مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
-النصّ :
( على هامش أنثى )
أريدُك أنثى
بي تؤثِّثُ
روحَها
وتبذُرُني
عطرا
يُزكِّي
سفوحَها
فتقطِفُ لي
من وردها
لأفوحَها
وتقرَؤُني
لغزا
يُثيرُ
طموحَها
ويُغري
على قوس
السؤالِ
وضوحَها
ليفضحَ
أسراري التي
لن تبوحَها
******
أريدُك أنثى
كي تشِيدَ
صروحَها ..
تُرَوِّضُ
في إيقاع
طيشي
جموحَها
وتغسلُ
في شريان
ضوئي
جروحَها
وتهجُرُها
نحوي
فتنسى
نزوحَها
__________________
-وقفة مع العنوان:-
لحرف الجر على عند علماء النحو معاني عديدة ؛أبرزها الاستعلاء: ويكون الاستعلاء حقيقياً نحو قوله تعالى : (وعليها وعلى الفُلكِ تُحملونَ)
أو معنوياً نحو قوله تعالى : ( الرجال قوَّامون على النساء )
وقد يكون الاستعلاء على ما يقرب من المجرور (أي ليس المجرور ذاته) ويقصد به المجازي، نحوقوله تعالى: (أو أجد على النار هدى).
ويلاحظ أن شاعرنا في عنوانه المختار هذا ؛عمد إلى الاستعلاء المعنوي ..
ولكن الذي يتبادر إلى الأذهان لماذا الحفاوة بلفظة (هامش) على وجه التحديد؟! أهي مجاراة -أسرَّها الشاعر -لكتاب (على هامش السيرة) الذائع لعميد الأدب العربي ؟! أيكون في الهوامش مالايكون في المُتون؟! ولماذا أضافها إلى كلمة (أنثى)؟!
هذه التساؤلات وما إليها واردة في ذهن المتلقي لامحالة؛وهو على أعتاب نصٍّ مكثف مغاير للأنماط الشعرية المألوفة؛ نصٍّ لغوي برز إلى حيِّز الوجود متشحاً رؤية الشاعر الأُحادية؛وتصوراته الكونية؛
والمراد بالْهَامِش في المعجم : ذلك الجزء الخالي من الكتابة حول النص في الكتاب المطبوع أو المخطوط
واللفظة عبارة عن اسم فاعل من همَشَ؛وإذا قالوا على هامش الأمر؛ أرادوا معنى خارجًا عنه أو بمعزل منه،
ومن ذلك قولهم فلانٌ يعيش على الهامش: أي أنه منفرد غير مندمج في المجتمع؛ومن ذلك قولهم :”عَلَى هَامِشِ الْأَخْبَارِ” ؛ بمعنى التَعْلِيق عَلَى مَا وَرَدَ فِيهَا.
فإذا تجاوزنا الحرف (على)؛ إلى التركيب الإضافي التالي له ؛وهو (هامش أنثى)؛وجدنا أنفسنا أمام لفظتين مفردتين جاءتا بصيغة التنكير ؛ومنهما انبثقت فائدتا “التعريف والتخصيص”؛ على حدِّ تصورات النحاة؛ وفي ضوئهما أشرقت شمس القصيدة ؛ وائتلقت أبعادها وعناصرها على ماسنرى في السطور التالية..
______________
-أجواء النص:-
ولما كانت لفظة (هامش) تعني حاشية الكتاب؛كما أسلفنا ؛فإنها في استخدام شاعرنا خرجت عن سياقها المتعارف عليه ؛وحملت إلينا إيحاءً فنيا مختلفاً مفاده أنَّ شاعرنا هنا ؛استعار لأنثاه صورة كتاب أثير لديه؛ ؛وعلى هامشها أي “في المساحة الممكنة للتحدث إليها”؛ قرر ترجمة مطالبه المحتدمة في أعماقه؛ كاشفاً لها عن الآلية التي تجذبه إليها؛وعن العديدمن ملامح الحسن المعنوي والحسي؛مما يقع تحت إرادة الأنثى وحدها..
وفي ثنايا هذا الكشف الجمالي تجلَّتْ رؤيته الكونية الإنسانية لطبيعة العلاقة الجوهرية التي تربطه بهذا العالم السحري ؛وذلك في ضوء المعطيات والإشارات التي ألمح إليها؛على ماسنرى في أبعاد النص وأسراره ..
استهلَّ شاعرنا نصَّه بقوله:
أريدُك أنثى
بي تؤثِّثُ
روحَها
وفي هذا الاستهلال القائم على لغة الخطاب؛ تبرز للمتلقي جوانب معينة؛ لعلَّ أبرزها أن الفعل المضارع المقرون بكاف الخطاب؛أكد لنا حيوية المشهد؛وحرارة اللقاء؛وكأنه بهذا البوح العقلاني ؛ بصدد إجابتها عن سؤالها المطروح عليه ضمنياً :كيف تريدني أن أكون؛ لأنال إعجابك؛ وأحتلَّ عرش فؤادك ؟!
ولم تكن إرادة الشاعرشهوانية حسية دونجوانية؛بل أسمى من ذلك وأبعد مرمى ؛فهو يريدها في مقام غير مبتذل بأي حال من الأحوال؛وذلك بأنْ تجعله لروحها أثاثاً حريرياً ناعماً؛ تحطُّ عليه ساكنة وادعة متى شاءت ؛وتستدفىء به من زمهرير الشتاء؛ وتحتمي به من قيظ النهارات وهجيرها؛ومن أعاصير الحياة؛ وتياراتها المختلفة.
ويمضي شاعرنا في شرح تفاصيل مشتهياته أو تطلعاته؛ عاطفاً مطلباً آخر على ماسبق ؛ وفيه تتجلى صورة عميقة الدلالة؛بقوله:-
وتبذُرُني
عطرا
يُزكِّي
سفوحَها
العطل يستحيلُ بذوراً ؛
ويلاحظ هنا أن َّالتركيب قام على ركيزتي التعبير بالفعل المضارع المستقبلي ؛بمثابة (الفعل والنتيجة) إن جاز التعبير :(وتبذُرُني
عطرا)؛والآخر(يُزكِّي
سفوحَها)؛
والمعنى الأوَّلي : يريد لها أن تجعل منه بذوراً ؛لاتكون نفحاتها إلا عطرية؛ لاتجيد غرسها في تربته الوجدانية إلاهي وحدها ؛ وسيتمخض عن ذلك الإجراء “تزكية السفوح “المتعلقة بها وحدها.
وللفظة سفوح عدَّة دلالات في اللغة ؛ من بينها “الصخور اللينة”؛والمناطق السفلى من الجبال؛التي تغلظ؛ فيسفَح فيه الماءُ؛جارياً هنا وهناك..
وغايةُ ما استطعتُ استشفافه -بملاحظة العلاقة بين التزكية والسفوح ؛وتوظيف الشاعر لهما؛ ومن خلال الاستئناس ببعض ما للتزكية من دلالات في اللغة؛
تبعاً لقولهم: زكِيَ الشَّيءُ :(إذانما وزاد)؛أوقولهم : زَكِيَتِ الأَرْضُ إذا خَصُبَتْ؛أو قولهم:”زَكِيَ الشَّبابُ” ؛إذا عاشَ في نَعيمٍ مقيم-
هو أنَّ وكْد الشاعر في بناء هذه العلاقة؛ يدور في فلك تنمية أسباب السعادة؛والرخاء؛ والصفاء؛ والبهجة في أعماقها ؛بحيثُ إنَّ سفوحها “مايصدر عنها من هفواتٍ ومآخذ”؛لاتكون عقبة كأداء في مسيرة الحياة المشتركة؛ولايكون التوقف عندها ؛مجالاً لتفاقم الخلافات الحادَّة؛ أو مدعاة للسجالات الهشَّة العقيمة..
على أنَّ ذلك العطر المبذور من جهتها هي بعناية واهتمام ؛من شأنه أن يبعث السعادة الغامرة لها في المقام الأول ؛ وسوف يساهم في تنمية أمانيها المنشودة؛ وتطلعاتها المستقبلية الكبرى؛ كرافدٍ هام لها في مسالك الحياة ومنعطفاتها الشائكة..
ومن التزكية المشار إليها ؛ستأتلق الخصوبةُ في أرقى معانيها؛ويخضرُّ كل شيءٍ تقع عليها العين ؛ومن ثمَّ يتسنى لها أن تقوم بمايلي:
فتقطِفُ لي
من وردها
لأفوحَها
ويتضح هنا أنَّ في قطفها لبعض ورودها وتقديمها له ؛ناتجاً معنوياً آخر؛إذ إنَّ ذلك القطْف لايعدُّ آلياًجامداً؛خالياً من المشاعر ؛بل يعني للشاعر نفسه أنْ يتنسَّم آيات الجمال المنبعث منها في كل آن؛ فهو إذن ممتزج بها؛وبورودها..
