مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
قرعت النافذة بقوة، ولكن الممرضة أشارت إلي بيد مفتوحة واليد الأخرى بثلاثة أصابع، لم أفهم ما ترمي إليه، فرفعت عينة البول فجاءت إلي غاضبة وقالت:
الدوام الساعة الثامنة، فقلت لها استلمي مني العينة فقط فقالت: آسفة وأغلقت النافذة وأدارت ظهرها ومضت.
بقيت في حيرة من أمري فالساعة الآن تشير إلى السابعة تماما، فقلت في نفسي سوف أذهب إلى عملي وأقوم بإثبات الحضور ومن ثم أعود لأسلم العينة.
عندما هممت بالخروج رأيت الطبيب يدخل من الباب فقلت الحمدلله سيساعدني في استلام العينة، فسلمت عليه وقلت له عندي عينة وأريد تسليمها للمختبر، فقال لي: سلمها للممرضة فقلت له هي موجودة بالداخل ولكنها ترفض استلامها قبل الثامنة، فهز رأسه ودخل وأغلق الباب.
ذهبت إلى عملي والعينة في يدي ممسكا بها كمن يمسك عصفورا يخشى عليه من الهرب.
أسبوع مضى أحاول أن أجمع عينة البول من صغيرتي ذات العشرة أشهر. في كل ساعة أرخي حفاظتها كي أحاول جمع تلك العينة بدون جدوى. أترقب نزول بولها بعد كل شربة حليب. تمضي الأيام والساعات أفشل في جمع تلك العينة كمن يحاول اصطياد سمكة بيده. لم تفلح محاولاتي إلا بعد أن تركتها تلهو بدون حفاظة، وبعد أن أغرقتها بسوائل حتى كادت تتقيأ بها. أمطَرت المكان كحمل صغير، أخذت أركض خلفها وبيدي علبة العينة، نسيت أن أفتحها، تعثرت وأنا أركض خلفها وهي تهرب مني وتضحك وكأننا في حوض صابون زلق عصي على الإمساك.
بعد أن أمسكت بها وضعت العينة على نهاية الاندلاق، حصلت على قطرتين ربما لا تكفي لتحليلها، ولكن عزمت على تسليمها مهما كلف الأمر.
في يوم حار ورطب دخلت على مديري وأنا أحمل العينة فانتفض غاضبا، فشرحت له الوضع، وخشيت إن تركتها خارجا أن تفسد وتضيع محاولاتي سدى. أمرني بالخروج سريعا لتسليم العينة، وكل من رآني من زملائي في العمل أخذ يضحك علي حتى أن بعضهم دعا لي بسخرية بأن تكون النتيجة إيجابية ويتم لي الحمل بتوأم.
بقي من الوقت خمسة وأربعون دقيقة على وقت تسليم العينة، ذهبت إلى الفوال، وضعت العينة على الطاولة وطلبت طبقا من الفول مغطى بالسمن البلدي. حدّق فيّ العامل ثم حدّق في العينة ومضى.
بعد برهة وضع طبق الفول والسمن الأصفر يتماوج فوقه، بعض الحاضرين كان ينظر إليّ بقرف واشمئزاز، وبعضهم مرّ بجواري وهو يقول: الله يشفيك، ولكني تظاهرت باللامبالاة وأكملت فطوري.
خرجت من الفوال، والوقت يتمطى بارتياح كأنه يعاند المضي قدما. بقيتْ نصف ساعة والجو حار ومشمس. رفعت العينة في وجهة الشمس وكأني أعاين ماسة ثمينة. حاولت وضعها في جيبي برفق ولكن خشيت أن تندلق وتُكر السُبحة في محاولة الحصول على عينة جديدة، غطيتها بيدي وذهبت إلى مقهى شعبي كي أبدد ما بقي من الوقت. طلبت كوب ينسون كي يهدأ من روعي، وبعد أن وضعه النادل على الطاولة، تحيرت كيف أشرب. وضعت العينة على الأرض ولكن خشيت أن أركلها بدون شعور. وضعتها بجانبي ولكنها لم تكن ثابتة. وضعتها على الكرسي المقابل فخشيت أن يسحب أحدهم الكرسي وتسقط العينة. أخيرا وضعتها بحزم أمامي على الطاولة، تأملتها جيداً فكان لونها أشبه بلون الينسون. بعد أن أنهيت الكوب على مهل خرجت متوجها إلى المستوصف. وصلت بتوقيت الثامنة تماما، ولكن المكان كان يعج بالمرضى. توجهت إلى المختبر، طرقت الباب ولكن لم يجبني أحد. فتحت الباب فوجدت الممرضة تسحب عينة دم من أحدهم فقلت لها لدي عينة أود تسليمها فقالت انتظر دورك، فقلت لها أريد تسليم العينة فقط وأمضي، فردت عليّ بغضب انتظر بالدور.
خرجت إلى غرفة الانتظار فكان هناك خمسة مرضى أمامي، تنهدت بحسرة وجلست. بعد مضي ساعة من الزمن نادت عليّ الممرضة وقالت: ما عندك فقلت: عندي هذه العينة لصغيرتي أود تسليمها فقط فقالت: اذهب إلى الاستقبال وأحضر لي كشف مدون عليه اسم المريض وبياناته، فقلت: أنا مستعجل وأريد تسليم العينة فقط. فقالت: لا أستطيع استلامها من غير كشف مدون عليه بيانات المريض وإلا ضاعت العينة. ذهبت إلى استقبال المرضى وكان الطابور طويلا وقفت في الطابور قرابة النصف ساعة، وحين وصلت إلى الموظف طلب مني هوية المريض فقلت هي ابنتي وأنا أحفظ جميع بياناتها، ولقد كانت الأسبوع الماضي لدى الطبيب المعالج وبياناتها موجودة في الحاسوب لديك! فرد عليّ متأسفا بأنه لا يستطيع طباعة الكشف من دون الهوية. بعد أن يئست من النقاش معه انسحبت من الطابور وذهبت إلى المنزل وأحضرت الهوية، وعدت مسرعا. ذهبت إليه مباشرة كي أخبره بأني أحضرت الهوية، ولكنه طلب مني الوقوف مرة أخرى في الطابور وكان الطابور مضاعفا هذه المرة، وقفت في آخر الصف بحسرة وأنا أقبض على العينة في يد، وعلى الهوية في يدٍ أخرى.
بعد مضي ساعة من الزمن حصلت على الكشف وذهبت إلى المختبر مباشرة. طرقت الباب خرجت إليّ الممرضة وطلبت مني الانتظار بالدور. انتظرت حتى جاء دوري. لم تستلم العينة مني ولكنها أخذت الكشف وقامت بتعبئة البيانات على ملصق ثم طلبت مني بأن أضع الملصق على العينة ثم أضعها في صندوق مخصص جُمعت فيه عينات كثيرة. حاولت أن أضع الملصق على العينة ولكنها فرطت من يدي ووقعت على الأرض واندلق السائل منها. تجمدت مكاني كمن دلق عليه ماء باردا. نظرت إلي الممرضة وقالت ببرود خذ عينة جديدة وآتي بها غدا فالوقت شارف على الزوال ولا نستقبل عندها.
خرجت وأنا في نصف وعيي مشدوها. لسعتني الشمس بحرارتها وأنا ممسك بعينة فارغة. رفعتها عاليا، تذكرت السمن والينسون وصفرة الشمس التي كانت تشبه العينة، كانت تدخل خيوطها في العينة وتخرج فارغة تماما مثل ما انتهى يومي.
السبت 7 ابريل 2023م
——————-
-عرض النصّ:
سُـكــونٌ كَـالـمَـقـابِـرِ لا يُــطَــاقُ
غَـرامٌ لا يَـكُـونُ بــهِ الــتِـصَــاقُ !!
