مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
من خلال قراءة انطباعية لنص الشاعر محمد النعمي ( العيد والغياب ) بقلم : يحي معيدي
العِيد والغِياب :
*كُـلُّ المَـوَاعيدِ خانَـتْـها المَواعيدُ
*سِيَّانَ إنْ غِبْتَ أو وَافَيْتَ ياعيدُ
*تَقَـطَّعَتْ بَينَنا الأَسْبابُ وافْتَرَقَتْ
*دُرُوبُـنا، وَاسْـتَـوَتْ أيَّـامُنا السُّودُ
*شَطَّتْ بِنا الدَّارُ، أَنْسَـتْنا ملامِحَنا
*حَتَّى اغْترَبْنا وأَدْمى خَطْونَا الْبِيدُ
*وَمَضَّـنا البُـعدُ وَجْـداً ما نُغَـالِـبُهُ
*زَفِـيْـرُهُ الآه تَـكْـوِي والتّـناهِـيْـدُ
*كيفَ افْترقْنا وَهَـمْسُ الحُبِّ يجمَعُنا
*ومـا التَـقَيْـنا، وحَـبْـلُ الـودِّ مَـمْـدُودُ
*ولَـوَّعَـتْـنا لَـيَـالٍ صَـفْـوُهـا كَـدَرٌ
*أَدنَى تَـبَارِيْـحِـها هَـمٌّ وَتَـسْـهِيْدُ
*تشِـيحُ عَـنَّا أمَـانِـيْ الحُـبِّ لَاهِـيَةً
*وتصْطَفِينا على البَلْوى المَوَاجِيدُ
*ياعِيدُ أيْـنَ التي كانَتْ إذا خَـطَـرَتْ
*يَخْـتَـالُ بَـدرٌ، وتَـنـسَـابُ المَـوَاعِـيْدُ*
*تِلْكَ التي تَمْـنَـحُ الأعـيادَ بَهْـجَـتَها
*أو رُبَّـمـا أَنَّـها كـانَـتْ هِـيَ الـعِـيْـدُ
*مَـا بَـالُـها نَسِـيْتْ لَمْ تُهْـدِنا قَـمَـراً
*في لَيْلَةِ العيدِ، هل يَحلُو لَنا عِيدُ
——-
أصالة الشعر تكون فيما يمتلكه الشاعر من ثقافة وموهبة وعاطفة جياشة ومدارك عميقة تجعله يبعث روح حرفه مكتمل البناء والصورة.
وحينما يأتي النص إلى القارئ من جميع جوانب الإدراك ، الحس ، السمع ، البصر ، الوجدان ، العاطفة ، فإنه نص مكتمل الجوانب حقا.
وهذا ما لمسته في نص أديبنا محمد النعمي.
ولست هنا في نطاق التصنيف أو الفلسفة الشعرية ، أو الإشارة إلى ملحمة الشعر وتقسيماته المبثوثة في كتب فلاسفة الشعر كأرسطو وغيره.
وإنما طاب لي رسم انطباعي حول مجريات هذا النص البديع الذي صدفني وصدفته فرأيت أن أجاذبه شعوري متذوقا جماله وتقسيمات هالاته البديعة.
والشعر كما عرفه البارودي :
( لغة خيالية يتألق وميضها في سماوة الفكر فتنبعث أشعتها إلى صحيفة القلب فيفيض بلألأتها نوراً يتصل خيطه بأسلة اللسان فينبعث بألوان من الحكمة ينبلج بها الحالك).
ولقد سقاني هذا النص تلك اللغة التي ذكرها البارودي ، وذلك الإلهام ؛ لأرسم انطباعي حوله.
عنوان النص :
جاء العنوان بمفردتين متعاطفتين
( العيد والغياب) وهو ما يُشعر بالاقتران الأيدلوجي النفسي لدى الشاعر مع الحدث الحاصل ، حيث رسم جوانب النص عبر بوابة المفردتين ، وهي إشارة تحتاج تأملا دقيقا حيث المعنى الذي جمع كائنا يبث السعادة وآخر ينبعث منه لهب الاحتراق وهو الغياب.
وبالنظر في كنه المفردتين نجدهما كائنين لهما انطباع طبعيٌ في روح البشر ، وانطباع عتيق جدا يرجع إلى عُرف المفردتين ومعرفتهما عبر الزمن.
اختار الشاعر البحر البسيط ، وقافية الدال
ولايخفى ما يحمله حرف الدال من صفة جَهْورية انفجارية ، ولعل الشاعر اختار ذلك ؛ ليعبّر عن انفجار الشعور الناتج لديه عن مضص الغربة والبعد !
وظهر التناص الوزني والقافوي والمعنوي -أيضا- بين نص النعمي ( العيد والغياب)
وبين قصيدة المتنبي التي مطلعها :
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ ؟
وجاء نسق النص منسجما في جميع قوالبه:
الصدر
والعجز
والعروض
والضرب
والحشو أيضا
وهو ما يدل على قوة وعمق شاعرية شاعرنا النعمي وجودة قبضته على ناصية النص.
ولعل القارئ يجد ذلك في أغلب النص.