ويتابع شاعرنا رسم لوحة مشهد حيوي آخر؛متساوقٍ مع هواجسه ؛ومرئياته القريبة البعيدة؛مشهد يحضر فيه الفعل القرائي بقوله:-
وتقرَؤُني
لغزاً
يُثيرُ
طموحَها
قراءةٌ من جانبها/لغز كامن في المقروءات /إثارة مستنبطة/طموح
يمثل الشاعر هنا كسطور من كتاب ما؛ لهذه الأنثى الاستثنائية؛سطورٍ تبدو كلغزٍ مبهم عسير ؛ويريد لها أن تفكَّ طلاسم لغزه المتواري خلف تلك السطور؛لمافي ذلك من إثارة لطموحاتها ؛وتعزيز لهواجسها النفسية الطامحة؛ وثقتها بنفسها؛ أمام الغوامض من الأشياء والصعوبات التي ستواجهها.
ويمضي شاعرنا خاتماً مشاهد (الإرادة) التي انطلق منهافي النص ؛ومجسداً صورة اللغز المشار إليه آنفاً ؛بقوله:-
ويُغري
على قوس
السؤالِ
وضوحَها
ليفضحَ
أسراري التي
لن تبوحَها
وهنا يُلاحظ ملمح الإغراء المستمد من اللغز الذي شرَعت في قراءته آنفا وفقاً لتصور الشاعر ؛ إذ هو لغزٌ يتمظهر لها في تسنُّمه (قوس السؤال)؛ولديه مهمة استحثاثية تنأى به عن العبث والشكلانية ؛مهمة يمكن وصفها بدعوة إلى إعمال العقل؛ وإخضاع الأحداث للتفكير الهادىء المتزن ؛ومن شأن تحريض اللغز مناطق الوعي ؛ومراكز القوى الكامنة ؛أن يكون بمثابة الكاشف الأوحد أسرارالشاعر العميقة لها؛على نحو إنساني رقيق ؛بحيث تصبح هذه الأسرار بمنزلة أسرارها التي تضنُّ بها عن البوح للآخرين ممن لاتأمن مكائدهم ؛ولاتطمئن إلى مقاصدهم؛لامن قريب؛ولا من بعيد..
******
ويستأنف شاعرنا مقطعه الجديد المتصل بالفكرة الجوهرية الأولى ؛وذلك بتكرار المطلع نفسه:(أريدُك أنثى)على سبيل التأكيد ؛بيد أنه يمخر عباب اللغة غائصاً؛ومستقصياً؛وداعماً شرطه الأساسي ؛بوشائج أخرى من المعاني المستقبلية الموَّارة ؛فهو يقول:-
أريدُك أنثى
كي تشِيدَ
صروحَها ..
تُرَوِّضُ
في إيقاع
طيشي
جموحَها
وهنا نلاحظ كما أسلفت رؤى جديدة في مواصفات الأنثى التي يريدها؛ممثلةً في تشييد البنايات السامقة؛كمافي (تشيد صروحها ) ؛وذلك لايكون إلاَّ إذا أخلصت نيتها؛وأعملت تفكيرها ؛وأتقنت فنون العمران بمعناه الواسع المتعدد ؛عن علم ودراية ونباهة وحسن تدبير.
وهي في ضوء الانفتاح المترسخ في قرارة نفسها ؛لايحسن بها أن تضرب صفحاً عن ينابيع النهضة التي تحيط بها من كلِّ الجهات ؛ومسؤوليتها منوطةٌ بها تجاه ذاتها ؛وتجاه من يستنيرون رسالتها ؛وهي وشقيقها الرجل على حدٍ سواء في هذه المهمة النبيلة.
ومن المطالب المفترضة في أنثى شاعرنا ؛خاصية (الترويض) ؛فهو محتاج إليها أنْ تحتمل نزواته وصبواته أيَّا كانت؛وكما تقوم بتهذيب طباعها الجامحة مستنيرةً بمصباح حكمتها؛عليها إذن أن تفعل ذلك معه سواء بسواء؛ وذلك من أجل استمرار الحياة ..
ويختم شاعرنا نصه المكثف؛ بالعزف على وتر حميمي مرنان؛يتسم بالخصوصية المؤلفة بينهما ؛وذلك بقوله:-
وتغسلُ
في شريان
ضوئي
جروحَها
وتهجُرُها
نحوي
فتنسى
نزوحَها
فهو يريد لها أن تتجاوز آلامها؛وأسقامها وأتراحها جميعاً ؛وذلك بأن تغسلها كما ؛يُغسل الجسدُ الآدمي بالنهر الجاري؛ أوبالماء الصافي؛ أو كما تُغسل الثياب من الأدران:فتعود بيضاءَ ناصعةً؛كأنْ لم يمسسها غبار؛وذلك يتأتَّى لها بواسطة استلهام ضوئه القلبي الدائم الإشراق؛ومن هذا التمازج بين روحيهما على مسرح الحياة أتيحت لها منافذالإفصاح إليه بمكنوناتها الخفيَّة؛وأوجاعها المؤرقة؛وسينبثق من هذا التآزرالمطلق ما أطلق الشاعر عليه هجراناً إليه ؛استناداً إلى قوله: (وتهجرها
نحوي ).
وهو يضمن لها -في بثَّها هذا المعبِّر عنه بلفظة(جروحها) ؛وقد اتجهت إليه اتجاهاً كلياً في مقام الشكوى والمطارحات الودِّية؛ الخلاص التام ؛والتحرر من تلك القيود الوهمية ؛وأنها بالتأكيد ؛(ستنسى نزوحها)؛وذلك في المستقبل القريب لا البعيد..
ولعلَّ المراد بالنُزُوح هنا الاغتراب النفسي؛أو الشعور بالمعاداة المستفزَّة التي تشهدها هذه الأنثى؛أوتلك ؛فهي إذا همَّت بممارسة طقوسها المحببة إليها في وضح النهار ؛اصطدمت بالعديد من العراقيل المصطنعة؛ولامعدى من أن ينطوي النزوح أيضاً على سلسلةٍ من العواطف المتسلطة عليها نتيجة مايمرُّ بها من مواقف مثقلة بالانكسارات؛والإحساس بالاضطهاد؛والدونية ؛ والتهميش؛ وما إلى ذلك..
______________
-نهاية المطاف
هذه وقفة يسيرة حاولت فيها إماطة اللثام عن نص شاعرنا المختلف جبران الزمن الجميل” المطبوخ على نارٍ هادئة”-وفقاً للغة اليوم- ؛ومحاولة تقريبه إلى الذائقة المعاصرة ؛وهو نصٌّ عميق قام على الأسلوب الخبرى ؛ وتبلورت فيه سمات الفن الخالص ؛ وكان بودي أنْ أتعرض لبعض الظواهر الفنية التي حفل بها النص؛ لولاخشية الإطالة والإملال؛ولستُ أدري مع ذلك كله أأصبت الهدف؛أم جانبت الصواب؛ وعزائي أنها محاولة اجتهادية استكشافية في أول الأمر وآخره..
أشكر شاعرنا المرموق؛ والقرَّاء الكرام ؛مع الاعتذار عمَّا سيصادفه البعض من زلاَّت والتواءات ونتوءات زاغ عنها البصر؛لم أفطن إليها ؛وذلك جهدُ المقل؛والحمد لله من قبل ومن بعد..
دراسة نقدية في تجربة الشاعرة المغربية :سميرة فرجي
بقلم:نسرية اكروساي-المغرب
____________________
يصعب الحديث عن الشعر دون الحديث عن الترجمة، ترجمة لواعج النفس وما يعج بها من ألم وأنين وفرح وسعادة، كما لا يمكن الحديث عن الترجمة في غياب الاختلاف لأنه منبع الترجمة ومرتع لعبها، إذ نترجم لنبدد الاختلاف إلى درجة انجلائه.
ولعل هذا ما حاول إيصالنا إليه الشاعر والدكتور أحمد هاشم الريسوني في مجرى حديثه عن “الائتلاف والاختلاف في الشعر العربي المعاصر بالمغرب”:
«إن الشعر في جوهره، هو ذلك الجدل القائم بين الشفاهية والكتابية، إنها حدود مبنية أساساً على الاختلاف، وعلى الصورة الأصلية ونسختها النقيضة. ويبدو أن خطواتنا الآن، منسجمة في الكشف عن ضدها الذي يمحوها، وهي بذلك تضمن التآلف المختلف، الذي يحقق مشروعية ارتباط المنهج بالموضوع»
وإذ يطالعنا كتاب الدكتور والشاعر حسن الشريف الطريبق في مدخل كتابه “القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة بين الغنائية والدرامية” بالحديث عن معالم هذه القصيدة «الشعر القائم على الموروث في مكوناته وخصائصه وأسس تركيبه. والشعر الحريص على التحليق في الآفاق البعيدة والباحث عن الجديد، بصورة أو بأخرى».
