- 11/08/2022 blogsandarticleslife
- 11/08/2022 voip phone system service provider
- 01/08/2022 blogsandarticlesworld
- 29/07/2022 I really like what Nigel said to Angelia in the film.
العين القارئة [ 72 ]

ماذا يحصل في أوكرانيا ؟!
مضى شهراً كاملاً ونحن ـ جميع العالم ـ ننام ونصحى عبر نشرات الأخبار ـ المحلية والعالمية وكل وسائل الإعلام القديمة والحديثة ـ على أخبار الحرب في أوكرانيا ! التي أشغلت أحاديث مجالس الساسة ومجالس النخب الثقافية الخاصة ، وأشغلت مجالس أهل الوعظ الديني المحلي بالبحث والعودة لأحلام غابرة تم تفسيرها كنذير لحدوث هذه الحرب ، وأنها قاعدة وشرارة لقيام الحرب العالمية الثالثة ونهاية العالم ! ، وأشغلت مجالس العامة في كل مكان يجتمعون به للحديث مع بعضهم عن اثارها الاقتصادية والأمنية عليهم لدرجة الشجار فيما بينهم عن من يملك المعلومة الصحيحة المطلقة عنما يحدث في أوكرانيا ، وأسبابه ، والمتسبب به ؟! والفضل للقرية الكونية الموحدة وفضائياتها التي تنقل وتبث لهم أخبار العالم أول بأول على الهواء مباشرة وعلى مدار الساعة . ومن أجل ذلك قررت كتابة هذا المقال وبهذا العنوان.. وكتبت في مقدمته : (إذا أردنا أن نعرف ماذا في أوكرانيا ؟ فيجب علينا أن…؟!)* ، وقبل الاسترسال لإكمال بقية المقال قطع عليّ حبل أفكاري رنين هاتفي المحمول ورقم واسم زوجتي الظاهران على شاشته..
رديت عليها وطلبت منها دقائق معدودات حتى أكمل كتابة هذا المقال لكي اتفرغ لها ، ولمشاوير مقاضي شهر رمضان القادم علينا بعد أيام قلائل ، وحرمتنا جائحة كورونا من التبضع له في العامين الماضيين ، ورجعت بعدها لجمع شتات أفكاري المتفلتة لكتابتها دون شعور بالوقت إلى أن فقت على رنين هاتفي ، وزوجتي تصرخ في أذني بلا مقدمات : (لي ستين دقيقة جالسة انتظرك في بيت أهلي عشان نروح نقضي وحضرتك ولا هامك شيء ؟.. والآن أنا رايحة (تاكسي) للسوق.. وحضرتك إذا فضيت وقررت تجيلي اتصل عليّ وأقول لك عن مكان ؟.. ولا أقول لك : خليك مع (خرابيطك) أحسن.. وأنا مثل ما رحت أرجع للبيت).. وأقفلت الاتصال دون أن تسمع مني كلمة واحدة !.. ليتعكر مزاجي عن التفكير وأتوقف لوقت غير محسوس عن الكتابة إلى أن هدأ ضجيج أفكاري رجعت أكتب : (إذا أردنا أن نعرف ماذا في أوكرانيا ؟ فيجب علينا أن نعرف ماذا في روسيا ؟!).. ليقطع عليّ حبل أفكاري اتصال أحد الأصدقاء لنذهب حسب اتفاق مسبق بيننا لأمسية ثقافية..
رديت عليه ورحت في هستيرية ضاحكة وهو يضحك معي ويسألني عن سببها ؟.. إلى أن هدأت وسألته : تذكر المسلس السوري الكوميدي : (صحي النوم) ، أيام الأبيض والأسود ؟.. فقال : نعم أذكره.. ولكن أيّ حلقة تقصد ؟.. وما علاقته بموعدنا الليلة ؟!.. فرجعت للضحك وهو لا يشاركني هذه المرة إلى أن سمعته يقول لي : ستخبرني بالموضوع ؟ ولا أقفل الاتصال ؟!.. حينئذ توقفت عن الضحك ، قائلا : يا أخي أقصد حلقة الممثل نهاد قلعي ـ يرحمه الله ـ وشخصيته الشهيرة (حسني البورظان) ، وهو يمثل دور كاتب صحفي ويريد يكتب مقال مقارنة عن الاقتصاد في إيطاليا والبرازيل ، وذهب لفندق صحي النوم وأجر فيه غرفة من أجل كتابة المقال في هدوء وصفاء ذهن ، وغريمه اللدود بالحلقة وكل المسلس (غوار الطوشي) ، الممثل دريد لحام ، حين لاحظ اهتمام حبيبته الزائد مالكة الفندق (فطوم حيص بيص) ، الممثلة نجاح حفيظ ـ يرحمها الله ـ وبتوفير الهدوء والجو المناسب للكاتب (حسني البورطان) ، أفتكر ـ غوار ـ أنه جاء يخطفها منه ، وقام يحيك له المقالب الكوميدية من أجل تطفيشه لمغادرة الفندق وإبعاده عن حبيبته ـ (فطومة) ـ ، فكلما بدأ (حسني البورطان) كتابة مقاله بـ : (إذا أردنا نعرف ماذا في إيطاليا ؟ فيجب علينا نعرف ماذا في البرازيل ؟ وإذا أردنا نعرف ماذا في البرازيل ؟ فيجب علينا أن نعرف ماذا في إيطاليا ؟) . وقبل لا يكمل الكاتب (حسني البورظان) كتابة بقية المقال ، يقوم (غوار الطوشي) باختلاق مقلب له يعكر مزاجه ويمنعه من إكمال كتابة المقال إلى أن ينتهي به ـ (بالكاتب حسني) ـ الحال في أحد المقالب بالدخول إلى السجن بتهمة الشروع في القتل لـ(بائع الخضار) المتجول الذي أحضره (غوار) لينادي على بضاعته بالغناء بصوته المرتفع في الشارع تحت شباك غرفة الكاتب (حسني البورظان) ، لتنتهي الحلقة والأحداث والمقال لم يكتمل !. والليلة يا صديقي العزيز حصلت معي نفس أحداث حلقة الكاتب (حسني البورظان) في كتابة هذا المقال ، وكلما شرعت في كتابة المقال ؟ يردني اتصال يعكر عليّ مزاجي ويخرجني من أجواء إكمال كتابته !..
قام صديقي وقطع الاتصال بيننا دون ابداء أيّ ردة فعل أو تعليق ! وتعكر مزاجي ، وعجزت عن إكمال كتابة بقية مقال : ماذا يحصل الآن في أوكرانيا ؟!
*- كاتب وقاص سعودي .
*- مسلس كوميدي سوري كان يبث في بداية الثمانيات الميلاية بالأبيض والأسود على القناة السعودية .

قراءة تحليلية لقصيدة «إلى جارة الوادي»؛للشاعرة :هند النزاري.
في «مطالعات» الأستاذ العقاد رحمه الله ؛”عن الشعر ومزاياه” ؛يبسط الحديث في هذه القضية قائلاً:
«إنَّ القصيدة ينبغى أن تكون عملاً فنياً تاماً، يكمل فيها تصوير خاطر أو خواطر متجانسة، كما يكمل التمثال بأعضائه؛ والصورة بأجزائها؛ واللحن الموسيقى بأوزانه؛ بحيث لو اختلف الوضع؛ أو تغيرت النسبة؛ أخلّ ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها.
فالشاعر المطبوع معانيه بناته، فهن من لحمه ودمه، وأما الشاعر المقلد فمعانيه ربيباته فهن غريبات عنه وإن دعاهن باسمه، وشعر هذا الشاعر كالوردة المصنوعة التي يبالغ الصانع في تنميقها ويصبغها أحسن صبغة ثم يرشها بعطر الورد، فيشم منها عبق الوردة، ويرى لها لونها ورواؤها، ولكنها عقيمة لا تنبت شجرًا ولا تخرج شهدًا، وتبقى بعد هذا الإتقان في المحاكاة زخرفًا باطلًا لا حياة فيه.
ألا وإن خير الشعر المطبوع ما ناجى العواطف على اختلافها، وبث الحياة في أجزاء النفس بأجمعها كشعر هذا الديوان»
ولقد ترامى إليَّ ذلك الشعور سواء بسواء ؛ حين أُتيح لي أن أطَّلع على بعض قصائد الشاعرة القديرة هند النزاري؛ خلال ما أثرت به ملتقيات الأدب هنا وهناك ؛وبدا لي أنَّها حين يوافيها الإلهام الشعري لايكون “خاليَ الوفاض “أبداً؛ ولايكون غريباً على أجوائها ؛ولامتطفلاً على ملكتها الشعرية الدفاقة؛فبينها وبين الشعر الرصين ؛قد تعاطفت الأرواح؛ وتآلفت المشارب؛عبر مسيرتها الإبداعية الطويلة.
ومما تمخضت عنه علاقتهما المتينة هذه القصيدة التي بين يديَّ الآن ؛المنضوية تحت عنوان.«إلى جارة الوادي».
ومن أول وهلة يتبادر إلينا -من وحي العنوان- أنَّ الشاعرة في توظيفها الحرف (إلى) ؛بصدد رسالة ما ؛توجهها إلى «جارة الوادي»؛ فما قصتها إذن مع جارة الوادي؟!ومن تكون جارة واديها هذي التي ألحَّتْ على مخيلتها؛ وشدَّتها إليها ؛ فلم تجد بُدَّاً من أن تصدع بالأمر لتبادرها من المطلع بقولها:
أَعِيدِي نُوَاحَ الأمسِ يا جَارَةَ الوادِي
فَصَبُّ بَني حَمدانَ في حَيِّنَا شَادِ!
وعلى الفور ستجد الشاعرة من يجبهها بقوله إنها استعارت تركيب: “جارة الوادي”؛من أمير الشعراء شوقي في قوله الذائع الصيت:
يا (جارة الوادي) طربتُ و عادني
ما يشبه الأحلام من ذكراك
مثلتِ فى الذكرى هواك و فى الكرى
و الذكريات صدى السنين الحاكي
وأنها حين أومأت إلى (صبِّ بني حمدان)؛ إنما كانت تعني أبافراس الحمداني ذلك الشاعر المُفلق؛ الشجاع الأبي ؛-ولم يفتها -والحالة هذه- تردد لفظة “جارتا”في نصه الذائع الصيت؛على أنه هو ذاته سبق شوقياً في العزف على وتر (حسن الجوار) بقوله النابض بالحياة:
أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمامَةٌ
أَيا جارَتا هَل تَشعُرينَ بِحالي؟!
مَعاذَ الهَوى ماذُقتِ طارِقَةَ النَوى
وَلا خَطَرَتْ مِنكِ الهُمومُ بِبالِ
أَتَحمِلُ مَحزونَ الفُؤادِ قَوادِمٌ
عَلى غُصُنٍ نائي المَسافَةِ عالِ؟!
أَيا جارَتا ما أَنصَفَ الدَهرُ بَينَنا
تَعالِي أُقاسِمكِ الهُمومَ تَعالِي.
ومن نافلة القول أنه لم يغب عن الشاعرة أيضاً ؛نداء امرىء القيس في قوله:
أجارتنا إنَّ الخطوب تنوب
وإني مقيمٌ ماأقام عسيب
أجارتنا إنَّا غريبان هاهنا
وكلُّ غريبٍ للغريب نسيب
فإن تصلينا فالقرابةُ بيننا
وإن تصرمينا فالغريبُ غريب
أجارتنا مافات ليس يؤؤب
وما هو آت في الزمان قريبُ!
وأقول لاغضاضة على الشاعرة في هذا الاستخدام الفني الموحي ؛ولها فضل التوشية ؛إذ اتجهت بالتركيب الموروث وجهتها الفنية المستقلة؛وعيَّنت الجارة المقصودة تعيينا عصرياً ملائماً للتجربة؛ ومطابقاً لواقعها ؛بواسطة الرمز والتلميح؛ لاالتصريح!
إنَّ سماءً واحدةً؛وأرضاً مشتركة؛ربطتها بجارة واديها على هذا النحومن التجانس الودي ؛لتؤكد أنه من المستحيل أن يتولد بعد ذلك جفاء؛ أو مراء ؛أو أنانية أوماشابه ذلك من خصومات ؛وإنها أيضاً ليست بالبكماء ؛بل إنها تفهم عنها لغتها ونوازعها النفسية ؛وتدرك منها مباشرة مرامي التعبير وطرائقه؛لاسيما وقد تبينتْ لديها قبل ذلك طبيعة الشاعرة ؛وبعض أسرارها وخصوصياتها ولذلك طاب للشاعرة أن تشفَّ معها في التعبير بالعتاب ؛طالبةً إليها غضَّ الطرف؛وإلتماس الصفح إزاء مايبدر منهامن ملامٍ تصبُّه عليها لاشعورياً ربما ؛وعليها عندئذٍ أن تهدهد غضبها ؛وأنْ تُجاريها مجاراة ودِّيةً لاخبث فيها ولاالتواء؛ فيما لو عصفت بمنطادها الريح ؛وذلك عندما يبلغ بها الغضب مبلغه الحاد
ومن العتاب تقيم الشاعرة حواراً بينها وبين جارتها ؛تبثُّ فيه بعض قراراتها السابقة المتعلقة بها ؛وذلك ابتداء من مرحلة “تركها الأرض غريبة” ؛وانسياقها في رحلة التهويم “مِن نَادٍ ظَعينٍ إلى نَادِ”؛
هنالك وفي خضمِّ هذه الشجون المتتابعة التي ألمَّت بها ؛ لم تكن سوى جارة واديها مؤنستها والملاطفة لها ؛عندما “أُسقط في يدها”؛ورأتْ مالم يدر في حُسبانها أن تراه من صور ؛أثارت غيرتها أوقلقها وقتذاك ؛ففاضت بلواعجها على ماسنرى في هذا المقطع التصويري الجيَّاش :
ولِي عَتَبٌ يا حٌلْوَةَ الشَّدْوِ فَاقْبَلي
مَلامِي وجَارِيني إذا ازْوَرَّ مُنطادِي
فإني تَرَكْتُ الأرضَ تَحتِي غَرِيبةً
وهَوَّمْتُ مِن نَادٍ ظَعينٍ إلى نَادِ
وأنتِ التي آنَسْتِهِ حِينما شَدَا
لِغَيْرِي وغَنَّى الحُبَّ مَن زَادُهَا زَادِي
وقَاسَمْتِهِ الأشْجَانَ وارْتَحْتِ قُربَهُ
وأعْرَضْتِ لمَّا حَانَ في البَوْحِ مِيعَادِي
فَمِنْ أجْلِ تَاءٍ تَقسِمُ الكأسَ بَينَنَا
تَعَالَي لِيحْكِي هَمَّهُ الخَافِيَ البَادِي؟!
وإذا كانت الجارة عند الشعراء السابقين ؛لاتعدو أن تكون رمزاً لطائر الحمام المعروف؛أوالقماري؛يطرزون به مقطوعاتهم على سبيل المواساة ؛أو التسرية عن النفس ؛فإنها عند شاعرتنا اتخذت أصباغاً زاهية برَّاقة؛وأنماطاً لغوية ثرية توفرتْ لها؛فاستطاعت أن ترسم للمتلقي لوحة إبداعية تشيع فيها روح المواءمة؛ ولطافة البوح ؛وحلاوة الإفصاح؛وتعزز إلى جانب ذلك متانة العلاقة الحميمية القائمة بينها وبين جارة واديها؛ومايشهد محيط العلاقة من خلافات؛ ونزاعات؛وما إلى ذلك .
فهي-ووفقاً لما يمليه النص -أي جارة الوادي- امتازت بالعديد من الخصائص والمقومات الفريدة ؛ترجمتها الشاعرة واصفة إياها: بأنها الحرُّة الطليقة في فضاءات الله؛تطير كيفما تشاء بمحاذاة الغواياتِ؛ترمقها ؛ولاتقع في أوحالها ؛وإليها يبثُّ الشاكي أحزانه ومواجده؛وعلى عاتقها يقع عبء نقل رسائل المحبين ؛على مرِّ السنين ؛وبهديلها الناعم الآسر يستغني مرضى الغرام ؛والمتعبون في الأرض عن المصحَّات؛وتشدُّد الأطباء؛ بما في ذلك الزوَّار جميعاً ؛كما في (كلّ آسٍ وعوَّاد).
بعد تلك النعوت الاستثنائية الفريدة التي خلعتها على جارة واديها ؛تبدأ شاعرتنا في شحذ انتباهها؛وانتباه المتلقين إلى “صاحبها الهيمان في سجن صبره”؛كما لو أنها تستدرُّ عطفها عليه وإشفاقها تجاهه ؛مشيرة في هذا السياق إلى صُحبته الطويلة الانفرادية للأشواق القلبية التي تنيخ ببابه ولايمكنه الانفصال عليها ؛ولاعن عذاباتها المتغلغلةبين جوانحه؛ وعكوفه على أشجانه الدامية يرسلها في الآفاق من حوله ؛متخذاً من شجرة اللغة الباسقة مستقرَّاً لايبرحه ؛ومن ارتشافه من ينابيعها الثرَّة ؛واقتياته من قطوفها اليانعة مصدر حياة وخصوبة ونماء ..
فهو نتيجة مغادرة الجارة له؛وتركه وحيداً لايلوي على شيء ؛يعيش طقساً قاحلاً خاوياً ؛ممثَّلاً في نافذة داره المطلة على أجواء الفراغ والركود ؛ومزماره المعطل على طاولته ؛ المستغرق مثله في دوائر العطش مما لحق به من إهمال ..
وفي استرسال الشاعرة في تصويرها هذا المغني الأسطوري ؛وفنائها فيه؛مدعاة لتساؤل الجارة :ماسرُّ هذا الولع العجيب؟!
وقبل أن تبدي الجارة سؤالها؛عن طبيعة هذه المحبة الأسطورية؛تبادر الشاعرة بتوضيح نوعية الولع المهيمن عليها ؛دحضاً للمزاعم والظنون الخاطئة ؛مستعينة في ذلك بلغة النفي ؛على هذا النحو :
(ولم يَذكرِ اسْمي في أغانيهِ إنّما
أعلِّمُ نفسي الغوصَ في بَحرهِ الهَادِي)
(وشَكواهُ ذِكرى من فُؤادي تَناسَلَتْ
هُيامًا له فيما مضى بعضُ أمجادِ)
تنفي الشاعرة ورود اسمها في أغانيه؛دفعاً للالتباسات؛ وتثبتُ أن سرَّ هيامها واستغراقها هذا يكمن في محاولة تعليم نفسها كيفية مسايرته في بحره الفني الرائق الهادي؛فهي لاتكتفي بالنزر اليسير من درر هذا البحر؛بل تطمح إلى ماهو أبعد ذلك وهو الغوص التام في بحاره الهادئة ؛ثمَّ إنَّ مضامين شكواه في أنَّاته التي يرسلها كلما جنَّ عليه الليل ؛واستبدتْ به الوحدة بأشباحها الغازية؛بالنسبة لها ذكرى عزيزة التصقتْ بفؤادها المترع بالهيام له؛وهو هيامٌ له كينونته الخاصَّة؛وذو رحمٍ ماسَّة ببعض أمجادها القديمة!
-بعض الظواهر الفنيَّة:
بإعادة النظر كرَّة أخرى إلى أبعاد النص -وهي متعددة ومتنوعة ؛وتحتاج لوقفة أطول وأرحب فضاءً- ؛أركِّزُ هنا فقط على بروز بعدين بارزين ؛ متناظرين “متقابلين” ؛هما :بعدا:
الخطاب ؛والتكلم .
ويلاحظ عنصر الخطاب من المطلع “أعيدي”
ويتوالى ذلك صريحاً ومضمراً على سبيل المثال: (وأنت تحاذين؛تنوبين؛تروين؛تكفين؛تمضين؛صاحبك؛
و(مذ غادرته ؛فلاتنبشي؛قاسمتِ؛ارتحتِ؛ أعرضتِ )الخ
وفي الآن نفسه تجلى صوت الشاعرة واضحاً جلياً بل ومدويَّاً كما في هذا العزف الباهر الشجي القائم على العنصر الذاتي في ضمير (ياء المتكلم)؛و(تاء الفاعل):
وإني على ما بي (توشَّحتُ غُربتي)
وأمّلتُ نفسي ثم (أرسلتُ أورَادي)
(وسَاومتُ غاياتي) لتحدُو (وَسِيلتي)
(وثَبتُّ )في أرضِ الغِوايات (أوْتادي)
(يقسِّمُني )لحنٌ (ويجمعُني) صدًى
وما ثَمَّ من يعنيهِ (جَمْعي) و(إفْرَادي)
فلا تَنْبِشي للصِّدقِ قَبرًا فإنَّنا
نَعيشُ على أوْهَامِنَا مُنذُ آمَادِ
تُكَرِّرُنا الأيامُ إذ ما تَواتَرَتْ
على قَلْبِ مَسْجُونٍ يُغَنِّي لِأصفَادِ!
ويلاحظ هنا ألواناً من الصور المونقة؛معتمدة على فنِّ التشخيص والتجسيم؛أجمل الحديث عنها إجمالاً:
-جعلتْ الغربة وشاحاً لها؛ودارتْ بينها وبين الغوايات -أياكان نوعها- مساومات “مواجهات جدلية” ؛أخضعتها الشاعرة لتكون حاديةً وسيلتها في الحياة ؛فكأنها أبصرت الغاية -“المجهولة بطبيعة الحال”- التي تطمح في الوصول إليها قبل الإقدام على تحديد الوسيلة الممكنة؛ رأتها؛وقاست مسافاتها؛ وعرفت أسرارهاالكامنة؛ ومخاطرها المحتملة ؛وتراءت أوتادها المثبتة الناطقة بزكانتها؛ ووعيها؛ وقدرتها كالأعلام في أرض الغوايات؛لاتخطئها العين.
وهناك لحنٌ شجي يصافح مسمعيها؛ يؤثر في كيانها ؛فيشطرها أجزاء -دلالة على الانتشاء المتمثل في حشد طاقتها الكليةباتجاه النغم ومصدره-؛ثم سرعان مايعيدها “صدى مرنان” إلى استجماع ماتبعثر من انفعالها النفسي؛وهتافها الوجداني .
وفجأة وهي في خضم حديثها الذاتي تبرز هذه الالتفاتة المقصودة التي تنبىء عن عمق درايتها بالحدث وتفاصيله ؛وسلامة تفكيرها من الشطط أوالزلل ؛ساقتها في لون يميل إلى السخرية قليلاً ؛من خلال تجسيد حيثية الصدق -وهو معنوي- ؛وتشبيهه بجثة ميت-وهو حسي- ؛بقولها :
فلا تَنْبِشي للصِّدقِ قَبرًا فإنَّنا
نَعيشُ على أوْهَامِنَا مُنذُ آمَادِ
تُكَرِّرُنا الأيامُ إذ ما تَواتَرَتْ
على قَلْبِ مَسْجُونٍ يُغَنِّي لِأصفَادِ!
وفي البيتين برز ضمير(نا)المتكلمين؛ للدلالة على العموم ؛ وبدا عنصر الالتفات عند الشاعرة-أي الانتقال من ضمير المخاطبة؛ إلى جماعة المتكلمين في قولها”إننا”؛ناصعاً ساطعاً ؛وهي بإشارتها الدقيقة هذه تضعنا أمام حقيقة مؤسفة؛مفادها ؛أنَّ الصدق هذا الخلق النبيل أو حتى مايسمَّى بالصدق الفني على مستوى الإبداعات ؛بات في واقعنا التجاري المُتخم بالأوزار ؛أندر من الكبريت الأحمر كما يقال ؛وهذا الافتقار الموجع للصدق؛ أفضى بنا إلى التردي في غياهب الأوهام ؛ومزالق العماية والتيه..
إلى جانب هذا العيش الوهمي ؛وجدنا أنفسنا مستلسمين لطاحونة الأيام؛في دورتها المكررة ؛وتعاقبها المهلك؛شأننا شأنُ الراسف في قيده؛القابع في زنزانته ؛تتساوى عنده الأيام في رتابتها؛ومامن حيلة يواجه بها هذا التمزُّق الداخلي الذي يفتك به ؛يوماً بعد يوم ؛ سوى قطع الأوقات المريرة بشيء من الغناء تنفيساً عن اضطرابات مشاعره السوداء المضطرمة في أعماقة؛وعن لواعجه الحبيسة في جسده المتهالك.
ويبدو للمتأمل أن الشاعرة هنا ؛وجدت نفسها أمام مواجهة يمكن أن توصف بالناريَّة؛ فرضتْ عليها أن تكشف النقاب عن بعض الجوانب القاتمة التي اصطدمت بها؛
إنها تخوض قضيةً أقرب إلى أن تكون (افتئاتاً واستبداداً) على طبيعتها ومنهجها الحيوي ؛ قضية تباينتْ فيها وجهات النظر تبايناً حادَّاً؛ فترتب على ذلك أن انهالت عليها التأويلات السقيمة كاللهب المتطاير ؛بهدف قص أجنحتها؛ووأد طموحاتها ؛ لذلك جاءت البراهين مكثفةً جداً؛واتسمت بعلو النبرة ؛
كما تلألأت في القصيدة النزعة “الذاتية” على نحو لافت ؛على سبيل “البيان والتبيين”؛ في مقام إماطة الأذى؛ والترفع عن السفاسف ؛وانصاعت لها وسائل التعبير اللغوي ؛انصياعاً انسيابياً.
تأكيداً منها على النزاهة الشاملة التي تتمتع بها وتأتلف معها؛وعلى المصداقية التي جعلتها لباساً لها في كلِّ اتجاه تنويري تسعى إليه؛لتقيم في أرضه ؛وتحت سمائه.
وباختصار(وفقاً للمتعارف عليه):-
قصيدة وجدانية محكمة النسج؛ جزلة الألفاظ ؛بعيدة الأغوار ؛عميقة الدلالات ؛مترعة بالشحنات الانفعالية؛أخذت نصيبها الوافر من الأسلوبين الإنشائي والخبري؛ وفيها إيماءات ذكية ساخرة لاذعة؛ حسب مقتضيات الموقف ؛فوق ما اتسمت به من “غضبة هندية” سرى بريقها في النص بأسْره..
-نهاية المطاف:
وبعد :فهذه دندنةٌ اجتهادية؛ لاأزعم أنها أحاطتْ بعناصرالنص الفنية الأخاذة؛ إحاطة السوار بالمعصم ؛وحسبي أنني حشدت طاقتي لمحاولة السير على درب القراءة التحليلية؛
وذلك جهد المقل ..
مع عاطر التحايا والتقدير لشاعرتنا القديرة “قيثارة المدينة”؛ وأهنئها من الأعماق على شاعريتها المرهفة و قلمها السيال؛ ولغتها المشرقة المدهشة؛واستقصائها العجيب لتجاربها المتميزة في عالم الإبداع الشعري.

رؤية تحليلية لـ “الرقص بالكلمات في مساحة للرقص”
أتناول هنا رؤية تحليلة لنص نثري قصير، لكنه ماتع جدا ومكتنز بشتى صنوف الجمال، ويضم كل تكنيكات الكتابة ،النص للكاتبة السعودية جوري العبدالله.
النص:
مساحةٌ للرقص
أشدُ روحي إلى الأعلى،
تتدحرجُ فكرة على امتداد جذعي
أركلها بقدمي،
تطير في الهواء،
وأضحك..
…..
تراني في الاتجاه الخامس
أهدهدُ رعشةَ شفاه الياسمين،
ويروني في يديك تفاحة..!
…..
يجدر بنا أن نمتطي صحو هذا المساء،
ونفقأ عين البعد،
فالعيون ياحبيبي لاتعشق الغياب..!
جوري العبدالله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرؤية:
تتكئ الكاتبة على نفسها، وتصعد بروحها ،فتراودها فكرة ، لا تقبل بهذه الفكرة ، فتبعدها عنها ، ثم تضحك، ربما لانتصارها على هذه الفكرة ،وتنحيتها بعيدا عنها.
ثم تعقد مقارنة بين رؤيتها للأشياء، ورؤية الآخرين للأشياء، ولها أيضا .
فهي تكون مرنة مطيعة ،لا تتمرد على حبيبها ، فهكذا الذوبان في الآخر ، فهي في يديه تفاحة يقلبها كيف شاء.
ثم ترجو أن تكون مع حبيبها دائما ، لا يصيبهما الفراق ، ولا يأتيهما البعد ؛ فتستحث حبيبها – وهنا تدعو للجهد الجمعي معه وليس بمفردها – ليفقآ – هي وحبيبها – عين البعد ، حتى لا يعد مبصرا ؛ فلا يأتيهما مرة أخرى ؛ فعيونهم لا تطيق بُعدا ولا فراقا ولا غيابا.
العنوان “مساحة للرقص “أعطى النص حيوية ومنحه نشاطا فاعلا ، فهناك “مساحة” ضاقت أو اتسعت لا يهم ، المهم أنها مساحة ، فيها مجال للتحرك ،وهناك “رقص” ، وحسبها من كلمة توحي بالحركة ، وتفعيل كل أجزاء الجسم.
وامتد العنوان لينقل عدوى الحركة الحميدة للنص ، فكان النص حيا متحركا ،وليس جامدا .
الفكرة العامة في هذا النص ربما مطروقة وهي وصف لحظات الرقص ، لكن تناول الكاتبة جاء غير نمطي ، وغير مطروق ،فقد سبقت الأوائل ، وأتت بما لم يستطيعوه .
طالما هناك فعل “رقص” فلابد أن نلمح إشارات واضحة للمكان ومنها : الأعلى ، الاتجاه الخامس / تقابلها إشارات للزمان ، ومنها المساء.