فـلـثْــمُ تَـرائـبٍ و شـمِـيـمُ صــدْرٍ
بِـشَـرْعِ الـعـاشِـقِـيـن هو الصّـدَاقُ !!
وَ مَــا أشـهـى الـهَـوى إنْ ضـمّ روحـاً
لــرُوحٍ ثُـمَّ لَـفّـهُـمَـا الــعِـنَـــاقُ !!
سـتَـمْـسَـحُ قُـبْلَـتَـانِ و دِفءُ حضْـنٍ
مِـنَ الأوجَـاعِ مـا طـعِـمُـوا وذاقُــوا !!
ثَـــلاثٌ إنْ ظَــفِــرْتُ بِـهِـنَّ مِـمَّــنْ
هَـوَتْـهُ الـروحُ عَـذَّبـَهـا الـفِــرَاقُ !!
تَـأمُّــلُ عَــارِضَـيْـنِ و شَـمُّ جِـيــدٍ
وَ لَـثْـمٌ مِنهُ تَـنْـتَـفِـضُ الحِـقَـاقُ !!
وَ إنْ أنَـاْ لَـمْ أَذُقْ خَـمْــرَ الـثّـنَــايَـا
فَـقَـدْ ضَـيَّـعْـتُ أنْـفَـسََ مـا يُـذَاقُ !!
حَــرامٌ أنْ أُضَـيِّــعَ مِـنْـكِ حَــظِّــي
مِـنَ الـلّــذَّاتِ أيَّـتُـهَــا الــعَـنَــاقُ !!
طقوسٌ غرامية
وَ أعْـظَــمُ حُـرْمَـةً و أشَــدُّ وَطْــئـاً
دَمُ الـيَـمَـنِ الــسَّـعِـيـدَةِ إِذْ يُــرَاقُ !!
وَصَـرْخَـةُ سُـورِيَـا وبُـكَـاءُ حَـيْـفَـا
يُـحَـشْـرِجُ في الصُّدورِ لَهُ اخْتِـناقُ !!
وَلُـبْـنَـانُ الـعُـرُوبَـةِ مَـحْـضُ جُـرْحٍ
يَـطُــوفُ بِـنَـا لَـهُ قَــدَمٌ و سَــاقُ !!
َو فـي الـسّـودَانِ شَـيْـطَـانٌ يُـغَــنِّــي
لِـيَـرْقُـصَ فِـي شَـوارِعِها الشِّـقَـاقُ !!
تُـحَـاوِلُ مِـصْـرُ نُـصْـرَتَـهَـا وَ لَـكِـنْ
مُـعَــاقٌ قَــامَ يُــسْـنِـدُهُ مُــعَــاقُ !!
إذَا الـعَـرَبِـيُّ لَـمْ يَـنْـضُـجْ صَـغِـيـراً
فَـكَـيْـفَ تَـعُـودُ لِـلْـعَـرَبِ الـعِـرَاقُ !!
تمزق الوطن العربي
دَعِـيـنِـي مِـنْ هَــواكِ فَـإنَّ قَـلْـبِــي
إلـى الـعَـلْـيَـاءِ سَـــارَ بـهِ بُـــراقُ !!
ألَـسْـنَا خَيْرَ مَـنْ رَكَـبَ المَـطَـايَـا ؟؟
لَـنَـا الخَـيْـلُ الـمُـبَـرِّزُ و الـعـتَـاقُ !!
بِـكُـلِّ مَـنَـاكِـبِ الـدُّنْـيَـا مَـشَـيْـنَــا
لَـنَـا فِـي كُــلِّ مُـعْـتَـرَكٍ سِـبَــاقُ !!
فَـكَـيْـفَ تُـذِيـلُـنَـا شَـفَـةٌ و كَــأسٌ
وَتَـسْرِقُ مَجْـدَنا الـنُّـجْـلُ الـرِّقَـاقُ !!
إلماحة مُجملَة
جِـنَـانُ الـوِدِّ يَـأْكُـلُـهَـا الــتَّـلاحِــي
ونَـارْ الـبَـيْـنِ يَـقّدَحُهَـا الـشِّـقَـاقُ !!
لَـنَـا أعْــدَاءُ قَـدْ ظَـهَــرُوا و بَـانُــوا
مِـنَ الـبَـغْـضَـاءِ كَـأسُـهُـمُ دِهَــاقُ !!
وَ فَـوْقَ الـبـشْـرَةِ الـسّـمْــرَاءِ يَـبْـدُو
جَـلِـيّـاً حِـينَ يَـنْـتَـشِـرُ الـبُـهَـاقُ !!
هَــدَانَـا خُـبْـثُ أنْـفُـسِـهِـمْ إلَـيْـهِـمْ
كَمَا يَـهْـدِي إلى الـمَعْـنَى الـسِّـيَـاقُ !!
سُـكَــارَى كُـلَّـمَـا وَجَــدُوا سَـبِـيـلاً
إلـى إطْــفَـاءِ جُـذْوَتِـنَـا أفَـاقُـــوا !!
يَـسُـوقُـونَ الـشَّـبَـابَ إلى الـمَـخَـازِي
كَمَا تُـسْـتَـاقُ لِـلْـعَـطَـنِِ الـنِّـيَـاقُ !!
فَـكَـيْـفَ سَـنَـسْـتَــرِدُّ زِمَـامَ مَـجْــدٍ
وَ نَـحْـنُ لِـمَـا أُرِيــدَ لَـنـا نُـسَــاقُ !!
إذا يَـبِــسَ الـتُّـقَـى بِـفِـنَـاءِ قَـلْــبٍ
وَ أمْـطَـرَهُ الـهَـوَى نَـبَـتَ الـنِّـفَـاقُ !!
عُـــرُوبَـتُـنَـا تَـئِـنُّ أنِـيـنَ ثَـكْـلَـى
مَـواجِـعُـهَا العَـظِـيـمَـةُ لا تُـطَـاقُ !!
إذَا ادّكَـرْتْ (بَـنِي الـعَـبَّاسِ) أغْـضَـتْ
ولِـلـذِّكْـرَى بِـعَـبْـرَتِـهَا اخْـتِـنَـاقُ !!
خُــيُـولُ ( بَـنِـي أُمَـيَّـةَ) كُــلَّ يَــومٍ
لَـهَـا مِنْ مِـلْـحِ أعْـيُـنِـهَـا انْـطِـلاقُ !!
تُـنَـادِي عَـمْـرَو و الـقَـعْـقَـاعَ هَـدْراً
و يَـأْســاً أنْ يُـجَـاوِبَـهَــا الـرِّفَــاقُ !!
تُــؤَمِّــلُ.. إنّـمَـا عَـبَـثـاً… كَـكَـهْــلٍ
إلى زَهْـرِ الـشَّـبَــابِ بـهِ اشْـتِـيَـاقُ !!
عَـلـى أنِّـي و إِنْ دَجَــتِ الـلّــيَـالِــي
وَ بَـدْرُ الـتَّــمِّ خَـاتَـلَـهُ الـمُـحَـاقُ !!
عَـلَــى أمَـــلٍ بِــأنَّ الــصُّــبْــحَ آتٍ
كَـغُــرَّةِ مَـنْ تحِـبُّ لَـهُ ائْــتِــلاقُ !!
فَـمَـهْـمَا اشْـتَـدَّ بِـابْـنِ المَاءِ ضِـيـقٌ
وَ ضَـاقَ عَلَيْـِه بِـالـكَـدَرِ الـخِـنَاقُ !!