ولنأخذ مثلا قوله :
تقطعت بيننا الأسباب وافترقت
دروبنا واستوت أيامنا السود
فالقارئ يلحظ التقسيم الفريد ، والانسجام اللفظي والمعنوي ، وكأن الشاعر يعزف على آلة التقسيم الصوتي والغنائي، وتلك مهارة لايجيدها إلا المهرة.
ويلحظ القارئ أيضا :
التاء في أواخر الكلمات :
تقطعت
افترقت
استوت.
وكذلك:
( نا) المتكلمين
في كلمتي ( بيننا ، دروبنا )
وهو ما أضفى جرسا موسيقيا رائعا.
وحينما نغوص في أعماق نص شاعرنا ، سواء الألفاظ أو المعاني والدلالات والصور فإننا نجد الشاعر قد أحكم سبك قوالبه فالألفاظ منتقاة ودلالية فصيحة وواضحة الدلالة.
وكذلك الأفكار كلها تنصب في فكرة العنوان وهي ( واقع الغياب والبعد).
تلك الفكرة المرتسمة على جوى الشاعر خصوصا مع إطلالة العيد الذي هو روح البسمة والسعادة وملتقى الأحبة.
فحينما يأتي العيد دون لقيا من نحب فإن ذلك – ولا شك- هو انفجار الشعور أسى وألما.
والشاعر هنا مرتهن في كهف ذلك الغياب المحرق ،وتلك الغربة المرهقة.
وعنده كل المواعيد خانتها مواعيدها سواء حل العيد أو غاب ، فهو محروم من لقيا أحبته واجتماعهم.
يُقّرر الشاعر تلك الدلالة ليرسمها وينقشها في ذهن القارئ أو السامع معبّرا بالجمل الخبرية كما في الأبيات :
الأول والثاني والثالث والرابع.
أو الإنشائية المتمثلة في النداء أو الاستفهام
كما في الأبيات :
الخامس
والثامن والعاشر.
استخدم الشاعر مفردة العيد خمس مرات مفردة ومجموعة ونكرة ومعرفة وهو ما يدل على أن فكرة العيد أساسية ومستلهمة من روح هاجسه الشعري الذي ألقى عليه تلك الفكرة بدءا.
واستخدم – كذلك- مفردات دلالية لتدل على ذلك الغياب ومنها :
تقطعت.
افترقت.
أيامنا السود.
شطّت بنا.
اغتربنا.
إلخ.
وكلها تصب في معنى الغربة والغياب عن الدار والأحبة خصوصا في ظل إطلالة العيد.
ووظّف الشاعر اللغة الحركية للمفردات ليدل على المفارقة مثل:
وأدمى خطونا البيد.
وكذلك :
ومضّنا البعد.
ومثله :
وما التقينا.
وكذلك :
تشيح عنا.
وغير ذلك مما ورد في النص.
ولإثبات تلك الدلالة الغيابية يستخدم الشاعر الاستفهام التعجبي وذلك في قوله :
مابالها نسيت لم تهدنا قمرا ؟!
وكأن حاله كحال المتنبي حينما قال:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب.
واستخدم الشاعر- أيضا-
التصوير البياني والبديعي والكناية فجاءت وشيا وعِقْدا بهيّا !
لنأخذ مثلا
الطباق في قوله :
غبت ، وافيت.
صفو ، وكدر
وغير ذلك.
وكذلك الجناس الناقص في قوله:
المواعيد
و
المواجيد
واستخدم أسلوب المقابلة أيضا :
تقطعت بنا الأسباب.
وافترقت دروبنا.
شطّت بنا الدار.
واستخدم -كذلك- التضاد :
افترقنا
و
التقينا.
وظهر في نص الشاعر التجسيد ؛ ليرسم أحداث ذلك الغياب الذي مَرّ بكل أحاسيسه لظى ولهيبا.
فهو يستذكر قمره الغائب عنه حيث كان معه فيما مضى من أعياد.
بل يجعل ذلك القمر عيدَه حيث يقول:
تلك التي تمنح الأعياد بهجتها.
وحينما يكون الغياب من بلسم العيد فلا إحساس للعيد !
جاءت عاطفة الشاعر جياشة في وهج واحتراق تبعث الروح الفنية لغة وشعرا، حيث التعابير الحزينة التي صبها الشاعر؛ ليصور ذلك الغياب الجاثم على روحه، فأيامه سوداء
يغالب فيها الزفير والآه والهم والتعب والتناهيد.
هكذا جسّد لنا الشاعر حدث تلك الغربة، ولوعة ذلك الغياب وهو متلبس بالأسى وحُمّى الشوق ، وكأني به يتمثل قول قيس بن ذريح إذ قال:
ودِدتُ من الشَوقِ الذي بِيَ أَنَّني
أُعارُ جَناحَي طائرٍ فَأَطيرُ.
قراءة نقدية لقصيدة:
( أبابيل )للشاعر:جبران قحل
بقلم الأستاذ/عبدالحميد عطيف
____________________
-نصّ القصيدة:
لم أكتملْ …
بعدُ …
ها شبَّتْ .. قناديلي
فلا تؤجلْ …
– وقد أوشكتُ –
تأويلي
بربِّ زيتك …
أوقدني …
وصُبَّ على جدبي …
اخضرارَك …
وانْشُزْ في مواويلِي
__________________
-القراءة:
*لقد ارتبطت حياة البشر مع الطيور منذ القدم وشكلت جزءاً من معتقداتهم وأساطيرهم وخرافاتهم وطقوسهم وعيشهم على مر التاريخ، ومن الحمامة إلى العنقاء هناك سلسلة طويلة من الطيور كانت لها رمزيتها ودلالاتها في الموروث الفكري والشعري والإنساني..
