.
كانت المفاجأة أكبر من تحمّل الفتاة, أمّها منطفئة جافّة بلا ملامح, لم تحضنها ولم ترحّب بها ولم تبكي لحرقة الشّوق؛ بل كانت تعلم عنها كلّ شيء ولم تحاول الوصول لها، تركتها خلف جدار عال وبين غرباء كل يوم يتغير لها وجه وتبقى تحت رجاء ذلك الوجه ألا يقطّب جبينه عندما ترسل له نظرةً…
ذاب حلم (نبيلة) وعادت تسحب أقدامها لا تعلم أيّ طريق سلكته, كانت تنظر وهي في السّيارة إلى الخلف إلى الطّريق الّذي يبعدها عن أمّها؛ كأنّها في رجاء أن تعدل أمّها عن ذلك الجفاء والبرود وتلحق بها وتتناول يدها وتقبّلها وتعتذر لها وتمسح على شعرها، ولم تفعل!!
وأصبحت(نبيلة) جوفاء من الدّاخل كأنّ في صدرها لهيب لا تطفئه محيطات الأرض,
هذا ما علمته عنها, وسألت عنها وأخبروني أنّها بخير؛ وأنا أعلم أنّها ليست كذلك..
أرجوكم حافظوا على جزء من أحلامكم, وعيشوا لذّة صياغة الحلم كلّ ليلة قبل أن تسدل الجفون ستائرها وتودّع الظّلام وتدخل في عمق الحلم.
هناك سؤال: من الّذي أعطى نبيلة أدوات الحلم؟ من الّذي رسّخ في عقلها أنّ أمّها كلّ الحياة؟ من الّذي أغلق في مساحات أفكارها كلّ أبواب الرّجاء والفرح وقرنه بقرب أمّها؟ ليتهم علّموها ألّا تربط فرحتها بأيّ شيء, ليتهم قالوا لها متى حلّت الفرحة فانعمي بها ولا تنتظري أحداً ليفتح لك علبة الفرح.

رِضــاب
فاحت رائحة عطر من ثيابه وهي تهم بغسلها، عطر لاينتمي الى مجموعتها المتنوعة من الماركات المرصوصة على تسريحة غرفة نومهم، عندما حل المساء.. استهلت حوارها متسائلة بتعجب :
رائحة عطر نسائي غير مألوفة تفوح من ثوبك الأبيض ؟
يجيب بهدوء:
وجدته هنا.! – مشيراً الى تسريحة غرفتهم-
تعيد الكرة في البحث،
تذهب مسرعة لتفحص تلك الزجاجات، فلم تصل إلى غايتها،
لم تستلم، فالشك يسري بجسدها كسريان الدم بعروقها، الغيرة تنهش صمتها،
كررت عليه السؤال مرة أخرى مع بعض عبارات اللوم..
هذه المرة لا يبالي بسؤالها فهو- منشغل بقراءة الصحف – التي بين يديه.
ممسكاً بإحداها مدققًا بنظره للعناوين التي تهمه ؛
زاد هاجسها كالنار في الصريم ، اشتعلت غيضاً ..
احمرت وجنتاها؛ من شدة حرارة جسدها المتعب من كوابيس القلق، التي صورتها في ذهنها، تحدث نفسها..
هل زوجي يخونني؟
أو.. أن هناك إمرأة أخرى؟
أو.. أن حاسة الشم تخونني؟
كيف أتحقق من صدقه؟!
مكثت على حالها ساعات..
وأسدل الظلام أستاره وزاد القلق لم تهدأ لها ساكنة كمن يتقلب على جمر ،
أستسلمت لحالها؛
تقضم اظافرها وجعًا، ثم سرحت بشريط طويل من الذكريات،
لعلها تصل إلى جواب يطفيء حيرتها، بينما هي تتخبط بين جدران الغرفة حائرة، ضربت بطرف قدمها أحد الأدراج السفلي لخزانة الملابس،
انفلج الدرج مسرعًا.. فوقع نظرها على كيس وردي (مزركش) بقلوب حمراء،
وعبارات مخطوطة باللون الأبيض، دققت النظر وهي تقترب تدريجيًا ، هنا أجتهدت حاسة الشم لديها..