النص محتشد بالصور، مفعم بالجمال ،ومن ذلك الاستعارات في :
تتدحرجُ فكرة ؛ إذ جسَّدت المعنوي، حين جعلت الفكرة وهي شيء معنوي غير محسوس جعلته محسوسا يتحرك ويتدحرج ، وهنا شبهت الفكرة بالكرة ،وحذفت المشبه به، ورمزت إليه بشيء من لوازمه وهو ” تتدحرج”.
كذلك : نمتطي صحو هذا المساء
عندما يقرأ المتلقي ” نمتطي ” يخطر على ذهنه امتطاء الجواد ، فهنا تمتطي صحو ، وليس صهوة كما هو مستخدم ، فهنا تأتيك بالجديد المبتكر الذي على حد علمي لم يسبقها عليه أحد .
وكذلك ونفقأ عين البعد ، وغيرها كثير …
استخدمت الكاتبة مفردات رقيقة ورشيقة وموحية ، وذات ظلال ، وليست مفردات مكررة ، ووظفت كل كلمة في مكانها الصحيح ؛ بحيث تكون المفردة قادرة وحدها – وليس غيرها -على تأدية المعنى المطلوب منها ، في اتساق تام مع رصيفاتها.
فالكلمات متسقة مع المضمون الحركي للنص ، فتدل على الحركة هي أيضا ، ومنها : تطير، أركل ، أشد ، تتدحرج ، أهدهد …
من عناصر الحركة في النص اختلاف الضمير ، فالكاتبة تستخدم ضمير المتكلم المفرد مرة مثل : أشد ، أركلها ، يروني … ثم تنتقل لضمير المتكلمين الجماعة : بنا ، نمتطي ، نفقأ
مما أعطى النص روح البقاء ، وكسر الرتابة والملل.
كما برعت الكاتبة في المفردات وتوظيفها ، كذلك برعت في التراكيب والعبارات ، ومن ذلك الجدة والطرافة في تعبيرها : الاتجاه الخامس ، فهو- كالبعد الثالث – شيء مميز ومختلف وخارج عن المألوف ، فكلنا يعلم الاتجاهات الأربعة ، لكن جوري تفرِّع لنا اتجاها خامسا ؛ لتوجد هي فيه.
النص فيه طابع التكثيف والتركيز، كان من الممكن لجوري أن تبسط لنا فكرتها في مقال طويل أو قصة طويلة أو رواية ، ولكنها آثرت التكثيف ؛ لذا جاءت المعاني مركزة ، والعبارات محددة والكلمات متقنة راقصة .

دراسة أسلوبية في مقالات الأستاذة سحر علوي الشيمي
إنها الكاتبة المتفردة الأستاذة سحر علوي الشيمي، تمتلك جميع عناصر و مقومات المقال المتكامل، ظللت أتتبع كتاباتها، واستمر معي الاندهاش الممزوج بإعجاب بتلك المقالات؛ لأني وجدت فيها نمطاً مختلفاً للكتابة.
أجريت هذه الدراسة عبر المنهج الأسلوبي الذي يتناول النصوص من خلال عدة مستويات، هي:
- المستوى الصوتي.
- المستوى الصرفي.
- المستوى النحوي.
- المستوى الدلالي.
- المستوى البلاغي.
وستتداخل هذه المستويات عندي في التناول، ولن أفْصِلَها فصلاً حاداً، وسأركز على أهمية كل مستوى ودوره في الفهم الأعمق للنصوص.
لي قناعة تامة أن الكاتب إذا وفق في اختيار عنوان كتابه أو عنوان مقاله، أو الشاعر إذا وفق في اختيار اسم ديوانه أو اسم قصيدته، سيكون المتلقي منجذباً حتماً للمضمون؛ لأن العنوان هو بريد المضمون، إذ يسحب معه فكر القارئ، ويشد معه انتباه المتلقي.
هذا الأمر وُفقت فيه الكاتبة السعودية سحر الشيمي، ولا عجب فهي خريجة الأحياء الدقيقة، فقد كانت دقيقة في اختيار عناوين لمقالاتها التي تربو عن المئة.
العنوان عند سحر الشيمي يتميز بمميزات قلما تتوافر لدى كتاب آخرين، ومنها:
– الجناس بين كلمات العنوان.
– قلة الكلمات ما بين كلمتين إلى ثلاث غالباً.
– توافق العنوان مع المضمون.
ونستطيع قياس ذلك من خلال نظرة سريعة لعناوين مقالاتها، وهذه بعضها على سبيل المثال:
– نبادر ونغادر.
– تقدر فلا تغدر.
– فُتات الالتفات.
– هشاشة الشاشة.
– للوصول أصول.
– نوح البوح.
– غيْمُ الهِيم.
– عابق عالق.
– بريق وبل ريق.
هذه العناوين المتجانسة بلغت الحد الأقصى في المستوى الصوتي، فتكرار بعض الحروف المتقاربة المخرج أو المتحدة المخرج يعطي نغماً موسيقياً، وجرسا منغماً، يجعل القارئ ينسجم مع النص، وهذا يبدو جلياً في تكرار بعض الحروف، مثال لذلك: تكرار حرف الهاء في سطر واحد سبع مرات، في الجملة التالية:
قد ينتهي بالهوس الذي يؤدي إلى هاوية الانهيار للمنبهر، وهو ظاهر.
تأنقت الأستاذة سحر الشيمي، وتألقت في اختيار العنوان، ولكن لم تتوقف عند ذلك، فكانت تقدم مضموناً رائعاً، ومحتوى مدهشاً؛ وتتميز مقالاتها بعدة مميزات تجعلها صالحة للبقاء وقابلة للاستمرارية، ومنها:
سلامة اللغة، ورصانة التراكيب، وجزالة العبارات، والاقتباس من القرآن الكريم ومن الحديث النبوي، وتوظيف النص المقتبس ليخدم الفكرة، ويدعم المحتوى، والتسلسل المنطقي للأحداث مع الالتزام بصرامة ضوابط فن المقال، من مقدمة وعرض وخاتمة.
ولها قدرة فائقة في براعة التخلص؛ إذ تنهي فكرة، وتسلمك لأخرى، دون هوة في المعنى، ولا فجوة في المضمون؛ إذ تتسلسل الأفكار رقراقة، وتنساب سلسة.
اقتباسات سحر القرآنية والحديثية مميزة؛ لأنها تنهل من معين دراستها العليا في المعهد العلمي العالي للقرآن والسنة، فكان التوظيف موفقاً، وكان النص المقتبس في مكانه تماماً، ويخدم الغرض.
أما من حيث موضوعات المقالات، فكلها موضوعات حياتية، تمس المجتمع، وتناقش قضاياه، فيحس القارئ أنها منه وله؛ فيطلع على تلك المقالات، ويدرك أن الكاتبة فعلاً بنت مجتمعها، لم تنفصل عنه، ولم تترفع عن همومه، بل خاطبت قضاياه.
لم يكن تناولها سطحياً، وإنما كان تناولاً عميقاً، فيه تشخيص للمشكلة، وبيان أسبابها، والتنفير من نتائج تفشي هذه الظاهرة أو تلك؛ لينفر المجتمع منها ثم تضع الحلول الملائمة.
تفتح سحر نافذة أمل للمغبونين والمحرومين، وتبين لهم أن الحياة قصيرة مهما طال ليل الألم، فصبحُ الأمل قريب؛ هنا تقول -في مقالها الذي عنوانه: على قدر انكسارك يتسع قصرك -: “ولكن.. رغم ذلك جمعوا فتات هذه الكسور، وصنعوا بها قصوراً في نهاية طريقهم”، ثم تقول: “وهذا لا ينحصر على الحياة الدنيا، وإنما أيضاً لقصر الآخرة. وعلى قدر الانكسار بين يدي الله في كل حاجاتك في دنياك وآخرتك، يتسع قصرك، وتحوز أمنياتك”.
مقدمات مقالاتها تذكرني بما يسمى في نقد الشعر ببراعة الاستهلال، فالكاتبة بارعة أيما براعة في استهلال وبدء مقدمات مقالاتها، تحسن التمهيد، وتجيد استدراج القارئ بهدوء إلى صلب الموضوع، فهي تتنوع في بداياتها، وربما تبدأ مقالها بمقولة مأثورة من التراث العربي، أو بعبارة لأحد الأدباء كما فعلت حينما بدأت مقالها المسمى “غيم الهيم” بعبارة للدكتور علي الطنطاوي: “ليس في الناس من لم يعرف الحب، وليس فيهم من عرف ما هو الحب”.
كما أجادت في مقدماتها، فقد أجادت ختام مقالاتها، وهنا أذكر مقولة الكاتب الأمريكي آرنست همنحواي، حين قال: “إنني أجتهد في صياغة خاتمة رواياتي؛ لأنها آخر عهد بالقارئ، ولو كانت الخاتمة مميزة، فسيضطر القارئ لقراءة رواية أخرى لي”.
وقد تختم الأستاذة سحر بعض مقالاتها بدعاء حيناً، وبنصيحة أحياناً، نموذج للدعاء حينما ختمت مقالها المسمى: “عابق عالق”، دعت قائلة: “اللهم استعملنا ولا تستبدلنا، فلتبق عابقاً بذكراك، عالقاً بشذاها على مر الأزمان”.
ولكن ما شدني هو أنها تختم أحياناً بسؤال بدون إجابة؛ حتى تترك للقارئ مجالاً، وهذا من النهايات المفتوحة التي تجعل الكاتب يضع القارئ شريكاً معه في الإبداع، ومن تلك النهايات التي وردت في خاتمة مقالها “انبهار فانهيار” قولها: “فهل لنا من حكمة؟!”.
كما تناولتْ في مقالاتها عدداً من الموضوعات المسكوت عنها؛ مثل الجفوة الأسرية بين الأزواج، وذلك في مقالها “ميزان بلا اتزان”، وشخَّصت المشكلة، وبيّنت خطورة انتشارها، وشرحت كيفية التعامل معها، ووضعت خارطة طريق للأزواج؛ حتى يستقيم وضع الأسرة، وحمّلت كلًّا من الزوج والزوجة مسؤوليته، ولم تمِل لجانب دون آخر، فلكل منهما دوره المهم، وكان تناولها متسقاً مع مقدمة المقال، حينما تحدثت عن العدل الذي ذكرت آلته؛ وهي الميزان، وذلك في عنوان المقال.
برعت الكاتبة في التلاعب بالاشتقاقات اللغوية للكلمات، واستغلت هذا الثراء الذي تتمتع به اللغة العربية خير استغلال، ومن يتابع العلاقات بين الاشتقاقات في اللغة العربية، وكيفية الوصول إلى المعاني الكامنة، يعرف كيف يجعل القارئ يشعر بمتعة الاستنتاج، حين يفهم النص بصورة أوضح وأعمق، فنجد اسم الفاعل في: هاوية، ظاهرة، متدرجة…، واسم المفعول في: محمود، ملهوف…، والمصادر في: انهيار، إصرار…
أما دلالياً فنجد الكاتبة برعت في استخدام الكلمات التي فيها انزياح دلالي عن معانيها إلى معانٍ أخرى؛ مما يعين القارئ على فهم مقصد الكاتبة، وتبيُّن خفايا النص، وتكريس اللغة الأدبية.
وهنا عبارة فيها عدد من الكلمات التي انزاح معانيها دلالياً؛ لتحمل معاني أخرى إضافية: “فلنعتنِ بصفحات كتابنا، وسقي أزهارنا؛ لتثمر ويفوح شذاها”.
أما من حيث المستوى البلاغي فنجده يتداعى في مقالاتها من غير تكلف، مما يجعل بعض المقالات تتحول، كأنها قصيدة شعرية؛ لما احتشدت بها من صور بلاغية بجميع أنواعها، ومن ذلك:
– الجناس في عناوين المقالات؛ مما يعطي العنوان جرساً موسيقيّاً، ومن أمثلته: أسير كسير، فُتات الالتفات، هشاشة الشاشة… وغيرها كثير في معظم العناوين، وفي غير العناوين مثل: الآلام والآمال…
– الاستعارات التي تكثر في نصوصها، ومنها: بحر الهوى، ومرسى المودة…
– الطباق: وهو الجمع بين الكلمة وضدها، ومن فوائد هذا التضاد توضيح المعنى، ويكثر الطباق في مقالات سحر، مما جعل المعاني واضحة بيِّنة، ومن ذلك: بسيط ــ كبير / مادي أو معنوي / فرح وحزن…
– السجع: وهو توافق أواخر الحروف في نهايات الكلمات، مما يعطي جرساً موسيقياً، ومنه: هل خير وإحسان، أم شر يتبعه سخط وحرمان؟ وأيضاً: ويفوح شذاها، ولا تطول يد النسيان ذكراها.
– كما يكثر الترادف، وهذه سمة مهمة، ومن فوائدها تأكيد المعنى، وهي دلالة على ثراء المخزون اللغوي للكاتبة، ومن ذلك: المشاعر، الأحاسيس / الهوى، الحب / المأمول، المنشود…
– يبدو التأثر بالقرآن واضحاً في كتابات سحر، إذ تقفز بعض العبارات التي سحبتها من نص الآيات إلى نص المقالات، ومن ذلك قولها: هباء منثوراً، وفيه تأثر بقوله تعالى: (… فجعلناه هباء منثوراً) الفرقان: 23.
ومنه أيضاً قولها: أوجد الله الإنسان من العدم، ولم يكن شيئاً مذكوراً، وفيه تأثر بقوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) الإنسان 1.
– وللكاتبة عبارات –من رصانتها– بلغت مبلغ الحكم، ومنها: الآلام تصنع الآمال، وكذلك: ومن حمل الثقال يصنع الرجال…
أما من حيث المستوى النحوي؛ فالظواهر النحوية ليست حلية للنص، وإنما لها دور مهم في خلق المعاني، ويتعاضد المستوى النحوي مع المستويات الأخرى ضمن سياق النص لإبراز المعاني التي يريدها الكاتب؛ إذ تنوع الكاتبة في مقالاتها بين الجملة الاسمية والفعلية، ولكلتيهما ميزات في اللغة؛ فالاسمية تدل على الثبوت والاستمرار، والفعلية تدل على التجدد والحدوث.
فمن البدء بالاسمية قولها: للحب محطات ومواسم متدرجة يمر بها الإنسان، وكذلك: العدل اسم من أسماء الله وهو الإنصاف… ومن الفعلية قولها: أوجد الله الإنسان من العدم، وكذلك: ولا تكن إمّعة في الانبهار بكل شيء… وهذا التنويع يدل على قدرة الكاتبة، كما يدل على حرصها على شد انتباه المتلقي.
وكذلك يكثر لديها تكرار الأفعال أو الأسماء، أو غيرها من الأبواب النحوية؛ مثل: التقديم والتأخير، والوصل والفصل، وبناء الجمل… وغير ذلك.

قراءة في نص “مقام العاشقين” للشاعر معبر النهاري
ماذا يمكن للشاعر المسلم أن يكتب شعراً في موضوع أجلَّ وأسمى من الحديث عن سيد المرسلين، وخاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؟
هنا تتقاذف الشاعر ناحيتان: ثراء الموضوع من جهة، وخطورته من جهة أخرى، فالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ذو شجون، ولا حدَّ له، وكذلك قد يتخوف الشعراء من طرقه؛ لأن الإحاطة به تستحيل، ولأن شعراً في موضوع كهذا يتطلب الإلمام بكل أدوات الشعر.
هذا ما امتلكه شاعرنا الكبير معبر النهاري، فقد ارتقى هذا المرتقى وكان قادراً؛ لأنه يعرف عمَّن يتحدث، فكان ذا بضاعة غير مزجاة، تمكِّنه من سبر غور هذا الموضوع القيم.
لذا تجده يستحث قريحته ، ويستنهض همة شعره؛ حتى يُعِدَّ الطاقة التي تمكِّنه من ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم:
يَا شِعْرُ رَونِقْ كُلَّ طُهْرٍ عَابِقٍ أهْرِقْ دُمُوعَ الْقَلْبِ يَا مُضْنَاهُ.
برز مدح النبي صلى الله عليه وسلم منذ فجر البعثة، فتميز فيه حسان بن ثابت وكعب بن زهير وعبد الله بن رواحة وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً.
وكان من حماية الله لنبيه أن أبطل مفعول مَن هجاه صلى الله عليه وسلم، فحفظ لنا التاريخ شعر مدحه، ولم يحفظ ما قاله ابن الزبعري وأمثاله في هجائه صلى الله عليه وسلم، فقد كفاه الله المستهزئين كما وعده.
نصطحب معنا بردة كعب بن زهير وبردة البوصيري وبردة شوقي؛ لنصل لرائعة معبر، فهي لا تقل عنهن جمالاً وألقاً ورصانة.
بدأ الشاعر قصيدته بالحديث عن مقام العاشقين الذي لا يشبهه شيء، وأن اللغة تقف عاجزة، والشفاه تظل حيرى، والبيان يبقى معطلاً عند الحديث عن هذا المقام السامي.
ثم يستلهم مادحي النبي صلى الله عليه وسلم: كعب بن زهير وحسان بن ثابت رضي الله عنهما، فهو يرى أن قصيدته في مدحه صلى الله عليه وسلم استعصت على الإتيان، وغلقت الأبواب، ولم تتح له النفاذ إليها.
ويقارن شاعرنا الحائر بين حاله وحال العشاق الذين أشعلوا فتيل حروفهم، وهو سامرٌ مع ضيائه صلى الله عليه وسلم.
ثم ينطلق لسرد بعض الأماكن التي شرفت بمروره صلى الله عليه وسلم من السلام، وغار حراء…
ثم هطل بوح القصيدة عليه بعد أن استعصت، كما قد هطل البوح المقدس عندما أفاض رُواه عليه الصلاة والسلام.
ثم يمزج الشاعر بين نفسه وبين أحداث عظيمة استلهمها من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وبرز كأنه عاصرها أو كأنها حدثت الآن، وهو يشهدها.
وتمضي القصيدة بنا عذبة الكلمة، رقيقة العبارة، عميقة المعنى، سلسة السرد، منسابة الأحداث.
وأما على المستوى البلاغي: فقد مزج شاعرنا بين الأسلوبين الخبري -الذي كان هو الغالب- والإنشائي الذي يأتي حيناً ويغيب، حسب الاحتياج؛ ليجذب المتلقي، ويمكِّنه من الانتباه، ويلفت نظره، ويمنحه طاقة التشويق.
فمن الإنشائي: الاستفهام في قوله:
مَاذَا يُقَالُ؟! وِذِي (حَلِيمَةُ) وَالشَّذَا صِنْوَانِ قَدْ رَبَّاهُ يَا رَبَّاهُ!
ومزج شاعرنا ببراعة بين نوع من الإنشاء الطلبي “الاستفهام” ونوع من الإنشاء غير الطلبي “التعجب” ببراعة فائقة في بيت واحد، حين قال:
مَا لِي بِبَابِ الْقَبْرِ أَصْمُتُ فَجْأَةً للهِ هَذَا الْقَلْبُ مَا يَغْشَاهُ!
وكذلك الجناس، وهو من الحلى اللفظية؛ إذ يعطي الكلمات جرساً موسيقياً، ويوهم القارئ بتكرار الكلمة، ولكنهُ يفاجئهُ فيما بعد باختلاف المعنى مع تشابه اللفظ، ومن ذلك في نص شاعرنا جاء به تاماً في قوله:
رَبَّاهُ يَا رَبَّاهُ..
رباه الأولى من التربية، ورباه الأخرى نداء للرب عز وجل، وحتى النداء يخرج لأغراض بلاغية، ومنها التعجب والاندهاش.
وكذلك جاء الجناس الناقص في: هداه، هواه…
وهناك العديد من الصور البلاغية؛ كالاستعارة التي احتشدت في النص فأعطته بهاء وعمقاً وخيالاً خصباً؛ ومنها:
قَدْ أَسْرَجَ الْعُشَّاقُ زَيْتَ حُرُوْفِهِمْ.
ومن الاستعارات أيضاً:
وَتَلَعْثَمَتْ شَفَةُ (الْكَمَنْجَةِ) دَهْشَةً.
وفي: أطْرَقَتْ نَجْوَاهُ.
وغيرها كثير…
كما تطل علينا الثقافة الدينية التي يتمتع بها الشاعر، والتي تتمثل في الاقتباس، ومن شواهده في النص:
قَدْ جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْقَصِيْدَةِ حَامِلاً.
وهذا مقتبس من قوله تعالى:
(وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) يس: 20.
وأيضاً:
قَدْ غَلَّقَتْ رُوحُ الْقَصِيْدَةِ بَابَهَا.
من قوله تعالى: (وغلقت الأبواب…) يوسف: 23.
وكذلك يقتبس من الحديث الشريف: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، فيقول:
دَعْنِي أُمَسْجِدُ فِي ذُرَاهُ مَشَاعِرِي مَا بَيْنَ مِنْبَرِهِ إلى مَأْوَاهُ.
وكذلك الترادف، وغرضه تأكيد المعنى، ومنه: الضياء – سناه، وكذلك أنادم – أسامر…
والقصر في قوله: مَا كَانَ إِلَّا النُّورَ.
وغير ذلك..
وأما على المستوى الصوتي: فنلحظ تكرار بعض الحروف، فقد تكررت بعض الحروف في بيت واحد، وفي شطر واحد أحياناً؛ مما أعطى النص بُعداً موسيقياً رائعاً، يمتع الأذن، ومنه حرف الصاد -وهو من حروف الصفير- في:
قَدْ جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْقَصِيْدَةِ حَامِلاً.
وبرز حرف صفير آخر مكرراً وهو حرف السين في:
فَطَفِقْتُ أَقْبسُ مِنْ ضِيَاءِ سُجُوْدِهِ هَدْيًا أَدُسُّ الرُّوحَ فِي ذِكْرَاهُ.
والطاء في:
أَنَا فِي رِحَابِ الطُّهْرِ مَحْضُ طُفُولَةٍ.
كما أورد كلمات تتضمن معنى صوتياً؛ ومنها الكمنجة والنوتة….
وعلى المستوى النحوي: فقد تنوعت الجمل بين الاسمية والفعلية، ومعلوم أن الجملة الاسمية تدل على الثبوت والاستمرار، والفعلية تدل على الحدوث والتجدد.
فمن الاسمية قوله:
هَذَا (الْمَقَامُ) وَمَا لَهُ أَشْبَاهُ.
ومن الفعلية:
فهَمَى عَلَى وَجَعِ التَّخَاطُرِ خَافِقِي.
وقد كانت الكلمات والتراكيب مستخدمة في مكانها؛ بحيث تتفاعل نحوياً مع بقية المستويات.
ونوّع شاعرنا بين الأفعال بأزمانها الثلاثة؛ مما جعل الزمن عنده متحركاً حياً، وليس جامداً ميتاً.
واتبع الشاعر أسلوب التقديم والتأخير، الذي جاء في مكانه، وحقق أغراضه، ومنها: الاهتمام والاختصاص، وتمكن بقدرة فائقة من ذلك، حسب مقتضيات الوزن ومتطلبات المعنى، ومنه:
لِيَذُوبَ نَبْضًا في مَقَامِ غِنَاهُ.
وأما على المستوى الصرفي: فقد استخدم الشاعر معظم المشتقات، ومن ذلك:
اسم التفضيل في “أقصى”، واسم الفاعل في “حاملاً”، والمصدر في “نبض”، واسم المفعول في “المقدس”…
كما تنوعت الأفعال ما بين المجرد مثل: سار، والمزيد، ومنه تهاطل، وكل زيادة في المبنى كانت تعطي زيادة في المعنى، لا يتوافر بدونها.
وتميز شاعرنا بقدر من الاشتقاقات والتصريفات في كلمات لم ترد كثيراً في اللغة؛ إذ اقتحم -باقتدار- تلك المجاهل اللغوية المعقدة، ومن ذلك قوله: “فُردِس” في:
مَا كَانَ إِلَّا النُّورَ فُرْدِسَ آيةً مِنْ كُلِّ طُهْرٍ قَدْ بَرَاهُ اللهُ.
وكررها بصيغة أخرى “فردست”، حين قال:
فَرْدَسْتُ فِي أَثَرِ (الْبُرَاقِ) جَوَارِحِي وَسَكَبْتُ دَمْعِي فِي (بَقِيعِ) حِمَاهُ.
ويذكرني ذلك ببيت الشاعر الكبير البردوني حين قال:
مُذ بدأنا الشوط جوهرنا الحصى بالدّمِ الغالي وفردسنا الرّمال.
ومنه أيضاً اشتقاق الفعل تكوثر من اسم الكوثر في قوله:
بَلْ كُنْتُ قَلْبَ (النَّبْعِ) يَضْحَكُ تَالِيًا سُوَرًا تُكَوْثِرُ لِلصَّدَى رَيَّاهُ.
وأيضاً اشتقاق الفعل: أمسجد في قوله:
دَعْنِي أُمَسْجِدُ فِي ذُرَاهُ مَشَاعِرِي.
وأما على المستوى العروضي: فقد بدأ الشاعر قصيدته ببيت مصرع، والتصريع: هو أن يجانس الشاعر بين شطري البيت الواحد في مطلع القصيدة، أي: يجعل العروض مشبهاً للضرب وزناً وقافية؛ كما في البيت الأول من قصيدة شاعرنا:
هَذَا (الْمَقَامُ) وَمَا لَهُ أَشْبَاهُ ثَمِلَ (الْبَيَاتُ) وَأَطْرَقَتْ نَجْوَاهُ.
انتهج شاعرنا في قافيته رويَّ الهاء المضمومة، وما قبلها ممدود، وهي قافية صعبة تذكِّرني بلزوميات المعري، ولا يستطيع كثير من الشعراء الالتزام بها خاصة في قصيدة طويلة كهذه.
فحرف الهاء، هو حرف مهموس رخْوٌ، مخرجه من أقصى الحلق، فأتى بالهاء الأصلية في نهايات بعض الأبيات مثل: الله… وبهاء الضمير في غيرها مثل: مأواه، شذاه…
نظم شاعرنا قصيدته على بحر الكامل التام بتفعيلاته الست، وجاءت بعضها سليمة، وبعضها فيها إضمار، وهو تسكين الثاني المتحرك، حيث إنَّ تفعيلة “متَفاعلن” تصبح “متْفاعلن”، وهو زحاف حَسَن.
وأما دلالياً: فقد تميزت مفردات القصيدة بالأبعاد الدلالية التي تعبر عن ثراء اللغة، وتبين قدرة الشاعر الفائقة على توسيع المعنى، فكثير من الألفاظ انزاحت لتعبر عن غير معناها المتعارف عليه؛ ومنها: أفاض، عكف، أدس…
وهناك ظاهرة تفوق فيها شاعرنا، وهي ذكر الأسماء في الشعر، فذلك أمر صعب جداً؛ لأنه يحتاج إلى مهارة فائقة، تجعل الشاعر قادراً على تذويب الاسم –رغم جموده- داخل النص الشعري، دون أن يكون هناك نشاز، وهذا ما تمكَّن منه شاعرنا، فأكثرَ من إيراد أسماء الناس والأماكن، دون أن يحس القارئ بنتوء في المعنى.
ومن أسماء الناس: آمنة، حليمة، كعب، حسان…
حينما تحدث عن مرضعته حليمة السعدية، والشرف الذي حظيت به:
مَاذَا يُقَالُ؟! وِذِي (حَلِيمَةُ) وَالشَّذَا صِنْوَانِ قَدْ رَبَّاهُ يَا رَبَّاهُ!
ومنه أيضاً:
لَا (كَعْبَ) يُسْعِفُنِي بِبُرْدَةِ شِعْرِهِ كَلَّا وَلَا (حَسَّانَ) فِي مَغْنَاهُ.
وهنا يشير للشاعر كعب بن زهير الذي جاء مادحاً ومعتذراً، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألبسه بردته، فسميت قصيدته بالبردة، ومنها قوله:
نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول.
ومن أسماء الأماكن: الحجاز، البقيع، السلام…
حين قال:
وَسَكَبْتُ دَمْعِي فِي (بَقِيعِ) حِمَاهُ.
اختار شاعرنا كثيراً من قصص سيرته صلى الله عليه وسلم؛ ومنها حادثة شق الصدر، حين قال:
شَقَّتْ مَلَائِكَةُ الضِّيَاءِ فُؤَادَهُ لِيَرَى الْوُجُودُ مِنَ السَّنَاءِ مَدَاهُ.
وقصة الجذع الذي حنَّ إليه:
مَاكُنْتُ إِلَّا (الْجِذْعَ) يَشْهَقُ جَوْفُهُ مَا كُنْتُ إِلَّا (الطَّيْرَ) فِي شَكْوَاهُ.
وكذلك قصة الغيمة التي ظللته:
قَدْ سَارَ وَالْغَيْمَاتُ تَحْرُسُ خَطْوَهُ وَفُؤَادُ (آمِنَةَ) الْحَنَانِ رُوَاهُ.
وكان ذكر هذه الحوادث في القصيدة طبيعياً غير متكلف.
ثم تناول جانباً مهماً؛ وهو ضرورة التعرف على هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو هدي شعاره التسامح والمحبة والحنان والعطف والرحمة:
لَمْ يَعْرِفِ النَّاسُ الْحَنَانَ وَلَا دَرَوْا أَنَّ التَّسَامُحَ فِي الْحَيَاةِ هُدَاهُ.
وأخيراً -وبعد كل هذا الثراء- تجدني أعجب من تساؤل الشاعر الذي يرى بيانه معطلاً، وقد أتى بهده الخريدة الرائعة في مدحه صلى الله عليه وسلم:
مَاذَا أَقُولُ وَذَا الْبَيَانُ مُعَطَّلٌ وَالصَّمْتُ يَطْحَنُ مُهْجَتِي بِرَحَاهُ.
فكيف ببيانك إن لم يكن معطلاً؟!