كل الطيور عاشت مع الإنسان على أرضه وفي أجوائه وكانت ملهمة له فازدانت بها آدابه وحلق معها عقله وخياله وصحبته في حلّه وترحاله ولذلك تعايشه معها من الأمور الطبيعية المألوفة ، لكن طائرا واحدا ليس من هذه الطبيعة وقد شكل بمفرده مساحة واسعة من ذاكرة وعقل العالم وهو (الطير الأبابيل) التي ظهرت من المجهول محلقة في أسراب ومجموعات في سماء مكة المكرمة وخاضت معركة إعجازيّة دامية ثم اختفت ، ولسنا هنا بصدد تتبع قصة الطير الأبابيل وإنما أوردنا هذه المقدمة لتتبع مقاصد الشاعر من عنوان النص (أبابيل) والكشف عما يتوارى خلف اللفظ من دلالات وأحجيات وما يحيلنا إليه من معانٍ ومستهدفات سابقة ولاحقة يمكن إدراكها من خلال التأمل واستدعاء ما في ذاكرة اللغة والعقل من حمولات معرفية ذات صلة بهذا الاسم ولما بين رمزيّة الطير عموما والطير الأبابيل خصوصا من تعالق ظاهر وتماس خفي مع النص الشعري، وإذْ لا يمكن أن نقرأ لفظ (أبابيل) دون أن يقترن ذلك في أذهاننا (بالطير الأبابيل) وبما ورد بسورة (الفيل).
قال تعالى(… ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيراً أبابيل * ترميهم بحجارة من سجّيل *..).
*( ومعنى أبابيل في معاجم اللغة (الفرَق) وهو جمع لا مفرد له وأكثر ما وصفت به أنها مجموعات، مجموعة مجموعة، وأسراب تأتي من كل اتجاه.. وربط بعضهم لفظ (أبابيل) بلفظ الإبل المؤبلة أي التي استغنت برطوبة العشب عن الماء، هذا له علاقة بما ذهب إليه بعض المفسرين من أنّ الطير الأبابيل تعيش بين السماء والأرض.. بمعنى أنّها (مؤبلة) لا تحتاج إلى ورود الماء على الأرض فلديها مصادر من الغذاء والماء في فضائها وذكر في وصفها أنها مختلفة الأنواع والألوان والأحجام والخصائص وأنها خرجت أو قدمت من الجهة الغربيه لمكة المكرمة وهي جهة البحر ..)
*حادثة الطير الأبابيل هي حادثة خارقة للمعقول البشري ولمعهود العلاقة بين الطير والإنسان وقد جاءت في سياق الإعجاز والتحدي، وبما أن أبابيل ليست نوعا من الطير وإنما تعني فرقاً ومجموعات وطالما أن الأمر كذلك فيصلح أن نقول (وحشا أبابيل ) لوصف مجموعات من الوحوش تأتي من كل اتجاه وكذلك خلقا أبابيل …. وقس على ذلك ما يمكن قياسه لكل ما قد يأتي كمجموعات مجموعات أو أسراباً أسراباً ومن جهات مختلفة من أمور حسية أو معنويّة وبالشكل الذي يشكل تحديّا خارقا للمألوف والمعهودومثلما أن هناك في الزمن الماضي طيرا أبابيل شكلت تحديا وأمراً خارقا للمألوف فهنا أيضا في الزمن الحاضر أبابيل أخرى تشكل تحديا وخرقا لما هو مألوف ومعهود ..
*هكذا يتضح لنا ما يكتنزه لفظ (أبابيل) من معاني عميقة ودلالات دقيقة وصور ملموسة ماضويّة الزمن مستديمة الفاعليّة استهدفها عنوان النص كعناصر تأسيسيّة وقواعد يقوم عليها البناء الهرمي للنص لتجسيد وإثراء وتقوية الفكرة العاكسة للحدث أو للقصة الأبابليّة الجديدة الخارقة للمعهود وذات الصلة بمستهدفات النص ومضامينه، ونلخص هذه العناصر في بعدها الماضوي فيما يلي:-
– معنى (أبابيل) كفرق ومجموعات
– النظام الحركي لهذه المجموعات المتدفقة من مختلف الاتجاهات
– التنوع الوصفي لأشكال وأنواع وأحجام هذه الأسراب على غرار تنوع الأوصاف التي ارتبطت بالطير الابابيل.
– البعد الغيبي والفضائي المتصل بظهور الطير الأبابيل.
– حقيقة التحدي واختراق المعهود والمألوف.
– ما يرمز إليه التأبيل من وجود مصادر للتغذية والارتواء تنهل منها تلك الأبابيل..