فإذا بتلك الرائحة المشبوهة تنبثق منه، استردت نفساً عميقاً كمن وجدت كنزاً ثميناً،
وجدت زجاجة عطر ذهبية ، فخامة الماركة أزاغت بصرها، لم تقرأ تاريخ صلاحيتها، مزينة بكرت تهنئة قديمة،
تبدو عليه علامات الشيخوخة وكأنه قد مضى عليه حقبة من الزمن،
استرسلت في تفكيرها المتجمد من هول فيضان الظنون،
تقدمت الذاكرة تعتذر لسوء نشاطها، وخمولها المؤلم،
بدأت تستعيد نشاطها..
تراجعت في حكمها وألجمت سكوتها بحكمة “تهادوا تحابوا”

عتيد ق ق ج
ثوان قليلة جدا، شعرت بعدها بثقل يبدأ من كتفيّ، ليصل إلى أنفاسي، ندَّ صوتٌ خفيض يشبه سقوط حجارة تتهشّم:
– *ما عمله؟*
-النسيان.
– *أهذا ما تعنيه فقط؟*
-نعم والله.
– *إذن، يكفيك أن تلقّن عمله درسًا قاسيًا.. أما هو فدعْهُ في حاله!*
-أنت ناصح..أم متضرّر؟
بحدّة، وبصوت يخرج من بين أسنان لا تُرى:
– *ليس هذا من شأنك!*
قالها، وانزاح الضغطُ عن كتفي قليلًا، ما هي الإ ثوان قليلة، شعرت بارتياح يتسلّل إلى كامل جسدي ..وحين عاد إليّ نفَسي بالتدريج، قررتُ أن أتركه وشأنه.

وَحَلْ
تخرج بكامل جسدك، من بوابة علق على جانبها الأيمن، لوحة صفراء كبيرة، كتب عليها بالخط الأسود العريض “إصلاحية الحائر”. تحاول عد الزمن الذي مر، منذ دخولك منها قبل عشرين عاماً، لا ربما اثنين وعشرين عاماً، ينفرط منك عقد الأيام، بقدر مقاومة عينيك للضوء الساطع، في رحابة الشارع أمامك، يشدك منظر المرأة التي تحتضن الرجل، الذي خرج بمعيتك، وهي تجهش بالبكاء، خرجت من عينك دمعة، وأنت تشيح بوجهك للاتجاه الآخر، في داخلك صوت يقول إنها أمه، تتذكر أمك التي توقفت عن زيارتك، منذ عشر سنوات وثلاثة أشهر وسبعة أيام، كانت الوحيدة التي تتجشم عناء زيارتك عقد من الزمان، أخبروك أنها ماتت، ولحقت بأبيك، الذي سبقها بعد إصابته بجلطة عندما قبض عليك
.
في زيارتها الأولى، بعد سجنك بثلاثة أشهر، أخبرتك أن أخاك توظف، وبدأ يصرف على المنزل بسخاء، حتى أنه غير أثاث المنزل، وأعاد دهانه في فترة وجيزة، وأنه يستعد للخطبة والزواج، كانت سعيدة وهي تحدثك، رغم ألمها لفراقك .
استغربت !
في زيارتها العاشرة، أخبرتك أن أخاك خطب ابنة خالتك التي تحبها أنت! تمزقت في روحك كل رسائل الحب والعهود، وأيام تلظت بحرارة الأشواق، احتبس البكاء في داخلك؛ فهو يعرف العلاقة بينكما! وهي كيف وافقت؟ انقطع أول خيط لك مع الحياة .
في آخر زيارة لها، أخبرتك أنهما رزقا مولودهما الثالث، وأنها طلبت تسميته على اسمك!
تدور عيناك في فراغ الطريق أمامك، حيث ينتهي كل شيء بالصمت، إلا من ضجيج داخلك، وأنت تنتصب في وسطه بحقيبة ملابس عتيقة، وورقة مستطيلة، تبللت بعرق يديك، وأنت تقرأها في كل مرة، لتتأكد من الرقم المكتوب، “مليون ريال”، لا يصرف إلا للمستفيد الأول الذي هو أنت، تعيدها إلى جيبك، تتوقف بجوارك سيارة أجرة، يشير لك صاحبها بالركوب، تفتح الباب الخلفي وتلقي بجسدك المنهك على المقعد، وبكلمات مبتورة تخبر السائق عن وجهتك وعيناك تودع اللوحة، وتتساءل ماذا أصلحت في داخلك المهشم؟ تظهر صورتك في المرآة الأمامية، تذهلك تجاعيد وجهك الذي استطال من شدة النحافة، تتأمل أصابعك التي فقدت بعض الأظافر كل شيء متيبس فيك حتى المشاعر .