أدعو الله أن يكون هذا النص شفيعاً لك يوم القيامة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رقة الكلمة ودقة السبك وعمق المعنى قراءة في قصيدة “إنها دول” للشاعر شادي الساحل
الأستاذ الشاعر إبراهيم جعفري، رقم صعب في عالم الشعر، أحسنَ حينما اختار معرفاً لاسمه: “شادي الساحل”، فهو يشدو لنا بجميل شعره، ويتحد مع الساحل والبحر في مفرداته، إنه شاعر كبير، يطوِّع الحرف، وتلين لديه قناة الكلمة، وتخضع أمامه العبارات، وتنقاد له الصور.
قصيدته “إنها دول” نص مدهش بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني، وتبدأ الدهشة من العنوان، وتستمر إلى نهايته، ولا تنقضي بعد القراءة، فتظل مسيطرة على القارئ إلى حين.
يبدأ النص بتقرير ما يراه الشاعر ملائماً لفكره ورأيه وقناعته؛ حيث يعمل على توصيف بعض المعاني من خلال رؤيته الخاصة، فيتحدث عن الشوق والهوى والحب، والمنى برؤيته هو…
ثم يخاطب “هنداً” ويستعيد ذكراها التي ما غابت عنه، حتى لو وُئِدت تلك البسمة، ثم يمزج بينه وبين الطبيعة في تماهٍ رائع؛ حيث يطربه الموج، ثم يسأله، ثم يبعث قصيدته بين خيوط الشمس، والطيور تشدو وتحلق، ويظنها تحتفل رغم ما بها من الحزن والألم ، ثم يقرر حقيقة أن الحياة تمضي كما أراد لها الله، والأيام تدول بين الناس، فيفتح –لنا وله- نافذة أمل بأن الغياب ليس دائماً؛ لأنها دول:
حياتنا تتهادى في أعنّتها فيا غياب: رويداً إنها دولٌ.
تنوعت الأساليب في القصيدة بين الخبر والإنشاء، وذلك يعطي النص قدراً من التشويق، وكسر الرتابة، ودفع الملل.
وكان الخبر هو الأكثر استخداماً في النص، ومنه:
الشوق لهفة روحٍ والمنى أملٌ والحب رعشة قلبٍ والهوى شُعَلُ.
فمن الإنشاء ورد الأمر في قوله:
دع الدموع لعينٍ لا تفارقها كأنها فرضتْ، والعين تمتثل.
ومزج -ببراعته المعهودة- بين الإنشاء والخبر في بيت واحد، وهذه قمة القدرة اللغوية والبراعة البلاغية التي يتمتع بها شاعرنا:
يا هل ترد ليَ الأيام بسمتها؟ غاب الصباح وحالتْ دونهُ السبلُ.
فالشطر الأول إنشاء، والثاني خبر.
وهنا أيضاً:
وكنت أسمع عزف الموج يطربني فأين عزفك يا أمواج والجملُ؟
ولكنه بدل بينهما؛ فالشطر الأول خبر، والثاني إنشاء.
وأما من حيث المفردات؛ فالنص وظفها في إطارها السليم؛ مما جعلها قادرة على حمل المعنى، متسقة مع بقية المفردات، فأكثرَ الشاعر من ذكر الكلمات الدالة على الطبيعة، وهي أمر محبب في الشعر، ومنها:
البدر، الشمس، الغيمة، الطير، الموج…
فكانت جميع مفرداته موحية بمعانيها، وتحمل ظلالاً أخرى إضافية، يمكن للمتلقي استكناه ما يقصده الشاعر وأكثر.
ومن حيث العبارات والتراكيب والجمل: فقد نوع شاعرنا بين الجمل الاسمية والفعلية، ووضع كلاً منها في مكانها الصحيح، فالاسمية يستخدمها حيث أراد الثبوت والاستمرار:
ذكراكِ ما فتئتْ يا هند تُجهدني يا بسمةً وُئدتْ والشوقُ يحتفلُ.
والفعلية –وهي الغالبة؛ لأن نصه حي متحرك متمدد متجدد- حيث قصد التجدد والحدوث، ومنها:
بعثتُ بين خيوط الشمس قافيتي لعل طيف حروفي نحوها يصلُ.
القصيدة من بحر البسيط، وجاء هنا في حالته التامة بأربع تفعيلات في كل شطر، وهو بحر ثنائي التفعيلة، أو ما يسمى بالبحور الممزوجة:
مستفعلن فاعلن، أربع مرات موزعة على الشطرين.
أما الروي: فقد اختار شاعرنا حرف اللام المضمومة، واللام –كما هو معروف- من حروف الذلاقة، فمن خصائصها: قدرتها على الانطلاق من دون تعثر في تلفظها، وتتسم بمرونتها، وسهولة النطق بها.
وتزخر القصيدة بالصور الشعرية بكل أنواعها الجمالية؛ مما أكسب النص بُعداً جمالياً، يكتب له الخلود بسبب دهشة القارئ وإمتاعه، ومن ذلك:
الاستعارة في “حاكَ الغيابُ” في قوله:
حاكَ الغيابُ ثياباً لي لألبسها حتى الشموع لدور الشمس تنتحلُ!!
وكذلك في: “بسمةً وُئدتْ”، في قوله:
ذكراكِ ما فتئتْ يا هند تُجهدني يا بسمةً وُئدتْ والشوقُ يحتفلُ.
وما أروع هذه الصورة:
وكل غيمة بُعدٍ سوف تمطرنا وصلاً وكل عليلٍ منه يغتسلُ.
فالغيمة في زمن التنائي تمطرنا -لا ماء- وإنما “وصلاً”، يجمع المحب بحبيبه، ويشفي العليل؛ إذ يغتسل منه.
ويأتي الطباق: وهو التضاد الذي يجمع فيه الشاعر بين المعنى وضده؛ مما يبرز المعنى، ويزيده وضوحاً، وذلك في:
بُعد، وصل.
يبقى، رحلت… وغيرها كثير.
والمجاز المرسل في:
بعثتُ بين خيوط الشمس قافيتي لعل طيف حروفي نحوها يصلُ.
حيث ذكر “قافيتي” وهي جزء، وأراد الكل، وهو قصيدته.
ويبرز الجناس: وهو إيراد كلمتين تتشابهان في الحروف، وتختلفان في المعنى، والجناس يعطي النص بُعداً موسيقياً جميلاً بذلك الجرس الصوتي، ومن الجناس:
الطير، الطيور.
بسمة، بسمتها.
كما يكثر الترادف في النص؛ مما يؤكد المعنى، ومن ذلك ما ورد في البيت الأخير:
حياتنا تتهادى في أعنّتها فيا غياب: رويدًا إنها دولٌ.
بين “تتهادى” وهي فعل، و”رويدك” وهي اسم فعل بمعنى تمهل، وهما بمعنى واحد.
بلاغة الشاعر فاقت الوصف؛ حيث برز التناص في قصيدته، وكان بارعاً فيه حد الإتقان؛ حيث استغل معنى لشاعر آخر، لكنه لم يقتبسه، ولم ينسخه، وإنما نسج على معناه؛ “فالمعاني مطروحة في الطريق” كما قال الجاحظ، ومن نماذج التناص في القصيدة، يقول شاعرنا:
تشدو الطيور ترانيماً فتسعدنا والطير مرتجفٌ قد صابه الوجلُ
يبكي ونحسب أن السعد أنطقه! وهل يفسر ما يشدو به رجلُ!!
إذ يتناص مع أبي صخر الهذلي:
وإني لتعروني لذكراك هزّةٌ كما انتفض العصفور بلّله القطْرُ.
ومع:
ولا تحسبوا رقصي بينكم طربًا فالطيرُ يرقصُ مذبوحًا من الألمِ.
وهناك تناص ختم به قصيدته، حيث قال:
حياتنا تتهادى في أعنّتها فيا غياب: رويداً إنها دولٌ.
وذلك يشبه قول الشاعر:
دع المقادير تجري في أعنتها ولا تبيتن إلا خالي البال.
والتأثُّر بالقرآن يبدو جلياً في شعر شادي الساحل، ومنه في هذا النص قوله:
أغمضتُ عيني والأحلامُ تسكنُها وارتدَّ طرفي والأحلامُ تنهملُ.
وهو تأثر بقوله تعالى: (… قبل أن يرتد إليك طرفك…) النمل: 40.
وكذلك في العنوان “إنها دول”، عنوان القصيدة، وفيه تأثر بالغ بالقرآن الكريم، في قوله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) آل عمران 140.
وأما صوتياً: فقد برزت في النص موسيقاً داخلية، وذلك من تكرار حروف ومقارباتها في المخرج في بيت واحد، ونلحظ ذلك في تكرار حرف العين والغين في الأبيات الثلاثة الأخيرة:
دع الدموع لعينٍ لا تفارقها كأنها فرضتْ والعين تمتثل
وكل غيمة بُعدٍ سوف تمطرنا وصلاً وكل عليلٍ منه يغتسلُ
حياتنا تتهادى في أعنّتها فيا غياب: رويداً إنها دولٌ.
وكذلك تكرار حرف السين:
يبكي ونحسب أن السعد أنطقه! وهل يفسر ما يشدو به رجلُ؟!!
والشين في:
الشوق لهفة روحٍ والمنى أملٌ والحب رعشة قلبٍ والهوى شُعَلُ.
لم يرتكب شاعرنا أية هنات لغوية، ولا موسيقية، حتى التي يعدها بعضهم خطأ ، فتجيزها الضرورة الشعرية، بحجة ضبط الوزن؛ إذ يجوز -هنا- للشاعر ما لا يجوز لغيره، حين صرف “ترانيم ” وهي ممنوعة من الصرف؛ لأنها صيغة منتهى الجموع:
تشدو الطيور ترانيمًا فتسعدنا والطير مرتجفٌ قد صابه الوجلُ.
وهكذا كنا في سياحة مع قصيدة سليمة المبنى، عميقة المعنى، محكمة السبك، رقيقة الألفاظ، بديعة الصور.

قراءة في نص “تجاويف حلم” للكاتبة السعودية بدور بن سعيد:
قرأت –صدفةً- نصاً بديعاً للأستاذة القديرة بدور بن سعيد، وأنا يستهويني النص الجميل، ويستوقفني المعنى العميق، إنه نص يقف في أعلى درجة من درجات سلم النثر الفني، ويجاور أول درجة من درجات الشعر، نص رائع مكتنز بكل جمال.
النص دائري في أحداثه وتسلسله؛ إذ عادت الكاتبة إلى نقطة البدء؛ إذ بدأت وهي في مفترقي حيرتها، وانتهت عند مفترقي حيرتها، حتى في العبارات فقد بدأ النص بالخطى الثقيلة، وانتهى بالخطى الوئيدة.
أحكمت الكاتبة نسج نصها، وأجادت سبك فكرتها، ولم يوجد في النص أية ثغرات، وليس فيه أي خلل، ولا فجوات، فهو نص محكم رصين، فكل كلمة تؤدي دورها في مكانها، وتُسلمُك للتي تليها، وكل تركيب يحقق مقصوده، ويوصلك لما بعده.
تدهشك الكاتبة باستخدام “غير المألوف” من العبارات، فالجميع يقول: أقف في مفترق طرق، ولكنه عند بدور ليس مفترق طرق، وإنما مفترق حيرة، فكأن كل الطرق تؤدي إلى حيرة.
كذلك تغيِّر الكاتبة –بحكمة بالغة- طبيعة الأشياء، فالقطب الشمالي لم يعد متجمداً، والساعة لم تعد بها أرقامها التي تشير للوقت.
الوردة هي بطلة النص، فهي الهدية القيمة في فصل الشتاء، وهي التي زرعتها الكاتبة في مفترق حيرتها، وهي التي يزرعها الزارعون ثم يخسرون، وهي التي انبلجت أساريرها، وهي التي تُركت على الطاولة تثمينا لدور الطاولة في تقبل ما دار عليها من عبث.
لغة النص لغة شعرية رقيقة موحية، تضاهي أبلغ القصائد لغة،
من حيث المفردات الرقيقة والتراكيب الجزلة.
أما الصور البلاغية في النص فلا تحصى، وحسبي منها:
الاستعارات مثل:
نسج رداء الأمل.
أفيض بماء الصبر.
جمر الأرق.
تضحك شموس الضحى.
وكذلك التشخيص؛ حيث جعلت الطاولة كأنها إنسان يعاني ما يعانيه الإنسان حين قالت: “عرفاناً للطاولة التي تحملت عبثهم في الليلة السابقة” وهذا قمة الاتحاد بين الإنسان والمحيطات به من جمادات.
ويبرز التجريد، حيث جردت من نفسها شخصية أخرى وقالت: “إنها سئمت توبيخها، فمنحتها وردة”.
يوجد كذلك الطباق الجميل والتضاد الرائع بصورته كطباق إيجاب بين “الشروق والغروب”، أو كطباق سلب في “لينطفئ ولا ينطفئ”؛ مما أعطى المعاني وضوحاً.
ويظل النص يحمل القارئ لمشاركة الكاتبة حيرتها، وهي في مفترق حيرتيها بين العودة لارتداء ثوب الأمل، والبقاء حيث هي دون قدرة على التحرك؛ وذلك لثقل الخطى.
والحيرة السائدة في النص منطقية وطبيعية؛ لأن عنوان النص وهو تجاويف حلم، فالتجاويف متشعبة ومتعددة المسارات، ومختلفة الطرق، ولا تدري أي الطرق يمضي بك للمخرج الآمن.

جوانب الإبداع في شعر أبي تمام
حبيب بن أوس الطائي , يكنى بأبي تمام وبها عرفولد بقرية جاسم من أعمال دمشق سنة 188هـوتوفي 231هـ بالموصل .
يرفض أبو تمام أن يختص بوطن وأن ينسب مذهبه الشعري إلى أي مذهب فني إقليمي , فوطنه فسيح مترامى الأطراف يشمل كل أرجاء الدولة الإسلامية يقول :
خليفة الخضر من يربع على وطن *** في بلدة فظهور العيس أوطاني
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا *** بالرقتين وبالفسطاط إخواني
وما أظن النوى ترضى بما صنعت *** حتى تُطوّح بي أقصى خراسان 3/ 309
ويقول ابن المعتز في طبقاته : لأبي تمام600قصيدة , و 800 مقطوعة أي ما مجموعه1400قصيدة ومقطوعة بينما الموجود في ديوانهالمطبوع والمشروح لا يصل إلى 500قصيدةومقطوعة .
ولعل ما ذكر من اختلاف الناس في شعرهواضطراب روايتهم فيه وكثرة ما دار حول مذهبه منخصومات نقدية وشدة حسد الشعراء له كانت منظهور الأسباب التي شاركت في ضياع بعض شعره. انظر : طبقات الشعراء المحدثين , ص : 268
ولأبي تمام مختاراته الشعرية التي تعتبر من أجودأنواع الدراسات الأدبية وأفضلها من شأنها أن تضعأبا تمام في صف أصحاب المدونات كالمفضلالضبي صاحب المفضليات والأصمعي صاحبالأصمعيات . وهي مختارات تمثل في ذاتها مدرسةمستقلة ذات طابع ومميزات تفردها عن غيرها . وقدرتب مرجليوث هذه الاختيارات فوجدها ستة هي :
* كتاب الاختيارات من أشعار القبائل ويشمل علىمختارات من أغاني القبائل .
* كتاب الاختيارات من أشعار الشعراء ويشمل علىمختارات من أغان لشعراء لا نعرف عنهم إلا القليل .
* الفحول وهو مختارات من أجود قصائد الجاهليةوالإسلام ينتهي بابن هرمة .
* الحماسة جمعها بدار أبي الوفاء بن سلمةبهمذان عندما اضطرته الثلوج إلى الالتجاء إلىهذه المدينة أثناء عودته من زيارة عبد الله بن طاهر , ورتبها على عشرة أبواب وضمنها عيوناً من الشعرالعربي . وهي : { الحماسة والمراثي والنسيبوالهجاء والأضياف والمديح والصفات والسيروالنعاس والملح ومذمة النساء } وأطول حماسياتالكتاب حماسية زياد بن حمل التي يذم فيها صنعاء, ويتشوق إلى بلاده وقومه وعددها أربعة وأربعونبيتاً ومطلعها :
لا حبذا أنت يا صنعاء من بلد *** ولاشعوب هوي مني ولا نقم .
انظر : شرح ديوان الحماسة 3/ 972
* اختيار المقطعات ورتبه على نسق الحماسة لكنهبدأه بالغزل .
* مختارات من شعر المحدثين . انظر دائرة المعارفالإسلامية 1/ ع 1/ ص : 320-321
ولم يصل إلينا من هذه المجموعات سوى ديوانالحماسة والوحشيات وهي الحماسة الصغرىذكرها التبريزي في مقدمة شرح الحماسة والقاضيالجرجاني في كتابه إعجاز القرآن . ونص التبريزيعلى أن أبا تمام في اختياره الحماسة أشعر منهفي شعره . انظر : شرح ديوان الحماسة 1/ 3.
ويعود سبب تسمية الكتاب بالحماسة إلى أن بابالحماسة هو أكبر أبواب الكتاب ويحتل مكانالصدارة فيه .
وشعر أبي تمام معروف بالإشكالات التي دارت حوله فقد قرئ هذا الشعر وما زال يقرأ فيه ما قيل , وقد اختلفت الأقوال ولا تزال حول هذا الشعر بين مؤيد ومعارض وتباينت وجهات النظر تبايناً يدعو إلى التمهل والتروي .
وقد عُدت الحركة النقدية التي دارت حول شعر أبيتمام من أهم الحركات النقدية في تاريخ الشعرالعربي فقد كانت الخصومة حول مذهبه الفنيالبديع ميداناً لدراسة الكثير من قضايا النقدومسائله كالغموض والصورة والتباين الكبير فيشعره من حيث الجودة والرداءة .
*= جذور الخصومة حول شعر أبي تمام وأسبابها :
كان العصر العباسي أخصب العصور إذ شهدتطوراً وتغييراً على كافة المستويات السياسيةوالفكرية والاجتماعية والاقتصادية والأدبيةانعكست جميعها على الحياة والنتاج , وأصبحالإنسان العباسي يواجه صراعاً صعباً بين التاريخوالواقع , فهل يتمسك بالتراث الماضي أم يتكيف معالواقع الجديد ممثلاً في الحياة الجديدة المتحضرة؟ يعبر عن تجاربه ويستجيب لذوق مجتمعهوثقافته , فقد نشأ بينه وبين الأشكال التقليديةأشكال من الصراع وكذلك الذوق وألفينا الشعراءالعباسيين قسمين :
شعراء وجدوا أنفسهم مشدودين إلى الماضييعيشون تراثه ويحتذون حذو أسلافهم في القيموالتعبير , والقسم الثاني : شعراء أخلصوا لتجاربعصرهم واستقوا معانيهم من واقعهم الحضاري , كبشار وأبي نواس وأبي العتاهية , وهم قادرونعلى النسج على المنوال القديم , فلم تكن المسألةمسألة ضعف وقوة , وإنما مسألة ذوق وتكيّفوتجربة .
ولعل أبا نواس كان أبرز من حمل لواء التجديد في ذلك العصر مع صاحبيه بشار ومسلم بن الوليد غير أنه برز على صاحبيه , فكانت له تلك المكانة المتميزة في التجديد في تاريخ الشعر العربي بحيث عدّه نقاد الشعر مجدداً ثائراً , وعدّوا الدور الذي قام به خصومة واعية بين الجديد والقديم .
بيد أن خصومته كانت خصومة من جانب واحد ؛ إذ لم يقم حوله من الجدل ما قام حول أبي تمام ولم ينقسم الناس حوله إلى أنصار وخصوم , ولعل سبب ذلك يعود إلى أن أبا نواس في تجديده ثار على العرف العام وعلى موضوعات الشعر دون أن يتنكب عن عمود الشعر العربي والدليل على ذلك أن النقاد القدماء كانوا راضين عنه جملة ما عدا إفحاشه في القول وجرأته على العرف وخروجه عن العادات الحميدة .
في حين ثاروا على أبي تمام لأنه تناول في تجديده { بنية الشعر وتركيبه } أو عموده كما يقول القدماء , ولأنه اتخذ من هذه الثورة مذهباً طبّقه في شعره دون أن يدعيه ادعاء .
ومما مهد للخصومة حول شعر أبي تمام ظهور البحتري , فكان بذلك أمام النقاد نموذجان من الشعر أحدهما يمثل القديم , والآخر يمثل الجديد .
ولأن كل حركة أدبية أو نقدية تستدعي جملة من السمات فقد كان من سمات المعركة النقدية التي أثيرت حول شعر أبي تمام ومذهبه الفني سمتان رئيستان هما :
*- التأثرية , فاللغويون والنحاة في القرن الثاني والثالث ليس لهم مذهب في النقد وليست أحكامهم النقدية إلا أحكام تأثرية , تفوّه بها من تقدمهم في العصرين الجاهلي والإسلامي . وساعد على استمرار المقياس التأثري في نقد أبي تمام كونه وُجد قبل أن تستقر أصول البلاغة وقواعد النقد .
*- الجزئية : مما يؤخذ على نقاد أبي تمام أنهم لم ينظروا إلى قصائده جملة وإنما كانوا يقفون عند أبيات مفردة وتعابير وصور مقتطعة عن سياقها . انظر : حديث الشعر والنثر لطه حسين ص : 106. من ذلك تعليق ابن الخثعمي على قول أبي تمام :
تروح علينا كل يوم وتغتدي *** خطوب كأن الدهر منهن يصرع
بقوله : ( جُنّ جنون أبي تمام أيصرع الدهر ) انظر : ديوانه 2/ 324 .
وعبد الصمد بن المعذل يعلق على قول أبي تمام :
لا تسقني ماء الملام فإنني *** صبٌّ قد استعذبت ماء بكائي . انظر : ديوانه : 1/ 22
بأن أرسل زجاجة إلى أبي تمام يطلب منه أن يملأها له بماء الملام . ولا شك أن كلا الموقفين بعيد عن النقدالفني الخالص .
*= ويذكر الآمدي في موازنته أن أبا تمام شاعر عالم , وأن العلم في شعره أظهر منه في شعر البحتري , وأنه يأتي في شعره بمعان فلسفية لم يكن الأعراب يستطيعون فهمها , ومن أجل ذلك فإن شعره يعجب العلماء وأصحاب الفلسفة والمعاني .
*= ويقول المبرد : بعد أن يسمع أبياتاً لأبي تمام : ما سمعت أحسن من هذا قط ما يهضم هذا الرجل حقه إلا أحد رجلين : إما جاهل بعلم الشعر ومعرفة الكلام , وإما عالم لم يتبحر شعره ولم يسمعه .
*= وتظهر في شعره ثقافات واسعة وعميقة ودقيقة ومختلفة سواء أكانت عربية أم فارسية أم هندية أميونانية , اتصل بها اتصال الباحث اتصالاً عميقاً , ومن هنا أصبح شعره مستغلقاً في بعض جوانبه على أصحاب الثقافة السطحية الضحلة , وأصبح يحتاج في فهمه إلى مثل ثقافته الواسعة العميقة حتى يسهل فهمه وتذوقه والنفاذ إلى أغواره البعيدة .
اقرأ إن شئت : انظر : 3/ 338
كم في العلى لك والمجد من بدع *** إذا تُصُفّحت اختيرت على السُّنن
فقد ذكر البدع والسنن وهما من ألفاظ الفقهاء , ومن ذلك قوله في الخمر : 1/ 28
خرقاء يلعب بالعقول حبابها *** كتلّعبالأفعال بالأسماء .
فقد تكلف لذكر الأفعال والأسماء وهذه صنعة النحويين , ومن ذلك قوله : 3/ 225
لن ينال العلا خصوصاً من الفتيان *** من لم يكن نداه عموما
فقد ذكر الخصوص والعموم وهما من ألفاظ المناطقة . ومن ذلك قوله : 4/ 311
هب من له شيء يريد حجابه *** ما بالُ لا شيء عليه حجابُ
فقد عبر عن العدم بكلمة لا شيء وهي من كلام الفلاسفة .
*= ذكاؤه وحسن بديهته :
وقد كان ينهض بهذه الثقافة ذكاء نادر , وفطنة فذة فصارت أهم المصادر الفنية التي أمدت شعره بالمعاني الزاخرة بالعمق , فغاص بها على الصور العقلية الفنية واستخرجها بالطريق البديعي مما جعل عمق الصورة وثراءها يتصل بوشائج نابضة من البديع والزينة اللفظية ويقص القدماء من أخباره في هذا الجانب قصصاً كثيراً فمن ذلك أنه امتدح أحمد بن المعتصم بقصيدة سينية , فلما انتهى منها إلى قوله :
إقدام عمرو في سماحة حاتم *** في حلم أحنف في ذكاء إياس .
قال له الكندي الفيلسوف وكان حاضراً : الأمير فوق ما وصفت , فأطرق قليلاً ثم رفع رأسه وأنشد :
لا تنكروا ضربي له من دونه *** مثلاً شروداًفي الندى والباس
فالله قد ضرب الأقلّ لنوره *** مثلاً من المشكاة والنبراس
فعجبوا من سرعة فطنته . وقد قيل : إن الكندي لما خرج أبو تمام قال : هذا الفتى قليل العمر لأنه ينحت من قلبه , وسيموت قريباً فكان ذلك . الديوان : 2 / 249-250
واستطاع أبو تمام أن ينتزع إعجاب المعتصم الذي يكاد يكون أمياً أن يسمح له أن ينشده قصيدته في فتح عمورية ثلاث مرات وعندما يسأله : ( كم تجلو لنا عجوزك ) ؟
يرد عليه أبو تمام في لباقة وذكاء مفرطين : حتى أستوفي مهرها يا أمير المؤمنين , فيأمر له بواحد وسبعين ألف درهم عن كل بيت منها ألف .
وحلف الحسن بن رجاء على أبي تمام ألاّ يتم قصيدته فيه إلاّ وهو قائم , وعندما فرغ قال له : الحسن : ( ما أحسن ما جلوت هذه العروس ) فيرد أبو تمام عليه بعبارة مُلئت تهذيباً وشاعرية : ( والله لو كانت من الحور العين لكان قيامك لها أوفى مهورها )
*= قضية الشعر عند أبي تمام :
وأبو تمام يفهم الشعر على أنه صناعة عقلية يمتزج فيها العقل بالشعور أو الفكر بالعاطفة فالشعر عنده ليس عملاً فنياً خالصاً يستمد مادته من العاطفة وحدها , ولكنه أيضاً عمل عقلي يستمد مادته من العاطفة كما يستمدها من العقل فأساس العمل الفني عنده هو المزاوجة بين العقل والشعور أو بين الفكر والإبداع . وهو في سبيل تحقيق هذه المزاوجة لم يكن يبالي بأن يحمّل اللغة أكثر مما تطيق , كما لم يكن يبالي بأن تصل معانيه إلى قدر من الغموض .
نحن بإزاء شاعر مغرم بالتصنيع والزينة بل لقد كان ذوقه ذوق نحات أصيل , نَحُسُّ كأن الشعر أصبح تنميقاً وزخرفاً خالصاً فكل بيت في القصيدة إنما هو وحدة من وحدات هذا التنميق والزخرف , وهو ليس زخرفاً لفظياً فحسب , بل هو زخرف لفظي ومعنوي يروعنا فيه ظاهره وباطنه وما يودعه من خفيات المعاني وبراعات اللفظ . يقول
مفصلة باللؤلؤ المنتقى لها *** من الشعر إلا أنه اللؤلؤ الرطبُ
هي جوهرٌ نثرٌ فإن ألَفته *** بالشعر صار قلائدا وعقودا . : 1/ 197, 1/ 421
ويقول أيضا :
نيطت قلائد عزمه بمحبّر *** متكوّف متدمشق متبغدد . 2/ 55
ويقول أيضاً :
خذها مثقفة القوافي ربها *** لسوابغ النعماء غير كنود
حذاء تملأ كل أذن حكمة *** وبلاغة وتدر كل وريد
كالدر والمرجان ألف نظمه *** بالشذر في عنق الفتاة الرود
كشقيقة البرد المنمنم وشيه *** من أرض مهرة أو بلاد تزيد . 1/ 397
وكما سبق فأبو تمام يدرك أن الشكل وحده لا يشكل جديداً خاصاً , فقصائده ذات معان مبتكرة عذراء , وذات دلالات جديدة , يقول :
أما المعاني فهي أبكار إذا *** نُصّت ولكنّ القوافي عُونُ . 3/ 330 .
وسمع عمارة شعراً لأبي تمام كان منه :
ولكنني لم أحو وفراً مجمعاً *** ففزت به إلابشمل مبدد
ولم تعطني الأيام نوماً مُسكّناً *** ألذُّ به إلابنوم مُشرّد . 2/ 23
فقال : لله درّه لقد تقدم صاحبكم في هذا المعنىجميع من سبقه على كثرة القول فيه , حتى لحببالاغتراب , هيه , فانشد :
وطول مقام المرء في الحي مُخْلقٌ *** لديباجَتَيْه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة *** إلى الناسإذ ليست عليهم بسرمد
فقال عمارة : كمل والله , إن كان الشعر بجودة اللفظوحسن المعاني واطراد المراد واستواء الكلام , فصاحبكم هذا أشعر الناس وإن كان بغيره فلا أدري.
وبذلك انتهى عنده مذهب التصنيع إلى غايته التي كان يرنو إليها شعراء العصر العباسي من الزخرف والتنميق , فكل من قلّدوه من بعده كانوا يقعون دونه على السفح , ولعل ذلك ما عدل بالبحتري وابن الرومي عن الدخول معه في هذا المذهب العسر الذي صعّب مسالكه ودروبه على الشعراء .