نستشف بأن الشعر المعاصر يستمد كيانه من كوكبة الثنائيات والمتناقضات والائتلافات الحاملة للاختلافات، وكأن كلا منهما لا يستطيع المضي قدما إلا بوجود الآخر، فتمسي الحداثة امتداد الأصالة شرط التطور، تماما كما نحت تعريف مفهوم الحداثة الشاعر المسرحي الدكتور حسن الطريبق حين قال عنها أصالة متطورة.
وإذا مررنا بالتجربة النسائية المعاصرة تحديدا نجدها لا تخرج عن هذا المقام. فنقف وقفة إجلال وتعظيم لمن لقبت بخنساء المغرب وأسهمت في نظم شعر الكرامات والافتتان بالذات الإلاهية الشاعرة أمينة المريني صاحبة التجربة الناضجة المختمرة في الشعر العمودي الذي تجاوزت فيه قصائدها التسعين بيتا.
قصيدة “قد كنت”:
ولا العيـون التي في وثبها رشأ
وفين وعدا ووعد العينِ ذباح!
ولا الشموس على الغمازتين دجى
تسيل من صحوها في الرقص أقداح!
عصرتُ هذا البهاء الشهد من زبدٍ
كيف البهاء من الصلصال ينداح !
ولكن نجد نداء التجديد بنبرة أعلى صوتا في شعر سميرة فرجي وهي شاعرة من مواليد مدينة وجدة، حاصلة على الإجازة من كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة محمد الأول بوجدة بالمملكة المغربية، حاصلة على شهادة الأهلية في المحاماة، وهي محامية مقبولة لدى محكمة النقض، وعضو بالنقابة الحرة للموسيقيين المغاربة.
شاركت في عدة ندوات فكرية ومهرجانات أدبية مغربية وعربية، ونشرت دواوينها داخل المغرب وخارجه.
“صرخة حارك” “رسائل النار والماء” “مواويل الشجن” “رسالة للأمم المتحدة”. ودواوين أخرى قيد الطبع.
تم تناول دواوينها بالأبحاث والدراسات من طرف عدد من نقدة العيار الثقيل بالمغرب وخارجه كعباس الجراري.
ترجم شعرها إلى اللغة الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والأمازيغية والألمانية والتركية والأندونيسية.
توجت الشاعرة يوم 17 أبريل 2017 بسيدة العام في حفل كبير نظمه مجلس مدينة فاس وجمعية بوابة فاس بالعاصمة العلمية للمملكة المغربية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة.
كما توجت بتاريخ 2 مارس 2019 بلقب سيدة الشعر العربي من طرف المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغربية والشرق الأوسطية والخليجية والنادي الجراري.
حملت إذن هذه المقالة على عاتقها مهمة تحديد تجليات الأصالة والتجديد في شعر سميرة فرجي، وأول هذه التجليات: العتبات.
باعتبار العنوان العتبة الأولى لولوج النص الأدبي، فقد حمل على عاتقه مهام ووظائف عدة أهمها وظيفة المطابقة L’identificationالتي تصل أهميتها إلى درجة يمكن الاستغناء بها عن باقي الوظائف، وهي مكانة سامية يبوئها جيرار جينيت بقوله: “هي أهم وظائف العنوان التي تستطيع تجاوز باقي الوظائف”.
لجأت الشاعرة إلى المطابقة في عناوين مسرحياتها مطابقة تنفي كل سريالية، أو تأويل، أو حفر، في طبقات العنوان، وتحميله ما لا يطيق لفهم تلميحه وتلويحه. بل كان التطابق مع واقع حال الشاعرة، وما تعج به روحها من لواعج، وأنين.
تمزج سميرة فرجي بين الجرأة والرقة وبين القوة والحنين وبين البطولة والضحية، إذ تراها تارة بثوب اللبؤة في العرين تجلد بالسوط كل من سولت له نفسه محاولة النيل من كبريائها وكرامتها، ثم تنزع ثوب الجبروت لنراها ترق إلى حبيبها حتى تكاد تظهر كظهر فراشة تستجيب لمداعبة الرياح أينما هبت.
ما زلت أرفض أشواقي وأقبلها
كأنني قشة في كف إعصار!
إنه الصراع الأبدي الذي تعيشه الأنثى بداخلها بين ما يمليه القلب والروح، وبينما يفرضه العقل والمنطق.
وإذ تحضر وظيفة المطابقة، فإننا ننفي وجود نمط الجمل المضادة L’antiphrase وهو حمل العنوان أطروحة مضادة للعمل الأدبي، أي ما يغيب في عناوين قصائد الشاعرة، وتحضر بالمقابل الوظيفة الوصفية للعناوين كما أسماها جيرار جينيت: “وهي وصف النص انطلاقا من إحدى خاصياته إما موضوعاتية أو إخبارية، سأسمي إذن هذه الوظيفة المشتركة وظيفة العنوان الوصفية“.
تظهر الوظيفة الوصفية في عناوين القصائد وهي حال عاشقة تعاني أشكالا من الشجن “وجع الحنين” “على وتر الجنون” “موال الشجن”.
لعل صرخة المخاض، الذي تعيشه الشاعرة سميرة فرجي، المعلنة عن الانشطار بين قوتين من قوى الطبيعة، هي ما نكتشفه عند قراءتنا عنوان ديوانها “رسائل الماء والنار” فقد خصصت الشاعرة أساليب الأمر لقصائد الشطر الأول من الديوان “رسائل النار” “افهميني، قولوا لها، ارحل!، تحرر!“، كأنها تأمر النار، التي بداخلها نتيجة الضنى وفرط الوجد، بالانجلاء والتبدد، حتى تستطيع “رسائل الماء” التي تحتل عنوان الشطر الثاني من الديوان النزول بردا وسلاما على قلب الشاعرة، فتكون بلسما لجراحها، لذلك طبع رسائل الشطر الثاني أسلوب النداء كي تكون منقذتها من الحرّ الذي تعيشه، “يا أعذب الناس“.
عند النظر في ديوان “مواويل الشجن” لاحظنا أن عناوين القصائد يكمل بعضها بعضا، فمثلا عندما عنونت أول قصيدة لها في الديوان ب “موال الشجن”، جعلته بصيغة المفرد، لتستهل بذلك الديوان وتنهي بـ “موال الروح”، وما موال الروح سوى شجن.
ورغم الارتياع، الذي يعتري فؤاد الشاعرة والذي تفصح عنه عناوين الديوان “ما السر؟!” “أخاف!”، “طيف”، وهو خوف المحب على محبوبه، الذي ما ينفك يتخلص منه العاشق حتى يتسربل داخل روحه كما يتسربل الدم بعد قطع الرقاب، إلا أن ذلك الخوف وتلك الرهبة ما إن ينالا من ذات الشاعرة حتى تفاجئ متلقيها بما يعزز قوتها وكرامتها، فتنهال على محبوبها بأفعال الأمر “قل أي شيء” “ارجع“، لأنها تعبر عن رفضها الخنوع والانحناء، وإن قطعت أوصالها اشتياقاً، فتعلن قائلةً “ارجع” ،فأنا “لن أعود” ،و”لن أخطو الخطوة الأولى” فتترجم بذلك “مكابدة امرأة“، وإن كانت “في حضرة الوله” و”وجع الحنين” و”على وتر الشجون” تغني وتشهد بأنها لحبيبها ولا لغير سواه، إلا أنها تنهي القصة برمتها متخذةً قرارها بالرحيل واللاعودة إذ تقول “تفارقني وأرضى بالفراق”.!
إن بوح فرجي يضمن كل ما يجعل للقصيدة العربية التقليدية وهجها ونضارتها، كما أكد على ذلك عميد الأدب بالمغرب الدكتور عباس الجراري، فتجد في شعرها رسائل تربوية وأخلاقية، بل حكما ومواعظ:
فما كل ما يسبي تخاله لؤلؤاً
وما كل نجم في سمائك يسطع
ولا صدأ من غاب عنك بريقه
ولا ذهب من في عيونك يلمع!