سَـتَـبـقَى فُـرْجَـةٌ لِـلـسّـعْـدِ مِـنْهَـا
بِـحَــوْلِ اللهِ يَـتَّـسِــعُ الـنِّـطَــاقُ !!
فـبَـعْــدَ الـعُــسْـرِ قَـالَ اللهُ يُـسْــرٌ
وَ بَـعْـدَ ضَـرَاوَةِ الــجَـدَلِ الـوِفَــاقُ !!
وَ لَـوْلا الـلـيْـلُ مَـا بَـزَغَـتْ نُـجُــومٌ
ولَـوْلا الـكُُـفْـرُ مَا فُـضِـحَ الـنِّـفَـاقُ !!
و مَــا لِـلْـعُـودِ مِـنْ عَـبَـقٍ و نَــفْــحٍ
إذآ لَـمْ يُـبْــدِ جَـوْهَـرَهُ احْــتِـرَاقُ !!
إذَا اعْــتَـصَـمَ امْــرُؤٌ بِـاللّــهِ لانَــتْ
لَـهُ الأَرْضُـونُ وَ الـسَّـبْـعُ الـطِّـبَـاقُ !!
وَ مَـنْ لـمْ يَــتَّـعِــظْ بِـالـدَّهْـرِ غِــرٌ
مِـنَ الأَيَّـــامِ لَـيْـسَ لَــهُ خَــــلَاقُ !!
سَـأَلْـتَـزِمُ الرَّجَـا و الـصَّـبْـرَ حَـتَّـى
يُــنَــادَى أنْ إلـى اللـَّـهِ الـمَـسَــاقُ !!
وَ مَــا لِـيَ و الـغَـرَامِ فَـلَـيْسَ بَـيْـنِـي
وَ بَـيْـنَ ذَوِيـهِ فِـي الـدُنْـيَا اتِّـفَـاقُ !!
وإنْ خَـنَـعَـتْ لِـذُلِّ الـحُـبِّ نَـفْـسِـي
فَــأيْـسَــرُ مَــا يُــعَـالِـجُــهَـا الـطَّـلاقُ !!
—————————–
-عنوان النص وإشعاعاته الفنية:
لامناص لأي قراءة نقدية في المقام الأول ؛من أن تكون انطلاقتها المشروعة السائغة من استقراء العنوان البرّاق الذي ارتضاه الشاعر؛وأودع فيه-بطريقةٍ مكثفة- معانيه النفسية الغزيرة؛ولواعجه المؤرقة المتدسسة في أعماقه..
وإذا كانت واجهات البنايات العمرانية ؛علاماتٍ فارقة يستدلّ بها مرتادوها إلى الدخول إلى أعماقها ؛فإنَّ عنوان النص هو حجر الأساس الذي يقوم عليه معمار القصيدة؛ومن ومضاته الأولى يستدل المتلقي على العديد من أسرار النص الذي يصافحه ؛ويهمُّ باستقرائه؛في وقفاته التالية.
و عنوان قصيدةشاعرنا :(طلاق الحب) -من الناحية الشكلية- عبارةٌ عن تركيب إضافي (مضاف ومضاف إليه)؛ارتآه الشاعر واستحسنه ؛وفقاً للحركة الديناميكية الناجمة عن طبيعة العلاقة المتنافرة؛والجو المشحون بين دلالتي: “طلاق”و”الحب”؛كما أنَّ الشاعر رأى فيه مدخلاً ينفذ بواسطته المتلقي؛إلى المضامين التعبيرية التي سيقرع بها الأسماع ؛ويقدح بها الأذهان..
وعند علماء اللغة فإنّ المضاف هنا اكتسب خاصية التعريف ؛بعد أن كان مجرد نكرة مبهمة..
وبالعودة إلى معاجم اللغة لاكتشاف مدلولات هذا التركيب على نحوٍ أدقّ ؛يتجلى لنا أنَّ
أكثر المعاني المنبثقة عن لفظة (طلاق ) ؛وإليها تنصرف الأذهان تندرج تحت قضية “إزالة مشروعية عقد النكاح بين الزوجين”؛ومايترتب عليه من انفصالهما التام عن المعيشة معاً تحت سقف واحد؛وإلغاء مبادئ الشراكة التي ألّفت بينهما ؛فيما سبق من مراحل زمنية؛ومن هنا أصبحت اللفظة مصطلحاً موائماً لتلك الأجدات..
على أنَّ هناك عبارات شتَّى تجري في فلك مصطلح(الطلاق)؛كقولهم:
“طلَق المسجونُ”: أي تحرَّرَ من قيد ما كان مفروضاّ عليه؛وكقولهم:
طلَق يدَه بالخير: أي بسَطها للعطاء والبذل…الخ
وإجمالاً لما سبق ؛فإنَّ ما تشع به تلك اللفظة من إيحاءات ؛إنما تندرج في معاني الافتراق والاختلاف وفقدان اللُّحمة المشتركة بين الطرفين..
وتأتي لفظة (الحب) -سلطان المشاعر والعواطف -جليةً واضحة للعيان؛مؤتلقة في النواظر والأسماع ؛إلَّا أنّ الحب هنا بهالاته النورانية الملتحمة به؛وصفاته القُدسية ؛يشهد أحداثاّ دراماتيكية عاصفة ؛أذاقته ألوان الهزيمة ؛حتى ألجأته إلى أن ينأى بجانبه؛وأن يتنازل عن عرشه المطهَّم؛وأن تتضاءل قيمته الوجودية؛ليستحيل بعد ذلك كائناً منبوذاً محتقراً ؛أشبه مايكون بسقط المتاع..
وفي هذا السياق الناعم المخملي نستأنس بقول كاتبٍ قديم:
« الحبُّ أصعبُ ما رُكِبَ، وأسْكَرُ ما شُرب، وأقطعُ ما لُقي، وأحلى ما اشْتُهي، وأوجعُ مابُطن؛وأشهى ماعُلن».
من هذه الجولة العنوانية الخاطفة؛يمكن لنا أن نستخلص
أنَّ الحب -في نظر الشاعر -فقد جدواه ومصداقيته؛ وخسر رونقه الذي اتشح به؛وتأثيره المستمد من تفاعله مع بني الإنسان؛فوق أنَّه سُلبت منه الرهافة المقترنة به في ماضي الزمان؛فأصبح أقرب مايكون إلى مأساةِ المرأة المطلّقة ؛أو المسرّحة تسريحاً لاإحسان فيه؛ولالطافة تعتريه؛وأصبحت لغته الناعمة ؛ساذجة فجة لابريق لها؛ولاقدرة لها على رسم معالم الوفاق بين أصحاب الهمِّ الواحد.
على أنَّ هناك تأويلات أخرى؛تصبُّ في النهر ذاته ؛وهو نهر لم يعد صافياً .
ومن هنا فنحن على أعتابٍ غليانٍ شعري ؛حشد الشاعر فيه طاقته الفنية؛وأشهر حججه الدامغة؛وبراهينه النافذة؛على ماسنرى في أبيات النص .
—————————–
-الجو العام للنص:
يفتتح الشاعر نصَّه مشيراً إلى السكون المطبق الذي يلفُّ الكون بأسره ؛ويحيط به إحاطة السوار بالمعصم ؛وهو سكونٌ رأى فيه الشاعر صمت المقابر الموحش؛ تشبيه المعنوي بالحسِّي”.
وفي الإطار نفسه -لافاصل بين الأمرين-هناك غرامٌ يسبح في فضاء العدم ؛غرامٌ جائع يفتقر إلى طقوسه المتعارف عليها في قواميس العاشقين ؛من لثم وعناق وقبلات حارّة؛باعتبارها الأثمان المادية المعبرة عن مصداقيته وقيمته المعنوية.