وأول ما يلفت النظر في هذا الخصوص أن الشاعر في مذهب أبي تمام يبدو مثل الكاهن او الساحر ويبدو الشعر مثل الكهانة أو السحر وأول سماته السحر والدهشة والإغراب , انظر ديوانه : 2/ 182, يقول :
ولذاك شعري فيك قد سمعوا به *** سحرٌ وأشعاري لهم أشعار
والشاعر والساحر عند أبي تمام ذوا أداة واحدة وتأثير متشابه : انظر ديوانه :4/ 209
وعلمت إثم السحر حين ذممته *** وأراك متخذاً أداة الساحر
يا شاعراً في طرفه وبهائه *** وجماله عذّبت قلب الشاعر
وما دام الشعر تماماً مثل السحر فإنه لا يتقنه سوى السحرة المبدعين فإذا حاول المبتدئون وصغار الشعراء ان يخوضوا في غماره , فإنهم لا يعودون إلا بخفي حنين , بل إن تقليد هذا الشعر أو سرقته أمر متعذر ؛ لأنه ملكية خاصة للمبدع أبي تمام , يقول : 2/ 160
وما لي ضيعة إلا المطايا *** وشعرٌ لا يباع ولا يُعار
وإذا كان الشعر على هذه الصفات فإن تأثيره في المتلقي يكون كبيراً وعميقاً فهو يخلق الحالة الشعرية وينقلها من الشاعر إلى المتلقي ولذلك يصف قصائده بأنها :
تبيت سوائراً وتظل تُتلى *** قصائدها كما تُتلى الفتوح . 4/ 331
*= غاية الشعر عند أبي تمام :
كان أبو تمام يؤمن بأن الشعر للخاصة لا العامة , والخاصة عنده ليست طبقة اجتماعية متميزة ولكنها الخاصة المثقفة المستنيرة الواسعة الاطلاع . وعلى أساس هذه الفكرة آمن أبو تمام بأن الشاعر يجب ألا ينزل بمستواه الفني إلى مستوى العامة , وإنما يجب أن يظل في قمته الشامخة وعلى الجمهور أن يرتفع إليه , يقول :
أبا جعفر إن الجهالة أمها *** ولودٌ وأم العلم جدّاء حائلُ
أرى الحشو والدهماء أضحوا كأنهم *** شعوب تلاقت دوننا وقبائل . 3/ 117
*= جهده ومعاناته الشديدة في بدع الشعر :
والشعر عند أبي تمام ضرب من المعاناة والمكابدة ومجاهدة النفس وإعمال الفكر لا يقتنع فيه الشاعر بيسير المعاني وسهل الأفكار ولا ينتظر من الأبياتأن تنثال عليه انثيالاً بل يعمد إليها عمداً فيظل يحاورها ويداورها حتى تستسلم له وتسلم له قيادها .
يقول مادحاً مستغلاً المكابدة وسيلة لزيادة العطاء من قبل ممدوحه :
وقد حررت في مديحك جهدي *** فحرر بالندى صلة القصيد . 2/ 135
ونراه يتحدث عن مجاهدة القوافي أثناء نظمها وما تحتاجه من صور ذلك الجهد :
يُجاهد الشوق طوراً ثم يجذبه *** جهاده للقوافي في أبي دلفا . 2/ 362
ويقول معتزاً بنفسه مزهواً بقدراته الفنية : 2/ 77
سأجهد حتى أبلغ الشعر شأوه *** وإن كان لي طوعاً ولست بجاهد
كما أنه من يقرأ نصوصه الشعرية يجده ينطلق منأفق الانفتاح على نصوص الشعراء السابقين , وليس من أفق الانغلاق أو القطيعة يقول ابن رشيقفي كتابه العمدة : ( حكى بعض أصحاب أبي تمامقال : استأذنت على أبي تمام وكان لا يستتر عنيفأذن لي , فدخلت عليه فإذا هو في بيت مصهرج قدغسل بالماء يتقلب يميناً وشمالاً فقلت له : لقد بلغبك الحرّ مبلغاً شديداً فقال : لا ولكن غيره , ثم مكثلذلك ساعة , ثم قام كأنما أطلق من عقال , فقال : الآنوردت – أي وصلت إلى المورد – ثم استمر وكتبشيئاً لا أعرفه , ثم قال : أتدري ما كنت فيه ؟ قلت : كلا قال قول أبي نواس :
حذر امرئ نصرت يداه على العدى *** كالدهر فيه شراسة وليان .
أردت معناه فشمس علي – أي هرب – حتى أمكننيالله منه , فصنعت :
شرستَ بل لنتَ بل قانيتَ ذاك بذا *** فأنت لا شك فيك السهل والجبل . 3/ 11.
قال ابن رشيق : ( ولعمري لو سكت هذا الحاكي لنمّ هذا البيت بما كان داخل البيت لأن الكلفة فيه ظاهرة والتعمُّل بيّن ) .
والحق أن الذي أوقف أبا تمام في بيت أبي نواس إنما هو هذه الجدلية التي يتسم بها الدهر حينما يجمع بين نقيضين ويؤلف بين ضدين هما الشراسة واللين إلا أن هذه الجدلية تتخذ بعداً جديداً لها في بيت أبي تمام تتمثل فيه صفات الفكر الجدلي من حيث طرح الفكرة ثم نقضها ثم جمع الفكرة والنقيض معاً فيما يدعى بالتركيب .
حيث راح ينتقي مقومات الشطر الأول من دلالات الفعل الماضي التي تلتقي فيها المتناقضات في نهاية المصراع ( بل قانيت ذاك بذا , أي الليونة بالشراسة ) ليؤكد الدلالة تصويرا من خلال الموقف الذي يعود إلى تأكيده بالضمير , وبالتوكيد اللفظي على طبيعة المتناقضات التي توازي الشطر الأول حيث يأتي بالجبل قريناً للشراسة وبالسهل قريناً للين .
ومن هنا يصبح من أهم سمات الرؤية الشعرية عند أبي تمام أنها تتلمس التماثل والانسجام من خلال التنافر والتضاد , وبهذا أصبح شعره مجالاً لإعادة تركيب الأشياء التي تبدو متنافرة للوهلة الأولى .
وروى ابن المعتز في طبقاته : ( حدثني أبو الغصنمحمد بن قدامة قال : دخلت على حبيب بن أوسبقزوين وحواليه من الدفاتر ما غرق فيه , فما يكاديرى فوقفت ساعة لا يعلم بمكاني لما هو فيه , ثمرفع رأسه فنظر إليّ وسلم عليّ , فقلت له : يا أباتمام إنك لتنظر في الكتب كثيراً , وتدمن الدرس , فماأصبرك عليها ! . فقال : والله ما لي إلف غيرها ولالذة سواها , وإني لخليق إن أتفقدها أن أحسنُ – يريد أن أحسن الكتابة الشعرية – وإذا بحزمتينواحدة عن يمينه وواحدة عن شماله , وهو منهمكينظر فيهما ويميزهما من دون سائر الكتب فقلت له: فما هذا الذي أرى من عنايتك به أوكد من غيره ؟قال : أما التي عن يميني فاللات وأما التي عنيساري فالعزى أعبدهما منذ عشرين سنة , فإذاالذي عن يمينه شعر مسلم بن الوليد صريعالغواني , وعن يساره شعر أبي نواس ) .
*= الغموض والتعقيد :
أبو تمام من أشهر شعراء العربية وهو صاحبمذهب شغل الدارسين في عصره وبعد عصره وأثاركثيراً من الجدل والخلاف حوله وهو ذلك المذهبالجديد الذي طلع به على الناس في عصره فمنهممن أعجب به ومضى يؤيده ويدافع عنه , ومنهم منأنكره ورفضه وراح يهاجمه , فأبو تمام هو زعيمالمذهب التجديدي – التصنيع والزخرف – في القرنالثالث وهو المذهب الذي يضعه النقاد بإزاء المذهبالتقليدي الذي سار عليه معاصره وتلميذه البحتري.
فالشاعران يمثلان مذهبين مختلفين في تاريخالشعر العربي , وهو اختلاف يرجع إلى اختلافالشاعرين حول المفهوم الفني للشعر أو يرجع إلىاختلافهما حول مسألة عمود الشعر .
فأبو تمام يمثل مذهبه الخروج على عمود الشعروالتحرر من تلك التقاليد الفنية الموروثة التي تلقاهاالشعراء عن الشعر القديم . في حين يمثل مذهبالبحتري التمسك بعمود الشعر والحرص علىاحتذاء تلك النماذج الفنية الموروثة .
هذا مذهبه الجديد مذهب لا تستسيغه إلا فئة معينة من الناس , يقول الآمدي عنه : ( إنه ينسب إلى غموض المعاني ودقتها , وكثرة ما يورده مما يحتاج إلى استنباط وشرح ) . ويقول أيضاً : ( إنه شديد التكلف صاحب صنعة يستكره الألفاظ والمعاني وشعره لا يشبه أشعار الأوائل , ولا على طريقتهم لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني المولدة ) .
ويقول أيضاً : ( إنه أتى في شعره بمعان فلسفية وألفاظ غريبة فإذا سمع بعض شعره الأعرابي لم يفهمه ) , ويذكر الرواة أن أعرابياً سمعه ينشد قصيدته التي مطلعها :
طلل الجميع لقد عفوت حميداً *** وكفى على رُزئي بذاك شهيدا . 1/ 405
فقال : ( إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها , وأشياء لا أفهمها , فإما أن يكون قائلها أشعر الناس , وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه ) وليس من شك في أن هذا الأعرابي كان صاحب حس مرهف دقيق .
ويقص الآمدي أن ابن الأعرابي اللغوي سمع شيئاً من شعره فقال : ( إن كان هذا شعراً فكلام العرب باطل ) , أي أن ابن الأعرابي يرى أن مذهب أبي تمام في الشعر مذهب جديد لا عهد للعرب به يخالف ما يعرفه النقاد من مذاهب القدماء في الشعر . ويذكرون أن أعرابياً سمعه ينشد قصيدته التي يمدح بها عبد الله بن طاهر والتي مطلعها :
أهنّ عوادي يوسف وصواحبُه *** فعزماً فقِدماً أدرَكَ السُؤلَ طالبُه . 1/ 206
فقال له : لم لا تقول ما يفهم ؟ فرد عليه على البديهة : وأنت لم لا تفهم ما يقال ؟
وكأني بأبي تمام يعلن عن اتجاه جديد في الشعر العربي فقد تطور هذا الشعر وتطور معه صاحبه , ولم يعد عملاً شعبياً بل أصبح عملاً عقلياً راقياً , فالشاعر ليس من واجبه أن ينزل إلى الجمهور بل يجب على الجمهور أن يصعد إليه , وهذه الفكرة فكرة ارتفاع الشعر عن الجمهور نراها عند أبي تمام لأول مرة في تاريخ الشعر العربي , وهي إحدى الأفكار المهمة التي تثار في النقد الحديث .
*= ولكن ما سبب هذا الغموض ؟ يكشف عنه الآمديبقوله : { إن أبا تمام تعمد أن يدل في شعره علىعلمه باللغة وبكلام العرب فتعمد إدخال ألفاظ غريبةفي مواضع كثيرة من شعره } ومثل له بقوله :
قدك اتئب أربيت في الغلواء *** كمتعذلون وأنتم سُجرائي . 1/ 20
وقال الجرجاني : فإن أظهر التعجرف وتشبه بالبدوونسي أنه حضري متأدب وقروي متكلف جاءكبمثل قوله :
قد قلت لما اطلخم الأمر وانبعثت *** عشواءتالية غبساً دهاريسا . 2/ 256
ومهما يكن من شيء فإن هذا الشعر إذا قرع السمعلم يصل إلى القلب إلا بعد إتعاب الفكر وكدّ الخاطروالحمل على القريحة فإن ظفر به فذلك من بعدالعناء والمشقة . وقد يكون الغموض بسبب المعاظلةأو التعقيد اللفظي كقوله :
خان الصفاء أخ خان الزمان أخاً *** فلميتخون جسمه الكمد . 4/ 191.
فهو يريد أن يقول : لقد خان الصفاء ذلك الأخ الذيلم يصب بالكمد والحزن بسبب أخيه الذي خانهالزمان من أجله .
يقول الآمدي معلقاً على هذا البيت : ( وإذا تأملتالمعنى مع ما أفسده من اللفظ لم تجد له حلاوة ولافيه كبير فائدة ) , وكقوله :
يا يوم شرّد يوم لهوي لهوُه *** بصبابتي وأذلّ عزّ تجلّدي . 2/ 45
يقول الآمدي : ( لا لفظ أولى بالمعاظلة من هذهالألفاظ ) , ويذهب إلى أن الاستغناء عن كلمة { يوم} الأولى في البيت أصح في المعنى من قوله : { يايوم شرد يوم لهوي } وأقرب في اللفظ )
وقد يكون الغموض بسبب شغفه وولعه بالبديعالمتكلف والمتصنع , وشدة تقصيه لصوره وأشكاله , وهذا يسبب انغلاقاً في المعاني لا يعلم ولا يعرفغرضه فيها إلا بعد الكد والفكر وطول التأمل , يقولابن المعتز : ( ثم إن حبيب بن أوس الطائي منبعدهم شغف بـ البديع حتى غلب عليه وتفرع فيهوأكثر منه , فأحسن في بعض ذلك , وأساء فيبعض وتلك عقبى الإفراط وثمرة الإسراف ) . ومنذلك قوله :
فالمجد لا يرضى بأن ترضى بأن *** يرضىامرؤ يرجوك إلا بالرضا . 2/ 307
فلما سمعه إسحاق الموصلي قال له : ( يا هذا لقدشققت على نفسك إن الشعر لأقرب مما تظن ) .
ويعدون من أسباب الغموض كذلك في شعره شدةاستقصائه للمعاني وتدقيقه فيها وغوصه بعيداًفي طلب شواردها وهذا يخرجها إلى التعميةوالانغلاق , يقول :
إن كان مسعود سقى أطلالهم *** سبلالشئون فلست من مسعود
ظعنوا فكان بُكاي حولاً بعدهم *** ثمارعويت وذاك حكم لبيد
أجدر بجمرة لوعة إطفاؤها *** بالدمع أنتزداد طول وقود . 1/ 386
يقول الآمدي معلقاً عليها : ( وهذا من معاني أبيتمام التي يُسأل عنها ) , وشبيه بهذا توليده منرعي الجمل محصول الفيافي معنى آخر في قوله :
رعته الفيافي بعد ما كان حقبة *** رعاهاوماء الروض ينهلُّ ساكبه . 1/ 222
فبعد أن كان هذا الجمل يرعى الفيافي بما فيها منشجر وعشب صارت ترعاه الفيافي بجدبها وقحطهاوإرهاقها إياه .
وقد لا يكون هذا الغموض مستعصياً مع شيء منالتفكير والتأمل بيد أن غرابة المعنى ببعده عنالمعهود هي مما يسرع بالحكم بالغموض وربماأدرك أبو تمام هذا الأمر فتراه يتبع معناه الغريببما يشرحه ويوضحه كما في قوله :
وإذا أراد الله نشر فضيلة *** طويت أتاحلها لسان حسود
فشيء غريب وغامض ألا تشيع الفضيلة وتنتشر إلابنقيضها ولهذا أتبع هذا البيت بيتاً آخر يوضحهويبرهن عليه فقال :
لولا اشتعال النار فيما جاورت *** ما كانيعرف طيبُ عرف العود . 1/ 397
ومن أسباب غموض شعره أيضاً خروجه علىالناس بمذهبه الجديد وبطريقته الجديدة فيالإغراب التي كان يعيها , ويصف بها قصائدهكقوله :
وغرائب تأتيك إلا أنها *** لصنيعكالحسن الجميل أقارب . 1/ 174
وقوله : إليك أرحنا عازب الشعر بعدما *** تمهّل في روض المعاني العجائب
غرائب لاقت في فنائك أنسها *** منالمجد فهي الآن غير غرائب . 1/ 213
وهذه الغرابة دعت أحد السامعين إلى أن يقول عنقصيدته التي مطلعها :
طلل الجميع لقد عفوت حميداً *** وكفى علىرزئي بذاك شهيدا . 1/ 405
( إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها وأشياء لاأفهمها فإما أن يكون قائلها أشعر من جميع الناس , وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه )
وكانت النزعة العقلية السارية في أوصال شعرهوالمزاوجة بين العقل والشعور من أسباب الغموضفي شعره , يقول د / يوسف خليف : ( أساس العملالفني عند أبي تمام هو هذه المزاوجة بين العقلوالشعور أو بين الفكر والعاطفة وهو في سبيل هذهالمزاوجة لم يكن يبالي بأن تصل معانيه إلى شيءمن الغموض جعلها تصعب في فهمها على أولئكالذين لم يصلوا بثقافتهم إلى المستوى الذي وصلإليه ) في الشعر العباسي : 96
ويقول د / شوقي ضيف عن أبي تمام : ( لا يقفبفنه عند هذه الألوان القديمة من التصنيع التييبتهج لها الحس بل نراه ينفذ إلى ألوان جديدةيبتهج بها العقل وهي ألوان قاتمة كانت تتسربإليه من الفلسفة والثقافة العميقة … فقد استطاع أنيستوعب الفلسفة والثقافة وأن يحولهما إلى فنوشعر إذ تتعلق بهما ألوان التصنيع السابقة أوبعبارة أدق يتعلقان هما بتلك الألوان فإذا كل لونمنها يعبر عن فكر عميق فالطباق والجناسوالتصوير والمشاكلة كل ذلك يزدوج بالفلسفة وألوانالثقافة القاتمة فيجلله الغموض في كثير منجوانبه وأجزائه) .
انظر : الفن ومذاهبه ص : 239.
ويقول د/ عثمان موافي عن أبي تمام : ( وطبيعيأن يسري هذا الغذاء { الثقافي } في دم فنه الشعريفيأتي مزيجاً من العقل والشعور ويدق فهمه علىبعض معاصريه إذ يحسون بشيء من الغرابةوالغموض في لفظه ومعناه ) الخصومة بين القدماءوالمحدثين ص : 70
وعلى كل حال فالحق أن مرد هذا الغموض ومرجعه إلى دقة الفكرة وغرابة الصورة , أما دقة الفكرة فقد جاءه بطبيعة الحال من تلك الثقافات الواسعة العميقة التي اتصل بها واستوعبها في عقله واستغلها استغلالا كبيرا في شعره واعتمد عليها اعتمادا شديدا , فلا يمكن لشاعر يلعب العمق والخفاء في شعره وتلعب الفلسفة والثقافة في فنه أن يعبر تعبيراً مألوفاً , فأبو تمام لا يستريح إلى المعنى القريب , ولا يطمئن إلى الفكرة السطحية والساذجة , إنه يبحث ويجرّب ويبتكر أفكاراً وصوراً جديدة بديعة , وكل عبارة عنده إنما هي بحث وتجربة يحرص من خلالها على النفاذ إلى داخل الفكرة والتغلغل في أعماقها .
وأما غرابة الصورة فقد جاءته من إيمانه بأن الشعر للخاصة لا للعامة , ومن هنا كانت الصورة القريبة المألوفة بين الناس أبعد الأشياء عن مخيلته المبدعة , ولهذا نلاحظ انه كان إذا أخذ صورة قديمة مألوفة ظل يحور فيها ويعدل حتى تستقيم له صورة غريبة نادرة غير مألوفة . هذه صورة قديمة رسمها النابغة الذبياني للطير الجوارح التي تحلق فوق الجيش بحثاً عن دماء القتلى وأجسادهم :
إذا ما غزا بالجيش حلّق فوقهم *** عصائب طير تهتدي بعصائب
أخذها مسلم بن الوليد فصاغها صياغة جديدة فقال :
قد عوّد الطير عادت وثقن بها *** فهنّ يتبعنه في كل مرتحل
أما أبو تمام فلم يقنع بتجديد مسلم فيها وإنما أخذ يبدئ ويعيد ويبدل ويغير ويعدل من أوضاعها ويضيف إليها ألواناً مبتكرة , وخطوطاً جديدةحتى استقامت له في هذه الصورة التي تختلف اختلافاً كبيراً عن أصلها عند النابغة وأيضاً عند مسلم , يقول :
وقد ظُلّلت عقبانُ أعلامه ضحى *** بعقبان طير في الدماء نواهل
أقامت مع الرايات حتى كأنها *** من الجيش إلا أنها لم تقاتل . 3/ 82
جعل أعلام الجيش عقباناً لتستقيم له تلك المشاكلة البلاغية التي يريدها بين عقبان الجيش وعقبان الطير , وحدّد زمان الصورة بوقت الضحى حين تخرج الطير الجارحة ساعية وراء رزقها , فإذا الجيش يقابلها في طريقها فتحلّق فوقه , بل إنها تظلله كأنها رايات تخفق فوقه ثم جعل هذه العقبان ناهلة من دماء القتلى لكي يبرز المهمة التي حلّقت هذه العقبان فوق الجيش من أجلها .
ولم يكتف أبو تمام بهذا بل جعل هذه العقبان تلازم الجيش وتختلط بها , كأنها أصبحت جزءاً منه أو جنداً من جنوده , ولكنها جنود غريبة تصاحب الجيش وتلازمه ولكنها لا تقاتل معه .
ويقول في وصف روض :
ومعرّس للغيث تخفق بينه *** راياتُ كل دُجُنّة وطفاء
نُشرت حدائقه فصرن مآلفا *** لطرائف الأنواء والأنداء
فسقاه مسكُ الطّلّ كافور الصبا *** وانحلّ فيه خيطُ كلّ سماء . 1/ 23
فقد عبّر عن السحب التي يتلألأ البرق في أطرافها بالرايات المطرزة التي تخفق بالريح , ولكن ليس هذا ما يلفتنا في الأبيات , إنما يلفتنا الشطر الأول من البيت الثالث , فقد أبعد على نفسه فيه إذ ذهب يقول : إن مسك الطل يسقي الروض كافور الندى , وهي صورة معقدة , فماذا يريد أبو تمام بمسك الطل ؟ وماذا يريد بكافور الندى ؟ أما مسك الطل فإنه يريد به الرائحة العطرية التي تعبق من الروض إثر الطل والمطر الخفيف , وأما كافور الندى فإنه ذلك الرشاش الذي تُعقد قطراته بيضاء على أوراق الروض كالكافور , وليس من شك في أن هذه الصورة مركبة , ولكنها تعبق بالمسك والطيب .
ولكن أيُّ غموض سرى في شعر أبي تمام ؟! إنهالغموض الفني الذي يشبه تنفس الفجر , غموضأوقات السحر التي كان يعجب بها أبو تمام , وإنه لتنحلّ فيها خيوط من الضياء , فهل هناك أجمل من تصويره لسقوط المطر بتلك الخيوط التي تنحلّ في الروض ؟ إنه تصوير لطيف قلّما يقع في ذهن شاعر إلا هذا الذي يستوعب الثقافة والفلسفة وتتحولان عنده إلى طرائف من العمق في التفكير والتصوير .وحتى طلبه للغرابة في شعره إنما تأتي فتنة وروعة وحلية أنيقة نمنمها الوشي ونمقها النقش .
يرى حازم القرطاجني أن اقتران الغرابة والتعجيب بالتخييل يفضي إلى الإبداع . انظر منهاج البلغاء ص : 19 , فالإغراب إذن هو اللفظ الذي أحال به القدماء على المعنى الغريب أي الطريف النادر , كما دلّوا به على نزوع الشاعر إلى تسقط الغريب من الألفاظ اقتداراً , وإلى قريب من هذا ذهب النقاد المحدثون إذ ربطوا نزوع الشاعر إلى استعمال الغريب برغبته في الإغراب والتعجيب ورأوا أن استعمال الغريب لا يقل لطافة ودقة عن التشبيه والاستعارة , يقول أبو تمام :
خذها مغربة في الأرض آنسة *** بكل فهم غريب حين تغترب . 1/ 258.
وقوله :
يغدون مغتربات في البلاد فما *** يزلن يؤنسن في الآفاق مغتربا .4/ 445
ويمكننا القول إن نزوع أبي تمام إلى الغريب يعود إلى عوامل ثقافية قوامها صلة الشاعر الدائمة بالشعر القديم , فالشاعر أبو تمام لم يرث المعاني وحسب , بل ورث ألفاظاً منها الفخم الجزل ومنها اللين السهل ومنها الكز الوعر . وجاء تجديده منطلقاً من عناصر كامنة في تراثه الأصيل حيث أعاد إحياءها , فالغرابة والجناس والطباق والاستعارة عناصر فنية وجدت على قلة في أشعار القدماء فتناولها أبو تمام وأعاد خلقها فتحولت هذه اللمحات على يده إلى ملامح فنية وقواعد وأركان عليها يقوم شعره وبها تفرد .
وقد تكون مدارسته للغريب وممارسته جعلت اللفظة التي نعدها أو يعدها عصره غريبة جعلتها مألوفة زالت عنها الوحشية فاستخدمها استخدام اللفظة المألوفة .
*= إسرافه في البديع :
ليس هذا فحسب بل نراه قد اتجه إلى البديع الذي كان أستاذه مسلم بن الوليد قد اتجه إليه من قبل , فمضى يزاوج بين الثقافة العقلية والبديع الفني ويمزج الألوان العقلية العميقة بألوان البديع المشرقة . ولكنه خالف مسلماً ومن سبقه من الشعراء من أصحاب البديع في شيئين يتصلان بهذا البديع : المبالغة الشديدة في البديع , والتعقيد .
يقول الآمدي : ( أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد ثم أتبعه أبو تمام واستحسن مذهبه , وأحب أن يجعل كل بيت من شعره غير خال من بعض هذه الأصناف فسلك طريقاً وعراً واستكره الألفاظ والمعاني ففسد شعره وذهبت طلاوته ونشف ماؤه ) .
ويقول ابن المعتز في طبقاته : ( كان مسلم صريع الغواني مدّاحاً محسناً مُفلقاً وهو أول من وسّع البديع لأن بشار بن برد أول من جاء به ثم جاء مسلم فحشا به شعره , ثم جاء أبو تمام فأفرط فيه وتجاوز المقدار )
وقال أيضاً في كتابه البديع : ( ثم إن حبيب بن أوس الطائي من بعدهم شُغف به حتى غلب عليه وتفرغ فيه وأكثر منه فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض وتلك عُقبى الإفراط وثمرة الإسراف )
ويقول الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن : ( وربما أسرف أبو تمام في المطابق والمجانس ووجوه البديع والاستعارة حتى استثقل نظمه واستُوخم رصفه )
*= والحق أن البديع عند أبي تمام تحول عن وظيفته التحسينية والتزينية إلى الوظيفة الإبداعية فلم يكن أبو تمام يستخدم ألوانه البديعية في صورة بسيطة وساذجة وإنما كان يشق على نفسه في استخدامها ويبذل في سبيل ذلك كثيراً من الجهد والعناء ونضح الجبين حتى تستقيم له على الصورة التي تحقق له مذهبه الفني . ومن هنا لم تكن هذه الألوان ترد في شعره بصورة عفوية , وإنما كان يقصد إليها قصداً ويتعمدها تعمداً ويحشدها حشداً في قصائده يقول أبو تمام :
متى أنت عن ذهلية الحيّ ذاهل *** وقلبك منها مدة الدهر آهلُ
تُطلّ الطلول الدمع في كل موقف *** وتمثُل بالصبر الديار المواثلُ
دوارس لم يجفُ الربيع ربوعها *** ولا مرّ في أغفالها وهو غافل
فقد سحبت فيها السحائب ذيلها *** وقد أخملت بالنور منها الخمائل 3/ 112-114
أول ما نلاحظ أن أبا تمام يخالف تقاليد القدماء في مقدماتهم الطللية فهو لا يصور الأطلال موحشة مقفرة لا حياة فيها , وإنما يصورها وقد أقبل الربيع عليها وأخذ بوشيها بزخرفة وزهرة وخمائله حتى تحولت إلى جنة خضراء تموج بالخصب والحياة . والأخرى الإفراط المبالغ فيه في استخدام الجناس , فألوان الجناس تحتشد في كل بيت : ( ذهلية الحي و ذاهل – الطلول وتطل – المواثل وتمثل – الربيع والربوع – أغفال وغافل – سحبت وسحائب –أحملت وخمائل ) وهكذا تتكدس ألوان الجناس وتتزاحم في أبياته .
لكنه لا يعتمد على صبغ الجناس وحده , وإنما يعتمد على صبغ آخر هو التصوير الذي يسير مع الجناس , فالطلول تسكب الدمع كأنها فتاة باكية , والديار تتمسك بالصبر وتتجلد كأنها بشر والربيع يزور هذه الأطلال ولا يجفوها ويمر بها غير غافل عنها كأنه حي يدرك ويتصرف والسحائب تجرر أذيالها والخمائل تمد أهدابها بهذا الزهر الذي يكسوها ويوشيها .
*= والطباق عند أبي تمام ليس مجرد تقابل في المعاني , بل هو طريقة في التعبير عن العلاقات التي تحكم الوجود طريقة من طرق توليد المعاني ومنبعاً ثرياً من منابع شعرية النص
أبو تمام لا يستخدم الطباق استخداماً ساذجاً تقليدياً , ولا يجعل التضاد فيه تضاداً لفظياً فحسب وإنما يستخدمه استخداماً معقداً بما يلونه من ألوان عقلية مختلفة تجعل المقابلة المعنوية عنصراً أساسياً في الصورة إلى جانب المقابلة اللفظية على نحو ما نرى في أبياته الرائعة التي يصف فيها الربيع مستغلاً ظاهرة توافر الأضداد يقول :
مطر يذوب الصحو منه وبعده *** صحوٌيكاد من الغضارة يمطر
غيثان فالأنواء غيث ظاهر *** لك وجهه والصحو غيث مضمر
يا صاحبيّ تقصّيا نظريكما *** تريا وجوه الأرض كيف تصوّر
تريا نهاراً مشمساً قد شابه *** زهرُ الرّبى فكأنما هو مقمر . 2/ 192-194
انظر كيف يتلاعب بالألفاظ والمعاني , صورة المطر الذي يذوب منه الصحو , والصحو الذي يوشك أن يمطر , وصورة الغيث الظاهر الذي تدركه الحواس , والغيث المضمر الذي لا يدركه إلا العقل , ثم هذا النهار المشمس الذي يتدفق بالنور والضياء , والذي تراءى له ليلاً مقمراً لكثرة ما انتشر على صفحة الأرض فيه من زهر ونور ونبات .