*(ومن هذا نستنتج وعلى نحو مبسّط وتقريبي جانبا من دلالة عنوان النص الهادفة إلى تحضير ذهن القارىء وخياله ليرى أنه أمام نص يجسد حادثة أو ظاهرة تتشكل من فرق ومجموعات وأسراب تترى ذات نظام حركي وأهداف مبرمجة وتنوع وتعدد تتغذى وتنهل من موارد فضائية تفد إليها من الجهة الغربية من الكون .. )
*… جاء العنوان هكذا (أبابيل) فإلى أي أبابيل يشير اللفظ وما هي مقاصد الشاعر من وراء ذلك … ؟ وإذا كانت الطير هي بطلة القصة الأولى فماهو أو من هي بطلة (أبابيل) الشاعر ؟.. وهنا أيضاً يعيدنا الاسم إلى استدعاء (الطير الأبابيل) مجددا، والطير في اللغة اسم جمع مؤنث ويطلق على الواحد ومفرده المذكر (طائر) ولا مفرد مؤنث له..
*إن اختيار العنوان بهذا الشكل ينم عن ذكاء مبدع فالشاعر يدرك بحصافته أن الربط بين أبابيل والطير متحقق ذهنيا لدى القارىء دون ذكرها ولو ذكرها لفسد الشكل والمضمون معا وبهذا فقد منح القارىء فضاء لإعمال الذهن والخيال لإيجاد مقاربة (ما) واكتشاف ما وراء اللفظ المغيّب من رموز ومعاني ودلالات لم تكن غائبة عن مراد الشاعر، ولسنا بحاجة إلى تتبع السياق لمعرفة مقاصد الشاعر الدفينة في عمق الفكرة إذا تتبعنا رمزيّة الطير في حياة الإنسان وتعلقه وإعجابه بها فلقد كان ولازال الطير رمزا للحريّة التي طالما رغب الإنسان أن يحوزها ليتمكن من التحرر من قيود الواقع للتحليق في آفاق الكون؛ تلك الرغبة لم تكن إلّا تمظهرا يتجدد لرغبة موغلة في القدم مخزونة في جين الإنسان الوراثي وهي رغبة الخلود والطيران كالملائكة التي من أجلها ارتكب الانسان الأول خطيئة العصيان حين كان ضعيفا أمام الأنثى وواقعا تحت تأثير غواية الشهوة.. وهنا يكمن جوهر فكرة النص … وإذاً فالأنثى الطامحة إلى التحليق المعنوي والتحرر من قيود الأسر الأرضي وإشباع رغباتها الطبيعية الكامنة لبلوغ الخلود المفقود هي بطلة الأحداث المتصلة بأبابيل الشاعر .. والنص في مجملة بتمظهره ( الجنساني ) ليس له علاقة بتجربة الشاعر أو رغباته العاطفيّة وإنما يمثل تجسيدا للغواية الأولى في حلّة حديثة ، وإذا كان الشيطان قد استغل شجرة الخلد بثمارها الجميلة لتلعب دور الإغراء ففي النص قامت الأنثى بدور الشجرة …، والأنثى هنا ليست صانعا أساسياً ولكنها أداة ووسيلة مستغلّة يخاض بها غمار هذه الاحداث ، وهكذا تتوالى دلالات (أبابيل ) وتتداعى إلى الذهن صورها ورموزها تباعا آخذاً بعضها برقاب بعض وكل دلالة تحيلنا إلى أخرى وصولا إلى الحقيقة الكبرى التي تجسد الصراع بين الخير والشر .
لقد ضعف آدم ذات يوم فكانت الخطيئة وانتصر الشر فهل سيضعف هذه المرة ؟
هذا ما سنعرفه من خلال قراءة النص وأرجو أن تتاح لي فسحة من الوقت وقدرا من العافية لقراءته وختاما أعتقد أن الشاعر في غنىً عن الثناء على جودة شعره وما بالنص من تمهير غاية في الجمال والإبداع … والسلام ..
3/ جمادى الأولى / 1443
✍️ استشرافُ آفاق قصيدة« لَحْظَةْ هَزِيمَةْ» للشاعرة:هند النزارية؛
يهبط الليل باسطاً سلطانه العظيم ؛على الكائنات؛ والساحات؛ والميادين الحيَّة في المدن والقرى؛والأبنية الآهلة والمهجورة :والأحياء الصامتة والصاخبة على حدٍّ سواء.!
لاتمييز في دستور الليل ،ولامحاباة عنده في قوانينه الصارمة؛ودقة مواعيده المتناهية.
هو كائنٌ حريريُّ الثياب من أواسط الشهر إلى منتصفه؛فيما بعد يرتدي ثوبه الحالك الداكن ؛متباهياً به أمام الخلائق أجمعين؛ إلى أنْ يبلغ بها ذروة ليالي المحاق.
ويظلّ كذلك هو والنهار في تعاقب مستمرّ .
أتيحت له من مظاهر العزَّة والسلطنة؛مالم تتح لقسيمه النهار.
تشق ظلمات سكونه؛أنَّاتُ الحيارى والمساكين؛ ومآسي الغرباء والمشرّدين ؛فيستوعبها ويعدُّ لها متاحف في حجراته ؛إلى أجلٍ غير مُسمَّى.!
كما أنَّه -وهو الغاسق الدامس -لا يعتدي ولا يتعدَّى عدد ساعاته المتوازية مع ساعات شقيقه النهار الواضح؛
ويظلُّ خلال ذلك يترقَّى في الدرجات الممنوحة له من لدن حكيم عليم.