كما نجد بلاغة الألفاظ وجزالتها واغترافها من الشعر الجاهلي مما يؤكد إيمان الشاعرة بالقدماء دون صم الآذان عن التجديد والحداثة، ما يؤكد ذلك أصوات الشاعرة الغنائية التي زاوجت بين “إثارة الأهواء (الباطوس) والإقناع العقلي (اللوجوس) وإثارة الإعجاب (الإيتوس)“،لإقناع القارئ العربي وإمتاعه في الآن نفسه، وتجاوز وظيفة تأثره إلى تغيير موقفه (وهو ما يؤكده ديوان “رسالة إلى الأمم المتحدة) – وهذا ما تصبو إليه الوظيفة الحجاجية – إزاء القضية أو الدعوى، وهذا ما يفسر هيمنة بلاغة “التفخيم” و”التعظيم” و”الهيبة” داخل المتن الشعري في بنية التشبيه مثلا.
أنا جبل بأوجاعي وصعب
بأن تجثو الجبال لتبلغيني
أنا كالنار أبعث من رمادي
وحمق إن سعيت لتخمديني
وسجني كالعرين به الضحايا
وفرسان الهوى من كل لون
إن لحت وقتا في سماه فإنني ————
شمس الضحى فيها، طلعت لتأفلي![11]
إن تشبيه الشاعرة نفسها بالنار تارة وتارة أخرى بالجبل ليحكي قصة قلب كالأسد وهو ما يؤكد وصف سجنها بالعرين، كذلك عندما شبهت نفسها بالشمس فهي تحرق كل شيء لكي لا يبقى أثر إلا نورها الساطع.!
نزعت الشاعرةُ إذن في هذا التشبيه إلى إثارة استحسان المتلقي لها كبطلة محتفى بها، لذلك جاءت التشبيهات البلاغية خاضعة لأسلوب التزيين نظرا لقيمة المشبه ونفاسته، كما تسمو هذه التشبيهات إلى تحريك عاطفة المتلقي فتحضر وظيفة التأثير والتأثر.
ومن الأمثلة الكاشفة عن تعامل الشاعرة فرجي مع الوجه الأسلوبي المتحقق في السياق، الطباق: “فذكر أحد المتضادين أو المتقابلين ينبه الذهن لإدراك المتضاد أو المتقابل الآخر حتى إذا ذكر أدرك العقل صورته على غاية الوضوح فكذلك الانفعال المصاحب لذكر أحدهما يهيء النفس لمزيد التأثر من الانفعال المصاحب لذكر الآخر“[12].
فبلاغة المقابلة بين الحياة والفناء تتمثل في التأثيرين العقلي والعاطفي، فهي حجة عقلية لأنها تستدل على المعنى وتحمل على توضيحه وإدراجه بناء على وضعه في حالة تضاد، وهي حجة عاطفية لأن هذا التضاد أو التقابل بين الضدين يصبح إحدى الوسائل التي تحرك أهواء الحب والميل إلى الطرف الأول والكراهة والنفور من الثاني. وهذا ما يؤكده البيت الأخير الذي ذكرناه، إذ نجد أن الشاعرة تروم بهذا الطباق (طلعت لتأفلي) ضرورة التحبيب والترغيب في سحر الشاعرة لقوة جبروتها وحسن جمالها، والنفور والابتعاد عن غريمتها.
كما تظهر المقابلة في قول الشاعرة:
لكنه الحب أشقاني ودللـه ليمزج الشهد بالأشواك، أواه![13]
ففي شقاء الشاعرة دلال محبّها، وفي الشوك الذي تجرعت مرارته شهد غارق هو فيه. فتحط الشاعرة من شأن عشيقها الخائن لترسمه لنا كإنسان عديم المروءة والشهامة والإخلاص، في الوقت الذي تفانت فيه هي في وفائها.
فهيا اعترفْ للعاشقين وقل لهم أنا في الهوى لما فديتك بعتني![14]
فضلا عن بلاغة المقابلة فإن “التقديم” مؤشر أيضا لإثارة الانفعالات وإحدى الوسائل اللغوية والخطابية التي تصنع بلاغة الانفعالات في الكلام، وقد استخدمت الشاعرة هذا اللون البلاغي بشكل ملفت في جميع دواوينها، ولا ننكر مدى الإثارة التي تجعلها تتأثر وتؤثر في المتلقي، الذي نجحت في استمالته في وقت عمت فيه قوالب شعرية تنأى عن العمود، وقضايا اجتماعية عامة لا تسبر أغوار الذات، فبوح الشاعرة يخترق الأفئدة دون استئذان ويدغدغ المشاعر ويجتاح الوجدان.
وسمعتُ يا بحر الأسى أشجاني تشكو جراحاً حرها أضناني[15]
تعمدت الشاعرة تقديم “حرها” لما للفظ من أثر كبير في نفس المتلقي، إذ تهيج مشاعره لاستمالته، فتحقق بهذا التقديم والتأخير وظيفة استحضار الموضوع في ذهن المتلقي للتصديق به، وهو ما لا يتحقق مع التقديم الذي تنحصر وظيفته في الإخبار الذي يفتقر إلى التحقيق والتصديق.
وهدف فرجي هو جعل المتلقي العربي يصدق دعواها ويرأف بحالها لأنها مظلومة، فتحقق بذلك الوظيفة الحجاجية.
لقد جاءني في الليل طيف ملثم
وبين يديه قلبه يتكلم[16]
أنا العاشق الولهان جئتك شاكيا وفي أضلعي نار الهوى تتضرم[17]
فقلت له: ويحي لماذا فضحتني وجئت كما المجنون حولي تحوم[18]
أما خفت من عين الرقيب وإخوتي؟ فلو خبروا بالأمر، ظهرك يقصم![19]
ولتحقيق التأثير الجمالي المنشود نرى الشاعرة تنوع في الأسلوب والمعاني والأبنية اللغوية وغيرها: “فالتنويع والتفنن خطة بلاغية تناسب المبدأ الذي بنى عليه المؤلف مفهومه للبلاغة وهو الاقتصاد على القوة المتأثرة للمتلقي، وعدم تحميلها فوق طاقتها، فهذه القوة في حاجة إلى ما يجدد نشاطها ويدفع عنها الملل الذي يسرع إليها“[20].
ولا تستغني شاعرة الوجدان عن عماد الشعر العربي وهو الوصف.
أنى لهم أن يسعفوا قلبي الذي خبر العنا أو يخمدوا تحناني[22]
ماض على حجر الزمان نقشه وجراحه أقوى من النسيان[23]
————-
طال الجفا وكلانا اليوم خافقه يستل قسوته من صلب أحجار!
أما علمت بأن الشوق يجذبني
إلى ديارك سرا مثل تيار!
لكنه الكبر مثل السوط يجلدني جلداً ويسبق خطوي رغم إصراري[24]
وتستعمل الشاعرة أسلوب المدح متغزلة بمحبوبها، فالانتقال من صورة إلى صورة في سائر ما يأخذ به من ضروب الهيئات الكلامية، لا يطيل في شيء مما يأخذ به من الوصف ولا يكثر من موالاة معنى بعينه من معاني المدح.
فأنت هلال بهي السنا
وإني خلقت لكي أكْلمَك
أنوّر ظلك مثل ضحى
وأنت تنوّر كل الفلك[25]
إن متن الشاعرة ليستجيب لما عرفته آخر التطورات في علم البلاغة فيما يسمى بالبلاغة الموسعة التي أحرقت الحدود الفاصلة بين بلاغة الإمتاع وبلاغة الإقناع كما لم ترسم حدوداً واضحة المعالم بين النثر والشعر.
والمتأمل في أول ديوان صدر لها، وآخر قصائدها التي مازال يجري تجميعها في ديوان واحد، ليحسن تقييم التطور السريع الذي طال متن الشاعرة، فهي لا تخدر جمهورها أو تمنحه الحبوب المهدئة في شعرها، وإنما هي حمالة رسائل توعوية تحمي بها بلدها وشعبها.
وتصرخ في وجه الظلم أيضا في شعرها الغنائي الذي ربما يظهر للعيان غارقا في الذاتية والوجدان، إلا أننا نرى في الشاعرة صوت المرأة العربية التي تصارع من أجل البقاء وفرض ذاتها بكل أنوثة ورقة، والصمود في وجه الرجل وبطشه وظلمه إذا ما حاول المساس بالذات الأنثوية، وما يدفعه إلى ذلك سوى خوفه من قوتها فيربكه ذلك ويزعزع ثقته بنفسه فلا يتردد في رفع السلاح في وجهها.
هنا نسجل تقاطع الذاتية مع الموضوعية، فأي ذاتية تظل للشاعرة وهي تتحدث باسم آلاف النساء اللواتي يعانين الخطب نفسه.؟!