بتلك الطقوس الحلوة يبلغ الهوى الوجداني قمة صفائه ؛وذروة احتوائه؛
إذ لا أجمل من روحين ؛ضمهما الهوى الوجداني على ضفاف الحياة ؛وكان العناق المبرأ من الخداع غلافاً لهما ؛
في مواجهة طاحونة الحياة؛وتحدياتها المحدقة.
إن تلك الحرارة الوجدانية التي يتقاسمانها؛ وتداعياتها الحميمة من قبلات وأحضان دافئة ؛تعدُّ بمثابة الإكسير الذي به تتداوى الأوجاع ؛وتلتئم الجراحات..
وهكذا يمضي الشاعر في حديثه الغرامي السائغ العذب المنصب على الشمولية ؛لاعلى الخصوصية؛راسماً نموذجاً إنسانياً فريداً من نوعه؛ في ضوء تصوراته الشفافة المتوخية بناء صرح العلاقات الصادقة بين المحبين على الوجه الأكمل والأتمّ .
حتى إذا انتقل إلى الحديث عن ذاته الهائمة ؛وأزمته الخانقة؛وجراحاته الملتهبة؛تغيرت النبرة قليلاً؛وتغير المسارالكلّي بعدها ؛ووجدنا أنفسنا أمام انتفاضة عارمة أفضت بنا إلى الخروج من توطئةٍ وجدانية واضحة المعالم ؛إلى مواجهة سلسلة من الخيبات المعاصرة؛يستهلها بقوله:-
وَ إنْ أنَـاْ لَـمْ أَذُقْ خَـمْــرَ الـثّـنَــايَـا
فَـقَـدْ ضَـيَّـعْـتُ أنْـفَـسََ مـا يُـذَاقُ !!
من نافذة هذا البيت القائم على نفي الهناءة وحلاوة الطقس الأنيس ؛واللذّة الحسية ؛ وإثبات الضياع الذي حال دون نيل مطلبه العزيز ؛منسوباً إلى الذات في (ضيعتُ)؛ ومؤكَّداً بأداة التحقيق (قد) ؛نذلف إلى معاينةخارطة الأقطار العربية؛
(اليمن-سوريا-لبنان-مصر -السودان- العراق)؛ وهي خارطةٌ داميةٌ تكسوها الأردية الشاحبة من كلّ زاوية من زواياها.
لغةُ الشاعر التصويرية الوصفية -إذن-تتجه بنا صوب الأوطان المتشظية ؛الأوطان التي أرهقتها المؤامرات وأثخنتها النزاعات؛وعطلت نهضتها الانقسامات ؛والصراعات الغائمة؛واستشرت في ربوعها ملامح
الخزي ؛والعنف ؛والتخلف ؛فإذا بها تعود القهقرى ؛وإذا بينها وبين الحضارة العالمية سنين ضوئية لاعداد لها..
لقد رصدت عدسة الشاعر سلسلة من الأزمات والانكسارات؛مستمداً ذلك كله
من مرآة الخذلان العربي ؛والتشرذم السائد ؛الناتج عن ضياع البوصلة ؛فتبين له أن كلّ قُطرٍ منها؛أصابته الأحداث الجِسام دون هوادة ؛وساقته القرارات العمياء إلى حافة الفناء.
دماءٌ تراق عبثاً؛ جراحات تتفاقم على مرأى ومسمع من العالم ؛مناوشات غوغائية ؛مطامع استعلائية هدفها الهيمنة ؛صراخات تدوي في الآفاق فتبتلعها آذان الصخر الأصمّ ؛وشيطان احترف الغناء مؤخراً في السودان ؛ومشاهد أخرى دراماتيكية يندى لها الجبين ؛وترفضها المبادئ المثلى..
لقد سار الشاعر بقلبه المشرئب إلى المطامح العُليا ممتطياً بُراق شعره الجامح ؛سيراً حثيثاً إلى التحديق في حاضرنا الأصم الأبكم بعين البصير الواعي المسكون بهموم أمته وهي تنحدر إلى الهاوية السحيقة؛ورأى بعين الحكيم النابه جراحات الوطن العربي الكبير المتسعة وشجونها المترامية.
وإنها لجراحات دامية لمن ألقى السمع؛ جراحات لايهدأ أُوارها ؛أساسها حالاتُ التشرذم والانقسام والعزائم الخائرة..
في هذا الجو الصاخب المتوتر المشحون ؛أرسل شاعرنا الصداح أنغامه المرنانة ؛في إطار أسئلته المنصهرة في بوتقة آلامه ؛يحدوه في ذلك إيمانٌ مكين ؛وقلبٌ يحلم بانتظارِ غدٍ قادمٍ لامحالة؛ تفيق فيه الأمة من سباتها الطويل.
وفي إطار تشخيصاته البارعة للواقع الهزيل ؛واجهتنا مجموعة من الإحالات والإشارات إلى مواطن العز والشجاعة المغيبة؛و مواطن الذل والهوان المستبسلة في نخر جسد الأمة.
إن معطيات تجربة شاعرنا إنما هي انعكاس لواقع منتكس؛هيضت أجنحته الرفافة؛وتكسرت على شاطئ الأحلام والأمنيات..
لم تغب عن بوصلة شاعرنا الدقيقة صفحات الأمجاد التاريخية الخالدة في ضمير الزمن ..
وهي صفحات مضيئة ؛لم نقدرها حقَّ قدرها؛ ولم نستوعب ما اشتملت عليه من مآثر وبطولات؛فتركناها نهب الضياع ؛والجمود المطبق؛وأسدلنا عليها ستائر النسيان الصفيقة؛فتولدت أشكالٌ من الخزي والرضوح والانقياد الأعمى ؛وقديماً قالت العرب: «لافرق بين إنسانٍ يُقاد وبهيمة تنقاد».
غابت الشجاعة والبسالة والتضحية والقيم الجوهرية؛وغاب نضج العربي؛فضاعت الأوطان؛وظلَّ الأعداء من حولنا يتفننون في صناعة المصائد والأفخاخ..
فهم في مرآة الشاعر:
سكارى كلما وجدوا سبيلاً
إلى إطفاء جذوتنا أفاقوا!
يسوقون الشباب إلى المخازي
كما تستاق للعطن النياق!
وفوق ذلك العناء المستفحل ؛والعنت الذي نتجرعه ؛مازالت الصورة العامة قاتمة متجهمة في مشهد العروبة المغلوبة على أمرها ؛كما في هذا التصوير المؤلم:
عروبتنا تئنُّ أنين ثكلى
مواجعها العظيمة لاتطاق..
إنَّ “وراء الليلة السوداء فجر أبيض ” ؛ آتٍ لامحالة ؛لكنَّ مأتاهُ المفعم بالنصر ؛مشروطٌ بالعودة إلى ذي الجلال والإكرام؛والإنابة الصادقه إلى ركنه الذي لايُضام ؛والاعتصام الجمعي بحبله المتين؛والمُضي على نهجه القويم ؛كما في هذا التقرير:
إذا اعتصم امرؤ بالله لانت
له الأرضون والسبع الطباق!!
الحاضر المتأزم المتردي؛والأمس الساطع المُغيَّب ؛يتشكلان في لوحة شاعرنا على هذا النحو:
-الحاضر المتهالك :أبطاله الأعداء النفعيين المتآمرين على طمس هوية الأمة؛والاستئثار بثروات أوطانها.
-الأمس المصاب بالعقم: أبطاله من بني جلدتنا؛ أغلقوا منافذ التفكير؛واستسلموا للتبعية ؛والركض وراء الشهوات الرخيصة.