وعلى الرغم من جبروته وعتاده الذي يفوق به جيش النهار كثيراً؛وباستطاعته إحراز النصر عليه؛لو همَّ باقتلاعه
أو الخسف به ؛فإنَّه بماعنده راضٍ؛لا يتجاوز حدود مسؤوليته المنوطة به.
لاالعِداء السافر؛ولا المطامع الرخيصة؛ ولا المزايدات والمهاترات؛والخيانات ؛مما يدور بين بني الإنسان؛تستطيع أن تطوّق عنقه؛أو تبتلّ بها سحنته.!
إنَّه آية كونية ؛سوادُها سرُّ جمالها ؛وضياؤها رمز جلالها؛ وهدأتها حلاوة الافتتان بها ؛فمابوسع هذه الآية الكونية؛اإلا تلبية نداء خالقها العظيم ؛والسير على مشيئته الحكيمة؛ونهجه الذي ارتضاه لها خاضعة لتعاليمه؛ومستسلمة لإرادته النافذة وحكمته البالغة؛تعالى الله؛و(إنَّ الله أولىَ بالجميل).
وأمَّا ندماؤه ومحبوه من الشعراء والشاعرات والفنانون والنَّاس عامَّة؛ فهم يستقبلون قدومه؛مبتهجين بحضوره؛ دَهِشين لهيمنته الواسعة؛ومستثمرين طقوسه ؛على تفاوتٍ في اهتماماتهم ؛ورغباتهم ؛وغاياتهم .
ومن إحدى نوافذ تلك الكوكبة الإنسانية؛تطلُّ على القرَّاء الشاعرة :هند النزارية ؛بقصيدتها الوجدانية؛التي بين أيدينا؛على نحو خاص ؛يتعلَّق بتجربة شعرية لها ؛ألمَّت بساحتها ؛والتمعتْ في سماء أفقها الشعري؛ في لحظةٍ من سحائب الليل البهيم؛لحظةٍ سمَّتها الشاعرة بوضوح وشفافية عالية :(لحظة هزيمة).!!
هذه (اللحظة) المنعوتة (بالهزيمة)؛مبعثُ شرارتها الأولى (أشواقٌ)وفدتْ إليها على متن سفينة ليلية الملامح والقسمات ؛وفي تضاعيف تلك التجربة ألوانٌ من الشجون العاصفة؛ والتساؤلات المترامية؛والانفعالات الملتظيَّة؛ أفصحتْ عنها تراكيب لغوية دراميَّة؛على ماسنرى في السطور التالية.
________________________
تستهلُّ الشاعرة لحظتها الراهنة معتمدة على أسلوب النداء (ياء)؛ بعد هبوط الأشواق عليها بغتةً ؛في هدأة الليل البهيم؛وينطوي هذا النداء على شيء من عدم الرِّضا الكامن في السؤال بمن الاستفهامية التابعة لها.
وكأنَّ الأداة (من) فتحت الباب على مصراعيه؛لتنضمّ إلى منظومتها (كيف)؛فالتساؤلات إذن؛ والأشواق الهابطة على قلب الشاعرة؛عادت إليها الحياة بغتةً؛مندسةً في ستار الليل الحالك.
عادت إليها على ظهر سفينةٍ صنعتْ عتادها من أشرعة وغيرها من نسيج الظلام المحلولك.
وظلَّت تجوب البحار والمحيطات؛ حتى إذا لاح لقبطانها ومن على ظهرها ميناء ذكريات الشاعرة؛ المسوَّر بغدائر الصمت النَّاطق؛ المغلق المحجوب فيما مضى عن الفضوليين ومن إليهم؛ قرروا الرسوّ في ساحته؛والإصغاء إلى حججها وأدلّتها وما عسى أن تقول!!
هنالك أطلقت الشاعرة أسئلتها الحائرة المغلّفة بالشجن وأمطرتهم بها؛إذ طفقت تقول:
ميناء ذكرياتي موصد فكيف احتلتِ أيتها السفينة؛ وكسرت أقفاله؟!
ولماذا قررت أن توقظي- ضمن الحركة الاهتزازية- في خاطري شتَّى الخيالات والرُّؤى التي نحّيتها عن طريقي؛وأسدلت عليها ستائر النسيان؟!
(بابي وشباكي)المحكمان؛ كيف استطعت التسلل إلى سرِّهما المغيَّبين إلاعنِّي؟!
كيف أخطأتِ التوقيتِ؛مستغلَّة (قوى الزيف )؛الذي أسلمته ذات يوم مقاليدي؛تلك التي خارت أمام دهشة عينيّ ؟!
أما كنتِ تبصرين أيتها السفينة؛هيكل النهار المسجون المنهك في أعماقي؟!
و(بَيْنَ حَرَارَةِ الْأَشْوَاقِ فِي رُوحِي
وَبَيْنَ بُرُودَةِ اللَّحَظَاتِ فِي زِنْزَانَةِ الصَّبْرِ) آثرت أيّها السفينة الرسوّ وطاب لك المستقر؛في شطآن وحدتي وزواياها!!
لتعلمي-علم اليقين- ياهذه الأشواق المتمرّدة؛المستترة بثياب الليل؛أنه
(قد طَالَ الهجوع)؛وتطايرت الآمال، ولست على استعدادٍ ؛لمواجهة إخفاقات(الْغَدِ الْآتِي)!