تراقب الطريق عبر النافذة، تمر الأشياء سريعة أمام ناظريك، تعطيك ملخصًا موجزًا لما حدث، وأنت خلف الأسوار، تعيش في لحظة بين الحقيقة والخيال لائذًا بصمتك، لم تخبر أمك عن اليوم الذي أخذ فيها أخوك العاطل سيارتك كالعادة، ولم تخبرها عن بقع دم على ملابسه، وجزء من يديه، لمحتها وهو يعيد لك المفتاح، ولم يمهلك لسؤاله، لم تخبرها عن حالة الفزع التي أصابتك، ورجال الشرطة يحملون أدلة جريمة لم ترتكبها من شنطة السيارة الخلفية، لم تعترف لأنك لا تعرف شيئاً. ولم تخبرها حتى لا تثلم فرحتها بوظيفة أخيك، وقراره بالزواج، وكان هذا كافيًا لإسعادك .
قبل أسبوع أُشعرت أنه سيفرج عنك، لأنهم قبضوا على المجرم الحقيقي، بعد أن أفشى سره شريكه المصاب بالسرطان وهو يحتضر، اليوم أعطوك شيكًا تعويضيًا و أمرًا بالإفراج .
ها أنت تقف أمام باب منزلكم تغيرت ملامحه، والجوع ينهش أمعاءك وروحك، يصلك صخب أطفال يلعبون في الداخل، وأمهم تحدثهم بصوت تعرفه جيدا، استندت على الجدار، وجلست وأنت تخرج الشيك من جيبك، تطالعه للمرة الأخيرة، ترتخي يدك ويسقط، تحمله هبوب خفيفة في طريقها، وروحك تحلق خلفه بهدوء!
.

عازف الصرناي
رن هاتفي الجوال في وقت غير معتاد، وقت قد آويت فيه إلى
فراشي، والفراش عندي خط أحمر.كدت أن أتجاهل الرد لولا شعور خّفي دفع بي لمغادرة السرير إلى حيث الهاتف. منذ أشهر وأنا أتركه بعيدا عني إذا نمت، حتى ولو غفوة قيلولة لا تزيد عن ساعة. فوجئت أن المتصل هو خالي، حبيبي، أقرب القريبين إلى نفسي، وهو رجل قد عبر الستين عاما، ومن يعبر الستين فلن يتصل في وقت مثل هذا الوقت مالم يكن مضطرا للاتصال. خفتكثيرا وتسارعت دقات قلبي ثم رددت بتلعثم بّين: هلا يا خال. جاءني صوته من الطرف المقابل محمولا على حنجرة واهنة ضعيفة ونفس منهك جدا وهو عازف الصرناي، عازف الصرناي الذي منحه الله رئة بعير، الصرناي آلة نفخ شعبية لا يقدر
عليها إلا أولو الحويصلات التنفسية القادرة.
خرجت حروفه منهكة واهنة، قال لي: أصابنيكورونا بشكل مؤكد، وقد استدعيت سيارة الإسعاف وسوف تأخذني إلى المستشفى. قلت له: سآتيك الآن فقال ليكلا، حالتي سيئة جدا ولن يسمحوا بوجودك معي، هاتفتك الآن لتعرف أين أنا فقد لا نلتقي ثانية، أما
59
المستشفى فهذه مهمة رجال الإسعاف المهيأين لذلك. أشفقت عليه من تعب الكلام فقلت له ي ّسر الله أمرك وشافاك، قلتها وفي داخلي حزن بحجم السماوات والأرض، وعندما أغلق الهاتف أخذتني عاصفة من بكاء مرير. لم تعد عندي رغبة في نوم أو حتى مجرد استلقاء على السرير، لذلك جلست على أريكة في صالون البيت، لم أغمض عي ّني
لكني لا أرى بهما شيئا، فقط أحدق في نقطة غير معلومة.