ويقول أيضاً :
أُلبست فوق بياض مجدك نعمة *** بيضاء حلّت في سواد الحاسد . 1/ 403
ترى طباقاً بين البياض والسواد , ولكنه ليس طباقاً خالصاً فقد انغمس في لون آخر هو لون التصوير إذ عبر عن غيظ الحاسد بالسواد ووصف نعمة صاحبه بالبياض , ولم يكتف بذلك بل جعل هذا البياض يسرع في السواد وينتشر فيه . وانظر إلى هذا البيت :
وأحسن من نور تفتّحه الصبا *** بياض العطايا في سواد المطالب . 1/ 205
فقد استخدم الطباق ولكنه لم يكتف به بل أضاف إليه التصوير والحركة .
وانظر إلى قوله :
أظن الدمع في خدي سيبقى *** رسوماً من بكائي في الرسوم . 1/ 160
فقد استعان على المشاكلة بهذا التصوير الغريب الذي يلتف عليها إذ جعل آثار الدمع في خده تشبه آثار ديار المحبوبة , وليس من شك في أن هذه طرافة في التصوير وكان يستعين بهذه الطرافة دائماً على لون المشاكلة حتى يعطيه جديدة . وانظر إليه يصف صواحبه :
لآلىء كالنجوم الزهر قد لبست *** أبشارها صدف الإحصان لا الصدفا . 2/ 360
فهن لآلىء إلا أنهن متسربلات بصدف العفاف والطهر , وليس من شك في أنه صدف غريب غرابة وشيء الخدود في قوله :
وثنوا على وشي الخدود صيانة *** وشي البرود بمُسجف ومُمهد . 2/ 47
فقد عبر عن زينة الخدود وما بها من حمرة وتلوين بهذا الوشي الغريب . بل كان تصويره يمتزج بألوان إبداعية بحيث لا تتجمع طائفة من صوره حتى تخرج لنا منها أصباغ تحاكي أصباغ الطيف ألواناً حسية ملموسة , فالسواد رمز للشر والظلمة والعتمة والبياض ابتهاج وفرح وانتصار والخضرة جمال وخير وسؤدد والذي يفجأ هو اصطباغ الألوان على غير ما ألفه المتلقي فالليل أخضر وهو بهذه أعني صورة الليل الأخضر تنم أول وهلة عن غرابة إذ أننا لو تتبعنا التدرج اللوني لهذا الليل قبيل الفجر لما وجدنا مثل هذا اللون في ألوان الطيف التي تبدأ مع أول خيوط الفجر , حينما يتسلل بهدوء بين خيوط الليل التي آلت إلى الخفوت هنا يبقى لنا أن تتبين رؤيا أبي تمام لوصف الليل بالخضرة إذ نجد أن هذا ربما انبعث من رؤيا متفائلة تكون قد طرأت على ما كان يجيش في صدره أو في صدر غيره من أن الليل أسود إذ أن هذه هي حقيقة مجردة . في حين أن أبا تمام لا ينطق بالحقائق كما هي بل يكسوها بجلباب من رؤيته الذاتية ويوشحها بديباجة من إبداعه من ذلك قوله :
لما بكت مقل السحاب حيا *** ضحكت حواشي خده الترب
فكأنه صبح تبسم عن *** سحر ضئيل في ضحى شحب . 4/ 613
في هذين البيتين نبض يتكرر فهو يصف الضحى بالشحوب في تداخل لطيف بين السحب الماطرة بكاء لتسقي الأرض المبتسمة جذلا ليدخل في نقلة زمانية لونية الصباح الضاحك الكاشف عن شحوب الضحى فنجد هذه المناقلات الزمكانية اللونية في صورة وألوان جديدة وكأنما هناك وشائج بين تلك القطرات المتساقطة بما تعكسه بلوراتها من صفاء لوني وبين الأسنان في نصاعتها وبياضها , وتلك الصورة المقابلة بين خد الترب ومقل السحاب فمثل هذه الصورة لتعجب من يتعمق فيها ويخط بذهنه قبل يده خطوطاً من التأثر العميق . وهذه صورة أخرى رائعة من توافر الأضداد في وصفه للحريق في يوم عمورية , يقول :
غادرت فيهم بهيم الليل وهو ضحًى *** يشلّه وسطها صبح من اللهب
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت *** عن لونها أو كأن الشمس لم تغب
ضوء من النار والظلماء عاكفة *** وظلمة من دخان في ضحى شحب
فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت *** والشمس واجبة في ذا ولم تجب . 1/ 53-54
صور متعارضة ومتناقضة بين الليل الذي يتحول إلى ضحى والضحى الذي يطارده الصبح والدجى التي نزعت جلابيبها السود واستبدلت بها جلباباً أحمر من النار واللهب والشمس التي غابت ولم تغب , ثم هذا الضوء من النار الذي يطلع وسط ظلمات الليل فيحيله صبحاً مشرقاً وهذا الظلام من الدخان الذي يصبغ الضحى الشاحب بالسواد والقتامة فيحيله ليلاً بهيماً , ثم أخيراً هذه الشمس الطالعة الآفلة وتلك الشمس الآفلة الطالعة .
كل هذا يستخدمه أبو تمام ليلون به صوره وينشر فيها تلك الأضداد المتنافرة التي تتحكم فيها فكرة المقابلة والتضاد بين الألوان التي يستمدها من ظاهرة اختلاف ألوان الطبيعة التي تحولت من خلال رؤيته الجديدة إلى ألوان غير مألوفة تستمد أصباغها الغريبة من تلك المفارقة بين النور والظلام أو الصباح والليل وهي مفارقة ينشرها في براعة نادرة في كل جانب من جوانب لوحته الفنية . وخذ قوله :
مجد رعى تلعات الدهر وهو فتى *** حتى غدا الدهرُ يمشي مشية الهرم . 3/ 187
فالدهر وهو فتى يتحول إلى دهر يمشي مشية الهرم فالمطابقة بين فتى وهرم جاءت مع الفن التصويري في { يمشي مشية الهرم }
ويجعل د / شوقي ضيف { نوافر الأضداد } جنساً بديعاً مستقلاً ويعني به الطباق الفلسفي القائم على التناقض والتضاد , وهو الطباق القائم على العمق والثراء الذهني والذي يقدم الصورة الفنية من خلال صراع هو في حقيقته لب الحياة وسرها الخالد . كقوله :
قد لان أكثر ما تريد بعضه *** خشنٌ وإني بالنجاح لواثق . 2/ 452
فالطباق بين { أكثر وبعض } وبين { لان وخشن } وكقوله :
لعمري لقد حرّرت يوم لقيته *** لو أن القضاء وحده لم يبرد . 2/ 25
فالطباق بين الحرارة والبرودة { حررت ويبرد } , وقوله :
وإن خفرت أموال قوم أكفهم *** من النيل والجدوى فكفّاه مقطع . 2/ 330
فيه الطباق بين { خفرت ومقطع } فالخفارة وهي الحراسة يقابلها القطع أي السرق والنهب . لكن لا نجد في الأبيات السابقة عمقاً فنياً في الصورة
*= ويكاد النقاد القدماء الآمدي وابن سنان وابن الأثير يجمعون على أن أبا تمام أسرف في طلب الجناس وأكثر منه في شعره وجعله غرضه , فمنه ما قرب فيه فأحسن وهو قليل ومنه ما أتى مستثقلاً غثاً بارداً فكان عبثاً لفظياً وهو كثير .
كثير من النقاد والبلاغيين يرون أن الجناس محسن لفظي عدا عبد القاهر الجرجاني الذي يرى أن للجناس وجهاً معنوياً يقول في أسراره : ( إن ما يعطي التجنيس من الفضيلة أمر لم يتم إلا بنصرة المعنى , وتلك النصرة إنما هي حسن الإفادة مع أن الصورة صورة التكرير والإعادة ) ففي الجناس يوهمك الشاعر أنه يعيد عليك نفس اللفظة ثم تفاجأ بأنه يقدم لك معنى جديداً .
وذهب عبد القاهر إلى أن أبا تمام قد أسلم نفسه للتكلف فاستكثر من الجناس وأولع به وقد ضرب لذلك مثلاً بقوله :
ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت *** فيه الظنون : أمَذْهبٌ أم مُذْهَبُ . 1/ 129
وانتقده قائلاً : ( لم يزدك بمذهب ومذهب على أن أسمعك حروفاً مكررة تروم لها فائدة فلا تجدها إلا مجهولة منكرة ) والفائدة عند الجرجاني لا تخرج عن تأكيد المعنى أو تحليته وتزيينه .
والإشكال إنما جاء من عدم الاعتداد باللفظ والعبور منه إلى المعنى والنظرة الصحيحة الحديثة للشعر وهي ما تؤيده نظرية النقد الحديث إنما تبدأ من الاعتداد باللفظ باعتباره بنية رمزية صوتية ومن هنا فإن العلاقات بين الألفاظ لا تقتصر على بعدها الدلالي الذي ينبع من مضمون الكلمة بل إنها قد تنطلق من الجرس الصوتي لها , ذلك أن الكلمات في الشعر عبارة عن ومضات تسري في تيار متصل وإيحاءات متلاحقة يتولد بعضها من بعض والشاعر يحيا في الألفاظ تحيط به من كل جانب تتجاذبه ويفضي به بعضها إلى بعض ويسلمه كل منها إلى الآخر وتصبح مهمته أن يتابع إيحاءات الكلمات وما يتولد عنها وأن يستغل القوة الإيحائية لجرس الألفاظ فيولد المعاني المختلفة التي تمكنه منها ثقافته باللغة وإدراكه لأسرارها , وأبو تمام في البيت الذي عابه عليه الجرجاني والآمدي وابن المعتز وسواهم وهو قوله :
ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت *** فيهالظنون أمَذْهبٌ أم مُذْهَبُ
إنما يحيا في لفظ { ذهب } فيترامى به هذا اللفظ وما ينطوي عليه من الفناء والتلاشي إلى تلك إلى الثياب المذهبة التي تذهب من بين يدي الكريم حينما يمنحها لسائله والذهب يقتنص معنى الذهاب والفناء ثم تلتوي به الظنون لتقضي به إلى الجنون يتراءى في لفظ المذهب الذي تذهب القصص إلى انه أحد ولد الشيطان يعرض للمتطهرين فيوهمهم ان طهارتهم فاسدة فيعيدونها وبهذا تؤول السماحة إلى نوع من الإمعان في التطهر والحرص عليه إمعاناً يتجاوز حدود المعقول والمألوف .
والبيت بعد ذلك ينتزع من الكرم المأسوي فيه حينما يرتبط الكرم بالمال الذي تعبث به العطايا حتى ينتهي ذلك الجانب الذي انبثق منه الفصيل المهزول والكلب الجبان والرماد الكثير وجميعها تحمل معاني الغنى الذي يؤول إلى فقر ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالذهاب والفناء .
ولذلك يلتقي الكريم في ذهن أبي تمام وقد وقف صامداً وسط الفناء الذي يحيط به بالبارق يشق داكن السحب والكوكب يهتك دياجير الظلام ولهذا ترددت أصداء النكبة الجلل والحادث الداجي فيما تبع هذا البيت من أبيات يقول فيها :
ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت *** فيه الظنون : أمذهب أم مذهب
ورأيت غرته صبيحة نكبة *** جلل فقلت : أبارق أم كوكب
متعت كما متع الضحى في حادث *** داج كأن الصبح فيه مغرب .
ومما عابه عليه العسكري والآمدي قوله :
إنّ من عق والديه لملعون *** ومن عقّ منزلاً بالعقيق . 2/ 431
فقد عدوه من التجنيس الذي بلغ الغاية في الركاكة والبشاعة والهجانة وذلك أنهم تلمسوا فيه معنى أصلياً أولياً وقعت منه الألفاظ موقع الزينة فلم يجدوه غير أن من شأن الاعتداد بألفاظ البيتوإعادة قراءته في جملة الأبيات التي ورد فيها من شأنه أن يكشف لنا أبعاد الرؤية التي تحرك كلماته يقول أبو تمام :
ما عهدنا كذا بكاء المشوق *** كيف والدمع آية المعشوق
فأقلا التعنيف إنّ غراما **** أن يكون الرفيق غير رفيق
واستميحا الجفون دّرة دمع *** في دموع الفراق غير لصيق
إنّ من عق والديه لملعون *** ومن عق منزلاً بالعقيق
فقفا العيس ملقيات المثاني *** في محل الأنيق مغنى الأنيق
إن أول ما يشد أسماعنا هو أن حرف القاف هو الصوت المحرك لهذه الأبيات فكما أنه كان بجرسه الفخم يشكل القرار الذي تنتهي إليه أصوات كل بيت فقد كان كذلك يتردد في ثنايا الأبيات بصورة جلية , وحسبه أنه تردد خمس عشرة مرة في الأبيات الخمسة الأولى السالفة وظل مسيطراً على القصيدة بكاملها .
كذلك فكرة العقوق والمنزل وما يشتمل عليه من إنكار لما يجب أن يكون وتنكر له تطالعنا من بدء القصيدة في صورة إنكار النحيب على المشوق مع أنه من علامات الحب والوله وفي صورة الرفيق الفظ العنيف مع أنه مأخوذ في الأصل من الرفق واللين , ولذلك دخلت شبهة الزيف على الدمع لأنه ورد في هذا الجو المشحون بالتناقضات فاشترط فيه أن يكون عريقاً وليس بدعي لصيق .
والصلة بين الوالدين والمنزل صلة وثيقة تمد جذورها إلى تلك الصلة العريقة بين الأم والأرض حينما تتراءى الأرض في نظر الإنسان الشاعر أماً حنوناً تحتضن البشر أحياء وأمواتاً .
وارتباط العقيق بالعقوق يمتد من الجرس الصوتي للفظتين إلى الأصل اللغوي للعقيق الذي هو اسم لكل مسيل ماء لأنه مأخوذ من عق السيل للأرض أي شقه لها وفتكه بها .
إننا ندرك أن الشاعر في البيت { إن من عق والديه لملعون … } يقرن بين عقوق الوالدين وعقوق منزل الأحبة في محاولة منه لإقناع عاذليه بأنه لم يخرج عما يجب حينما بكى واستبكى واستوقف على أطلال الأحبة لأن كل ذلك ينزل منزلة البر الذي لا ينفصل عن بر الوالدين يدرأ به الإنسان تهمة العقوق وما تستوجبه من اللعن .
قال الخارزنجي أحد شراح ديوانه : ويجوز أن يكون معناه رداً على عاذله الذين قالوا له أقصر من بكائك واخفض من صوتك فرد عليهم : ما نحيب المشوق على ما تصنعون وكيف يكون كذلك وإنما علامة المشوق نحيبه وكثرة بكائه وغزارة دمعه فأقلوا بتعنيفي وعذلي على ما ترون من ذلك وأسعداني عليه .. وتأمل قوله :
وركب يساقون الركاب زجاجة *** من السير لم تقصد لها كف قاطب
فقد أكلوا منها الغوارب بالسرى *** وصارت لها أشباحها كالغوارب
يُصرّف مسراها جُذيل مشارق *** إذا آبه همٌّ عُذيقُ مغارب
يرى بالكعاب الرود طلعة ثائر *** وبالعرمس الوجناء غرة آيب . 1/ 201
تهزنا الصورة الفنية التي استخدم فيها الشاعر أنواع البديع وتأخذنا روعة الاستعارة التي اتكأ فيها على تشخيص المجرد والحق أن أبيات أبي تمام هذه سكب فيها شيئاً وافراً من عبقريته وفنه وحقنها بصنعة من الجناس والطباق دون أن يؤثر في عمق صورها وثرائها وعلى الأخص بيتاه الأولان اللذان صور فيهما السير الشديد الذي يتعب المطي فكأنهم يسقونها خمراً
ثم ينتقل إلى الصورة الثانية في وصف شدة إنضائهم للركاب وكأن السرى قد أكل غواربها فصارت أشباحهم التي تتراءى للناظر كأنها أسنمة لهذه الركاب . وفي البيتين جناس بين ركب وركاب وترديد بين الغوارب والغوارب.
أما البيتان التاليان ففيهما شيء من التعمل وربما يعود السبب في هذا إلى كونهما بداية المدح والانتقال من المعاني الإنسانية العميقة كالحديث عن الأربع والملاعب والأحبة والدموع والفراق ثم وصف السير والركاب والعناء الشديد إلى ذكر قائد الركب ( ويعني نفسه ) فيصفه بحبه للأسفار والترحال وكرهه للاستقرار ويختم هذا بقوله :
كأن به ضغناً على كل جانب *** من الأرض أو شوقاً إلى كل جانب
*= وأما الرمز فولّده تفكيره العميق وكان يستعين على إحكامه بصبغين مهمين من أصباغ التصوير هما { التجسيم والتدبيج } إذ نراه يجسم معانيه العميقة في صور حسية لا يلبث أن يدبجها بألوان مادية يقول :
أبديت لي عن جلدة الماء الذي *** قد كنت أعهده كثير الطحلب
ووردت بي بُحْبُوحة الوادي لو *** خلّيتني لوقفت عند المذنب . 1/ 261
حيث رمز للكرم في البيت الأول بجلدة الماء , ذلك الماء الذي عهده الناس كدراً متغيراً , ورمز إلى ذلك بكثرة ما يعلوه من الطحلب , ثم انتقل مع الممدوح إلى بحبوحة الوادي وهكذا بدأ الغموض يتسلل إلى هذا الشعر ابتداء من قوة جلدة الماء حيث استعان بالرمز الذي دخل به الشعر في فك الإبهام والغموض .
كأنه يقول له إنك صفّيت لي العطاء وكنت أراه من غيرك كدراً وعسراً ولكن انظر كيف رمز لهذه الفكرة فإنك تراه يبدأ فيجعل للماء جلدة كما قالوا جلدة السماء وأديم الأرض ثم يستمر فيعبر عن الكدر والعسر بركوب الطحلب للماء ويصور نفسه مع ممدوحه في بحبوحة الوادي وقطع الرياض بينما غيره يقف به عند المذنب فلا يُنيله إلا الوشل القليل .
ويستخدم أبو تمام التدبيج للتعبير عن فكرة بعيدةكما في رثائه لابن حميد الطوسي وقد قتل في الحرب :
تردّى ثياب الموت حُمراً فما دجى *** لها الليل إلا وهي من سندس خضرُ . 4/ 81.
فقد جنح إلى التدبيج يستمد منه ما يريد من الرمز عن أفكاره ألا تراه يعبر عن قتل ابن حميد بتلك الثياب الحمر التي غرقت في أصباغ الدم , حتى إذا دجى الليل وأظلم القبر أبدله منها ثياباً سندسية خضراء ليعبر عن رضوان ربه . وسيأتي لهذا البيت بيان آخر . واقرأ قوله :
إن الحمامين من بيض ومن سُمُر *** دَلْوَا الحياتين من ماء ومن عُشُب . 1/ 61
فقد جعل للحمام أو للموت لونين يختلفان باختلاف السمرة والبياض في ألوان القنا والسيوف واستمر فعبر عن الحياة بلونين فإما حياة عز بيضاء لا تشوبها شوائب الاضطهاد وإما حياة ذل تسودُّ الوجوه فيها وتضيق الصدور بأنفاسها يقابلان هذين اللونين السابقين وهما لونا الماء والعشب . وكل ذلك ليرمز عن أسباب الحياة والموت . ويستخدم التدبيج للرمز عن حوادث الدهر النحس منها والسعيد بتصويره لتلك المطايا من بيض وسود , فيقول :
أما وأبى الرّجاء لقد ركبنا *** مطايا الدهر من بيض وسود . 4/ 636
ويحتلّ اللونان الأبيض والأسود مكان الصدارةبالنسبة إلى الصورة اللونية عنده , أما الأبيضفهو عنده رمز الإشراق والعطاء والصفاء والشرف : 3/ 56
وَرْداً كتوريدِ الخدود تلوّنَتْ *** خَجَلاًوأبيضَ في بياضِ فَعالِهِ . 3/ 56
وأما الأسود فهو رمز القوة تارة :
وقائعُ قد سَكبْتَ بها سواداً *** على مااحمَرَّ من ريشِ البريدِ . 2/ 41
ورمز للعار تارة أخرى, يقول في ذمّ الأفشين وبابكومازيّار :
سودُ الثيابِ كأنّما نسجَتْ لهُمْ *** أيدي السُّمومِمدارِعاً من قارِ . 2/ 208
ومن الطبيعي أن يرتبط السواد بالموت، فللموتوجوه سود وسيف أسود وقد يستخدم أبو تمام هذااللون للإيحاء بحالة شعورية :
عادَتْ له أيّامُهُ مسودَّةً *** حتّى توهَّمَ أنّهُنَّليالي
إنه شعور بالإحباط واليأس والحزن، أوحاه إليناالشاعر من خلال الصبغ الأسود الذي اصطبغت بهأيامه. وهو شعور شبيه بذلك الذي يوحيه إلينا فيقوله :
إن شئتَ أنْ يَسوَدَّ ظنُّكَ كلُّه *** فأَجِلْهُ في هذاالسوادِ الأعظمِ . 3/ 250
فاللون الأسود عند أبي تمام، ومن خلال الأمثلةالمتقدمة، ذو قيمة سلبية بشكل عام . إنه رمز لكلّ ماهو مثير ومعادل للمشاعر والقيم السلبية.
وقد يُخضع أبو تمام هذين اللونين لفكره،فيستخدمهما معاً معبّراً بذلك عن فكرة التضاد التيطالما أولع برسمها. فإذا السواد يصبح بياضاًوالبياض يصبح سواداً، وكأن اللونين مشتقانبعضهما من بعض ولا علاقة تضاد بينهما أصلاً.
يقول عبد العزيز سيد الأهل: ( إذا كان الضوء علىقدر الحاجة انفتحت له العين واهتدت إلى السبيل،فإن سطع وبهر اختبأت الحدقة وراء الجفون وضلّتالطريق، وارتدّ هذا البياض سواداً، أو صار كالسوادالذي لا يُرى فيه شيء فالسواد، والحال هذه، بياضمبالغ فيه ) .
لقد أعجب الشعراء العباسيون المحدثون بهذاالمعنى الفلسفي فذكره ثلاثة من أعلامهم : أبونواس والمتنبي وأبو تمام . يقول الأخير :
رجلٌ بدا فملا المشارقَ نُورُهُ *** متهللاًكالجَونةِ البيضاءِ
يشرح عبد العزيز سيّد الأهل هذا البيت فيقول: ( يريد ذلك المعنى الفلسفي، وهو أنّ الإشراق فيممدوحه اشتدّ فسطع وبهر حتى عشيت العيون فيهفلم تره، فصار كأنه سواد، ولكن الأدب يترك هذاالتوضيح لئلا ينزل عن منزلته وجودته الأدبية،فيشير له إشارات ) . إلى هذا المعنى الفلسفي قصدأبو تمام في مطابقته بين البياض والسواد فيمعظم شواهده :
فقوَّمْتَ لي ما اعوجَّ من قصد همّتي *** وبيَّضْتَ لي ما اسْودَّ من وجهِ مَطلبي 1/ 156
وينفرد أبو تمام بذكر اللون البنفسجي، وهو أحدمركبات الأحمر، يتألف من مزيج الأحمر والأزرق , وهو عنده رمز المرارة ونقيض الحسن :
لها من لوعة البينِ التِدامٌ *** يعيدُبنفسجاً وردَ الخدودِ . 2/ 32
والبنفسجي درجات، لكن أبا تمام، ومن خلالالعلاقة القائمة بين هذا اللون ولون الورد يقصدالبنفسجي المائل إلى الحمرة، ولعلّ هذا اللون أكثرانسجاماً مع المعنى النفسي الذي رمى إليه.
أمّا المعنى النفسي الذي يوحي به هذا اللون، فإنأهم صفة يدلّ عليها هي صفة الأنانية والشهوة . وقد عرفنا هاتين السمتين بارزتين عند أبي تمام .
وللأخضر قيمة جمالية متميّزة عند أبي تمام، فهوعنده رمز الإشراق والحبور عامة. ولكنْ تنضويتحت راية هذا الرمز العام عدة دلالات رمزية، تقومالخضرة بالإيحاء بها. فهي تارة رمز الشرفوالرفعة، وتارة رمز الحياة. ولكنّها غالباً ما تكونرمزاً إلى الصفاء والعطاء. ومن نماذج الوظيفةالأولى قوله :
لا تَبْعَدَنْ أبداً ولا تبعُدْ فما *** أخلاقُكَالخُضْرُ الرُّبا بأباعِدِ . 1/ 403
ومن نماذج الوظيفة الثانية قوله :
نَوْرُ العرارةِ نورُهُ ونسيمهُ *** نَشْرُ الخُزامىفي اخضرارِ الآسِ . 2/ 249
وإنما ذكر الآس لأنه يوصف بدوام الخضرة وفيذلك رمز إلى الحياة المتجددة المستمرة . وإذا ماانتقلنا إلى نماذج الوظيفة الثالثة (الصفاء)، فإننانراها في مثل قوله :
صافي الأديمِ كأنّما ألبسْتَهُ *** مِنْ سُندُسٍبُرْداً ومِن استبرَقِ . 2/ 415
وأما فكرة العطاء والجود فتظهر في قوله :
وإذ أنا ممنونٌ عليَّ ومُنْعَمٌ *** فأصَبَحْتُ منخَضْراءِ نُعماكَ مُنعِمَا . 3/ 244
وقوله في عطاء السماء : 2/ 391
كم أهدتِ الخضراءُ في أحمالِها *** للأرضِ منتُحَفٍ ومن ألطافِ . 2/ 391
وما تكرار الخضرة في القصيدة الأخيرة إلاّ تأكيدللصوق فكرة العطاء بهذا اللون:
وكأنَّني بالشَّدقَمِيَّةِ وسْطَه *** خُضْرَ اللُّهَىوالوُظْفِ والأَخفافِ . 2/ 392
فالأخضر بالنسبة إلى أبي تمام يحمل في طياتهقيمة رمزية إيجابية. فهو رمز الحبور والإشراق، بلإنّه رمز الحسن على الإطلاق :
لمّا استقلّ بأردافٍ تُجاذِبُهُ *** واخضرَّ فوقَجُمانِ الدُّرِّ شاربُهُ
أحلى وأحسنُ ما كانتْ شمائِلُهُ *** إذ لاحَعارِضُه واخضرّ شاربُهُ . 4/ 159
*= والاستعارة مشكلة المشكلات في شعر أبي تمام ومحور الخلاف بينه وبين النقاد المحافظين المتأثرين بالذوق العربي القديم , يقول الآمدي : ( إن أبا تمام عدل في شعره عن مذاهب العرب المألوفة إلى الاستعارات البعيدة المخرجة للكلام إلى الخطأ والإحالة )
وأساس المشكلة كما يصورها الآمدي أن ( مذهب العرب في الاستعارة أنها تستعير المعنى لما ليس له إذا كان يقاربه أو يدانيه أو يشبهه في بعض أحواله أو كان سبباً من أسبابه فتكون اللفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشيء الذي استعيرت له وملائمة لمعناه )
والمشكلة أن النقاد القدماء وقفوا عند أحكام معينة ومعايير فكرية محددة سلكت بهم مسلكاً خاصاً في تناول صوره الشعرية وأدت بهم إلى تصور محدد لمفهوم الاستعارة والتشبيه ودورهما في القصيدة فقصرت عن استيعاب اللغة الشعرية عند أبي تمام ولعل مرد ذلك إلى عوامل منها : الجمود على المعنى الوضعي للكلمة , فلم يكن الآمدي وغيره يدركون أن الألفاظ تحمل في طياتها إمكانيات للمعاني لا تتحدد إلا في السياق وأن المعنى ليس سوى محصلة لتشابك العلاقات بين ألفاظ التركيب .
وكذلك لم يكونوا يتصورون أن الشاعر يبدأ عمله بتدمير الدلالة المعهودة في اللفظ ليبعث فيه الحياة مرة أخرى من خلال تركيب لغوي جديد يفجر كل الإمكانات الكامنة فيه ويعيد إلينا الوعي الكلي بالأشياء ذلك الوعي الذي كان يتسم به الإنسان الأول حينما كانت تسميته للشيء تتضمن خلاصة تجربته الوجدانية معه , وحينما يستخدم الشاعر الكلمة يحطم الدلالة الوضعية لها ليطلق ما يكمن فيها من طاقات شعرية ولذا يصبح الشعر موت للغة وحياة لها في نفس الوقت .
ومن العوامل التي أدت إلى التقصير في تناول الصورة في شعر أبي تمام اعتبار الخيال الذي يعد أصل الصورة تاليا للمعنى العقلي ثم أخذ الاستعارات على أنها نقل للفظ لا تخرج به عن حدوده العقلية وتجزئتها على وجه لا تتضح فيه وظيفتها في الشعر فلا تخرج عن كونها مجالاً لتحسين المعنى الأصلي وتزيينه أو التدليل عليه وتبريره وبذلك تفقد أصالتها .