ولتعلمي أنني كنتُ قد (وَقَفْتُ بَيْنَ فَوَاصِلِ الْأَمْسِ الْمُقِيمِ
وَنُقْطَةٍ فِي الْحَاضِرِ الْمَغْدُورِ
قَدْ أَنْهَتْ حِوَارَاتِي)!
أمسٌ دابرٌ لاتبارحني أخيلةُ مراحله؛ولا أطيافها الشاحبة؛وحاضرٌ شاهدٌ امتدت إليه يد الغدر؛وكلا اثنيهما أحاطا بي؛يطلبانِ إليَّ ألَّا أُلقي للحوارات بالاً ؛وألَّا أفتح للمراوغات بابا!!
دعيني أيتها الأشواق في دهاليز وحدتي ؛أتجرّع كؤوس أسقامي وآلامي؛ وأشهد موت أيامي في (زنزانة صبري الطويل:( لِتَمُوتَ أَيَّامِي تِبَاعًا كُلَّمَا؛شَطَّتْ مَرَامِي الْوَقْتِ فِيَّ
وَكُلَّمَا جَفَلَتْ مِنَ الدَّقَاتِ سَاعَاتِي)!
ولتعلمي أيتها الأشواق المنهمرة أن وقْع ألمك المبرّح عليَّ الآن ليس بالأمر اليسير ( قَاسٍ) على مهجتى ؛ومستعرّ في مخيلتي؛ونوافذ روحي.!
لقد خابَ ظنِّي في رحلةِ أيامي السالفة؛ حين ساورني الظنُّ يومها؛ فمضيتُ في دنيا الحياة ؛والزهو يشيع في أقطار نفسي، وكنت واثقةً :(أَحْسَبُ أَنَّنِي أَشْبَعْتُ ذَاكَ الْحُبَّ نِسْيَانَا)!!
بيدَ أنني سرعان ماوجدتني في ذلك الدرب العسير :(مُدَرَّعَةً بِأَرْتَالٍ مِنَ الْخِذْلَانِ أَنْسَتْنِي بِدُونِ تَعَمُّدٍ
كُلَّ الَّذِي كَانَا)!
وماذ بعد أيتها الأشواق؛ وقد تبينت لك أسرار الخذلان واضحة للعيان؟!
ماذا تنتظرين من قرارات أُدلي بها في هذا الليل العاصف ؟!
هاكها قراراتي باختصار :
(فِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ بِالتَّحْدِيدِ
عُدْتُ لِنُقْطَةِ الْبَدْءِ الْبَعِيدَةِ)؛
أتريدين-أيتها الأشواق- تعليلاً :
لعودتي الحاسمة هذه؟!
– جوابي:
لأنَّ الأدلَّة والبراهين والوقائع؛(وُبِرُغْمَ أَنْفِ تَنَكُّرِي)تشهد لي وحدي بالإنسانية المحضة؛في حين أنَّها تشهد على الآخر بالظلم والجنف والتجرّد من أساورها وذهبيّاتها؛
واللهُ لي من قبل ومن بعد.
________________________
نصّ الشاعرة:
يَا هَذِهِ الْأَشْوَاقَ مَنْ فِي قَلْبِ هَذَا اللَّيْلِ أَحْيَاكِ؟!
كَيْفَ اتَّخَذتِ مِنَ الظَّلَامِ سَفينَةً
وَرَسَوْتِ فِي مِينَاءِ ذَكْرَى كُنْتُ قَدْ أَغْلَقْتُهُ وَهَزَزْتِ أَغْصَانَ الْخَيَالِ الصَّامِتِ الْحَاكِي؟!
كَيْفَ انْسَلَلْتِ إِلَى خُيُوطِ النَّبْضِ
فِي بَابِي وَشُبَّاكِي؟!
أَوَ بَعْدَ أَنْ خَارَتْ قُوَى الزِّيفِ الَّذِي وَلَّيْتُهُ أَمْرِي؟!
وَمَضَى النَّهَارُ الْمُنْهَكُ الْمَسْجُونُ فِي صَدْرِي!
تَتَقَدَّمِينَ إِلَى شَوَاطِئِ وِحْدَتِي
تَرْسِينَ بَيْنَ حَرَارَةِ الْأَشْوَاقِ فِي رُوحِي
وَبَيْنَ بُرُودَةِ اللَّحَظَاتِ فِي زِنْزَانَةِ الصَّبْرِ!
يا هذه الأشواق قد طَالَ الهجوع
وَلَمْ يَعُدْ عِنْدِي وَقُودٌ لِلْغَدِ الْآتِي!
فَوَقَفْتُ بَيْنَ فَوَاصِلِ الْأَمْسِ الْمُقِيمِ
وَنُقْطَةٍ فِي الْحَاضِرِ الْمَغْدُورِ
قَدْ أَنْهَتْ حِوَارَاتِي!
لِتَمُوتَ أَيَّامِي تِبَاعًا كُلَّمَا
شَطَّتْ مَرَامِي الْوَقْتِ فِيَّ
وَكُلَّمَا جَفَلَتْ مِنَ الدَّقَاتِ سَاعَاتِي!