اجتاحني سلطان النوم وأنا على الأريكة، نمت في وضع غير
صحي على الإطلاق، ولذلك انتبهت بعد ساعتين برقبة متيبسة واطراف يسري فيها الخدر. حلمت في تلك الساعتين بأن هناك من يحشرني بقوة داخل صندوق ضيق ولذلك انتبهت، لعلها عناية الله قد أيقظتنيكي أعّدل وضعية نومي. انتقلت إلى سريري غير أن النوم قد طار منيكما يطير طير أفزعه راجم عابر. قلت لنفسي: لا شيء غير السرير، وسوف أبقى عليه بنوم أو بغيره، المهم ألا تعّوج رقبتي فتغدو مثل رقبة بعير. لفتت انتباهي رسالة على شاشة هاتفي المحمول، التقطت الهاتف ثم تذكرت أن نظارتي بجوار الأريكة وأنا من غيرهاكالأعمى أو أضلسبيلا.تحركتنحوالأريكةثانيةووضعتالنظارةفوقأنفيعلى
عجل وطالعت رسالة الهاتف المحمول.
60
كانت رسالة واتس أب من خالي، وما دام قدكتب رسالة
فمعنى ذلك أنه بخير، أو بخير نسبيا على الأقل. يقول خالي: السلام عليكم، فجرك مشرق وسعيد، وصلت المستشفى، وألقوا بجسدي المتهالك فوق سرير أبيض.كنت في حالة موت إلا قليلا، ملتصق بالسرير لا أستطيع حتى تحريك اصبعي، خيل لي أن ثلة من الناس قد رجمتني بالحجارة حتى ُدفِن ُت تحتها، أرقب أنفاسي، أتابعها وهي تذوي شيئا فشيئا، يقترب بي إيقاعها البطيء من موت محتوم. لقد أعطيتهم رقم هاتفك ليهاتفوك إذا مت، ليس لي غيرك ويهمنيكثيرا أن تعرف أنني مت لتترحم علي فقط. أما الغسيل والكفن والدفن فهذا شأنهم ولن يقبلوا منك أي مساعدة، هذه أمور محسومة لديهم تماما فلا تتعب
نفسك ولا تحاول. حفظك الله.
قلت وقد قرأت الرسالة ثلاث مرات:كان الله معك يا خالي،
كان الله في عونك. ردك الله لنا ولآلة الصرناي التي لم يعد يعزفها أحد غيرك، وقاتل اللهكورونا الذي أصابك في مقتل. تقلبت على فراشي طويلا لكني استسلمت في نهاية المطاف، نمت نوما عميقا وطويلا، أدركت ذلك من ساعة الحائط التي تناظرني من عِل، وأدركته من الجوع الذيكان يفري أحشائي مثل مخرز في يد خراز بليد. لذلك غادرت
61
الفراش حاملا جوعي باتجاه المطبخ. شرعت في تجهيز وجبة وقبل أن أقدح الزيت وصلت رسالة واتس أب، أغلقت كل شيء وتوقفت تماما عن الطبيخ وأسرعت نحو الأريكة.كانت الرسالة من خالي، وما دامت هي من خالي فهو بخير إذن. جلست، لبست نظارتي، ثم فتحت
الرسالة.
كتب خالي في رسالته: السلام عليكم ورحمة الله، أكتب لك
وقد أدركت عدة معان لم أدركها جيدا من قبل، كانت تمر علي كمفردات استهلاكية لتزجية الوقت ولا غير. لقد أوصلوني بجهاز التنفس الصناعي فعرفت ما معنى أوكسجين، وتحركت رئتي بحرية أفضل فعرفت معنى الرئة، وعندما أضجعني الممرضون على جنبي للنظافة أدركت معنى التمريض، وعندما أوصلني الطبيب بالجهاز أدركت معنى الطبيب. أشعر بالحياة الآن، أشعر بها فعلا على نحو لم يكن متوفرا مساء أمس وصباح اليوم لكني لم أتفاءل بعد فأوصالي ماتزال مفككة. كن بخير. انتهيت من القراءة فأغلقت الجوال وعدت للطبيخ، عدت وأنا أكثر تفاؤلا من خالي وإنكان هو الذي يعاني لا أنا، لكني أراه
قد تحسن – ولو قليلا- عن ذي قبل.