حينما قال أبو تمام :
لا تسقني ماء الملام فإنني *** صبٌ قد استعذبتُ ماء بكائي . 1/ 22
فإنه وضع سامعيه في حيرة تساوت فيها سذاجة من حمل إليه إناء ليملأه مع سفسطة من استنكر أن يعبر أبو تمام عن الشيء المر بالماء العذب , وابتدأ الإشكال حينما فصل بين أجزاء التركيب فنظر إليه على أنه { ماء } أضيف إلى { الملام } , ولم يكن لفظ الماء يعني لديهم أكثر من ذلك السائل الذي نشربه إذا أحسسنا بالعطش فكان الصعب التوفيق بينه وبين الملام واكتشاف العلاقة التي تربط بينهما .
حاول الصولي تبرير هذا التركيب بأنه لتحسين البيت بإيراد لفظ الماء في أوله كما جاء في آخره , انظر : أخبار أبي تمام للصولي ص : 35. وتبعه في ذلك الآمدي وأضاف أنه لما كان في مجرى العادة أن يقول القائل أغلظت لفلان القول وجرعته كأساً مرة أو سقيته منه أمرّ من العلقم وكان الملام مما يستعمل فيه التجرع على الاستعارة جعل له ماء على الاستعارة .
إلا أن ابن سنان الخفاجي رفض استساغة هذا الاعتذار رغم اعترافه أنه أقرب التبريرات إلى الصحة لأنه كان يرى أن الاستعارة إذا بنيت على استعارة بعدت , وإن اعتبر فيها القرب فماء الملام ليس بقريب وإن لم يعتبر فيها لم ينحصر وبنى على كل استعارة استعارة وأدّى ذلك إلى الاستحالة والفساد . وكذلك رفض ابن سنان ما ذهب إليه الصولي من قياس { ماء الملام } على ماء الشباب فقال : المراد بماء الشباب الرونق كما يقال ثوب له ماء .
ويقصد بذلك رونقه ولا يحسن أن يقال ما شربت أعذب من ماء هذا الثوب كما لا يجمل أن يقال ما شربت أعذب من ماء هذه القصيدة لأن هذا القول مخصوص بحقيقة الماء لا بما هو مستعار له .
وأبو تمام بقوله : { لا تسقني ماء الملام } ذاهب عن هذا الوجه على كل حال , ثم لا يجوز أن يراد هنا بالماء الرونق لأن الملام لا يوصف بذلك وإنما يذم ويستقبح ولا يحمد ولا يستحسن . انظر : سر الفصاحة ص : 134.
أما ابن الأثير فقد عد { ماء الملام } من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم وهو قريب من وجه , بعيد من وجه , ثم فسر ابن الأثير ما ذهب إليه قائلاً : ( أما سبب قربه فهو أن الملام هو القول الذي يعنف به الملوم لأمر جناه وذاك مختص بالسمع فنقله أبو تمام إلى السقيا التي هي مختصة بالحلق كأنه قال : لا تذقني الملام ولو تهيأ له ذلك مع وزن الشعر لكان تشبيهاً حسناً لكنه جاء بذكر الماء فحط من درجته شيئاً , وأما سبب بعد هذا التشبيه فهو أن الماء مستلذ والملام مستكره فحصل بينهما مخالفة من هذا الوجه ) المثل السائر 2/ 152.
يتضح مما سبق أن الماء لدى النقاد السابقين له حقيقة محددة ودلالته لا تخرج عن الرونق الذي ينسجم مع حقيقته والملام إنما يذم ويستقبح ويستكره ولا يمكن أن يحمد وبهذا تتنافر أطراف التركيب تنافراً تأباه المعايير البلاغية لقياس سلامة الاستعارة .
ولم يستطع ناقد معاصر كمحمد مندور أن يفلت من هذا الجمود على المعنى الوضعي للكلمة والخضوع له في تناول الشعر فهو يستنكر التنافر في تركيب { ماء الملام } متسائلاً : كيف يعبر عن هذا الشيء المرّ بالماء العذب ؟ !! قائلاً : إن أبا تمام لا يتصور من كل ذلك شيئاً ولا يحس بشيء وإنما هي صنعة باطلة ثم كيف يقاس ماء الملام بالكأس المرة ؟ بل كيف يكون للكلام ماء ؟ وبعد أن رفض د / مندور ما ذهب إليه الصولي والآمدي في الاعتذار لأبي تمام قال : إنما النقد الصحيح هو أن أبا تمام قد أراد البديع فخرج إلى المحال وقد ذكر ماء البكاء فكان لا بد له وفاء للبديع ورداً للأعجاز على الصدور أو رداً للصدور على الأعجاز من أن يذكر ماء الملام وهذا سخف يدل على الإسراف وصفاقة الذوق عند أبي تمام وعند ناقديه . انظر : النقد المنهجي عند العرب ص : 98.
وليس الأمر كما بدا لمندور ولكنها روح كلية تهيمن على القصيدة بأكملها فتسم معالمها بطابع السهولة حتى يكاد ينضح كل بيت من أبياتها ماء يتراءى أحياناً في الدجنة الوطفاء التي انحل فيها خيط كل سماء في قوله :
ومعرّس للغيث تخفق بينه *** رايات كلّ دجنة وطفاء
نشرت حدائقه فصرن مآلفا *** لطرائف النواء والأنداء
فسقاه مسك الطّلّ كافور الصبا *** وانحلّ فيه خيط كل سماء . 1/ 23-24
ويتجلى تارة أخرى في السلافة التي عندما مزجت تعلمت من حسن خلق الماء :
صعبتْ وراض المزج سيء خلقها *** فتعلّمتْ من حسْن خَلْق الماء . 1/ 29
وتارة ثالثة في القلب الذي تفجرت فيه ينابيع الوعد فظلت تحوم عليه طيور الرجاء :
لمّا رأيتك قد غذوت مودّتي *** بالبشر واستحسنت وجه ثنائي
أنبطتُ في قلبي لوائك مشرعا *** ظلّت تحوم عليه طيرُ رجائي . 1/ 35
وإذا وقفنا وقفة تأمل عند قوله :
لا تسقني ماء الملام فإنني *** صبٌ قد استعذبتُ ماء بُكائي
فإننا نلاحظ أن قوله : { إنني صبٌ } الذي توسط شطري البيت هو الذي فجر الماء في كلا الشطرين ذلك أن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين الصبابة والسيولة حتى إن معاني الصبابة تمتد لتشمل الماء والعرق والدم والعشق وكثيراً ما ارتبطت الصبابة بالبكاء حتى عدّ أبو تمام في بعض شعره الزفرات حقاً من حقوق الصبابة فقال : 2/ 111
ومن زفرة تعطي الصبابة حقها *** وتوري زناد الشوق تحت الحشا الصّلد .2/ 111
فمن سمات الصب أن يكون باكياً سائل الدمع ومن هنا تولدت فكرة استعذاب الصب للدمع واستمرائه له . وفكرة الاستعذاب هذه هي التي أحالت الدمع إلى ماء أو جعلته يسمي الدمع ماء . وما دام الدمع قد استحال إلى ماء يستعذب فإن من شأنه أن يحقق الارتواء والاكتفاء ولذا يرفض الشاعر كل لوم يحول بينه وبين هذا الماء المستعذب , غير أن سيطرة فكرة الماء الذي تفجر في ماء البكاء أحال قوله : { لا تلمني } إلى { لا تسقني } لأنه مرتو بماء بكائه , واللوم من شأنه ان يحرمه من هذا الماء ومن هنا تفجر الماء في لفظ الملام .
ونعود إلى جدلية الألفاظ التي لعبت دوراً بارزاً في تكوين العلاقات بين ألفاظ الأبيات فماء البكاء وهو الدمع المر المذاق يصبح مستعذباً سائغاً , والملام الذي يرتبط عادة بالقسوة والشدة يتفجر منه الماء وهذه الضدية تطل علينا في القصيدة نفسها في السلافة الضعيفة القاتلة :
وضعيفة فإذا أصابت فرصة *** قتلتْ كذلك قدرة الضعفاء . 1/ 30
وفي النار والنور اللذين قيدا بوعاء :
فكأن بهجتها وبهجة كأسها *** نارٌ ونورٌ قُيّدا بوعاء . 1/ 32
وإذا عدنا مرة أخرى إلى قوله { ماء الملام } الذي حير النقاد فإن علينا أن نعلم أن إدراكنا للماء لا يتأتى بفصله عن الملام كما لا يتأتى إدراك الملام بعد فصله عن الماء فالعلاقات المتبادلة بين الألفاظ هي التي تحدد المعنى وتوضح أبعاده وعندئذ لا يغدو لفظ الماء مجرد إشارة إلى ذلك السائل الذي لا يختلف اثنان في إدراكه , وإنما هو رمز يحتضن تجربة الإنسان الأولى فالماء يحتضن الحياة كما يحتضن الموت ويفضي إلى الأمرين جميعاً فقد ينعم به الإنسان غيثاً يهبه الحياة وقد يعانيه سيلاً يجتث كل معالمها .
وبالتالي فعندما قال أبو تمام { ماء الملام } فقد كان يفجر في الماء كل هذه الطاقات الكامنة فيه مقاوماً بذلك الإلف والعادة التي كانت تؤخذ بمقتضاها اللفظة فلا تخرج عن معناها الدارج إلى شيء آخر .ومن الاستعارات المستمدة من الماء قوله :
كأني حين جرّدت الرجاء له *** عضبا صببت به ماء على الزمن . 3/ 339
وهي مما استهجنه الآمدي من استعاراته التي عدها في غاية الغثاثة والهجانة والبعد عن الصواب . انظر : الموازنة 1/ 265. ووصفها القاضي بأنها مما يصدئ القلب ويعميه ويطمس البصيرة ويكد القريحة . انظر الوساطة ص : 40. غير أن الماء هنا تتفجر في معالم القتل والفتك ويغدو وسيلة للقهر والسيطرة والتمكين فطالما قاوم به الإنسان الموت وتغلب على الهلاك فكان سفينته إلى النجاة ووسيلته إلى الخلاص .
إن الغموض الذي يضفيه الماء على ما يضاف إليه من ملام أو ضلال أو دهر أصل من أصول مذهب أبي تمام الشعري تبدو فيه الأشياء شاحبة باهتة فقدت معالمها المادية الصارمة وحدودها العقلية المجردة وتمردت على ما جرى عليه العرف وأخذ به في العادة فارتفعت إلى أفق شعري يأخذ طابعاً مغايراً للواقع وربما كان مخالفاً له ومتناقضاً معه . وهذا أحد أسباب رفض النقاد في عصره وفي غير عصره لكثير من استعاراته وصوره وإمعانهم في هذا الرفض .
والمقرر عند علماء البلاغة أن الاستعارة تقوم في أساسها على التشبيه بين المستعار له والمستعار منه لكن أبو تمام خرج على هذا المذهب , ومن هنا انكروا عليه قوله :
راحت غواني الحي عنك غوانيا *** يلبسن نأياً تارة وصدودا . 1/ 408
وقالوا إن النأى والصدود لا يلبسان إذ لم يعرف عن العرب أنهم شبهوهما بالثياب .
ويقول الآمدي : ومن أخطائه :
دعا شوقُه يا ناصر الشوق دعوة *** فلّباه طل الدمع يجري ووابله . 3/ 22
أراد أن الشوق دعا ناصراً ينصره فلباه الدمع بمعنى أنه يخفف لاعج الشوق ويطفئ حرارته وهذا إنما هو نصرة للمشتاق على الشوق , والدمع إنما هو حرب للشوق لأنه يثلمه ويتخونه ويكسر حده .
وقال المرزوقي في توجيهه : ( ويجوز أن يكون أراد بناصر الشوق الحزن لأنه يضرم ناره ويثير ما كمن منه ويهيج ساكنه فيكون المعنى أن الشوق دعا ماله واستغاث به وهو الحزن فأجابه ما عليه وكان خاذله وهو البكاء , وقد صرّح أبو تمام بهذا المعنى فيما قبله فإنه قال :
لقد أحسن الدمع المحاماة بعدما *** أساء الأسئ إذ جاور القلب داخله
ويجوز أن يكون أراد بناصر الشوق : يا ناصراً على الشوق , وجاز إضافته إليه على طريقتهم في إضافة الشيء إلى الشيء كان له أو عليه أو منه أو به أو معه وهذا مشهور عند أهل العربية ) شرح مشكلات ديوان أبي تمام ص : 228 . وأنكروا عليه قوله في الرثاء :
أنزلته الأيام عن ظهرها من *** بعد إثبات رجله في الركاب . 4/ 46
لأنهم رأوا في تلك الأيام التي يرسمها في صورة مطية تُركب , ويثبت الراكب رجله في ركابها صورة غريبة غير مألوفة لدى العرب لأن العرب لم يشبهوا الأيام بالمطايا . ومن استعاراته قوله :
رقت حواشي الدهر فهي تمرمر *** وغداالثرى في حلية يتكسر . 2/ 191
يشخص الدهر ويتمثله بشكل حسي في الحواشيالرقيقة فكأنه عروس تتثنى في حليها وتنكسر فيزينتها وهي صورة حسية بصرية مجسدة . وأخذوا عليه قوله :
رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه *** بكّفيكما ماريت في أنه بُرْدُ . 2/ 88
فقد أكثر النقاد القدماء من تشنيعهم عليه فذهب الآمدي إلى أن أبا تمام قد أخطأ فلا أحد من شعراء الجاهلية والإسلام وصف الحلم بالرقة وإنما يوصف بالعظم والرجحان والثقل والرزانة وإذا ذموا الحلم وصفوه بالخفة فيقولون خفيف العلم وطائشه , وكذلك أخطأ أبو تمام لأنه وصف البرد بالرقة وهو لا يوصف بذلك وإنما يوصف بالمتانة والصفاقة .
وفطن المرزوقي إلى أن الرقة في هذا البيت نقيض للغلظ وهو الفظاظة والقسوة , فالرقة في البيت تقوم مقام اللطف .
والجدير بالملاحظة أن النقاد والشراح قد أخذوا الحلم في بيت أبي تمام على أنه مرادف للعقل والأناة ولذلك استقبحوا أن يوصف بالرقة ولم يدركوا أن الحلم هنا حالة نفسية تدل على التسامح والعفو والصفح وذلك يتضح من خلال مقابلتها في البيت التالي بالشدة والفتك في قوله :
وذو سورة تفري الفرىّ شباتها *** ولا يقطع الصّمصام ليس له أحد . 2/ 90
وإذا أصبحت السماحة والعفو وقمع الغضب من أقوى مقومات الحلم تجلت لنا رمزية البرد الذي وصف به الحلم لما بين العفو والبرد من ارتباط وثيق فمن شأن البرد إذا اقترن بالحلم أن يجعله يرق حتى تحويه الكفان وأن يصبح له حواشي وأطراف وكل ذلك تربطه شبكة من العلاقات الضدية مع البيت الذي تلاه وهو قوله :
وذو سورة تفري الفرىّ شباتها *** ولا يقطعالصّمصام ليس له أحد
فاللين والتسامح يقابله الشدة والفتك والحلم الذي ترق حواشيه تقابله السورة التي تفري شباتها وإذا كان الحلم قد آل إلى برد رقيق الحواشي فالسورة لم تلبث أن آلت إلى سيف قاطع فصرامة السيف تقابل رقة البرد ومن خلال هذه العناصر المتقابلة تتحدد الأبعاد الشعرية للأخلاق العليا المثالية للإنسان وهذا التقابل عنصر أصيل في إبداع أبي تمام الشعري .
وهذه استعارة قائمة على التجسيد يقول :
أخاف فؤاد الدهر بطشك فانطوت *** على رعب أحشاؤه وأجنّت . 1/ 307
صورة شديدة الرعب قامت على التجسيد حيث جسد الدهر وشخصه في صورة مخلوق له فؤاد وأحاسيس فمن شدة هلعه انطوى على نفسه وأحشائه فهي صورة غريبة عنا , كيف لنا أن نتخيل ذلك الشيء الحسي أو المعنوي بأنه شيء مادي يحس ويخاف ؟ ومن روائعه قوله :
مطر يذوب الصحو منه وبعده *** صحويكاد من النضارة يقطر . 2/ 192
هذه استعارة أخرى فائقة يصف فيها الشاعر فتنةالربيع بأنه مجمع الضدين الصيف في الصحووالشتاء في مطر فالصيف يتراءى في طقسهوالشتاء يتراءى في زهرة بل إن المطر في الربيعليحمل بين أطوائه الصحو المشرق الجميل كمايحمل الصحو بترطيبه للجو نضرة المطر إن هذهصورة غريبة من المطر الذي يذوب منه الصحووالصحو الذي يذوب منه المطر .
واستعار الشاعر للمطر صفة الذوبان وكأن للمطرقابلة للذوبان , وكيف جعل ذلك الصحو من شدةالنضارة يقطر ماء ومطرا إنها فلسفة وعقلية أبيتمام الذي ربط بين الصحو والمطر .
وهذه استعارة أخرى يتحدث أبو تمام فيها عن وقعةعمورية فيقول :
يا يوم وقعة عمورية انصرفت *** عنك المنىحفلا معسولة الحلب . 1/ 46
صورة استعارية غريبة فقد استعار ابو تمام الحفلللمنى فأصبحت المنى تشبه بالتي حفل ضرعهاباللبن وهو بذلك اراد ان يوضح أن عودة المسلمينهو انتصار حقق رغائبهم وأتم سرورهم فقال :
حتى إذا مخض الله السنين لها *** مخضالبخيلة كانت زبدة الحقب . 1/ 49
هذه المدينة صارت كالزبدة وأتى المعتصم ففتحهاوهو في هذا البيت استعار المخض للسنين وجعلهمخض البخيلة لأنها أشد اجتهاداً من السمحة فهيتطيل مدة المخض . ومن خلال هذه الاستعارة نجدأن الشاعر قد شبه جمع الله السنين وإظهارها باللبنالذي يظهر من الثميلة لتصبح عمورية زبدة الدهور.
قال الخطيب التبريزي : ( إن هذه الاستعارة التياستعملها أبو تمام لم تستعمل قبل الطائي ) . ويقول المعري : ( هذه استعارة لم تستعمل قبلالطائي , والمعنى : حتى إذا جمع الله خيرات السنينوأظهرها فيها فصارت هذه البلدة زبد السنين أتتهمالكربة )
*= مطالع قصائده :
هناك مطالع في شعر أبي تمام استهجنها القدماء رغم ما فيها من جدة وإبداع , وهناك مطالع إبداعية استحسنها النقاد . ومن المطالع التي عابها النقاد والدارسون ورأوا أنها لا تليق بشاعر فحل كأبي تمام هي قوله :
أهن عوادي يوسف وصواحبه *** فعزما فقدما أدرك السُّؤل طالبه . 1/ 216
والبيت مطلع قصيدة طويلة تبلغ 44 بيتاً قالها في مدح أبي العباس عبد الله بن طاهر , وهي مقدمة تقترب من مقدمة الفروسية والشجاعة , وفيهايتحدث عن النساء اللائي أكثرن من عذله في شعره ويرى أن رأيهن غير صالح وهن يغررن بمن يسمعهن فيصير إلى ما صار غليه يوسف بن يعقوب عليه السلام – فكيد النساء أوقع به ورماه في السجن ولهذا عليه ان يمضي في عزمه ولا ينصت إليهن حتى يدرك النجاح .
وقد درس القدماء بنية البيت ونبهوا إلى مواطن الوهن فيه فقالوا : ( إن ما جعله رديئاً قوله : { أهن } فابتدأ بالكناية عن النساء ولم يجر لهن ذكر قبل , ثم قال : { عوادي يوسف } ومعناه : صوارف , أراد هن صوارف يوسف , وصوارف هنا لفظة ليست قائمة بنفسها ؛ لأنه يحتاج أن يعلم صوارفه عن ماذا ؟ واللفظة القائمة بنفسها أن لو قال : { فواتن يوسف } أو { شواغف يوسف } وكأنه أراد صوارف يوسف عن تقاه أو عن هداه إنما يتم المعنى بمثل هذه الأوصاف لو وصلها بها , ثم ألحق بيوسف التنوين فجاء بثلاثة ألفاظ متوالية كلها رديئة في موضعها )
والمطلع في نظر القدماء يجب ان يكون محكم الصياغة متين البنية خال من الوهن مشرق الديباجة شريف الألفاظ خال من المعاظلة يسبق معناه لفظه , واستهلال أبي تمام المذكور بني بشكل يجعل الوصول إلى معناه متعباً والكشف عن فحواه مضنياً ويجعل مبناه صعباً غير مستساغ وطريقة الترتيب غير معهودة . فهل نشك في قدرته وفي شاعريته وفي تمكنه من اللغة وأساليب البيان , وهو من هو ؟
والحق أن بداية المطلع باستفهام أمر شائع في مطالع الشعر العربي القديم , وظاهرة مطردة كقول زهير بن أبي سلمى في مطلع معلقته :
أمن أم أوفى دمنة لم تكلّم *** بحومانة الدراج فالمتثلم
وقول عنترة بن شداد :
هل غادر الشعراء من متردم *** أم هل عرفت الدار بعد توهم ؟
وقول المسيب بن علس :
أرحلت من سلمى بغير متاع *** قبل العطاس ورعتها بوادع ؟
فالاستفهام في مطلع أبي تمام استفهام غير حقيقي خرج للتقرير وهو يكشف عن قناعة ثابتة ويقين لا يتزعزع في أن من يعذلنه في شعره مثلهن مثل صويحبات يوسف بن يعقوب يمكرن به ويوصلنه إلى ما لا تحمد عقباه .
أما ابتدأوه بالضمير { هن } كناية عن النساء ولم يسبق لهن ذكر من قبل , واعتبار ذلك عيباً أخل بالمطلع وشوهه فالأمر أيضاً يحتاج إلى بعض التروي والدراسة المتأنية .
إن الضمير يقوم مقام الاسم الظاهر والغرض من الإتيان به هو الاختصار . والضمير المنفصل كما هو الشأن في { هن } يصح الابتداء به , وإن ضمير الغائب لابد له من مرجع يرجع إليه وإلا كان غامضاً قاصراً وهو ما اتهم به أبو تمام .
فأبو تمام لم يخرج عن الأساليب العربية في مطلعه لأن سياق الكلام يعين الضمير الذي وظفه ويوضحه وهو لا يحتاج إلى مذكور قبله لفظاً أو معنى لكي تفهم دلالته .
قال تعالى : ( واستوت على الجودي ) فالضمير يعود إلى غير مذكور لفظاً ولا معنى ولكن سياق الكلام يعينه ويضحه وهو العود إلى سفينة نوح المعلومة .
ومن هنا فأبو تمام لم يوظف الضمير على أساس انه كناية عن النساء ولم يجر لهن ذكر قبل وإنما وظفه لأن السياق يوضح المعنى ويجعل الضمير دالاً على النساء وإن لم يجر لهن ذكر , ويكون إيجازه مقبولاً وجارياً على سنن العربية .
وأما نقدهم الذي وجهوه إلى { عوادي } على أنها ليست قائمة بذاتها لأنها بمعنى صوارف , فإذا قلنا : صوارف يوسف فإن الكلام غير تام لأننا نحتاج إلى معرفة صوارفه عن أي شيء ؟ فقوله : { عوادي يوسف } غامض وغير تام .
والصواب أن الكلمة لا تعني صوارف كما وهم النقاد وإنما تعني المصائب والنوائب , فالنساء اللائي كدن ليوسف ومكرن به حتى أصابه ما أصابه من شر هنّ في الحقيقة مصائب حلّت بيوسف – عليه السلام – وإضافة كلمة { عوادي } إلى يوسف جاء للتعريف بنوعية المصائب وتحديدها وعزلها عن بقية المصائب ونسبتها إلى شكل معين يرتبط بهذه الشخصية
واعتبار تنوين { يوسف } خطأ فهو تشدد من الناقد ومغالاة منه لأن الأصل في الأسماء الصرف وكل ما فعله الشاعر هو انه أعاد الاسم إلى أصله وذلك ليس بعيب .
أما الشطر الثاني من المطلع فهو عويص لا يفصح عن معناه إلا بإعمال الفكر وكدّ الذهن , ويروى أن أبا سعيد المكفوف لما رفعت إليه هذه القصيدة اغتاظ وقال للكاتب : ألقها , أخزى الله حبيباً يمدح مثل هذا الملك الذي فاق أهل زمانه كمالاً بقصيدته يرحل بها من العراق إلى خراسان فيكون بيت نصفه مخزوم والنصف الثاني عويص .
وقد ابتدأه بمصدر نائب عن فعله والتقدير { اعزم } وهو أسلوب إنشائي طلبي يفيد النصح والحث على العزم الصادق والإرادة الصلبة .
وهناك تشابه في الأسلوب بين بداية الشطر الأول وبداية الشطر الثاني وتشابه في الإيجاز الذي يدفع المتلقي إلى إعادة بناء العبارة للوصول إلى الدلالة .
وقد أنهى هذا الشطر بجملة تأخر فيها الفاعل عن المفعول به لاتصاله بضمير يعود على المفعول به لذا وجب تقديمه .
إن من أهم خصائص هذا المطلع :
*= الإيجاز وفيه يعتمد الشاعر على ثقافة المتلقي وجهده للوصول إلى الدلالة . ويظهر هذا الإيجاز في شكل إحالة تاريخية تثري النص وتكثفه وظفها أبو تمام في مطلعه توظيفاً جيداً فأصبح عبارة عن فسيفساء من نصوص وتعالق نص قديم مع نص محدث بتقنية من صاحبه وقد أطلق المحدثون على هذه الإحالة اسم التناص
إن الشطر الأول من المطلع يحيلنا ببراعة إلى نص تاريخي ديني هو جزء من قصة النبي يوسف –عليه السلام – وهو مكر النساء به وأثر ذلك المكر وما سببه له من مصائب , ولعل هذا النص استطاع أن يظهر التلاحم بين حاضر الشاعر المتمثل في النساء اللائي يعذلنه ويرى أنهن سيسببن له المتاعب ويقدنه إلى الهلاك وبين قصة تاريخية دينية كانت النساء فيها عامل إذلال ومصدر متاعب .
*= صعوبة الوصول إلى المعنى إلا بعد مشقة ومعاناة ومرد ذلك في تقديري يعود إلى كيفية تعامل الشاعر مع اللغة وطريقة تشكيلها حيث اعتمد على السياق في لفظة { أهن } والإحالة في { عوادي يوسف } والحذف في المصدر النائب عن فعله { فعزما } والتقديم والتأخير في قوله : { فقدماً أدرك السؤل طالبُه } والاعتماد على الأسلوب الإنشائي الطلبي في الشطر الأول في الاستفهام غير الحقيقي الذي خرج إلى معنى بلاغي يفهم من السياق , وفي بداية الشطر الثاني في المصدر النائب عن فعل الأمر الذي خرج من الحقيقة إلى معنى بلاغي آخر . هذا كله يجعل المطلع عسر الفهم لا يفصح عن معناه إلا بعد كد وعناء .
*= المطلع الثاني :
ومن المطالع التي انتقدت قوله في رثاء محمد بن حميد الطائي :
كذا فليجلّ الخطبُ وليفدح الأمرُ *** فليس لعين لم يفض ماؤها عُذرُ . 4/ 79
وعيب منه هذا الاستهلال لأن المعنى يتطلب أن يكون المرثي موضوعاً أمامه ليقول : { كذا فليجل الخطب } وهو أمر مستهجن وقبيح ووصف بعضهم هذا بالبشاعة .
يقول المرزباني : ( وكانت ابتداءات شعره بشعة منها قوله : كذا فليجل الخطب …. قال : وكان بعضهم يقول : يلزم أبا تمام أن يأتي بمحمد بن حميد مقتولاً ثم يقول : كذا فليجل … )
وهو استهلال ثقيل بسبب طريقة تعامل الشاعر مع اللغة وتشكيله لها فهي لغة صحيحة سليمة ولكن ليس فيها سلاسة وتدفق ينقصها الطبع والرشاقة فالابتداء باسم الإشارة الذي دخلت عليه كاف التشبيه وإرادفه بفعل مضارع مثقل يجعل التركيب مصنوعاً غير جزل ثم عطف بالواو { وليفدح الأمر } فجمع ثقلاً إلى ثقل وكان كلامه أشبه بالنثر .
يقول صاحب الموشح : ( لم يكن أبو تمام شاعراً إنما كان خطيباً وشعره بالكلام أشبه منه بالشعر ) إن أهم ما في الشعر العذوبة والرشاقة والانسجام والصورة وبراعة الإيحاء .
والإيحاء الذي نكتشفه في هذا المطلع إيحاء سلبي لم يراع الموقف ومقتضى الحال وبخاصة في ابتدائه بـ { كذا } . وقالوا : لا يقال : { كذا فليكن } إلا في السرور . وهو استعملها في الحزن . وجاء في الموشح إن بعضهم قال : { رأيت أبا تمام في النوم فقلت : لم ابتدأت بقولك : كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر . فقال لي : ترك الناس بيتاً قبل هذا , إنما قلت:
حرام لعين أن يجف لها شفر *** وان تطعم التغميض ما أمتع الدهر . 4/ 79
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر…
*= المطلع الثالث :
قدك اتئب أربيت في الغلواء *** كم تعذلون وأنتم سجرائي ؟ 1/ 20
يخاطب أبو تمام صديقاً حقيقياً أو موهوماً ويلتمس منه ان يكف عن عذله وعتابه في الحب لأنه اسرف في ذلك وتجاوز الحد وبخاصة أن هذا الذي يعاتبه هو مثله في الحب يكابد مثل ما يكابد ويعاني ما يعاني فلم يلومه ويسرف ؟
وهو مطلع متكلف ثقيل على النفس ليس لأن ألفاظه غير صحيحة وغير فصيحة أو أن نظمها لم يجر على سنن العربية بل لأن اختيارها وطريقة تشكيلها وجمعها وإسنادها إلى بعضها تسبب عسراً في استقبالها وفي الوصول إلى معناها , فأبو تمام يتحرى الغريب ويبدي في أسلوبه وهو الحضري ابن المدنية والترف والنعمة , فالأولى أن يكون تعبيره عن بيئته الرقيقة وعيشته المترفة .