وإن كانت الشاعرة تميط اللثام عن نفسها الجياشة وتطلعنا على ما يخالج صدرها من لواعج وأنين فإنها تسربل بذلك الحنين وتلك اللواعج قضايا فكرية مهمة، وهذا ما يسمى بالموقف الأدبي وهي الدرجة التي يصل بها الشاعر إلى مرتبة المؤثر الحقيقي في المجتمع.
ولعل تأثر الشاعرة بتراثها ليظهر ليس فقط في البناء العمودي وإنما كذلك في ذكر بعض الأعلام التاريخية التي رسختْ أسماؤها في عالم العشق والهيام.
وحين ترى دمعي السخين تخالني عبيلة تبكي أو بثينة تخشع
كما يظهر ارتباطها بالتراث كذلك من خلال اقتباسها من أشعار امرئ القيس.
فقلت له ويحي لماذا فضحتني وجئت كما المجنون حولي تحوم؟!
أما خفت من عين الرقيب وإخوتي؟
فلو خبروا بالأمر، ظهرك يقصم!
فقال: أنا لا أعرف الخوف في الهوى ومهما تفشى سرنا لست أحجم
فإن حطموا قلبي فأنت مكانه وإن أحرقوا جلدي فوصلك بلسم
ولو أذهبوا عقلي بحبك أهتدي وإن أرهقوا روحي فصوتي أرحم!
وهذا اقتباس من قصيدة امرئ القيس حيث قال:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي!
قريض فرجي كالبنيان المرصوص، منمق، منحوت نحت التماثيل، يضرب أعشار الخيال، يخرق أفق انتظار المتلقي، يغازل الظواهر الطبيعية، يشنف الآذان المرهفة التي تستلذ جمال البوح، قريض ينم عن سليقة في غاية التميز، يقر بولائه لوطنه وعروبته ولغته.
لقد جددت الشاعرة فرجي بيعتها للقصيدة العربية القديمة الأصيلة المتينة المحافظة على جزالة اللفظ وفصاحته.
لم تكتف فرجي بسجيتها بل أضافت إليها تفتقا ومساحات جديدة ليتسع أفق إبداعها: “إن كل إبداع هو في آن، ينبوع وإعادة نظر: إعادة نظر في الماضي وينبوع تقييم جديد“.
إن تكبيلها بالولاء العقائدي للشعر القديم ليظهر في معظم قصائدها، إلا أن هذا لم يأسر الشاعرة أو يحصرها في الزاوية، بل استنبتت من تراثها أجمل المعاني والقيم واستطاعت تحيينها في واقع ربما قد صار في حاجة ماسة إلى ملامسة هذا التراث والعودة إليه، فلا نرى في محافظتها على القصيدة العربية القديمة إلا زيادة في الإبداع وتصريحاً مباشراً يعلن عن الظواهر السياسية والاجتماعية المدانة، كما لا نلمس التصنع الذي طالما اتهم الشعر العمودي به، فلا نجد الشاعرة ترسف في أغلال الشكلية والصنعة، بل فجرت طاقة جديدة متحررة مضيئة تضمن لها البقاء.
استطاعت فرجي طرح رؤاها بقوام القصيدة الرشيق، وشكلها الإيقاعي المنغوم، أن تهب الحركة النفسية من إيقاع الكلمات ومقاطعها فتمسي القصيدة سمفونية تصل بين النفس والكلمة.
إن ملامح القدرة الشعرية عند الشاعرة كافية لمنحها التفرد والتميز المنشودين في وقت ربما أصبحت فيه القصيدة العربية تحلق في عالم المنثور والتفعيلي، ففرضت نفسها قلبا وقالبا معلنةً فتح باب الإبداع على مصراعيه محافظةً على رنين القدماء وأشكالهم، واعية بمواقف الحياة التي تهم جماهير الشعب وعيا عميقا، فقد ظلت مشاكل أمتها السياسية والاجتماعية لصيقة بأعصابها ودمها إلى آخر بيت نظمته.
تأملاتٌ في قصيدة:(إجهاشةُ قلب)؛للشاعر:شيخ بن علي صنعاني*
____________________
-النص :
أَلَا فَسَلُو الْمُدَامَةَ عَنْ مُصَابِيْ
عَنِ الْأَمَلِ الْمُضَمَّخِ بِالْسَّرَابِ
عَنِ الليْلِ الَّذِيْ أَمْسَىْ جَرِيِحًا
وَ أَنْجُمُهُ الْثَّكَالَىْ فِيْ انْتِحَابِ
سَتُنْبِيكُمْ كُؤوسُ الْوَجْدِ عَنِّيْ
وَ تُرْسِلُ بَعْضَ نَزْفِيَ لِلْتُّرَابِ
وَ تَنْثُرُ مَا تَوَارَىْ حِينَ جَاءَتْ
مُدَلَّلَتِيْ كَعِطْرٍ فِيْ كِتَابِيْ
أُجَاذِبُهَا الْغَرَامَ بِكُلِّ صِدْقٍ
وَ تَمْنَحُنِيْ الْعَذَابَ ، فَوَا عَذَابِيْ
عَشِقْتُ أَرِيجَهَا سِحْرًا تَوَالَىْ
عَلَىْ رِئَةِ الْجَمَالِ مَدَىْ اغْتِرَابِيْ
فَكَانَتْ مِثْلَ رَاحٍ زَادَ نَفْحًا
مِنَ الْشَّفَتَيْنِ طُوِّقَ بالرّضَابِ
مَدَدْتُ لِخَمْرِهَا كَأْسِيْ ، أَشَاحَتْ
بِخَدٍّ شَعَّ أَفْقَدَنِيْ صَوَابِيْ
فَأَجْهَشَ خَافِقِيْ فِيْ كَفِّ إِلْفٍ
بِسَيْفِ الْهَجْرِ قَدْ طَعَنَ اقْتِرَابِيْ
وَ نَاحَتْ أَحْرُفٌ ضَمَّتْ فُؤَادِيْ
أَقْامَتْ مَأْتَمًا ، عَزَّتْ مُصَابِيْ
____________________
-وقفةٌ مع عنوان القصيدة:
المدخل الفنِّي لعالم القصيدة هو عنوانها الذي ارتآه الشاعر؛وهو هنا عبارة عن مفردتين جاءتا مركَّبة تركيباً إضافياً؛تبعاً لما يُسمى في علم النحو (إضافة نكرة إلى نكرة)؛وغايتها( (التخصيص).
والذي يعنينا أن هذا القالب الفنى؛اشتمل على عدِّة معاني إيحائية؛أهمُّها
أن قلب الشاعر أثخنه الولهُ والانتظار؛وأرَّقته لواعج الحنين؛فلم يجد بُدَّاً من أن يجهش بالبكاء هنا وسيلته في ذلك الأنَّات الحائرة؛والآهات الحادَّة.
ولمَّا كانت العينان وحدهما؛أوعية العبرات؛والمدامع المنسكبة؛وهما ملاذ الشاعر في حركة الكون وسكونه؛ وسلواه في مواجهة أمانيه المتجهمة؛ومطالبه الممتنعة؛ فإن ذلك الموران من شأنه أن يهبط على القلب المضرَّج بالأسى؛ويشعل بين جوانحه سعيرَ الصبابة، وضغطها العاصف المستمرّ؛وقديماً قال الشاعر:(فإنَّ البعضَ من بعضٍ قريب).
بيدَ أن لغة (بكاء القلب) وجيشانه لاتعدُّ من المحسوسات المرئية ؛بل هي فعلٌ معنويٌّ صِرف مستترٌ عن الأنظار تماما ؛ووحده الشاعر ؛صانع التجربة ؛يملك القدرة على ترجمته في إطار تراكيبه اللغوية المعبِّرة عن خلجاته المحتدمة في أعماقه.
ومما هو شبيه باستعمال شاعرنا أننا نلحظ في أبياتٍ للشريف الرضي صورة (القلبِ المتلفَّت)؛وكأنَّه كيانٌ قائم بذاته ؛وذلك في قوله:
وَتَلَفَّتَت عَيني فَمُذ خَفِيَتْ
عَنها الطُلولُ (تَلَفَّتَ القَلبُ).
وتجدر الإشارة إلى أن
الشاعرالأمير عبد الله الفيصل رحمه الله أصدر ديواناً شعرياً أطلق عليه عنوان:(حديث قلب) وذلك في الثمانينات الميلادية.
وحول معنى الإجهاش المنصرف إلى معناه الحقيقي لا المجازي ؛نستأنس هنا بأبيات الشاعر العذري ابن الملوح؛إذ يستهلُّها بقوله:
وَأَجهَشتُ لِلتوبادِ حينَ رَأَيتُهُ
وَهَلَّلَ لِلرَحمَنِ حينَ رَآني !