62
كل المقاطع المصورة لحفلات خالي موجودة عندي، غير أن
أجملها على الإطلاق هي تلك التي لاتزال على أشرطة الفيديو تيب، وهي أشرطة قديمة لأن أنظمة الفيديو قد سادت أعواما ثم بادت، أصبحت الآن دقّة قديمةكما نقولها بالمحكي في جهاتنا. لذلك عقدت العزم على نقلها من على أشرطة الفيديو تيب البائدة إلى ملفات حاسوبية حديثة، فنتمكن من تشغيلها على الحواسيب أو على الهواتف الذكية. هذا المشروع تأخركثيرا،كنت سأقدمه لخالي هدية في عيد ميلاده الثامن والخمسين، ثم عيد ميلاده التاسع والخمسين، وفيكل مرة كان يحول بيني وبين إنجازهكسل في همتي. الآن هو طريحكورونا ولو كتب الله له العمر فسوف أقدمه هدية له في عيد ميلاده الستين. بعد
شهرين من الآن سيحتفل به، وآمل أن يحتفل به فعلا.
مضت ليلتي هذه ولم استلم رسالة من خالي، لا رسائل ومع ذلك سوف أنام فأنا مرهق، مرهق نفسيا على الأقل. سأنام وأحتفظ بهاتفي المحمول على مقربة مني، لو وصلت رسالة من خالي فسوف أنتبه لها. نمت عند العاشرة ليلا وصحوت عند العاشرة صباحا وتساءلت: ما هذا الحظ الرديء؟ لوكنت بحاجة إلى مثل هذا النوم الطويل لما تيسر لي، واليوم يحدث هذا وأنا بأمس الحاجة لمزيد من
63
الوقت؟ تذكرت رسائل خالي فألقيت نظرة فاحصة على هاتفي المحمول فلم أجد،كّدرني ذلككثيرا، خشيت أن تكون حالته قد ساءت. تساءلت – في محاولة للتفاؤل- ولم لا يكون قد فعلها هو بدوره ونام نوما طويلا؟ صبرت نفسي بتلك الفكرة ثم جهزت لقمة آكلها فأنا
خ ا ٍو تم ا م ا .
قمت بتجميع أشرطة الفيديو، تلك التي توثق حفلات خالي،
بعضها في مكتبتي وبعضها في مخزن للمواد السريعة التلف. جمعتها من هنا وهناك والقيت بها فوق طاولةكبيرة، تكومت الأشرطة فوقها فكانت مثل تل صغير. قمت بتنظيف رأس الفيديو فهو مهجور من سنوات، ولم نعد نجد مواد التنظيف المخصصة له، مات الفيديو وماتتكل توابعه معه. جهزت التوصيلات المناسبة وبدأت عملية الرقمنة، بدأ التحويل من أشرطة الفيديو التماثلية إلى ملفات الحاسوب الرقمية. مضت الساعات وأنا مكب على الأشرطة مثل ن ّساج هندي، تذكرت خالي فانتفضت. يا إلهي، لا رسائل من خالي أبدا، لقد أصابه مكروه ما، حتما قد أصابه مكروه ما إذ ليس من المعقول أن ينام هذه المدةكلها. تركت الرقمنة جانبا وشرعت أذرع الصالون جيئة وذهابا، ما الذي يجب
علي أن أفعله؟كيف اطمئن على خالي؟ بمن اتصل؟ من يفيدني عنه؟
64
بلغ القلق ح ّده وقررت الذهاب للمستشفى، حملت هاتفي المحمول وفي لحظة نور لاحظت أمرا مضحكا. ضحكت وارتميت على الأريكة ذاتها رغم ما أنا عليه من القلق والتوتر. ضحكت حتى اغرورقت عيناي بالدمع، وسخرت من نفسي حيث لم يكن هاتفي موصولا بالشبكة، يا لسخرية الأقدار ويا لعمق تأثير القلق! فتحت الواي فاي وما هي إلا أقل من ثانية حتى انهمرت الرسائل مثل المطر،كان عداد الرسائل يتسارع وكأنه عداد محطة وقود. وجدت لخالي رسالتين، يفصل بينهما ثلاث ساعات. قال في الرسالة الأقدم: نم هانئا هادئا ولا تهمل طعامك فأنا بخير، أتنفس بارتياح مادام جهاز التنفس موصولا وهذا في حد ذاته كرم من الله. ما تزال حاستي الشم والتذوق مفقودتان عندي، ولكنها
ستعود تدريجياكما أخبرني الطبيب.