ولعل جمع أبي تمام للألفاظ { قدك – اتئب – أربيت في الغلواء } في مصراع واحد جعله فاتحة القصيدة وغرتها هو الذي تسبب في نفور مؤقت يحس به المتلقي وعدم استساغه النص وشعور بالقطيعة بينهما ولذا وصف بعض الأقدمين هذا المطلع بالبشاعة .
ومن أهم ما يميز أسلوب هذا المطلع هو طريقة التفات الشاعر من المخاطب المفرد في المصراع الأول إلى جماعة المخاطبين في المصراع الثاني والالتفات ظاهرة فنية بديعية وظفها أبو تمام تطرية لنشاط السامع وإيقاظاً للإصغاء إليه , وبه يتحقق الرد على كل من يلومه ويعذله في حبه فلا يبقى الرد مقتصراً على مخاطب واحد بل هو عام وشامل وحازم .
كما يتميز أسلوب هذا المطلع بأنه إنشائي في مصراعه الأول والغرض البلاغي منه هو التماس مبطن باللوم والعتاب قدمه إلى مخاطبه الذي أسرف في تعنيفه وغالى في عتابه على حبه . وهو إنشائي أيضاً في مصراعه الثاني والغرض البلاغي منه التعجب من حال هؤلاء الذين يعذلونه في حبه وهم مثله .
*= المطالع المستحسنة : يقول في وصف الطبيعة :
رقت حواشي الدهر فهي تمرمر *** وغدا الثرى في حليه يتكسر . 2/ 191
وقوله في مدح داوود بن محمد :
غنّى فشاقك طائر غرّيد *** لمّا ترّنم والغصون تميد . 2/ 148
وقوله يمدح محمد بن الهيثم :
ديمة سمحة القياد سكوب *** مستغيث بها الثرى المكروبُ . 1/ 291
وقوله في مدح أبي دلف القاسم بن عيسى :
قد شرّد الصبح هذا الليل عن أفقه *** وسوّغ الدهر ما قد كان من شرقه . 2/ 402
وأحسن ما في هذه الابتداءات جدة موضوعها وصف الطبيعة وهي ابتداءات تنتمي لمقدمات كاملة خصصت لهذا الغرض وهو بذلك يضيف لوناً جديداً من المقدمات يثري به مقدمات الشعر العربي المعروفة كالمقدمة الطللية والغزلية والطيفية والخمرية والحربية .
وفي هذه المقدمة الجديدة يربط الشاعر بإحكام وبراعة بين بهجة الطبيعة وإشراقها وغناها وفوائدها وبين خصال ممدوحه ويقابل بينهما .
ولعل كلمتي الدهر والليل من الكلمات المشحونة بالهموم والمعاناة والآلام والقسوة في الشعر العربي نجد أبا تمام في مطالعه يذللهما ويضفي عليهما نوعاً من اللين والوداعة فالدهر رقت حواشيه , ولم يعد ذلك العاتي الغاشم الذي لا يقهر ولا يبقي على أي شيء .
والليل صار هشاً يندحر أمام الصبح بسهولة ويسر فلم يعد ظلامه مخيفاً ولا زمنه طويلاً ولا كلكله ثقيلاً .
*= ومن مطالعه التي أبدع فيها وحاز السبق والتفرد استهلاله في قصيدته الرائعة في مدح المعتصم :
السيف أصدق أنباء من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب . 1/ 40
يمتاز هذا المطلع بالفخامة والجزالة وإحكام السبك وجودة التعبير ورقة الألفاظ وروعة الاستهلال ووضوح دلالة الألفاظ التي تحمل أكثر من معانيها فكل لفظ ليس مستقلاً في حد ذاته , وإنما جاء به ما بينه وبين غيره من تناسب وتجانس وتضاد فالسيف استعمل هنا رمزاً إلى القوة والحرب , والكتب وردت رمزاً إلى التنجيم , والحد الثاني ومعناه الفصل بين الشيئين أتت به مجانسته للحد الأول حد السيف , والحد الأول إنما أتى به جناس التصحيف مع الجد ولفظ الجد هنا استدعى اللفظ المضاد وهو اللعب .
والألفاظ هنا يستدعي بعضها بعضاً في تناسق ظاهر وصنعة بينة والأمر لا يتوقف على الشكل لبنية الألفاظ وترتيبها وعلاقاتها بينها بل ينعكس على طريقة تفكير الشاعر , وهي طريقة جدلية معقدة تتمثل في عرض الفكرة ونقيضها ومن طرحهما تبرز الفكرة المنقحة ففكرة القوة والحرب التي يرمز لها السيف تناقضها فكرة التنجيم التي يرمز لها الكتب ومن صراع الفكرتين يبرز اليقين وتتأكد الحقيقة ويدرك الناس خسران الثانية ونجاح الأولى .
ومن تقابل فكرتي الجد واللعب وتضادهما تبرز فكرة ثالثة تقضي على التردد بينهما وتحقق الفصل وهي فكرة القوة الفاصلة هذا التوليد للمعاني عن طريق صراع الأفكار وتضادها فالتضاد هنا أساس الأفكار وهذا مذهب شعري مبتكر له علاقة كبيرة بالفلسفة .
اقرأ وتذوق :
السيف أصدق أنباء من الكتب *** في حدهالحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في *** متونهن جلاء الشك والريب
والعلم في شهب الأرماح لامعة *** بينالخمسين لا في السبعة الشهب
= هذه القصيدة أمّ ملاحمه وهي قصيدة تمثل نقلة كبرى في الشعر العربي وروائعه , وأول ما يطالعنافي هذه الأبيات اعتماد الشاعر اعتماداً كلياً علىالجملة الاسمية , فقد خلت المقدمة الرائعة من أيفعل مع أن جو المعركة والقتال من شأنه أن يطبعهابحركة طارئة عرضية تتجلى في الأفعال يتضح ذلكفي مطلع قصيدة المتنبي في معركة الحدث , يقول :
على قدر اهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي علىقدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها *** وتصغر فيعين العظيم العظائم
فالرؤية الشعرية عند المتنبي تنبع من حركية المعركةواضطراب الجيش فيها ولذلك تتوالى الأفعال بينماتستعلي الرؤية الشعرية عند أبي تمام على حركةالمعركة لتنصرف إلى ما تجليه المعركة من حقائقالأشياء وثبوتها .
وقلة الأفعال ظاهرة أصيلة مميزة لشعر أبي تمامالذي يعتمد اعتماداً جوهرياً على الاسمية فيتركيبه , بينما يرتفع منسوب الأسماء ذلك ان لهابعداً عميقاً عنده فهي لتضمنها الحقائق تكتسبتأثيراً متسلطاً على لغة الشعر . فالصدق كامن فيحد السيف , وجلاء الشك كامن في الصفائح , والعلم كامن في الرماح .
وحينما تظهر الأفعال في هذه القصيدة فإنها لاتلبث أن تتقوقع في صيغة الماضي الذي ربماسبقته حروف النفي فتفرغه من أي دلالة علىالحدث , وأما المضارع فغالباً ما يجيء مسبوقاًبحرف النفي لم فلا تفضي به إلى المضي وإنماتلغيه أصلاً , فالأسنة لم تكهم والرامي لم يصبوالمجيب بغير السيف لم يجب وعمورية لم تشبوالشمس لم تطلع ولم تغب . وتحف بالجملة الفعليةأدوات التشكيك حتى تنزل الحدث منزلة الاحتمالالمتعلق بآخر فتكثر أمثال صيغ : لو رجوا , لو يعلمالكفر , لو لم يقد , لو رمى …
وأعود وأقول هذه المقدمة الحربية ليست مدحاً للمعتصم وليست حديثاً عن فتح عمورية لأنها لو كانت كذلك لوجدنا أن القصيدة قد بدأت مباشرة بالغرض الأساسي ولكنها كانت حديثاً عن واقعة وأحداث وقعت قبل فتح عمورية جعل منها أبو تمام مقدمة جديدة مرتبطة بالمضمون وهي أن المنجمين قد حذروا المعتصم من فتح عمورية في هذا الوقت إذ إنها لا تفتح إلا في وقت معين وهو وقت نضج التين والعنب كما زعموا ولكن المعتصم لم يسمع لهم فجهز الجيوش وعزم على الفتح فنصره الله وكذب المنجمون . إن أبا تمام بذكائه الحاد وقدرته الفنية وتوقد ذهنه اختار هذا الحدث ليمهد به لمدح المعتصم والحديث عن فتح عمورية
*= ومن مطالعه البهية والفخمة استهلاله في قصيدة يمدح بها المعتصم بقوله :
الحق أبلج والسيوف عوار *** فحذار من أسد العرين حذار . 2/ 198
الجملتان الاسميتان في المصراع الأول توحيان بالثبات والمعرفة اليقينية والجملة الثانية منهما كناية عن التأهب للحرب والاستعداد للذود عن الحق ورد المنحرفين عنه , فالحق واضح مشرق وكل من ينحرف عنه ويضل يجابه بقوة لا قبل له بها , والجمع بين الحق والقوة يحقق العدالة والأمن والاستقرار , وهما في يد أسد العرين وهو ممدوحه ووجود القوة بجانب الحق تجعله مهاباً محترماً مصوناً .
وفي المصراع الثاني يفصح الشاعر عن تحذير شديد من غضبة ممدوحه يوجهه إلى كل فكر أو يفكر في التمرد عليه . وجاء تكرار اسم الفعل حذار ليبعث الخوف والهلع في نفوس المتمردين وخاصة إذا جمعنا هذا التحذير بالسيوف المجردة استعداداً للفتك والتي هي في يد شجاع باسل رهيب . وجاءت الاستعارة التصريحية في قوله : { أسد العرين } لتهويل الموقف ومساندة فكرة التحذير وبعث الرعب في نفوس المتمردين .
*= ومن المطالع الطللية التي جمعت بين عبق القديم وجلاله وجمال الحاضر وبهائه وأسلوب أبي تمام في التضاد وإحكامه وصراع الفكر ونظامه قوله في استهلال قصيدة يمدح بها أبا سعيد الثغري :
من سجايا الطلول ألاّ تجيبا *** فصوابٌ من مقلة أن تصوبا
فاسألنها واجعل بكاها جوابا *** تجد الشوق سائلا ومجيبا . 1/ 157
في البيت الأول من المطلع يطرح فكرتين قديمتين ترددتا كثيرا في المقدمات الطللية تتمثل الفكرة الأولى في أن الطلول لا تجيب سائلها قال لبيد بن ربيعة :
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا *** صما خوالد ما يبين كلامها
وقال زهير بن أبي سلمى :
أمن أم أوفى دمنة لم تكلّم *** بحومانة الدراج فالمتلثم ؟
وهي فكرة وقف عندها النقاد ولم يأخذوها بظاهر معناها بل تعمقوها وأولوها وربطوها بالحياة والموت وقضايا الوجود ومصير الإنسان .
وتتمثل الفكرة الثانية في البكاء على الأطلال وهي فكرة اشتهرت في المقدمات الطللية القديمة حيث لا نجد ذكراً للطلل إلا والبكاء يصحبه بل إنه يشكل عنصراً أساسياً في بناء المقدمة الطللية . قال بشر بن أبي خازم :
تغيرت المنازل بالكثيب *** وغير آيهانسج الجنوب
وقفت بها أسائلها ودمعي *** على الخدين في مثل الغروب
وهذه الفكرة أيضاً لم يأخذها النقاد بظاهر معناها بل تعمقوها وربطوها بالفناء والمصير الإنساني والوجود .
وأبو تمام في بيته الأول من المطلع يقابل بين الفكرتين ويجعلهما متكاملتين تتواجد الثانية بوجود الأولى فالفكرة الأولى سبب وعلة في وجود الفكرة الثانية فإذا كان من طبع الأطلال الدارسة ألا تتكلم وألا تشفي غليل سائلها فحق للواقف عليها المتعلق بها أن يسكب الدمع مدرارا .
وفي البيت الثاني نجد الشاعر يؤكد معنى البيت الأول لكن بتشكيل لغوي يتلاعب فيه بالألفاظ ويعتمد على التضاد لإبراز المعنى وهو شدة الشوق وألم الوجد الذي أضربه وجعله يقف ويبكي .
إن أبا تمام لم يكتف في مطلعه ببيت واحد بل دعمه ببيت ثان يشد من أزره ويحقق معناه وهو أمر كان القدماء لا يقبلونه لأنهم يرون أن المطلع يجب أن يكون بيتاً وحيداً مستقلاً , لكن أبا تمام خرج على هذه السنة وأباح لنفسه أن يكون المطلع أكثر من بيت . ولنتأمل قوله في مقدمة أخرى يدعو فيها للوقوف على الأطلال :
ما في وقوفك ساعة من بأس *** نقضي ذمام الأربع الأدراس
فلعل عينك أن تعين بمائها *** والدمع منه خاذل ومُواس . 2/ 243
هنا دعوة للوقوف على الأطلال والبكاء عليها حيث لا يُسعد المشتاق إلا مشتاق مثله , أما من كان غير ذلك – وكنى عنه أبو تمام بأنه يبس المدامع – فهو لا يعين على البكاء , ومن هنا ينطلق لوصف حال تلك المنازل التي فارقها ورحل عنها …
*= وقال أحمد بدوي : ( كما قالوا : إن أحسن مرثية إسلامية ابتداء قول أبي تمام :
أصمّ بك الناعي وإن كان أسمعا *** وأصبح مغنى الجود بعدك بلقعا . 4/ 99
وهذا المطلع يبين في جلاء شدة وقع النبأ على النفوس والآذان حتى لقد أصابها الصمم بعد أن سمعته من فهم الناعي ولم لا يحزن الشاعر على فقده وقد مات الجود بموته .. ) انظر : أسس النقد الأدبي عند العرب ص : 298. وجعل الناس قول أبي تمام :
يا بُعد غاية دمع العين إن بعدوا *** هي الصبابة طول الدهر والسهد
قالوا : الرحيل غداً لا شك قلتُ لهم *** اليوم أيقنتُ أن اسم الحمام غدُ . 2/ 10
من جياد الابتداءات بجمال موسيقاه من ناحية , وجودة معناه من ناحية أخرى , إنها حرقة يحسها المفارق إزاء البين خاصة لحظة الوداع , والغالب على أبي تمام أنه فخم الابتداء له روعة وعليه أبهة .وكما عنى أبو تمام بمطالع قصائده وراعى أساليب التخلص فيها أحسن خواتمها يقول : 1/290
كتبتُ ولو قدرتُ جوىً وشوقاً *** إليك لكنتَ سطراً في كتابي . 1/ 290
ويقول :
عليها سلام الله أنى استقلت *** وأنى استقرت دارها واطمأنت . 3/ 301
*= أنواع الصورة :
حظيت الصورة الشعرية في شعر أبي تمام باهتمام عدد كبير من الدارسين الذين عنوا بدراسة الصورة الفنية في شعره سواء أكانت دراستها مستقلة أو ضمن غرض من أغراضه الشعرية واستطاع أبو تمام توظيف الصورة الفنية أيما تصوير فجاءت قصائده لوحات شعرية فنية رائعة أوجد فيها جميع مقومات الشعر الجيد عكس من خلالها المعنى المراد وذلك عن طريق صور حسية سواء أكانت بصرية او سمعية او ذوقية أو شمية او لمسية أو حركية أو صور ذهنية , وبالتالي يرتبط النمط الحسي للصورة الشعرية بالأثر النفسي الذي تحدثه في المتلقي والشاعر المبدع هو الذي تمتاز صوره بميزات خاصة وتتلون بتلون عاطفته وتكون معبرة عن خلجات إحساسه وانفعالاته .
وإذا نظرنا إلى ديوانه نجد أن الصورة الشعرية فيه قد شملت معظم الصور البديعة من ذلك :
*= الصورة الضوئية : يقول :
لم يشعروا حتى طلعتَ عليهم *** بدراً يشقُّ الظلمةَ الحِنديسا
ما في النجومِ سوى تَعِلَّةِ باطِلٍ *** قَدُمَتْ وأُسِّسَ إفْكُها تأسيساً
إنَّ الملوكَ همُ كواكبُنا التي *** تَخفَى وتطلُعُ أَسْعُداً ونُحُوسا . 2/ 266
والبدر والهلال يظهران معاً في قوله :
أمسى بك الإسلامُ بَدْراً بعدما *** مُحِقَتْ بَشَاشَتُه مُحَاقَ هِلالِ . 3/ 144
ويقول أبو تمام : له كِبرياءُ المُشْتَري وسعودُهُ *** وسَوْرَةُ بَهرامٍ وظَرْفُ عُطارِدِ
وقوله : وضياءُ الآمالِ أفسحُ في الطَّرْ *** ف وفي القلب من ضياءِ البلادِ . 1/ 360
وقوله : بيضاءُ تَسْري في الظلام فيكتسي *** نُوراً وتَسْرُبُ في الضياءِ فيُظلمُ . 3/ 213
*= الصورة المساحية وهو نمط من انماط الصورة البصرية ونعني بها تلك التي توحي بالامتداد المساحي المكاني فلا تقتصر على الإشارة إلى المحسوس في إطاره المكاني الضيق المحدود وإنما تتجاوزه ليصبح الموضوع الموصوف منسحباً مكانياً على مساحة كبيرة أو صغيرة يقول أبو تمام:
صَدَفتُ عنهُ فلم تَصْدِفْ مَوَدَّتُهُ *** عنّي وعاوَدَهُ ظنّي فلم يَخِبِ
كالغيث إنْ جِئتَهُ وافاكَ رَيِّقُهُ *** وإنْ تحمَّلْتَ عنهُ كان في الطّلبِ . 1/ 113
يتجاوز الممدوح حدوده المكانية، فيمتدّ وجوده متمثلاً بأثره وفعله على رقعة كبيرة من الأرض. إنه كالغيث لا يمكنك الهرب منه، فهو يلحقك إلى كل مكان. ونلاحظ هنا أن الممدوح هو الذي يلحق الشاعر، وفي هذا غاية الشعور بالاستعلاء والأنا. كما يمكننا أن نلاحظ التأليف الفكري للصورة، حيث يعرض الشاعر فكرته ثم يأتي بصورة حسية موضّحة لهذه الفكرة.
*= صورة المسافة :
ويمكننا أن نعدّ من الصور البصرية أيضاً تلك التي تقوم على قياس مسافة ممتدة في خطّ مستقيم. لهذا كانت صورتا الطول والعرض أبرز ما تجلّت فيه هذه الصورة.
يقول أبو تمام :
كُنْ طويلَ النّدى عريضاً فَقَدْ سا *** دَ ثنائي فيكَ الطويلُ العريضُ
إنّ الثناءَ يَسيرُ عَرْضاً في الوَرى *** وَمَحلُّهُ في الطولِ فوقَ الأَنجُمِ . 2/ 292, 3/ 254
فصورة العرض مستعملة للدلالة على الامتداد الأفقي، أما صورة الطول فإنّها توحي بالامتداد الشاقولي. هذا الامتداد الأخير قد يعبّر عنه الشاعر دون اللجوء إلى صورة الطول بلفظها. يقول أبو تمام :
بَلَوْناكَ أَمَّا كَعْبُ عِرْضِكَ في العُلا *** فَعَالٍ ولكنْ خَدُّ مالِكَ أَسْفَلُ . 3/ 73
فالشاعر يشير إلى الامتداد بصورة العلو والانخفاض. ولا يخفى علينا ما يتضمّنه التصوير في هذا البيت من تضاد فكريّ: فالكعب وهو أسفل الشيء عال، والخدّ وهو أعلاه منخفض، وبين الخدّ والكعب، والعلو والانخفاض، تضاد سافر.
*= الصورة السمعية :
وهي تلي البصرية من حيث القيمة الجمالية، وهما معاً يفضلان الحواس الأخرى من حيث القيمة العقلية والثقافية .
يحدثنا يوسف مراد عن قيمة حاسة السمع بالنسبة إلى الحواس الأخرى فيقول: “فللحواس التي تدرك عن بعد ميزة السبق والتوقّع والتبصّر، غير أنّ حاسة السمع أقلّها مادية وأقواها استخداماً للرموز والإشارات العقلية. وهل من رموز أكثر تحرراً من المادة وأشمل دلالة من الرموز اللغوية التي يصطنعها التعبير اللفظي؟”
لهذا السبب نجد عناية أبي تمام بهذا النمط التصويري. فحاسة السمع أقوى الحواس استخداماً للرموز والإشارات العقلية. لكن ما يلفت انتباهنا في الصورة السمعية عند أبي تمام إكثاره من استخدام الأصوات الخافتة الهامسة. ولعلّ ذلك أقرب إلى طبيعة الشاعر العقلية من جهة، وإلى رمزية الحاسة السمعية وعقلانيتها من جهة أخرى . يقول أبو تمام :
فالمَشْيُ هَمْسٌ والنداءُ إشارةٌ *** خَوْفَ انتقامِكَ والحديثُ سِرَارُ
ومِنَ الرزيَّةِ أنّ شُكْري صامِتٌ *** عمَّا فَعَلْتَ وأنّ بِرَّكَ ناطقُ . 2/ 171, 2/ 454
نلاحظ في هذين البيتين تلك التقسيمات المنطقية في البيت الأول، وأسلوب التضاد في البيت الثاني، وهما من أساليب التصوير الفكري. كما نلاحظ أنّ الصور الصوتية المهموسة عند أبي تمام كلها ذات دلالات انفعالية، وهل يصلح غير الهمس للتعبير الوجداني عن التجربة؟!
وربما عمد أبو تمام إلى الأصوات الجهيرة، مثال ذلك قوله :
كأنّ صوتَ النعامِ فيهِ *** إذا دَعَا صَوْتُ مُستَغيثِ . 1/ 324
صَهْصَلِقٌ في الصَّهيلِ تَحْسِبُه *** أُشْرِجَ حُلقومُه على جَرَسِ . 2/ 239
والمقصود من الجهر، كما هو واضح، المبالغة في التصوير. وفي ذلك دلالة على معاني القوة، على خلاف ما وجدناه في الصور المهموسة من انفعال وليونة.
الصورة الشَّميَّة :
ونضعها في الدرجة الثالثة من سلّم الحواسّ بعد البصرية والسمعية، وذلك من حيث المقدرة على الانفعال عن بعد. والشم يتفق مع السمع في إمكانية الانفعال بالموضوع في غيبة الجسم الفاعل. وكأنّ أبا تمام يشير إلى هذه الناحية بقوله :
وفارَةُ المِسْكِ لا يُخفي تَضوُّعَها *** طولُ الحجابِ ولا يُزْري بِفائِحِها . 1/ 353
فالصورة الشميّة مستعصية على الحجب، إنها صورة منتشرة، بإمكانها التأثير بفعلها وإن كان جسمها غائباً أو محجوباً. لهذا السبب أمكننا اعتبار الشمّ “من الحواس التي تمكّن الإنسان من أن يستبدل بالأشياء ما يشير إليها من أمارات وعلامات” . وفي ذلك الانتقال من استخدام الأشياء إلى استخدام رموزها رقيّ نفسي، يقوى ويزداد تحديداً ويتسع مدى بفضل البصر والسمع ؟
من هنا كانت الدلالة النفسية لحاسة الشم تكمن في أنه من ثناياها “تنبثق تباشير السلوك التكييفيالتوافقي، سلوك التوقع والاستعداد والرويّة” هذا، والتنبيه الشمي تنبيه كيميائي، أمّا الكيفيات الشميّة فكثيرة لا يمكن حصرها
ويرى يوسف مراد أنّ الشم في الحيوان أصدق حسّاً منه في الإنسان، لكنه قابل للتهذيب. ويرجع الكثير من ألوان الترف إلى إرهاف هذه الحاسة، وذلك لما يصحب تنشيطها من الشحنات الوجدانية.
وفي العصر العباسي، حيث انتشر الترف وازدهرت الحضارة، كان لابد أن تتهذّب هذه الحاسة، فتُستخدَم وسيلة للتعبير عن حياة حضرية مترفة راقية. يقول أبو تمام :
إنْ كان يَأْرَجُ ذِكْرٌ من بَرَاعتهِ *** فإنّ ذِكرَكَ في الآفاقِ قَدْ أَرِجا . 1/ 332
لو فاحَ عُودٌ في النَّدِيِّ وذِكْرُهُ *** لَعَلا بطيبِ الذِّكرِ طيبَ العُودِ . 2/ 144
وعناية أبي تمام موجهة إلى الروائح الذكيّة على الخصوص. وفي هذا أبلغ دلالة على الترف الاجتماعي والرقي الحضاري الذي عاشه أبو تمام، والذي ترك بصماته فيه.
*= الصورة اللمسيَّة :
وتحتل المرتبة الرابعة في قائمة صور الحواس، وهي تضم أربعة إحساسات رئيسة: أولاً الإحساس بالتماسّ والضغط، ثانياً الإحساس بالألم، ثالثاً الإحساس بالبرودة، رابعاً الإحساس بالسخونة
أما صور التماسّ اللمسية فيمكننا أن نعدّ منها الإحساس بالملاسة والخشونة، والصلابة والليونة. وأبو تمام تكثر عنده صور الملاسة، كما في قوله :
شَذَّبَ همّي بهِ صقيلٌ مِن *** الفِتيانِ أَقطارُ عِرْضِهِ مُلْسُ . 2/ 229
وتدخل صورة النعومة في إطار الإحساس بالملاسة. يقول أبو تمام :
ناعِماتُ الأطْرافِ لَوْ أنَّها *** تُلْبَسُ أَغنَتْ عن المُلاءِ الرِّقاقِ . 2/ 450
وتأتي صورة الملاسة عنده غالباً في علاقة تضاد بنقيضها. يقول :
قد لانَ أكثرُ ما تُريدُ وبعضُهُ *** خَشِنٌ وإنّي بالنجاحِ لواثِقُ . 2/ 452
الليونة والخشونة معاً يرسمان ملامح الصورة التي أرادها الشاعر. وربما اجتمعت الليونة مع الصلابة في رسمها، أو الملاسة مع الخشونة المتمثلة بصورة الجرب :
وما زِلتُما من نَبْعهِ إنْ عُجِمْتُما *** لِضَيْمٍ، وعند الجودِ من خَيْزُرانهِ . 3/ 296
رَددتَ أديمَ الغَزْوِ أملسَ بعدَما *** غدا ولياليهِ وأيّامُهُ جُرْبُ . 1/ 191
وأبو تمام شديد العناية بإحساس الليونة والنعومة. فإذا بحثنا عن جذور هذه العناية في نفسه ودلالاتها الرمزية، أمكننا أن نجد فيها صورة لحسّ حضري مترف، ملأ على الشاعر كيانه وشعوره، فانطلق لا شعوره يعبّر عن هذا الامتلاء بصورة حضرية.
*= الصورة الذوقية :
ونضعها في المرتبة الخامسة من قائمة الصور الحسية. يقول حامد عبد القادر: ( يظهر من النتائج التي وصل إليها الباحثون في هذا الصدد أن النجاح يبلغ أشدّه بوجه عام في إثارة الصور البصرية والحركية ، ويلي هذا النجاح في إثارة الصور السمعية إذ يصل إلى نحو 46.8% أي إلى أقل من المتوسط بقليل. ويقلّ عن هذا النجاح في إثارة الصور الشميّة إذ يبلغ نحو 39.3%، ثم في إثارة الصور اللمسية إذ يبلغ نحو 35.5%، ثم في إثارة الألم والتغيّرات الباطنية، إذ يبلغ نحو 30.7% ، وأخيراً في إثارة الصور الذوقية أو صور الطعوم، إذ تبلغ نسبة النجاح في ذلك نحو 14.2%”
وهي ذات تنبيه كيميائي، مثلها في ذلك مثل الصورة الشميّة، لكنّها تختلف عنها من حيث طبيعة الاتصال بالموضوع المحسوس. فعلى حين ينفعل الشمّ عن بعد، نجد أن حاسة الذوق لا تنفعل إلاّ إذا وضع الجسم على اللسان، فهي إذاً، حاسة قائمة على التماسّ المباشر. وتتفق الحاستان من حيث “أنهما قابلتان للتهذيب، وكثير من ألوان الترف يرجع إلى إرهاف هاتين الحاستين، وذلك لما يصحب تنشيطهما من الشحنات الوجدانية )
والكيفيات الذوقية محدودة، وهي: الحامض والمالح والحلو والمرّ . أمّا حسّ الحلاوة فيبدو عند أبي تمام في قوله :
على البَلَدِ الحبيبِ إِليَّ غَوْراً *** ونَجْداً والفتى الحُلْوِ المَذَاقِ . 2/ 425
وحلاوة المذاق هذه غالباً ما تتّخذ من صورة العسل وسيلة إليها :
صَمّاءُ سَمُّ العِدَى في جَنْبِها ضَرَبٌ *** وشُرْبُ كاسِ الرّدى في فَمِّها شُهُدُ . 4/ 76
بل إنّ أخلاقِ الممدوح أحلى من الشهد، على سبيل المبالغة البيانية :
وعِذابٌ لَوَ انّها أُطعِمَتْ زا *** دَتْ على الشَّهْدِ بَسْطةً في المذاقِ
ويلحق بحس الحلاوة عند أبي تمام، الحس بالعذوبة، وهو مقترن بالماء ممّا يوحي بمكانة هذه ورمزيتها الإشراقية عند الشاعر:
عَذُبَ اسمُه بِفَمي فَظَلَّ كأَنَّهُ *** لِلرّاحِ بالماءِ القَراحِ مُضَاهِ
*= الصورة المتراسلة :
وهي إحدى أهم الوسائل التي يلجأ إليها الرمزيون سعياً لتوفير الصفات الإيحائية لصورهم. ومن هذه الوسائل “تراسل الحواس ، أي وصف مدركات كل حاسة من الحواس بصفات مدركات الحاسة الأخرى، فتعطي المسموعات ألواناً، وتصير المشمومات أنغاماً، وتصبح المرئيات عاطرة… والألوان والأصوات والعطور تنبعث من مجال وجداني واحد. فنقل صفات بعضها إلى بعض يساعد على نقل الأثر النفسي كما هو قريب مما هو، وبذا تكمل أداة التعبير بنفوذها إلى نقل الأحاسيس الدقيقة . ويمكننا أن نفرّق في الصور المتجاوبة بين نمطين :
نمط تجميعي مؤلَّف من اجتماع عدة انطباعات حسية، ونمط تحويلي قائم على تحويل كيفية حسية إلى أخرى .