وَأَذرَيتُ دَمعَ العَينِ لَمّا رَأَيتُهُ
وَنادى بِأَعلى صَوتِهِ وَدَعاني !
فَقُلتُ لَهُ أَينَ الَّذينَ عَهِدتَهُم
حَوالَيكَ في خِصبٍ وَطيبِ زمان؟!
فَقالَ مَضَوا وَاِستودَعوني بِلادَهُم
وَمَن ذا الَّذي يَبقى مَعَ الحَدَثان؟!
إنَّ (إجهاشة) قلب شاعرنا هنا ؛ يستحيل أن تُرى بالعين المجرَّدة كما أسلفت القول؛ولا حتى بالعين المُبصرة عندما تعبُر بها عبوراً فاتراً سريعاً ؛أو تمر بها مروراً
لا أناة فيه؛ولااستشعار(جُوَّاني) لطبيعةِ الغليان النفسي والشجون الثائرة في سماء الشاعر.
إنَّما الذي لايخفى أثره ؛ولايخفت بريقه؛ أن أصداء تلك (الإجهاشة القلبية) مما ينفذ إلى القلوب والأسماع؛ دون عناء ؛من خلال ماحملته التجربة من صدقٍ وحرارة وانفعال.
لاريبَ أن تجربة الشاعر هنا؛تبحر بنا -في ضوء استخدامه عنصر(تراسل الحواس وتبادلها)- بمنأى عن أفق الرؤية البصرية المحدودة؛إلى أفقِ الرؤية القلبية المتسعة؛(وناظر القلب لايخلو من البصر)وفقاً لتعبير الشاعر القديم.
ولعلَّ من أبرز مظاهر تلك (الإجهاشة المؤثرة)؛هذا الجانب الملحوظ الذي أُحبُّ الدندنة في محيطه؛أوعلى هامشه؛وهو:
-أنَّ شاعرنا استطاع التفنن في تعميق تجربته الفنية ؛وتوشيتها ؛بواسطة الإحالة على بعض الطقوس الحالمة؛ مما لها صلةٍ بواقعه المعاش وأحلامه المتطلِّعة؛فهو هنا يرمقها بعينيه وقد استحالت إلى بيادر قاحلة؛خلتْ جنباتها من النضارة والرواء؛وترتب على ذلك الخُواء الكوني أن ذبلتْ أفنانُها الخضراء؛وجفَّت ينابيع أُنسها؛ إلى الحدِّ الذي باتت فيه راضخةً لفعلٍ إقصائي أراد لها الجمود والشحوب؛بمعزل تماماً عن مواطن الفرح ؛والسرور؛والأوقات الصافية المترعة بأحاديث الغرام العذب؛ومذاقات الشهدِ المُصفَّى ؛حيث (الأمل الواهن مُلقَى في أكناف السراب؛وسط هاجرة النهار؛وحيث الليل الجريح ؛والأنجم اليتامى؛والكؤوس النازفة).
تلك المشاهد المتشحة بثياب الأسى؛عزَّ على الفاتنة المدللة (عطر كتاب الشاعر)كما سمَّاها الشاعر ؛أن تعيد إليها هالات الفرح المسلوب؛والبهجة المفتقدة ؛وأن تمنحها إكسير الحياة الهادئة الناعمة؛التي تملكها وحدها؛
وبدلاً من ذلك كله ؛كان سخاؤها عليه ؛وتضامنها معه؛-عكس المُراد؛والمُشتهى والمؤمل-أنْ(منحت العذاب) أضعافاً مضاعفة!
ولمن ياترى منحت (العذاب الصاهر) والشجن المرير ؟!
للشاعر المفتون بها؛المغرم بهواها؛المتفاني في عشقها إلى الأبد؛كما في هذا التصوير الدرامي الآسر:
مَدَدْتُ لِخَمْرِهَا كَأْسِيْ ، أَشَاحَتْ
بِخَدٍّ شَعَّ أَفْقَدَنِيْ صَوَابِيْ !
وأنَّى لهذا العاشق المطعون (بسيف الهجر ) أن يحظى بالوصال المنشود؟!
وطالما أن تلك (الإجهاشة القلبية) خفيَّة وكامنة في مناطق الأعماق المجهولة؛ -إلا على تلك المدللة- ؛فمتى ستخمد نارها المستعرة؟!
——————————–
-بعض ظواهر النص الفنية
-إننا هنا أمام نص رومانسي بامتياز؛احتشدتْ فيه الصور البيانية بقدرٍ عالٍ من الانسيابية؛كقوله:كَعِطْرٍ فِيْ كِتَابِيْ ؛ناحتْ أحرفٌ…الخ
– ألفاظ الشاعر مشحونةٌ بالتوتر والانفعال:مصابي؛عذابي ؛اغترابي؛الخ؛بما يؤكد احتلال التجربة بؤرة اهتمام الشاعر.
-استثمر الشاعر فيه مايُسمَّى(فنَّ التشخيص والتجسيم)؛فضلاً عن استثمار(فن تراسل الحواس) كما في العنوان الذي انطلق منه..
-اعتماد الشاعر الأسلوب الخبري؛ومن شأن ذلك الكشف عن أبعاد التجربة واستقصاء أسرارها العميقة.
-اعتماد (بحر الوافر) وهو بحرٌ سلسٌ طيِّع يستوعب التجارب الغرامية ويتلاءم معها.
وبعد فقد كانت تلك السطور محاولة لتجلية تجربة شاعرنا؛وإبراز بعض مواطن الجمال في أنغامها الحالمة؛إلى حدٍّ ما ؛راجياً أن أكون قد وفقتُ في تلك المهمة؛على أنَّ هناك جوانب فنية أخرى ؛قصر الحديث عنها لضيق الوقت؛
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.
لنص الشاعر اليمني /محيي الدين جرمة 🙁 الجغرافيا درس مؤلم ).
_________________________
-عرضُ النص:
«الجغرافيا درسٌ مُؤلم»
-0
أغفو متقمصا جفن صخرةٍ
تمر شموس تحت ظلالها والمياه.
أستدرجني كشفق ٍ ما لامسته شفة .
لايد قُبلت قبلتَه.
أنشر عراءاتي فيكِ
أنتظركِ .
تمشين على حواف حُلم ٍ.
لخطواتك نكهة العنب الأسود.
يحدق بنظراتي صوف عظامكِ
كحلاوة الضوء في فمي!
-المقطع رقم9
إن مر يوم ولم أتذكركِ.
تعتذر الجهات للرياح.
شعشعانية الحشائش
وما تلامسه يد الريح
يعتب على الريح :
إن تركتني شارداً وبعيدا.
نحوكِ أصوبني.
كأزهاركِ
تغني
فضاء
يدي .
-المقطع رقم8
اشتكيت مرة ً قسوة أبي
لصخرة قرب بيتنا.
-المقطع رقم7
لايثنيكَ صمتٌ.
عدا صخور تلوح بيد البحر!
-المقطع رقم6
في جنوب الجراحات
عصفورة تتورد
داخل الصمت.
شوك الأسئلة يوخز رياحاً.
نوارس تنفذ
من تحت غلاف الرمل.
البلاد نحرٌ من ظلال ترتجف
تتقلب كأعواد ذرةٍ
تجلب دوارا.ً!
عند الإفراط بأكلها.
تحت مديات من سموم.
يحدق رماد الأمل.
لوحة لماء فنان.
وجه حي.
بورتريه لحُلم.
تيمات تشاهدنا
في دواليب
من زجاج شفاف
لجناح متحف الكائنات.
الجغرافيا درس مؤلم.
“هل انتهى كل شيء”؟
ربما.
قبل
أ
ن /
بعد
ما/
ككل
شيء ٍ
في
الأشياء.
_________________________
-القراءة النقدية:
أطلعت في مجلة ( كيكا ) kikah الصادرة عن لندن المهتمة بالأدب العالمي ،على هذا النص الذي يعدُّ من أرقى النصوص في شاعريته ورؤياه ، حيث ينمُّ عن رؤيا عميقة، وتمكن من القدرة على خلق الجمال الفني في عناصره وفضاءاته المفتوحة بلا حدود ، وتحمله رؤى تأويلية غير محدودة ، وخضوعه لقراءات وإسقاطات نقدية متعددة المناهج والرؤى. -الشاعر محيي جرمة :
هذا الشاعر يمني الأصل والنشأة غني عن التعريف له مشاركات أدبية ونقدية في اليمن وخارجه ، حازت تجربته على تقديرات بحصول أعماله على أبرز الجوائز العربية في الشعر ، هذا الشاعر الرؤيوي الذي ابتدأ بكتابة القصيدة العمودية مرورا بالقصائد الرومانسية والتفعيلة وصولا إلى قصيدة النثر وقصيدة الومضة ، وما يخص قصيدة النثر، له بعض القصائد مكتوبة بامتياز ، ويمتلك خيالا خصبا ورؤيا عميقة ، وروح شاعرية جميلة ،
لا يسعى إلى تلميع ذاته ، يكتب الشعر من أجل الشعر ، هذا الشاعر المسكون بالإنسان ، ينزوي وحيداً حاملاً هم المجتمع على أكتافه ، يسعى جاهداً أن يرى وطنه خاصة والوطن العربي عامة في أرقى سلم الحداثة والتنوير والتطور والارتقاء ..