يَا هَذِهِ الْأَشْوَاقَ قَاسٍ وَقْعُكِ الْآنَا
أَنَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّنِي أَشْبَعْتُ ذَاكَ الْحُبَّ نِسْيَانَا!
وَمَضَيْتُ فِي دَرْبِي مُدَرَّعَةً بِأَرْتَالٍ مِنَ الْخِذْلَانِ أَنْسَتْنِي بِدُونِ تَعَمُّدٍ
كُلَّ الَّذِي كَانَا!
لَكِنَّنِي
فِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ بِالتَّحْدِيدِ
عُدْتُ لِنُقْطَةِ الْبَدْءِ الْبَعِيدَةِ
إِذْ تَأَكَّدَ أَنِّنِي
وُبِرُغْمَ أَنْفِ تَنَكُّرِي
قَدْ كُنْتُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ إِنْسَانا!
ونستطيع القول في نهاية إنَّ هذه القصيدة المتماوجة؛وأزمنتها اللغوية المكثفة في لحظة هزَّت كيان الشاعرة؛إلى جانب ما حملته من مواقف مشوبة ببعض ألوان الأسى ؛والصراعات الدرامية المتتابعة ؛وتأرجح أمانيها بين مثالية تاقت إليها ؛وواقع عاتٍ اصطدمتْ به ؛أسفرتْ عن رؤية بطولية تبلورت في التسلّح بمبادئها الإنسانية؛الصامدة في مواجهة المعارك الطاحنة؛والأحداث الصاخبة؛حاضراً ومستقبلاً؛ إلى جانب تناغمها مع أمير الشعراء في قوله:
إِنَّ الحَياةَ نَهارٌ أَو سَحابَتُهُ
فَعِش نَهارَكَ مِن دُنياكَ إِنسانا
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله.
_______________________
_القصيدة:
عَلَى حُرَقٍ
أَهُدُّ رَصِيْفَ إِحْسَاسِيْ
وَأَحْرُثُ نَارَ أَنْفَاسِيْ
وَأَخْرُجُ مِنْ دَهَالِيْزِيْ
إِلَى المَسْدُوْدِ فِيْ الآتِيْ
أُنَاوِرُ طَارِقَ الأَبْوَابِ بِالمِزْلَاجِ
يَدْفَعُنِيْ إِلَى عُمْقِيْ
يَمُدُّ لِسَانَهُ المَفْتُوْقَ
نَحْوَ قَصِيْدَةٍ عَذْرَاءَ
يَلْعَقُ مُرَّ أَوْجَاعِيْ المُقِيْمَةِ
فِيْ وَرِيْدِيْ
يُفَكِّرُ خَارِجَ الصَّنْدُوْقِ
يَحْبِكُ خُدْعَةً
يَطْغَى
يَكِيدُ
يُجَاوِزُ المَعْقُوْلَ
لَا يَخْشَى وَلَا يَأْسَى
بِخَيْطِ الشَّمْسِ لَا يُكْسَى
يُرَتِّلُ مِلَّةَ الشَّيْطَانِ
فِيْ سُوْقِ الفَسَادِ
وَإِنْ يَزِدْ يَنْقُصْ
عَلَى قَدْرِيْ المَجِيْدِ
أُلَمْلِمُ مَا تَشَظَّى بَيْنَ خَيْبَاتِيْ
وَأَرْحَلُ فِي احْتِمَالَاتِيْ
أَصَدُّ عَنِ المُصِيْبَةِ فِي العَقِيْدَةِ
لَسْتُ أَدْرِيْ
كَمْ سَأَحْمِلُ مِنْ خَسَارَاتِيْ؟!
أَتَحْمِلُنِيْ ابْتِهَالَاتِيْ؟!
مَتَى سَأَعُوْدُ مِنْ ذَاتِيْ؟
إِلَى أَيِّ المَدَى تَجْرِيْ انْطِفَاءَاتِيْ؟!
وَلَكِنِّيْ الأَعَزُّ عَلَى الحَقِيْقَةِ
حِيْنَ كَانَتْ مِنْ عَبَاءَاتِيْ
فَكَيْفَ إِذًا سَيَكْسِرُنِيٍ
خَذُوْلٌ مِنْ بَعِيْدِ؟!
_______________________
-التأملات:
وقفةٌ مع عنوان القصيدة:
الملّة كما في القاموس:
الشريعةُ أو الدِّينُ، كمِلَّةِ الإِسلام والنصرانية، وهي اسمٌ لما شَرَعَ اللهُ لعباده بوساطة أَنبيائه ليتوصلوا به إِلى السعادة في الدنيا والاَخرة.
فإذا كانت ملة الدين الحنيف بهذه النزاهة؛فإنّ (ملّة الشيطان)تؤول بمن ينضوي تحت لوائها إلى الخُسران المُبين..
لابدّ إذن-والحالة هذه- أن ينشأ صراع دام ؛تتسع فيه الهوَّة ؛بين الإنسان (ذو الفطرة الصالحة النقيَّة)؛والشيطان (ذو الطرائق الاحتيالية الماكرة).
وهذا ما ستعرض له القصيدة في معانيها المتتابعة ؛وأفكارها المحتدمة المنصبَّة على أنَّ الشاعر الإنسان ؛عندما يتسلح بالمعرفة الواعية؛ والبصيرة النافذة ؛ستكون له الغلبة على نزوات الشيطان وألاعيبه؛وحبائله ..