أما الرسالة الأحدث فقدكانت مؤلمة جدا، إنه يشتكي فيها
من الوحدة القاتلة. ثلاثة أيام أمضاها على سرير مفرد يحيط به البرد والصمت، حتى الأطباء الذين يتناوبون خدمته لا يتكلمون معه إلا قليلا. هو يدرك صعوبة الموقف، ويدرك معنى الحجر، لكنها تظل أشياء مزعجة جدا رغم الحاجة الضرورية إليها. لهذا فقد توسعت في ردودي على رسائله،كنت أكتب له ردودا مقتضبة مراعاة لحاله أما الآن فلا
65
مناص من التوسع والإسهاب والتفصيل.كتبت له عن مشروع الرقمنة، وصفت له خطوات العمل، من تجميع الأفلام حتى تحويلها إلى ملفات رقمية. وحتى أحرك عنده نوازع الأمل قلت له: سأجهز فيلما عن إبداعاتك مع آلة الصرناي، وعندما نحتفل بعيد ميلادك الستين سيكون
الفيلم عمود ذلك الاحتفال.
مضى يوم دون رسائل، أربع وعشرون ساعة دون رسائل من خالي. تفقدت جهازي فوجدته على خير ما يرام، مشحون بالكهرباء موصول بالشبكة. ومع بداية التوتر والشعور بالقلق وصلتني منه رسالة، وصلت فكانت كأنها الماء على الظمأ. قرأتها فانزعجت أولا، ثم أتممت القراءة فسررت مما جاء في بقيتها. انزعجت لأنه يقول هذه آخر رسائلي لك، يقول أنهم قد طلبوا منه إيداع هاتفه في أمانات المستشفى فهو ممنوع على المرضى. لكني فرحت لأنه ب ّشر باقتراب مغادرته للمستشفى، وسيقضي عدة أيام في حجر منزلي.كتبت له ردا أرحب به في بيتي، وتمنيت عليه أن يقبل بذلك، وأن يطلب أن يكون الحجر في غرفة من
غرف منزلي الذي لا يسكنه سواي.
في ساعات الصباح الأولى رن هاتفي فأسرعت للرد، جاءني من الطرف الآخر من يقول معك طبيب المستشفى. ما إن سمعتكلمة
66
المستشفى حتى تراخت قوائمي، قلت بأسى: خالي مات؟ سمعت قهقهة الدكتور تجلل في هاتفي المحمول، قال لي: و ّحد الله يا رجل، خالك بخير وعافية. تواضعتكقطرة ماء أفلتت من غصن أخضر وجْلس ُت على الأريكة، قلت: لا إله إلا الله ثم اعتذرت من الطبيب لسوء فهمي. قال لي : اتصلت بك لأمرين: الأول منها أن تأذن لفريق المستشفى بزيارتك وترتيب غرفة الحجر المنزلي لخالك فقد أبدى رغبته أن يكون الحجر في دارك، والثاني أن تأتي لنا بآلة الصرناي. أدهشني طلب الصرناي فكررت
للتحقق: الصرناي؟ قال نعم.
في دقائق معدودة تحولت دهشتي إلى ذهول، أذهلني هذا
الطبيب الفذ بقدرته والفريق الذي معه على اكتشاف مجاهل خالي. قال لي خالك قوي بحبه للحياة، لقد هزمكورونا وكان هو الأقوى.كان قويا حتى في أشد لحظاته ضعفا، مبتسما حتى في أشد اللحظات عبوسا. واصل الطبيب حديثه فقال: عندما رأينا في خالك مريضا مختلفا – يختلف عنكل مرضانا – بحثنا فيكوامنه فأدركنا أنه عازف فنان، فنان متعلق بآلته الفريدة الصرناي. استمعت إلىكلام الطبيب وعجبت لهذه الروح العظيمة التي يتحلى بها، أضفت علىكلامه أن آلة الصرناي تحتاج إلى رئة قوية ومن مفارقات القدر أن تكون إصابة خالي في رئتيه.