لقد بدت عاطفة شاعرنا نهراً من اللهب المتفجر؛وهو يرصد هذا الواقع المرير الذي يشهده الشعراء النابهون من أمثاله؛وعلى الرغم من الكهرباء السارية في تفاصيل النص؛الناتجة عن طغيان الانفعال ؛إلاَّ أن شاعرنا ظلَّ كالطود الأشمّ ؛قابضاً على عناصره الفنية ؛من أن تنزلق بها الخُطى في الخطابية والمباشرة..
——————————-
-بعض سمات النص ؛وظواهره الفنية؛بإيجاز:
-تنطوي تجربة الشاعر الحماسية هنا على ألم عميق؛وقلق مؤرق؛وتشي عاطفته المتقدة بسخط عارم؛تجاه الأوضاع المتردية؛والتبعية العمياء؛والإحساس المرير باستعصاء الحلول؛
في ظل هيمنة المصالح الشخصية؛فضلاً عن التبلّد المخيف الذي ران على حاضر الأمة؛والهوان الذي أنشب أظفاره في جسدها المريض؛وألقى بها في مؤخرة الأمم المتحضرة.
-تسلسل الأفكار بانسيابية تامة ؛وخلوها من التصنع أو الافتعال؛وتوشُّحها بالعديد من الصور الفنية البارعة؛كما في قوله؛على سبيل التمثيل لا الحصر:
يَـسُـوقُـونَ الـشَّـبَـابَ إلى الـمَـخَـازِي
كَمَا تُـسْـتَـاقُ لِـلْـعَـطَـنِِ الـنِّـيَـاقُ !!
-المراوحة بين الأسلوب (الخبري؛والإنشائي) ؛واتساع مساحة الخبري منهماً؛تبعاً للمشاعر المحتدمة في قلب الشاعر؛واستحضاراً لمطالب الشعوب المغلوبة؛وحلمها المتعثر في العيش بسلام.
-اعتماد الشاعر أسلوب (الالتفات)؛من خلال انتقال الشاعر من دائرة الهم الذاتي الفردي ؛إلى الاندماج مع صوت الجماعة ؛والامتزاج التام بشجونها ؛كما في قوله المتسم بطابعه الذاتي:
دَعِـيـنِـي مِـنْ هَــواكِ فَـإنَّ قَـلْـبِــي
إلـى الـعَـلْـيَـاءِ سَـــارَ بـهِ بُـــراقُ !!
وانتقاله إلى صوت الجماعة:
ألَـسْـنَا خَيْرَ مَـنْ رَكَـبَ المَـطَـايَـا ؟؟
لَـنَـا الخَـيْـلُ الـمُـبَـرِّزُ و الـعـتَـاقُ !!
-التفصيل بعد الإجمال كما في قوله:«
ثَـــلاثٌ إنْ ظَــفِــرْتُ بِـهِـنَّ…».
-استلهام بعض الأمجاد العربية القديمة؛والقيم العربية الأصيلة ؛والتنويه بأبطالها الصناديد من أمثال:بني العباس،وبني أمية،والقعقاع.
-حفاوة الشاعر بفن الحكمة -على نطاقٍ واسع- كما في قوله؛ على سبيل التمثيل :
إذا يَـبِــسَ الـتُّـقَـى بِـفِـنَـاءِ قَـلْــبٍ
وَ أمْـطَـرَهُ الـهَـوَى نَـبَـتَ الـنِّـفَـاقُ !!
وَ مَـنْ لـمْ يَــتَّـعِــظْ بِـالـدَّهْـرِ غِــرٌ
مِـنَ الأَيَّـــامِ لَـيْـسَ لَــهُ خَــــلَاقُ !!
إذَا اعْــتَـصَـمَ امْــرُؤٌ بِـاللّــهِ لانَــتْ
لَـهُ الأَرْضُـونُ وَ الـسَّـبْـعُ الـطِّـبَـاقُ !!
-استثمار الشاعر فن الاقتباس وتصرفه فيه كما في قوله:(ألَـسْـنَا خَيْرَ مَـنْ رَكَـبَ المَـطَـايَـا )؟؟ ؛إلى جانب اهتمامه بتوظيف الكناية كما في قوله:”ابن الماء”؛الرامز للإنسان؛وغيرها من الفنون الجمالية.
-بزوغ روح الأمل عند الشاعر على الرغم من قتامة المشاهد المحيطة به؛كما في قوله:
عَـلَــى أمَـــلٍ بِــأنَّ الــصُّــبْــحَ آتٍ
كَـغُــرَّةِ مَـنْ تحِـبُّ لَـهُ ائْــتِــلاقُ !!
وهذا الجانب يؤكد دور الشاعر الإنسان؛في غرس الآمال الزاهية ؛مهما عظمت الشدائد والمحن ؛حيث يحوّل العلّة المستشريةإلى صحّة وعافية؛والجدبَ المستفحل إلى خِصْبٍ ونضارةٍ تهفو إليها القلوب.
وهناك جوانب فنية أخرى ؛مما يطول الحديث عنها ؛كالتشخيص ؛والمفردات الموحية ؛وما إلى ذلك من سمات.
——————————-
«كلُّنا مشفقٌ على أوطانه».!!
لاريب أنَّ شاعرنا استطاع أن يبحر بنا في قضية وجودية مشهودة ؛ملتحفاً روح العربي المخلص لدينه و لأمته ولأوطانه العربية المترامية الطريف ؛ومجنداً قلمه لإيقاظ الهمم المترهلة؛والنهوض بها من التردِّي في غياهب الذلّ والهوان؛فإذا أردنا تصنيف النص حسب موضوعات الشعر المتعارف عليها ؛وجدناه أميلَ إلى الشعر الوطني المتجاوز نطاق الإقليمية؛إلى الآفاق الرحبة.
حشد شاعرنا طاقته -كما أسلفتُ القول-من منطلق ولائه الشديد لالوطنه العزيز عليه وعلينا جميعاً فحسب ؛بل للأوطان العربية قاطبة.
ولاريب أيضاً أن تلك العثرات التي ألمح عليها شاعرنا سبق أنْ مسَّتها أوتار الشعراء الغيارى قديماً وحديثاً ؛وطالما بُحَّت حناجرهم وهم يلهجون : «أما لهذا الليل الداكن الطويل من آخر؟!»؛مما دفع شاعر العربية في عصره (المتنبي) إلى القول :« مالجرحٍ بميت إيلام» .
وهاهو الشاعر المصري أحمد محرم رحمه الله يعزف على الوتر ذاته في قصيدة له أطلق عليها : «متى ينهض الشرق»؛إذ ورد فيها قوله:-
فيا لهف قلبي لمجدٍ مضى
ويا شوق نفسي إلى عودته!
ويا لهف آبائنا الأولين
على الشرق إن ظلَّ في نكبته!
همُ غادروه كروضٍ أريضٍ
تتوق النفوس إلى نضرته!
ونحن تركناه للعادياتِ
ولم نرعَ ما ضاع من حرمته!
فأذهبنَ ما كان من حسنه
وأفنينَ ما كان من بهجته!
وكذلك سار شاعر مكة الفيلسوف :محمد حسن فقي ؛رحمه الله ؛في إحدى قصائده؛عبر لغةٍ مصطبغة بقدرٍ من الأسى الطافح:-
تفكرتُ في يومي القميء مطأطئاً
إلى الأرض ؛لاسعْياً أطاق ولاقصدا
وفي الأمس ما أقواه يوماً مُدويّاً
بنى بالدم الزاكي لأبنائه مجدا!