ولست أعدو الحقيقة إذا قلت إننا هنا أمام قصيدةٍ عذراء المعاني والمباني؛قصيدة تتجلّى فيها أوجاعُ شاعرها وهي مقيمةٌ في وريده النابض بالحياة؛ووجدانه المزدحم بالأسئلة الشائكة…
قصيدةٌ ائتلق فيها صوت الشاعر ؛وهو يخوض معركة الوجود ؛غير هيَّاب ولاوجلٍ من المخاطر المحتملة ؛فرأيناه يعدُّ العُدَّة لافتضاض(المسدود في الآتي)؛ وذلك بواسطة إمعانه الفكري في الزمن القادم المتسربل بأردية الغيب.
ولمسنا -عبر تراكيب لغته- (مناورة الآخر الشبيهة بالمكابدة الجسيمة-إذ تتمثل في (طارق الأبواب )؛وهو(يمدّ لسانه المفتوق)؛فلا يخرج الشاعر من وراء ذلك بطائلٍ يذكر في المواجهة الأولى.
وعلى الرغم من تفكير ذلك الطارق (خارج الصندوق)؛ وهو تفكير يشي أو يوحي بمعنى أدق بالاستنارة والوعي والحصافة ؛إلاّ أنه يتمخض عن كائن طاغٍ مريد مستبدّ ؛آل به جبروته؛فارتكس به في (تراتيل شيطانية)؛ينشدها في(سوق الفساد).
_______________________
-الإطار العام للنص؛وبعض أدواته:
-بُني النص-فيما أرى- على ثلاثة مقاطع وجدانية الطابع ؛تآزرتْ جميعها في تشكيل التجربة الشعرية؛ورسم ملامحها..
-يستخدم الشاعر لغة التلميح المكثّف-وهو يرصد شظايا الخيباتِ المتتالية ؛ورحيله في الاحتمالات المستقبلية المُبهمة ذات الصلة بمطامحه ؛وبطولاته .
هذه المحاور وما إليها ؛تقف إزاءها سلسلة من الأسئلة الوجودية المضطرمة في أعماق الشاعر؛تتصدرها رغبةٌ عارمة؛ تتساءل عن زمن العودة من الذات ؛”متى سأعود من ذاتي”؟!
-يستشفُّ من هذا النصّ العميق؛مضامين أخرى؛لعلَّ أبرزها:
-أنَّ الخساراتِ من أجل العقيدة شرفٌ الإنسان المؤمن ؛ولله الشاعر القائل:
إِذا أَبقَتِ الدُنيا عَلى المَرءِ دينَهُ
فَمافاتَهُ مِنها فَلَيسَ بِضائِرِ!
-وأنَّ الشيطانَ المريد بما عُرف عنه من مكر وخداع وضلال مبين ؛شأنه شأن الساحر (ولايفلح السَّاحر حيث أتى).
وهناك المزيد من الرؤى والأفكار مما لايتسع المجال لتناولها في هذه العجالة..
___________
-بعض ظواهر النص الفنية:
-جانب اليقظة عند الشاعر واضحٌ وضوحَ الشمس؛في تراكيب النص إجمالاً؛وأعني باليقظة :المزج بين النظرة العقلانية والعاطفية؛بمقادير متساوية..
-يحشد الشاعر عدة كلمات مضافة إلى (ياء المتكلم)؛من مثل:
إِحْسَاسِيْ/أَنْفَاسِيْ
دَهَالِيْزِيْ/عُمْقِيْ/أَوْجَاعِيْ/وَرِيْدِيْ/ قَدْرِيْ/خَيْبَاتِيْ/احْتِمَالَاتِيْ/خَسَارَاتِيْ/ابْتِهَالَاتِيْ/ذَاتِيْ/انْطِفَاءَاتِيْ/عَبَاءَاتِيْ
وذلك يؤكد سيطرة القلق على الشاعر من ناحية؛وطموح الشاعر المتقد في أعماقه من ناحية أُخرى؛إلى دحض الأباطيل والسخافات وقمعها ؛وهو في ذلك كله يستمد طاقات المواجهة من الذات الواعية؛عاقداً العزم على تجاوز الخيبات ما أمكن ذلك.
-اتكاء الشاعر على الفعل المضارع على نسقين اثنين:المتكلم؛وضمير الغائب؛كما في هذه الكلمات:
أَهُدُّ /أَحْرُثُ/أَخْرُجُ/أُنَاوِرُ/يَدْفَعُنِيْ/يَمُدُّ/
يَلْعَقُ /يُفَكِّرُ/يَحْبِكُ/يَطْغَى/يَكِيدُ/يُجَاوِزُ..الخ؛وذلك أكسب التجربة حضورها الزمني ؛وواقعيتها؛وحدَّتها.
-تتراوح تعبيرات النص في استخدام الأسلوبين :الخبري والإنشائي ؛بما يشي بحالة الشاعر النفسية ؛وتطلعاته البعيدة..
وهناك المزيد من الرؤى والأفكار مما لايتسع المجال لتناولها في هذه القراءة العجلى..وفي الختام:
أحيي شاعرنا القدير على هذه السبيكة؛ وأحيي إنجازاته الإبداعية عموماً ذات المذاق الخاص..
_______________________