67
فاتحني الطبيب برغبته في الاحتفاء بعازف الصرناي، خالي
الموقر. قال لي: لا بد من ليلة مشهودة ننتصر فيها علىكورونا بقيادة عازف الصرناي الأنيق. اقترح أن يعزف خالي على الصرناي وقد تعافى صدره الآن، وأن تشاركه فرقة الفنون، كل فرد في بيته. اقترح أيضا أن يتم الربط بينهم جميعا بالهواتف النقالة، العازف في غرفته بالمستشفى والراقصون المغنونكل واحد في بيته. ثم قال بحماس عجيب: نريدها
حفلة صرناي على البعد!
في الحفلة السايبرانية المشهودة عزف خالي، عزف خالي على
الصرنايكما لم يعزف من قبل، بدا لنا وكأنه في أوج عافيته. عزف خالي ورقص الراقصون وغنى المغنون،كانوا صوتا واحد يقول للناس: الجائحة ليست أقوى، وكورونا حتى وإن اعتدى على الرئتين فإنه لن
يمنع عازف الصرناي ولن يمنعنا.

شيربروك
ضغط سائق حافلة شيربروك 24 على مكابح الفرامل بقوة شديدة أثر سماعه ضحكة هستيرية قوية ..قوية جداً، يخيل لسامعها أنها ليست بشرية بل صادرة عن كائن آخر من تحت الأرض مثلاً أو كوكبٍ آخر أو كائن خرافي خارج من كتاب عتيق للأساطير و الحكايات المخيفة… و للحقيقة، لم تكن ضحكة بالمعنى المألوف بل هي أقرب لصرخة مكلوم أو أنين مكتوم!
ساد الحافلة المزدحمة بعد ذلك صمت مطلق و لم يتحرك أحد من مكانه لأن السائق لم يتوقف في أي محطة بل هو توقف طارئ لإستجلاء ما حدث للتو.
وإذ بسيدة شابة رسوم الحسن بادية على محياها برغم مظهرها الرث و نظارتها السميكة، المكسورة الذراع والمثبتة بخيط ملفوف عدة مرات،
يبدو عليها أنها تحمل هموم الكون على رأسها وحتى داخل حقائبها الثلاث المتضخمة وكأنها تحمل فيها جميع ملابسها و ممتلكاتها في هذه الحياة،
تطلب منه بصوت منخفض أن يفتح الباب لتخرج.. تردد السائق ثم استجاب لطلبها..
جمعتني بها الصدف عدة مرات في نفس الحافلة رقم 24 و تبادلنا ابتسامات و تحيات من بعيد و في كل مرة يذوب قلبي شفقة عليها و أتخيل ألف حكاية و حكاية عن حقيقة وضعها .. أهي معنفة أسرياً؟ أهي مطلقة ومحرومة من حضانة صغارها؟ أم مجرد حسناء فقيرة ومتشردة؟
إلى أن رأيتها ذات مرة في حديقة ويست ماونت العامة الواقعة على شارع شيربروك، وقد بدا أن أحد كراسي الحديقة وما حوله من عشب و شجيرات صغيرة قد تحول لسكن لها، تأوي إليه بعد التجوال اليومي بالحافلة، فتستريح من حمل الحقائب و تستمر في محادثة نفسها أو محادثة أشخاص تتخيل وجودهم وبين الفينة والفينة تهتز أشجار الحديقة و أغصانها وأوراقها و زهورها بقوة ضحكاتها الهستيرية..
لمحتني من مسافة قريبة .. ابتسمت ولوحت لي بترحاب…
ترددت فيما بدا لي دهراً… هل استجمع شجاعتي وأغتنم الفرصة لأقترب أكثر وأحادثها، و أشبعفضولي بمعرفة قصتها؟
أم أرضى من الغنيمة بالإياب وأدع الخلق للخالق وهو أرحم الراحمين؟
و قبل أن أصل إلى قرار، أقترب منها شابان مفتولا العضلات في ملابس بيضاء رسمية، و أخرج أحدهما ورقة و أراها إياها، و بكل استسلامٍ بدأت تجمع ما تناثر من أشيائها في حقائبها الثلاثة ..
أحضرني قلبي بقربها قبل أن يذهبا بها وقد صارت الرؤيا أمامي ضبابية و قد اختلطت دموعي برذاذ مطر خفيف و كأن السماء تبكي معنا..
لدهشتي الشديدة مدت يدها لي بورقة صغيرة وهمست:
” أرجوك أن تزوري قبر صغيرتي بدلاً مني كلما سمح وقتك!”