بينما يلمُع الشاعر العراقي الراحل محمد مهدي البصير في قصيدة له أطلق عليها «ضيعة الوجدان»؛إلى الذين أسلموا الغربَ مقادتهم ؛ورأوا في حضارتهم النموذج الأمثل على هذا النحو:
أبت الحياة فحاربتْ أوطانها
فئةٌ تهدد بالخطوب كيانها
ورأتْ بأن الغرب مُلِّك أمرها
فتطامنتْ تلقي إليه عنانها!
ماذا الذي باعت به أخلاقها
ولحفظ ماذا ضيعت وجدانها؟!
ألدرهمٍ وأمامها الوطن الذي
في الصدق يغنيها ويرفع شأنها!
ليس المُحاربُ للبلاد عدوَّها
لكنَّ من قد أنجبته فخانها!
ومن هنا فإنَّ إسهامات الشعراء الأفذاذ؛
في التصدي لألاعيب الغرب وغطرسته المكشوفة؛والتنديد بالأعداء في الداخل والخارج ؛احتلت ركناً ركيناً في سجلات الشعر العربي على مدار الزمن.
——————————-
-نهايةُ المطاف:
وبعد:فقد كانت الرحلة مع نص شاعرنا شائقة على طول الخط؛وملهمة في نفس الوقت؛ولعل مبعث ذلك تلك التركيبة الشعرية السحرية التي يمتاز بها ؛في الغوص على المعاني؛وإحياء ماكان منها بالياً وعتيقاً ؛وتهذيبه الواضح لنصه المكتنز بالانفعالات الحادّة؛قبل أن يقذف به إلى عالم القرَّاء ؛ولم يبق لي سوى أن أشيد بموقفه الإنساني البارز في هذا النص؛ورسالته الفنية المتساوقة مع المنطق العقلاني السليم ؛وروحه المتطلعة الهفهافة إلى مستقبل مزدهر يخلو من النزاعات المفتعلة؛والأطماع الذاتية؛إلى مستقبل أنقى من اللؤلؤ؛يسود فيه السلام ؛والقيم الإسلاميةالنبيلة ؛أقطار العالم بأسره ؛ووقتذاك تسترد الأوطان عافيتها؛وتستعيد مكانتها الراسخة في ضمير الزمن..
————————
عرضُ النص:
وهمان فيَّ تنازعا كأس الهُدى
وخواطِرٌ حارتْ فلم تمدُدْ يدا!
وخُطىً تُفَرِّقها الدروبُ وصورتي
ظلٌّ بذاكرةِ الفرارِ تمردا!
شمسي بأحداق المجاز لمحتها
وقصيدتي نجم يلوّحُ في المدى!
ألقيتُ في جُبِّ الفراغ بِمُهجتي
وقبستُ من خبرِ الوشايةِ مبتدا!
وجلستُ في غار القصيدة عابداً
متخيّلا وحياً وضيّعني الهدى!
خانت فصولُ المرسلاتِ مواسمي
ومضيتُ مُتّقدا أخاصِرُ موقدا!
حُلُمي بناشئة الغيابِ مُخضّبٌ
متوسّدٌ عزماً ونبضاً موصدا!
من سُكّرِ الأحلام أصنعُ كعكةً
والموتُ توتَتَهُ تُؤثثُ مرقَدا!
طرفي على جَفنِ الرقادِ مُسهَّدٌ
ورؤاهُ حالمةٌ تُحاذِرُ مرصَدا!
————————-
-القراءة النقدية:
(لا بدّ من متبقّ)؛هذا مثل شائع لدى البريطانيين ؛والمقصود أنه لابد من وجود بعض الأشياء التي تُترك ؛أو لم يتم الانتباه لها.
وفي موسم حصاد نبات الذرة بمنطقة جازان ؛هناك ما يسمى (الصَّريب)؛وهي لغة أحسبها فصيحة من (صرب) بمعنى جمع؛والصريب هو عملية قطف وجمع عذوق الذرة (السنابل) ؛وتتم على ثلاث مراحل ؛ الأولى :تسمى (الندب) وبها يتم قطف وجمع السنابل الكبيرة.
يليها (الصريب) حيث يتم قطف بقية السنابل الظاهرة للعيان.
والمرحلة الثالثة تسمى (القشيش)؛وهي عملية بحث وتفتيش دقيقة؛ لقطف ما تبقى من سنابل صغيرة مستترة بين حُزم الذرة…
من هذه المقدمة الملتوية ؛ أريد أن أقول إنّه على الرغم من أنَّ الأستاذ (المطهري) قد أحاط في نقده وقراءته وتحليله للنص بجميع الجوانب ؛ولم يترك لنا شيئاً لنقطفه ؛إلا أنني عملت بالمثل الانجليزي ؛وها أنا (أتقشش) في زوايا النص ؛لعلي أظفر ببعض السنابل المندسة بين صفوف الحروف والكلمات…
هذا النص كما يبدو خُلق بلا عنوان محدد؛وفق النسخة التي وجدتها في (معزوفات مخملية) ؛مقرونة بقراءة الأديب الناقد (المطهري)؛وقد أسماه (وهمان فيّ تنازعا) ..
-مطلع القصيدة:
وهمان فيَّ تنازعا كأسَ الهدى
وخواطرٌ حارتْ فلم تمدد يدا
وخطىً تفرّقها الدروبُ وصورتي
ظلٌّ بذاكرة الفرار تمرَّدا!
غالباً فإنَّ القارىء وهو يستعرض القصيدة ؛ويقلِّب حروفهاوكلماتها ؛ويعرضها على قائمة أغراض الشعر وموضوعاته ؛ تتكون لديه حقيقة مباشرة عن الغرض الشعري الذي تندرج تحته القصيدة؛لكن هذا النص يتأبى أن يخضع لأغراض الشعر المعروفة…!
ومثل هذا البناء الخاص الذي تتقدم فيه وحدة الصورة ؛وتكامل المعنى ؛يحمل في باطنه منطقه الخاص ؛وهدفه الخاص ؛ويُظهر نفسه كمجموعة رسومات على جدران الذات ؛كتلك الموجودة في كهوف المعابد ؛والمقابر الفرعونية (قبل اكتشاف الكتابة) ؛لتحكي لنا في مجموعها قصةً محسوسة قصيرة لحياةٍ طويلة بكامل أبعادها وزواياها.
لهذا كان دخول الشاعر قوياً ومتجلياً ؛تجلي القمر للرائي ؛والصورة مكتملة ؛والتفاصيل الداخلية مكشوفة للعيان شفافيةً وجمالاً…
هذا الدخول القوي والمباشر ؛يدل على ملكة أدبية راسخة ؛وتجربة شعرية ثرية ؛ونضج عقلي متمكن ؛وشخصية تتسم بالثقة بالنفس.
والمباشرة هنا ليست عيباً أسلوبياً؛ ولكنها ميزة تدل على وضوح الرؤية ؛وتكامل الصورة في المخيلة ؛وسيطرة العقل على مجريات التفكير والشعور.
والنص في مجمله محكومٌ عقلا ؛ً فكرةً ومضموناً؛والخيال فيه يأتي خادماً لجمال العرض ؛وحسن السبك ؛وروعة الصنعة الشعرية ؛فالشاعر عندما يقول :
(وهمان فيّ تنازعا كأس الهدى
وخواطرٌ حارت فلم تمدد يدا ..)
إنما ينطلق منطلقا إخباريا عقليا ؛
لا وصفيا ؛ولا وجدانيا ؛فهو لا يعبر عن معاناة ؛أو انفعالات ؛بقدر ما يتحدث عن تجربة حياتية فكرية مفعمة بالوهم ؛والشك ؛والتنازع ؛والصراع وانعدام اليقين.