_________________________
-رؤيا عامة حول النص :
ونحن نلم خيوط الرؤيا نحاول الاقتراب من كنه النص وعالمه ، من زوايا متعددة ، زاوية الذات ، زاوية الموضوع ، زاوية الرؤيا ذاتها ، زاوية الاستطيقا ، ليبدو النص واضح المعالم ، كيف بك أن تلحق بشاعر وكلماته تسافر مع الريح تحملك من فضاء إلى فضاء، ومن رؤيا إلى رؤيا ، هذا الشاعر الذي يتحد بالأشياء حد التماهي ، في رؤيا عميقة وحميمة للأشياء ،تجسد فلسفة التاو المنتشرة ، إنها فلسفة حميمة في علاقتها بالوجود ، وعناصره ، نلمس روح الشاعر في كل سطر وكل عبارة ، شاعر يلتف بالأرض وصخورها ومياهها وجغرافيتها وبحارها وأشجارها … ويرتقي بروحه في سلم السماء حيث الفضاء والشمس والروح والنور والضوء والإشراق …وغيرها من المفردات العلوية ، وحين نعتمد على الكلمات المفتاحية التي تجسد محور النص ورؤياه ننطلق من عبارتين : عبارة العنوان ( الجغرافيا درس مؤلم ) ،وعبارة ( البلاد نحر من ظلال ترتجف ، تنقلب كأعواد ذرة )
تلك العبارات تجسد محور دوران النص ورؤياه حول وطن الشاعر المرتجف ” كأعواد ذرة ” على حد تعبيره ، هذا الوطن الذي يعيش التمزق والشتات في ظل الصراعات السياسية والطائفية التي تنهش الوطن من كل زاوية ، فيبقى الشاعر يصدح بصوته ولا مجيب ، فينزوي مثخناً بجراحه وحيداً يحمل همّ وطن على ظهره …
_________________________
-سيميائية العنوان :
إن العنوان بوابة النص للدخول إلى عوالمه ، واستشراف خباياه بصورة مصغرة تبدو مرئية من بوابته الصغيرة ، وكلما حاولنا أن نتأمل هذا العنوان نجده يفتح أمامنا أكثر من تأويل فكلمة جغرافيا تدل على بلد محدود المعالم واقع في نطاق مكاني معين ، وهي كذلك تدل على التمزق والتجزؤ، وحين نقترب من هذا البلد الذي قصده الشاعر، ونتفحص مكانته بين البلدان الأخرى ، يجعلنا نستكشف مكنون الشاعر حين يحملنا إلى مواطن رؤياه العميقة التي يرى من خلالها بلده ( اليمن ) هذا البلد الذي يعيش بين زوايا الصراع ،هذا البلد الذي يتمزق كل يوم تحت معاول الساسة والمستبدين، تلك المعاول التي تنهش الوطن من كل ناحية وكل ضربة تقع على هذا البلد هي بالأصل تقع على عاتق الشاعر الذي يحمل همّ هذا البلد على أكتافه.
وحين نرى هذه المعاول تتهاوى فوق رأس الشاعر ندرك حينها معنى قوله : ( الجغرافيا درس مؤلم ) ،ذلك هو الألم الحقيقي حين تحمل هم وطن على ظهرك … حين تحمل هم أمة بكاملها، بهذه الهمة يبدو الشاعر كنصف نبي أثقلته هموم مجتمعه . إن موضوع الجغرافيا هو موضوع مكان ، ونجد هذا المكان يختلط بـ ” أنا ” الشاعر وكينونته، فنستشف العلاقة الحميمة بين المكان والشاعر ، بين الأرض والإنسان ، علاقة الجزء بالكل والابن بالأم ، هذه العلاقة الحميمة المتماسكة نرى بها أن كل ألم يصيب الوطن والبلد هو بالضرورة يصيب هذا الإنسان والشاعر خاصة ، وحصر الألم في درس الجغرافيا دون غيره يعكس تماهي الشاعر بجغرافيته وحدوده ، حيث تغيب الأنا في الموضوع ولا يبقى لها علاقة سوى الألم الذي يربطه بهذه الجغرافيا ، ويعمّق الشاعر معنى الألم حين يرتبط بالدرس حيث يتحول هذا البلد إلى مصنع آلام وأحزان ومعاناة تتكرر معنا في كل يوم ؛ أي مع كل نفس نتنفسه نستقبل ألما بعد آخر إلى ما لا نهاية . إن الشاعر يجسد ثنائية الواقع والمتخيل في كل أجزاء النص ابتداء بالعنوان ومرورا بكل مقطع فهو حين يهبط إلى الواقع المشترك يحاول ينقل الآخر المتلقي إلى عالمه العميق الذي يراه هو ، ذلك العالم الفني الذي بناه برؤيته الشاعرية الخاصة ، فكلمتا ” الجغرافيا درس” في العنوان غير شاعرية، أي ليست من عالم الشاعر وحين تتضام مع كلمة ” مؤلم ” يختلف مدلول التركيب، وتتغير العلاقة فيغدو العنوان محركا من الداخل، حيث إن كلمة “مؤلم ” قد أشعت في العنوان بتضامها مع الكلمات السابقة ، ذلك أن الشعر طاقة مولدة من تضام الكلمات وعلاقاتها !
فهو أشبه بشرارة اللهب المنقدحة من اصطدام حجر بحجر ، وهنا يبدو شاعرنا ذا قدرة فنية وشاعرية كبيرة في الاقتراب من روح القارئ وأخذه إلى عالمه الخاص لمشاركته رؤياه .
_________________________
-الرؤيا والجمال في النص :
“أغفو متقمصاً جفن صخرة ” هذه الصورة السريالية هي محاولة للهروب من الواقع البائس وخلق عالم سحري صلب ليقف عليه أمام عواصف الفناء ، فالصخرة رمز للصلابة والقوة ، والتحمل ، وذلك التقمص لجفن الصخرة يمنح الشاعر قوةً للمواجهة والثبات للاستمرار في الحياة ، ونجد ذلك حين تمر شموس الإشراق والفكر والتجديد والمحبة والعرفان التي ينتظرها الشاعر حين تمر تحت ظلال صخرته ، ويضفي صورة الحياة بمرور المياه ، فالماء رمز للحياة والخصوبة ومحاولة لبث الحياة وبعثها في الواقع الأليم .
إن محاولة خلق عالم حي مشرق مفعم بالجمال هو محاولة لأخذ المتلقي إلى عالمه الذي يراه وحين يؤمن هذا المتلقي بأفكار الشاعر ورؤاه يستطيع حينها أن يعيش الواقع الجميل . وحين ننطلق مع الشاعر نجده في المقطع الأول ينشطر إلى ذات وموضوع ، ذات متوهجة تقود الموقف ، وموضوع يحاول اللحاق بها ويستدرجها ” استدرجني كشفقٍ ما لامسته شفة ” إن هذه الذات التي يحاول أن يستدرجها هي في الحقيقة الإنسان الآخر الذي اتحد به الشاعر وهو ذلك المخاطب الذي يحاول أن يستدرجه إلى عالمه الخاص فإذا هو كشفق يقترب من نهايته في الأفق يقترب من الموت والفناء تحت أمواج الظلام .
إن ذلك الآخر التائه والواقف على مشارف النهاية هو ذلك الإنسان اليمني ابن وطن الشاعر الذي فقد الحب والحنان في ظل الظروف القاسية ” لا يد قبلت قبلته “. وينفتح الشاعر بقلبه ورؤاه لهذا الوطن حين يقول : “أنشر عراءاتي فيك” ؛ إنها محاولات متكررة في نشر الشاعر فضاءاته المفتوحة لهذا الوطن ، فقلبه يتسع للجميع ، وينتظر قدوم الوعي لتغيير الرؤى العتيقة ” أنتظرك ” ولكن صورة الخوف تتوقد في ذهن الشاعر حين تغدو بلده محاصرة تحت كلاليب الرؤى الضيقة الحاقدة ، فتغدو طموحاته معلقة على مشارف حلم لم يتحقق بعد .
ونجد الصور الشعرية تتلاحق في ثنايا النص مضيئة بروح الشاعر وإبداعه المتوهج ، فالخطوات لها نكهة العنب الأسود إنها مسكرة في إقبالها ، وتصوير الخطوات بأن لها نكهة يعتمد على تراسل الحواس الذي شاع عند الرمزيين ، إنها حالة نشوة وسكر تختلط فيها الأشياء ، فما تراه بعينك تشمه بأنفك ، الكل يتحد عبر المعنى هذه الرؤيا الصوفية العميقة التي يتحد فيها أجزاء العالم في وحدة كلية غير قابلة للانفصال وهي ما يعبر عنه ابن عربي بعالم الأنفاس ، حيث تغدو الفواصل مجرد وهم في رؤية الأشياء ، ويتجسد المعنى أكثر حين يغدو للضوء حلاوة في الفم ” كحلاوة الضوء في فمي ” فالضوء المشاهد بالعين يغدو هنا محسوسا بالذوق عبر الفم الذي يجسد حلاوته ، ذلك الضوء المشرق هو ضوء الوعي والعلم وضوء النور الروحي المشع بالمحبة في الارتقاء بالإنسان والمجتمع . ويصحو الشاعر من هذه السكرة التي حاول أن يستدرج بها الآخر حين يغدو الوطن مشرقا ومفعما بالمحبة والوعي والسلام ، فيتوجه مرة أخرى إلى مخاطبة ” الوطن ” المعبر عنه بضمير المخاطبة على شاكلة قوله :
* 9 إن مر يوم ولم أتذكركِ. تعتذر الجهات للرياح. شعشعانية الحشائش وما تلامسه يد الريح يعتب على الريح : أن تركتني شاردا وبعيدا. نحوكِ أصوبني. كأزهاركِ تغني فضاء يدي . اليمن هي تلك الحبيبة التي لا تفارق ذكر الشاعر وهي التي يعيش من أجلها بجسده وروحه وفكره وقلمه ، إن لم تمر على ذكراه يوم فالجهات تغدو بلا رياح مبشرة بالخير ؛ لأن صوت الشاعر هو صوت الخير في الأوطان ، وحين نلجأ إلى التـأويل نقترب من الرؤيا العميقة للنص فالرياح رمز للتغير ورمز لصوت الشاعر ولكل قلم ثائر ، إن الرياح في معناها تحمل مدلولا خصبا ، فهي في الثقافة الدينية وفي القرآن خاصة مبشرة بالخيرات وهي لواقح للأشجار من أجل الثمار ، وفي قول الشاعر : ” تعتذر الجهات للرياح ” نجد روح الشعر والفن تتوهج في المقطع فقد أنسن الشاعر الجهات وشخصها فكل شيء مصبوغ بالحياة ومفعم بالحركة وكل شيء مرآة لروح الشاعر الشفافة المشرقة ، فالعبارة السابقة مليئة بالإيحاءات الرمزية الخصبة المفتوحة على تأويلات متعددة ، إن هذه الجهات الأربع هي بوابة الدخول إلى فكر الإنسان ، فمنها يدخل داعي الشيطان وداعي الملك من أجل التربع على مملكة الإنسان ، وما صوت الشاعر إلا ثورة للتغيير ومحاولة للدخول إلى تغيير الوعي السائد ؛ ذلك الوعي الذي يتسم بالكراهية والفوضى والنظرة الدغمائية للأشياء ، وتلك الأصوات الواعية التي هي صورة من صور الرياح في عالم المعنى بمثابة محاولة لزعزعة الأفكار وغرس رؤى جديدة ومشرقة ، تلك هي الرؤيا العميقة في سبب جمع الشاعر بين ذكراه لليمن المعبر عنها بضمير المخاطبة واقترانها بالرياح وجهاتها . وفي المقطع الذي يقول : “اشتكيت مرةً قسوة أبي لصخرة قرب بيتنا ” ففي هذا المقطع الصغير تتجلى شعرية عميقة وكثيفة ، فمن هذا الأب الذي يشكو قسوته إلى الصخرة ؟ أليست الأبوة رمزا للقوة المتسيدة والسائدة في البلد ، تلك القوة القاسية التي لا تقود الأمور بزمام الحكمة والرحمة ؟!
* والشاعر حين يشكو تلك القسوة إلى الصخرة ، يشير بأن الصخرة أرق من المشاعر القاسية لبني الإنسان ، فهي تسمع لك دون كلل وملل ، هذه هي الصخرة التي يتهمها الناس بالقسوة ، لكن شاعرنا يستبطن معناها وجوهرها الداخلي ويعبر من السطح إلى العمق ليرى الأشياء بحقيقتها ، فإذا به يتواصل مع الصخرة بتواصل حميم ويجدها تسمع له شكواه ومعاناته دون ملل ولا كلل ، إنها أسمى المعاني التي يفتقدها بنو الإنسان ، فمن الذي سيظل يهبك ذاته دون أن يضيق منك وأنت تتحدث معه في كل وقت ،والشاعر وحده من يكتشف جواهر الأشياء بحدسه ، أليس للشاعر رؤيا عميقة غير الرؤية السطحية التي عند الناس ؟!
* تلك هي مهمة الشاعر في الكشف عن جوهر الأشياء وعمقها الداخلي . وفي قوله : لا يثنيك صمت ، عدا صخور تلوح بيد البحر ” هنا يلتحم الشاعر بالأشياء ويعكس عليها إحساسه ، فالصخور تحمل معاني عميقة في امتزاجها بالبحر هذه الصخور الصامتة ذائبة فيك ومصغية لك ، كل شيء يبدو مختلفا عند الشاعر ، إنها ليست فيها من الأنانية شيء .
* حين تقف مع الصخرة وتتأملها وتتحاور معها بصمت تكتشف أن للأشياء جوهرا حيا عميقا هذه هي رؤيا الشاعر البصير ورؤيا المتصوف الخبير بأسرار الروح وحياة الموجودات ، حتى الذي نتوهم أنه جماد فهو عند الشاعر والمتصوف له حياة خاصة وكينونة لا ندركها إلا حين نقترب من جوهرها ، وهذه المسألة ذوقية تأملية لمن وقف معها لا تتأتى لأي شخص ، ويلفتنا كثيرا قول الشاعر: ” عدا صخور تلوح بيد البحر” ما العلاقة بين يد البحر والصخور ؟ إن البحر رمز للمدى الذي لا ينتهي ، رمز للأبدية ، وتلك الصخور تغدو بإشاراتها متلبسة بتلك اليد البحرية الأبدية ، إن هذا البحر الذي يتحدث عنه الشاعر ليس البحر الخارجي الذي نراه بل بحر آخر كلي عميق ، بحر الوحدة الكلية للأشياء ؛ إنه بحر الوجود الذي تستند إليه الموجودات . ينطلق الخيال الشعري في المقطع السادس من الواقع إلى بناء العالم الداخلي للشاعر ورؤياه للأشياء ، فيحملنا إلى مشاهدة الأشياء المعنوية مجسدة ، فإذا بالجراحات متعددة الجهات لها الشمال والجنوب والغرب والشرق ، وفي زاوية هذه الجراحات التي لا تنتهي يغدو الشاعر السجين الذي هو أشبه بعصفورة تتورد داخل قفص الصمت ، إنها صورة جمالية لا أبدع منها وخيال وقاد في خلق الجمال ، وفي هذه الحالة العصيبة من الصمت تبدو الأسئلة كشوك في وخزها تلك الأسئلة التي لا يجد لها الشاعر حلا ، فتبدو كالنوارس ، فكلمة نوارس معناها شوك القتاد ، ولها مدلول آخر بمعنى الطيور البحرية التي تنتمي إلى النورسيات ، وهنا لها المدلول الأول وهو الشوك التي تظهر من تحت غلاف الرمل على شاكلة قوله : 6ــ البلاد نحر من ظلال ترتجف تتقلب كأعواد ذرةٍ تجلب دوارا.ً عند الإفراط بأكلها. تحت مديات من سموم. يحدق رماد الأمل. لوحة لماء فنان. ونشير هنا إلى ترتيب الشاعر المقاطع بالعد التنازلي من الأكبر إلى الأقل ، هذا الترتيب له دلالته عند الشاعر وهو دلالة التراجع لهذا الوطن (اليمن ) الذي يتراجع إلى الوراء مع مرور الوقت ، ويمكن أن نعطي النص أكثر من قراءات لفراغاته وسواده وبياضه …كل ذلك يجسد إشعاع النص وامتلاءه برؤى مفتوحة لا تحصر . تلك هي مجمل المقاربة المختصرة لهذا النص الذي لا ينتهي تأويله هذا النص الذي يتمدد معنا كلما حاولنا الوقوف معه والإمساك به .