وقد يقصد الشاعر (بالوهمين) اعتقادين ؛ أوظنَّين؛ أو طريقين؛وحالة الظن والوهم والشك ؛قد تعرض لكل عقل مفكر ؛كالصراع بين الهدى والضلال؛أو الخير والشر في الذات البشرية ؛أو بين كأس الهدى ؛والخواطر الحائرة حسب كلام الشاعر ، لكنَّ ثنائية الخير والشر واضحةٌ؛ لا تدخل في باب التوهم والظن ؛ وإنما مثل هذا التعقيد المفضي الى التوهم والشك ؛إنما يحصل في الصراع والتنازع ضمن مفهوم الخيرية حين تلتبس الرؤية ؛وتزدوج المعايير والقيم ؛ولعل تلك مقاصد الشاعر ..
… في ظل تعمد الشاعر عدم ضبط النص بالشكل لتحديد مسار القراءة للنص وتحديد معالمه اللفظيه فالصورة المباشرة التي تتبادر الى الذهن من الوهلة الأولى وفق السياق الطبيعي للكلام إنما تعبر عن وهمين في ذات الشاعر يتنازعان كأس الهدى ، وعلى هذا الفهم تكون ( كأس ) مفعولا به ورمزا دالّا على معتقدات الشاعر ، وفي هذه اللوحة تبقى حقيقة الوهمين وما هيتهما مجهولة ومتروكة لخيال القراء ..، لكن النص يخبرنا ايضا عن تنازع هذين الوهمين ، فاذا كان هناك وهمان في ذات واحدة يتنازعان كأسا واحدة ففي هذه الحالة تنتفي الثنائية وعلاقات الصراع والتضاد داخل الذات . وانما التنازع بمعنى التخاصم والتجاذب بما في ذلك من جدليَة حادة وتمزيق للذات واقلاق لاستقراها لا يحصل إلّا بين الأضداد ..، لهذا اجد أن هذه القراءة مضطربة وتفتقر الى الإبانة وتخل بقوة مضمون الفكرة والغرض الشعري .
والذي أراه أن النص يتحدث عن وهمين في داخل الشاعر يتنازعان ذاته ؛
هما ( كأس الهدى والخواطر الحائرة )؛ والتنازع هنا قد يأتي بمعنى الخصومة بما فيها من جدليّة حادة ؛وتمزيق للذات ؛أو بمعنى التجاذب السجالي ؛بما في ذلك من التذبذب والمسايرة ؛أو بمعنى التعاطي والتشارك ؛بما في ذلك من الشعور بالرضى والإنسجام الداخلي ؛وغلبة المعتاد والمألوف.
وعلى هذا الفهم تكون (كأس الهدى ) دالّة على المعتقد أو المعرفة المرتبطة بالهدى أو ( بالدين )؛بينما تدل الخواطر على معتقد مغاير ؛أو معرفة مختلفة ومتضادة مع المعرفة الأولى؛وكلاهما في محل الشك والتوهّم ..
فمعنى الوهم في قواميس اللغة : هو :مايقع في الخاطر من تصور وخيال ؛وهو الشك والاعتقاد الخاطىء الذي لا دليل عليه؛كما يأتي الوهم بمعنى الطريق ؛وفي كل الأحوال فنحن والشاعر أمام حالتين من الوهم (وهمان ) في ذات واحدة ؛يحكمها كما يخبرنا الشاعر صراعٌ مسالم حضاريّ ومنضبط ؛( فلم تمدد يدا ) .. إلّا أنَّ لها انعكاساتها المشتتة لمسيرة الشاعر ؛وثبات الصورة ؛وتفرق الخطوات في الدروب .
(وهمان فيّ تنازعا ): اعترافٌ يمثل زبدة القول ؛وخلاصة القصة ؛منهيا ً بذلك كل التفاصيل القديمة التي لم تكتب ؛والمرافعات التي لن تذكر ؛والتبريرات التي لا تجدي.
وكل ما تلا ذلك الاعتراف ؛ليس إلا القرائن والشواهد المؤكدة للحكمة الناصعة ؛والمعرفة العالية التي انتهى اليها الشاعر ؛والتي أنتجتْ هذا النص البديع…
من سُكر الأحلام أصنع كعكةً
والموت توتته تؤثث مرقدا!
طرفي على جفن الرقاد مسهد
ورؤاه حالمة تحاذر مرصدا
هكذا ختم الشاعر النص راسماً صورة حزائنيّة ممهورة بحكمة السنين ؛ومتنبئابنهاية المطاف لرحلة العمر ؛حين نستغرق في التفكير الحالم ؛ولذّة الأمنيات ؛ في حين يتربص بنا الأجل على طرق آمالنا العريضة….
لقد أعجبني كلامٌ للكاتبة الأمريكية (إيدا لوشان) تقول فيه : «في مرحلة الأربعين يعرف الإنسان عن نفسه ؛وعما يريده في الحياة ؛ أكثر مما عرفه طوال حياته؛وفي أشد لحظات الإحساس بالحزن والهزيمة يدرك أن ما يمرُّ به ليس إلا مزيداً من الوعي ؛ومزيداً من اكتشاف معنى أن تكون إنساناً ؛وتلك هي روعة أزمة منتصف العمر»
أحياناً – حينما يكون النصُّ شفافاً -يشغلك صاحب النص ؛بقدر ما يشغلك النص ؛إذ يتخيَّل لك أنَّه يطلُّ بظلاله ما بين أحرف وسطور الكلمات.
فهل يمكن القول إنَّ النص إنَّما يعبر عن حالة من حالات أزمة منتصف العمر؟
ربما هذا قد يكون عنواناً جميلاً آخر لهذا النص الجميل … والسلام …
قراءةٌ نقدية لقصيدة«سلام» للشاعر الراحل:أحمد بن يحيى البهكلي “رحمه الله..
بقلم الأستاذ الناقد :عبد الحميد عطيف
-عرضُ النصِّ الشعري:
إلى(مَقْرَنِ النيلين)والخصْبِ في (تُوْتِي)
ســـلامٌ وشــوقٌ جـــامحٌ غـيرُ مكبــوتِ!
ولِيْ في ثَرَى (الخرطومِ) عطــرٌ مُخَبَّــأٌ
وفي (أمِّ دُرْمــــانٍ) مَنَـــاجِمُ ياقــــوتِ!
أَنَخْـــتُ رِكـابي في (الدويـم) بلهفــــةٍ
إلى منتدى(بَخْتِ الرِّضَا)ذائعِ الصيتِ!
وفي شاطئ (الخرطومِ بحري) تَقَطَّرَتْ
قصيـــدتيَ اللعْسَــاءُ من شَفَـةِ التوتِ
كم اجْتَزْتُ كي أَهْنــَا بها (جسر كَوبَرٍ)
ورغم جفــــافي لم تبــــادِرْ لتبكــيتي!
رُواءٌ ولا فَيْـــضٌ وسحـــرُ محـــــاسنٍ
فما سِحْر هاروتٍ؟! وما سِحْرُ ماروتِ؟!
كأنَّ اخضــرارَ الأرضِ أُنْــزِلَ فاستــوَىٰ
على مَرْبــعِ السودانِ كالماءِ والقوتِ!
له في مـــداريج (الجزيرة) شــــاهدٌ
يلـــوذُ بهـــا كالنـــارِ لاذَتْ بكــبريتِ
فمـا لضفـــافِ الرافــدين تلاطَمَــــتْ
على المَرْبَعِ الهادي كَغَضْبةِ عِفْريتِ؟!
فـباتَ اخضــرارُ الأرضِ أغـبرَ داكــنًا
وإنسانُها أضحى كيُونسَ في الحوتِ !
وأَجْــلَبَتِ الأمــواجُ تبتــلعُ المَــدى
وتجتــاحُ كالإعصار مُضْنَى الأباييتِ!
نَعَـــمْ هـُــوَ أمْــــرُ الله لا ريبَ، رَدُّهُ
مُحَـــالٌ، ولكنَّ العُطَـاسَ لتَشْميتِ!
ألم يَكُ في وُسْـــعِ الأعــاريب نجدةٌ
تُقِيــلُ عِثَــارًا أو تجــودُ بتثبيـــتِ؟!
أليس أسى الســودان بالمـاء شــأنُهُ
كشأنِ الأسى بالنارِ في شَطِّ بيروتِ؟!
ففي هذه غَــرْقَىٰ وأنضـــاءُ هِجْـرةٍ
وفي هذه حَــرْقَىٰ وأنضــاءُ تشتيتِ!
وفي تلك هَدْمَىٰ ما على شيئها بَكَـتْ
وحين اشتكَتْ قالوا لها:عَجِّلِيْ مُوتِي!
سـلامٌ على السودانِ وهو يخوض في
شَجَـــاهُ وقد زادوا شجــاه بتفتــيتِ!
ســـلامٌ على أرض الشـــآم وحـالُهـــا
كئيبٌ كما الصومال واليمن الحُوتِي!
تسَـــوَّرَها شُــــذّاذُ إيــرانَ حينمــــا
حَبَتْــهُمْ بحبلٍ للأذى جِدِّ مَمْتُــوتِ!
ســـلامٌ على الأحلامِ في ليبيــا ذَوَتْ
ســــلامٌ على لبنــانَ مِصْرَ وجيبوتي
ســـلامٌ على كل الأعـــاريبِ والشَّجا
يقحِّمُــهم دربًــــا يقـــودُ لتابـُــوتِ!
ورغم الدُّجــا تزداد بالهَــمِّ دُكْنـــةً
فإن انقشــاعَ الهمّ أصْــدقُ توقيتِ!
——————
القراءة:
لطالما اعتقدت كآخرين غيري أن النصوص الشعرية الرائعة ليست إلا خلقاً يحدث بعد آلام مخاضٍ مريرة وإنشاءٍ ناتج عن تفاعلات وتفجرات عاطفية تحدث في أعماق ذات الشاعر ؛وأنَّ الكلمات التي تعبر عن تلك الحالة ليست إلا صوراً وانعكاساً لها؛ فهل يمكن أن تنتج تلك الفوضى وتلك التفجرات الوجدانية مثل تلك الصور الإبداعية المثالية الجميلة الرائعة؟
إن المنطق نفسه الذي يجعلنا نرفض أن ذلك النظام الكوني البديع جاء عشوائياً؛ يجعلنا أيضا نستبعد أن يكون النص الشعري جاء لا واعياً ونتيجة أو انعكاسا لانفجارات عاطفية حدثت في ذات الشاعر؛وبعبارة أخرى كيف لهذا الانتظام البديع للكلام أن ينتج عن تلك الفوضى؟…
تداعت هذه الخواطر إلى بالي حينما شرعتُ أقرأ في قصيدة (سلام) للشاعر الكبير الدكتور أحمد البهكلي ؛فمثل هذا البناء المرصوص والسبك الرائع ؛والانتظام المتقن ؛والإبانة الأخاذة ؛والمضامين الإنسانية الجميلة ؛والرسالة الهادفة ؛وهذا العرض المعرفي البليغ؛ وتلك الانسيابية الجمالية ؛وذلك التناسق الإبداعي ؛لا يمكن أن يصدر عن مجرد انفعالات وجدانية كردة فعل على أحداث معزولة عن امتدادها الموضوعي والواقعي المتجذر ليس في ذات الشاعر الداخلية بل في ذاته الكونية (إذا جاز التعبير)… وحينما نذكر الواقع الموضوعي والذات الكونية ؛نذكر ما يتصل بهما من وشائج وعلاقات يتلاشى إزاءها المنحى الوجداني الذاتي كمصدر للإلهام ؛وخالق للإبداع ؛وكعامل باطني يسيطر بغير إدراك على الحالة الشعرية شكلاً ومضموناً… حيث تتسرب الذات الخاصة (الأنا) في الروح العامة (نحن) الكونية وتذوب في اهتمامات الشاعر وقضاياه الإنسانية والسياسية الكبرى وهذا شأن الشعراء الكبار…
التفجر الوجداني قد يكون مناسباً للشعراء الشباب ؛والمبتدئين ؛لكن على مستوى الكهولة الشعرية والعقلية التي تهتم بالقضايا الكبرى ؛وتتميز بالعمق والخصوبة والنضج؛والمتقنة بالنقد الذاتي ؛والنظر البعيد ؛والتخطيط المتأني أجد أنَّ الوضع مختلف؛حيث لم تعد أحلام الطفولة والشباب وذكريات الماضي وأمنيات الأمس معيناً رئيساً للقريحة حتى لو بدت كمتكأ لها كما هو الحال في (سلام)؛ إذ لا نلمس أن ثمة صراعاً داخلياً في الذات الشاعرة بقدر ما نلمسه من انعكاس لتصادمات الإرادات ؛والفكر والاعتقاد في الواقع الموضوعي ؛وعلي صعيد الذات الكونية ؛وعالم الشاعر الخارجي؛تلك حالة تغشى إرادة العقل الواعي أكثر مما تغشى إرادة العقل الباطن أو الوجدان ، وكل هذه الخصائص مكرسة في النص بشكل عالي الإبداع والإتقان، ولهذا يبدو أن (سلام) ليس نصاً بارداً ومسالماً وأن هذا الهدوء المنبسط على سطحه يخفي في أعماقه عالماً مدهشاً من الإضرام والحركة ابتداء بالعنوان (سلام) الذي يفتح لنا بضعة أبواب للولوج إلى عالم النص ؛وانتهاء بالمخرج الوحيد لانقشاع الهم ؛وزوال الدجى وهو مخرج يفضي إلى فضاء زمني وموضوعي واسع المدى متعددالممكنات والاحتمالات… فسلام العنوان مثقلٌ بالدلالات فهو حين يفتح لنا أفقيا باب الدخول والإقبال المكلل بتحية الإسلام ويربطنا من الوهلة الأولى بالقيم الإنسانية القائمة على المحبة والرحمة بين البشر يفتح لنا باب الوداع والمفارقة ويحيلنا ضمنيا إلى حكمة القول عند مخاطبة الجاهلين وهو في ذات الوقت يوغل بنا رأسيا في عمق الذاكرة الدينية والتاريخية ليذكرنا بضيفي إبراهيم ..
وهكذا تأتي الذات الشاعرة لتتجلى في النص متدثرة بالحب والإلهام والنبوآت؛ وفي النص يتكرر لفظ (سلام) بحمله الثقيل المفعم بالحزن واليأس وانعدام اليقين… سلام المنكوبين المثخن بالآلام والجراح والهزائم ليذكرنا بتلك المقولة الشهيرة (سلام عليك يا سوريا سلام لا لقاء بعده)…
وكما يقال :(الشعر ديوان العرب وبه تعرف علومهم ومآثرهم)؛ نلاحظ كيف أجاد الشاعر توظيف الجغرافيا والتاريخ والدين والمعتقد والسياسة والمعالم وجمع شتات الأمة في أسطر معدودة تحوي كمَّاً هائلاً من التداعيات النفسية والعقلية…
لقد وظف الشاعر طاقة هائلة من المشاعر في البيتين الأخيرين وشخص الواقع الحياتي تشخيصاً دقيقاً غير أني لا أتفق معه في نظرته إلى نهاية الأعاريب الحتمية التي قضى بها فانقشاع الهم آت لا محالة ولو بعد حين…