من أمثلة النمط التجميعي ما نجده عند أبي تمام في قوله يصف شعره :
أَلَـذَّ من السَّلوى وأطيبَ نفحةً *** مِنَ المِسْكِ مفتوقاً وأيسرَ مَحْمَلا . 3/ 109
يجمع أبو تمام في هذا البيت بين عدة انطباعات حسية : الانطباع الذوقي ( السلوى) والشمّي (المسك )، واللمسي ( المحمل). وهي كلّها تخدم غاية واحدة، بيان جمال هذا الشعر، حتى إنه فاق هذه المحسوسات على جمالها وأثرها في نفس الشاعر. والغاية من هذا التفضيل انفعالية، وقد جسد الشاعر هذا الشعور عن طريق جمعه بين تلك الانطباعات الحسية. وإن عودة إلى سياق الأبيات، ونظرة إلى موقع الشاهد منه، تضعنا على فنية هذا التجاوب الذي رسمه الشاعر لنا. فالصورة هنا تحمل من مضمون العمل وفكرته ما تحمله باقي أنماط الصور المستخدمة، وهي كلّها ذات دلالة واحدة ووظيفة واحدة: بيان شدة جمال شعره. ولعله من المفيد هنا أن نشير إلى أنّ جميع الصور المستخدمة في سياق الموضوع هي صور متجاوبة، تحويلية تارة وتجميعية تارة أخرى :
و والله لا أنفكّ أهدي شوارداً *** إليكَ يُحمَّلْنَ الثَّناءَ المُنَخَّلا
تخالُ به بُرداً عليكَ مُحَبَّراً *** وتحسَبُهُ عِقداً عليكَ مُفَصَّلا
ألذَّ مِنَ السّلوى وأطيبَ نفحةً *** من المسكِ مفتوقاً وأيسر محملا
أخفَّ على قلبٍ وأثقلَ قيمةً *** وأقصرَ في سمعِ الجليسِ وأطوَلا . 3/ 109
أما التحويل فمن المسموع إلى المبصَر لقد غدا شعره بُرداً وعقداً. وفي هذا التحويل مزيد من الإيضاح، فالانتقال من المسموع إلى المبصَر الظاهر الواضح. وأما التجميع فيظهر لنا في البيت الأخير حيث يجمع بين الانطباع اللمسي الوزني مسنداً إلى المجرّد، وبين الانطباع السمعي الزمني . وفي ذاك التحويل وهذا التجميع إيحاء انفعاليّ تعجز عنه الصور الحسية المتماثلة.
ويبدو التجميع أوضح عند أبي تمام في قوله يتحدث عن ثلاثة من ممدوحيه :
بثلاثةٍ كثلاثةِ الراحِ استوى *** لكَ لونُها ومذاقُها وشميمُها . 3/ 274
لكنه تجميع شكلي، لا يعدو كونه اجتماع ثلاثة انطباعات حسية معاً، لكلّ واحد منها استقلاله الخاص، وإن كانت معاً ذات إيحاء انفعالي. وكأنّ أبا تمام قد أدرك هذا القصور الذي تقوم عليه صوره المتقدمة، فعمد في بعض صوره إلى ما يمكننا تسميته بتزامن الحواس، حيث تكون الأطراف المجتمعة متزامنة حسيّاً. يقول :
فكأنّما هِيَ في السّماعِ جَنَادلٌ *** وكأنّما هِيَ في العيونِ كواكبُ . 1/ 174
في لحظة انسجام كوني بدت لأبي تمام قصائده جنادل في السماع وكواكب في العيون، وهكذا يتم التداخل بين الانطباعين والاتحاد بينهما. وبهذا تبلغ براعة التجميع عند أبي تمام مداها، فيحطّم حدودها الشكلية ليبلغ بها أفق التعبير الانفعالي.
ومهما بلغت القيمة الجمالية للصور المتجاوبة التجميعية تبق الصور المحوّلة أشدّ إيحاء منها. أما أبو تمام فبارع في التقاط الشبه بين المدركات الحسية، برغم اختلاف الحاسة المدرِكة. ولا عجب، وهو صاحب النظرة الكلية والرؤية الكونية الشاملة للوجود.
وللتحويل عند أبي تمام مظاهر متعددة، فهو تارة تحويل بصري – سمعي :
بِغُرٍّ يراها مَن يراها بِسَمْعِهِ *** فيَدنو إليها ذو الحِجى وهْوَ شاسِعُ
يَوَدُّ وِداداً أنَّ أعضاءَ جِسمِهِ *** إذا أُنشِدَتْ شَوْقاً إليها مَسامِعُ . 4/ 590
وتارة أخرى تحويل سمعي- بصري:
أحاديثُها دُرٌّ ودُرٌّ كلامُها *** ولم أَرَ دُرّاً قبلَه يَنظِمُ الدُّرّا . 4/ 207
أو سمعي- ذوقي :
تُعطيكَ مَنْطِقَها فتَعلمُ أنّه *** لجنى عذوبتِه يَمُرُّ بثغرِها . 4/ 212
أو ذوقي – شمّي :
خُلُقٌ كالمُدامِ أو كرضابِ *** المسكِ أَوْ كالعَبير أو كالمَلابِ . 4/ 45
يبدو التحويل في هذا البيت في مستويين : المستوى الأول من المجرّد إلى المحسوس، والمستوى الثاني تحويل من الانطباع الذوقي (مدام، رضاب المسك) إلى الانطباع الشمّي (رضاب- المسك، العبير، الملاب). هذا التحويل تمّ للشاعر تركيبه بوساطة الأداة ( أو)، وبمساواتها بين الانطباعين . وربما كان التحويل لمسياً – بصرياً :
صافي الأَديمِ كأنّما ألبستَهُ *** من سندسٍ بُرداً ومن إستبرَقِ
إمليسُه إمليدُه لو عُلِّقتْ *** في صَهوتَيْهِ العينُ لم تتعلَّقِ . 2/ 415
أراد الشاعر تصوير ملاسة الفرس، فأفاد من الحاسة البصرية للتعبير عن هذا الحس اللمسي، فجعل العين تزحل من فوق صهوته. وفي هذه الصورة طرافة من جهة، وإشراق انفعالي من جهة ثانية. وقد يكون التحويل سمعياً- لمسياً :
مِمَّن إذا ما الشِّعرُ صافحَ سمعَه *** يوماً رأيتَ ضميرَهُ يَتَبَسَّمُ . 3/ 217
فالشعر وهو مادة سمعية يصافح السمع، والمصافحة فعل لمسي محسوس مادياً. ونلاحظ في الشطر الثاني تحويلاً من الفكر المجرّد إلى المحسوس البصريّ.
= تراسل الأساليب :
ويعني ذلك تناوب الأساليب في موقعها من الكلام أي تبادلها الوظيفة المنوطة بها في التعبير وهذا التراسل والتناوب لا يقع سوى في السياق الأدبي وفي الأساليب الانزياحية , ومن ذلك توظيف أحد عناصر أسلوب التمثيل في أسلوب التشبيه مثلاً : كإيراد المتشابهات بلفظ المتماثلات في قول أبي تمام :
دمنٌ طالما التقت أدمع المز *** ن عليها وأدمع العشاق . 2/ 447
فأبو تمام أورد المتشابه بلفظ المتماثل قاصداً بذلك التشبيه بين الأدمع وقطرات المطر , فاستعمل من أجل أداء هذا المعنى التشبيهي لفظاً هو أخلق بالاستعمال في موطن التمثيل
*= التحويل الحسي :
ولا تقف الصور المتجاوبة عند حدود الانطباعات الحسية، وإنما تتجاوزها إلى المجرّدات، فتجعل منها مدركات حسية: سمعية أو لونية. وعليه، يبقى حكمنا على طبيعة الصور المحوّلة ضعيفاً مالم نتعرّض بالدراسة والتحليل لنماذج التشخيص والتجسيد عند الطائيين.
أول ما نلاحظ في هذه النماذج أن التحويل يتم باتجاه صور بصرية غالباً، على اختلاف أشكال هذه الصور .
لقد كثر عند أبي تمام تجسيد الزمان وتشخيصه ، مما دفع الآمدي إلى التصدّي له والوقوف في وجهه. والآمدي في موقفه هذا لا يعارض فكرة تشخيص الزمان، وقد وجدنا نماذج منها عند البحتري، وإنما يأخذ على أبي تمام توسعه في المجاز وتجاوزه إلى مالم يعرفه الشعراء قبله، ولم يألفه النقّاد , وكأنه ليس من حق الشاعر أن يخرج على التقاليد السابقة في الاستعارة .
وثاني المجردات التي أكثر أبو تمام من تحويلها حسياً، صورة المجد. يقول :
لو لم تُفَتِّ مُسِنَّ المَجْدِ مُذْ زمنٍ *** بالجُودِ والبأسِ كانَ المجدُ قد خَرِفا . 2/ 375
فألصق بالمجد صفة الخرف وهي صفة بشرية، والصورة تشخيصية. وأبو تمام كثير العناية بمثل هذا النمط التصويري، أي إضفاء الصفات الشعورية المعنوية على المجرّدات، ولذلك صلة بمذهبه الفكري:
كم لَوْعَةٍ للنّدى وكمْ قَلَقٍ *** للمَجْدِ والمكرُماتِ في قَلَقِكْ؟ 2/ 405
ومن كلامه على المجد أيضاً قوله :
مجدٌ رعى تَلَعاتِ الدهرِ وهْوَ فتىً *** حتّى غدا الدهرُ يمشي مِشيةَ الهَرِمِ . 3/ 187
فالدهر هنا يمشي، وفي هذا تحويل من مجرّد إلى فعل، والفعل حركة، والحركة حسية، وهي متصلة من قريب أو بعيد بالصورة البصرية. وغالباً ما يعمد أبو تمام، في تحويله المجرّد إلى محسوس، إلى إضافة ذاك إلى هذا، على نحو قوله :
لِيَزدْكَ وجْداً بالسّماحةِ ما ترى *** من كيمياءِ المجدِ تَغْنَ وتَغنَمِ . 3/ 254
فالمجد مضاف إلى الكيمياء، وفي هذا تأليف ذكي وتوحيد بارع بين طرفي الصورة. وعلى نحو كيمياء المجد نقرأ له { ظهر الموعد } ، و { كاهل الوعد } ، و { رياض الباطل }
وقد يعكس الصورة فيضيف المحسوس إلى المجرّد :
يا ابنَ الخبيثةِ لا تُعرِّض صخرةً *** صمّاءَ مِن مجدي بعِرْضِ زُجاجِ . 4/ 329
فأضاف الزجاج إلى العرض. وفي البيت صورة أخرى تحويلية من المجرّد إلى المحسوس، فالمجد مشبّه بصخرة. وهنا نتساءل عن تلك العناية بتجسيد المجد عند أبي تمام. إن عناية الشاعر بصور المجد ماهي إلاّ تعبير غير مباشر عن نزوعه إلى المجد وطموحه إليه وإلى العلياء.
وتصادفنا عند أبي تمام مجموعة من الصور الحسية يكثر التحويل إليها من المجردات. الصورة الأولى هي صورة اليد :
وصَلْتُ كفَّ مُنىً مِنّي بِكفِّ غِنىً *** فارَقْتُ بينَهُما هَمِّي وأَحزاني
حتى لبسْتُ كُسىً لليُسْرِ تنشرُها *** على اعتِساري يَدٌ لَمْ تَسْهُ عن شاني
يدٌ من اليُسر قَدَّتْ حُلّتَيْ عُسُري *** حتى مَشَى عُسُري في شخصِ عُريانِ . 3/ 312
واليد رمز لفعل. فالشاعر في تحويله يختار من الجوامد ما تضمن فعلاً وحركة، وفي هذا إشارة بعيدة إلى مذهبه في حياته، وسعيه وحركته في سبيل العظمة والمجد.
أما الصورة الثانية فهي صورة الأنف :
جَدَعْتَ لَهُم أنفَ الضلالِ بوقْعَةٍ *** تَخَرَّمْتَ في غَمَّائِها مَنْ تَخَرَّمَا . 3/ 236
وأنف الشيء رأسه ومقدمته. يقول الزمخشري: ( ومن المجاز: هو أنف قومه، وهم أنف الناس.. وأنف الجبل وأنف اللحية، وعدا أنف الشدّ، وهذا أنف عمله. وسار في أنف النهار، وكان ذلك على أنف الدهر، وخرجت في أنف الخيل ).
إن استعارة أبي تمام الأنف، إذاً، ماهي إلاّ تعبير عن نزوع كامن في لا شعوره إلى العظمة والإمامة والقوة. وأما الصورة الثالثة فهي صورة الوجه :
لقد انصَعْتَ والشتاءُ له وَجْهٌ *** يَرَاهُ الكُمَاةُ جَهْماً قَطوبا . 1/ 165
هنا أيضاً نرى في استعارته صورة الوجه رمزاً إلى القوة وتوقاً لا شعورياً إلى العظمة. يقول الزمخشري عن مجازية الوجه: ( ومن المجاز: هذا وجه الثوب، ووجه القوم، وهؤلاء وجوه البلد، ورجل وجيه: بيِّن الوجاهة. وله جاه وحرمة… ).
*= الرمز الحسي : صورة الثياب :
أولى هذه الصور، صورة الثياب، ويندرج تحتها كل ماله علاقة بفن الحياكة من مصطلحات وأدوات وأفعال. يقول أبو تمام :
فإذا مَرَّ لابِسُ الحَمْدِ قال *** القومُ : مَنْ صاحِبُ الرّداءِ القشيبِ . 1/ 122
فالحمد رداء ملبوس . وقد كثر تشبيه العرب الثناء بالبرد الحسن. هذا ما يراه التبريزي في تعليقه على قول أبي تمام :
والحمدُ بُردُ جَمالٍ اختالَتْ بهِ *** غُرَرُ الفَعَالِ وليسَ بُرْدَ لِباسِ . 2/ 248
وتتكرر صور اللباس بكثرة عند الشاعر، فالصنيعةُ مُلبِسة ملبوسة , والنأي والصدود، وبينهما تضاد، ملبوسان ، وللندى أثواب منشورة ، وللصدق ثوب ، وطول التأوّه قميص، والسقام رداء . وتتجسد صورة اللباس في فعل الحياكة. يقول أبو تمام :
أمهْدِيّاً لَحَيْتِ على نوالٍ *** لقد حُكتِ الملامَ لغيرِ واعِ . 2/ 339
والشاعر أبو تمام بارع في استعارة مصطلحات فن الحياكة، على نحو إفادته من السّدى واللُّحمة :
فالبَسْ ثيابَ فضائحٍ أسدَيتَها *** أَشْراً وأَلحَمَها أَخُوكَ البارِدُ . 4/ 349
وتكثر صور الثياب بخاصة في موضوعين : في وصف الربيع والطبيعة، وفي مقام الحرب والمعركة. يقول أبو تمام في وصف الربيع :
وأَلبسهُمْ عَصبَ الربيع ووَشْيَهُ *** ويُمنَتُهُ نَبْتُ النّدى المُتلاحِكُ
إذا غازلَ الروضُ الغزالةَ نُشِّرَتْ *** زَرابِيُّ في أكنافِهِمْ ودَرَانِكُ
إذا الغيثُ سَدَّى نَسْجَهُ خِلْتَ أَنهُ *** مَضَتْ حِقبةٌ حَرْسٌ لَهُ وهْوَ حائِكُ . 2/ 457-458
يستوقف البيت الأخير الآمدي فيقول: “فأما جعله الغيث كأنه كان حائكاً، فمن مضاحيك معانيه وألفاظه” . وهو يأخذ عليه بذلك التوسّع في المجاز، وكأنه ليس للشاعر أن يخرج إلى ما ليس مألوفاً مستعملاً عند العرب.
والواقع أن أبا تمام كان مدركاً واعياً لأسرار صنعته وفنه، لم يخرج بذلك على حركات التجديد الكبرى في عصره، فهو حتى في تجديده، لا يخرج على النماذج الرفيعة السابقة عليه. لقد أخذوا عليه التوسع في المجاز مستغربين صوره فيه، حتى كان من أحدهم أن أخذ وعاء وذهب يطلب منه قطرات من ماء الملام (تعليقاً على قوله: لا تسقني ماء الملام . فكان ردّ أبي تمام أبلغ من أيّ جواب متوقّع. إنه لن يعطيه شيئاً قبل أن يأتيه بريشة من “جناح الذل”، إشارة إلى قوله تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} .
ويقول أبو تمام في مقام الحرب والمعركة مستعيراً صور الثياب :
غدا غَدْوَةً والحمدُ نسجُ ردائِهِ *** فلم يَنْصرِفْ إلاّ وأكفانُه الأجرُ
تردّى ثيابَ الموتِ حُمراً فما أتى *** لها الليلُ إلاّ وهْيَ مِنْ سُندُس خضرُ 4/ 81
يستوقف هذان البيتان برمزية الثياب فيهما مصطفى ناصف، فيرى ( أن الثياب رمز متداول بكثرة في الشعر العربي… فالرداء يرتبط بالكرم ويرتبط أيضاً بكل معاني الفضيلة الخلقية والعقلية فضلاً عن ارتباطه بفكرة العافية الجسدية ) .
أبو تمام إذاً لا يستخدمُ رمزاً منقطعاً ، بل هو رمز ذو تاريخ طويل. والجديد عنده هو أنه لا يستخدم هذا الرمز بدلالته التقليدية السطحية المباشرة، وإنما يفيد من هذا الرمز فيعيد تكوينه ببراعة وابتكار. يشرح مصطفى ناصف ذلك بقوله : ( أبو تمام عرف أن فكرة الثوب ترتبط بفكرة التطهير، وأنّ الكفن -في هذا الضوء – هو إعطاء الميت فرصة العبور إلى أرض الطهارة والصفاء في نقاء وأمان من النجس والأذى. الميت يترك هذه الحياة ويكفن. وهذا الكفن يتم الغسل والتطهير، ويحفظ الجسد من كلّ شائبة. الكفن إذاً قمّة التطهر . والتطهرّ كامن في استعمالات الشعر الخاصة بالفضائل الأخلاقية والنفسية .
يقول أبو تمام إن أبا نهشل تردّى ثياب الموت حمراً، ويقول الشرّاح : إنه قُتِل . والنثر دائماً بسيط وحيد الجهة أقل من أن يعطى إمكانيات الشعر. أبو تمام يذكر الكفن صراحة في البيت السابق. الكفن فكرة منبثقة عن سياق الموت وسياق الرداء وسياق الأجر: نجد أن القتل والكفن فكرتان متناوشتان، بينهما مابين طرفي الاستعارة من تفاعل. القتل جعل الكفن أحمر، والكفن جعل القتل إعداداً للحياة الآخرة. وبهذا نجد أن فكرة الكفن أو الثوب عدّلت من مفهوم القتل تعديلاً غير قليل. إننا هنا إذاً، نتحرك في داخل علاقة متناقضة بين القتل أو الدم والثوب. ونرى أن الدم قد استحال في الحقيقة معناه ).
في البيتين المذكورين أربع صور للثياب – نسيج الحمد، أكفان الأجر، ثياب الموت الحمراء، السندس الأخضر. وهي جميعها رموز لمعنى واحد: الفضيلة والعظمة والطهارة.
يقول الشرّاح إن ثياب الموت الحمراء كناية عن الموت والقتل، وإنّ السندس الأخضر كناية عن الطهارة والسعادة الأبدية في جنان الخلد. ولكنّ تركيب الصورة يبدو أعمق من هذا التحليل الشكلي , جاء أبو تمام بثلاث صور مترادفة رمزياً، وهي معاً متعادلة مع الصورة الرابعة. وعليه يمكننا أن نرى العلاقة المعقّدة الذكية القائمة بين تلك الصور الثلاث: نسيج الحمد = أكفان الأجر = ثياب الموت الحمراء.
وهذا معناه أن ثياب المرثيّ المضرّجة بدمائه قد باتت كفناً له، فألبسته الحمد. وقد مرّ معنا أن الكفن رمز الطهارة والنقاء، وعليه تتخلى صورة الموت القاني عن دلالتها المنفّرة لتكتسب دلالة جديدة إيجابية من خلال علاقتها وترادفها مع صورة الكفن وبهذا تصبح المعادلة الكبرى: ( نسيج الحمد = أكفان الأجر = ثياب الموت الحمراء) = السندس الأخضر .
وإذا كانت الصور الثلاث الأولى مرتبطة بالحياة الأرضية، فإن الصورة الرابعة رمز إلى حياة الأبرار الصالحين المتسربلين بلباس المجد والنقاء. وهكذا تصبح حياة الإنسان الآخرة استمراراً لحياته الدنيوية .
من زاوية أخرى نجد ان أطياف الصورة متنوعة متداخلة بين زمان ومكان ولون فالمشهد الأول ثياب الموت { سوداء } وشحت { بالأحمر } دلالة القتل , ثم الدجى { الأسود } فالمشهد الأول قاتم يغلب عليه ( الأسود x الأحمر x الأبيض ) ثم يقابله المشهد الثاني وفيه الليل { أسود } والسندس { أخضر } ثم الشهادة { بيضاء } وإن لم يصرح بها بل ذكرت تلميحاً فالمشهد متكون من الألوان { الأسود –الأخضر – الأبيض }
في الصورة مشهدان مشهد الظلمة والعتمة والدم وغبار المعركة ينتشر في المكان ثم مشهد الفرح والسرور والخير والسؤدد والفوز بالجنة . صور أبو تمام المشهد الأول وقد طغى عليه السواد بما فيه من عتمة ونكوص وظلمة , وكذا اللون الأحمر بما فيه من رهبة وخوف ولون للدم ثم أورد المشهد الثاني { الذي أراد له ان يتفوق على مشهده الأول } حيث الخضرة , خضرة السندس الفوز بالجنة , والأبيض بما فيه من بهجة وفرح وانتصار فالشاعر أراد للمشهد الثاني أن يطغى على المشهد الأول فأضفى ألوان البهجة واغدق عنوانات الفرح والفوز عليه .
يستخدم أبو تمام الثوب برمزيته التقليدية , لكنه قد يتوسع في تلك الرموز قليلاً. فإذا كان الرداء رمزاً إلى الكرم والفضيلة، فإنه يجيز لنفسه أن يستخدمه رمزاً مناقضاً إلى العار
( فالبس ثياب الفضائح…). إن ارتداء الثوب يعني اكتساب الفضيلة وخلعه يعني التجرّد منها. أفاد أبو تمام من هذا المعنى وأعاد صياغته من نقيضه، فألبس مهجوّه ثياب فضائح، جاعلاً الثياب بذلك رمزاً إلى العار…
ولما كان الثوب رمزاً إلى الفضائل ومرتبطاً بالعافية الجسدية، كان من الطبيعي أن يستخدمه الشاعر رمزاً إلى العافية الكونية وجمال الطبيعة في الربيع. ( وألبسهم عصب الربيع…).
هذا، وقد تطورت صناعة النسيج في عصر الشاعر وباتوا يميلون إلى استخدام الفاخر منه. فرقّة النسيج تتناسب أكثر مع طبيعة الحياة المتحضّرة، لذلك لا نستغرب استخدام الشاعر صور النسيج الرقيقة الناعمة في مقام الغزل.
وفضلاً عن هذا وذاك نجد أن الثوب يكتسب معاني رمزية جديدة من خلال علاقته بالموت والقتال، فهو وقد استُخدِم رمزاً تقليدياً إلى الطهارة والفضيلة، أصبح أيضاً رمزاً إلى القوة والشجاعة. إن أبا تمام لم يقف عند حدود الرموز التقليدية في صوره، وإنما تجاوزها متوسعاً فيها، من غير أن يخرج على الإطار العام للفكرة الرمز. فرمز القوة والشجاعة غير منفصل عن سياق المعارك والحرب ورمزية الشهادة، وكذلك رمز جمال الطبيعة غير منفصل عن رمز العافية والحياة، والأمر نفسه نقوله في رمزية العار وغيره.
وهنا، نتساءل عن سرّ هذا الحشد من صور الثياب، لابدّ أن يكون لذلك دلالة وتفسير، ولابدّ أن يكون له صلة بذات الفنان، أمّا الجواب عن هذه التساؤلات فيمكننا أن نجده في طفولة الشاعر، فقد أجمع أكثر المؤرّخين له على أنه نشأ بدمشق وأنّ أباه كان عطاراً فيها، وأنه ألحقه بحائك كي يحسن حياكة الثياب . ربّما استمدّ أبو تمام إذاً عنايته بصورة الثياب من تلك الحرفة التي أرادها له أبوه ، وربما كان للعصر وطبيعته أثرهما في ذلك. لكّننا نميل إلى الاعتقاد الأول ، ولاسيما أنه قد وصلنا ما يؤكد صلة الشاعر بحرفة الحياكة.
*= صورة الماء :
وثاني الصور الرامزة صورة الماء، ولطالما استعملها القدماء في شعرهم. واستعمالها عندهم في العظيم المخبر والحسن المظهر ، لهذا غالباً ما نجدها في مقامي المديح والفخر.
لقد كانت لصورة الماء مكانة بعيدة من نفس أبي تمام، مما يشي بعلاقة خاصة له بها، ربما أمكننا إرجاعها إلى عمله سقّاء في مصر . هذه المكانة يمكننا أن نستشفّها من خلال استخدامه صور الماء في قوله :
إن يَنتَخِلْ حَدَثانُ الدّهرِ أَنْفُسَكُمْ *** ويَسْلَمِ الناسُ بين الحوضِ والعَطَنِ
فالماءُ ليسَ عجيباً أنّ أعذَبَه *** يَفْنَى ويَمْتَدُّ عُمْرُ الآجنِ الأسِنِ . 4/ 139
والصورة كما هو ظاهر فكرية تقوم على التجسيد الحسّي لفكرة مجرّدة مستَخَلصَة من معنى البيت الأول، كما أن الصورة بتركيبها العام قائمة على التضاد بين الحياة والموت، بين الماء العذب والماء الآسنِ. ولعلّ كون الماء أحد عناصر الحياة الرئيسية هو الذي استدعى إلى ذهن الشاعر صورتَها في مقام تجسيد العلاقة الجدلية بين الموت والحياة، وعشوائية الانتقاء.
وتظهر العناية بصورة الماء أشدّ في استخدامها وسيلة للتحويل من المجرّد إليها عن طريق الإضافة،وفي الإضافة إلصاق :
وعلا عارضَيْه ماءُ النَّدى الجا *** رِي وماءُ الحِجى وماءُ الشّبابِ . 4/ 52
وللصورة المائية عند أبي تمام أشكال عدة تختلف باختلاف رموزها، وإن كانت جميعها تنتهي إلىمعنى واحد. فنحن نجدها في صورة البئر :
أَلَمْ تَرَ أنَّ الجَفْرَ جَفْرَكَ في العُلَى *** قريبُ الرِّشاءِ لا جَرورٌ ولا ثَمْدُ . 2/ 93
واستعمال الشاعر صور الرشاء والبئر والدلاء يَشِي صراحةً بصنعته سقّاء. كما نجد هذه الصورة المائية عنده في صورة الغيث :
بنانُ موسى إذا استَهلَّتْ *** للناسِ نابَتْ عن الغيوثِ . 1/ 325
وتلحق بها صورة الأنواء ، والمطر . وتتصل بصورة الغيث صور السيول ، والسحب والبرق والرعد . ولصور الكواكب والنجوم صلة وثيقة بالماء عامة وبالمطر خاصة. هذا ما يصل إليه نصرت عبد الرحمن أيضاً في قوله: ونرى أنّ صورة النجوم في الشعر تربط عادة بالمطر , كما يمكننا أن نجد لصورة الوادي أيضاً صلة بالماء، والوادي مجمع المياه
والصور المتقدمة جميعها على اختلافها شكلاً واتفاقها جوهراً، ذات مدلول رمزيّ واحد، فهي جميعها تفيد معنى الجود والكرم والعطاء، وفي العطاء حياة. فالماء، إذاً رمز الحياة، ولا شيء أدلّ على ذلك من ربطه بالثراء. هذه الصلة بين الماء والجود يشير إليها أبو تمام بقوله :
لو سِرْتَ لالتَقَتِ الضلوعُ على أسىً *** كَلِفٍ قليلِ السِّلْمِ لِلأَحشاءِ
ولَجَفَّ نُوَّارُ الكلامِ وقلّما *** يُلفَى بَقاءُ الغرسِ بعدَ الماءِ . 1/ 18
والماء عند أبي تمام ذو طبيعة ليّنة رقيقة :
باشَرَ الماءَ فَهْوَ في رِقّةِ الصَّنعةِ *** كالماءِ غيرَ أَنْ ليسَ يجري . 4/ 201
لكنه أحياناً يتسم بطابع القوة، ويتجلّى هذا خاصة في صورة السيل :
لَعَزْمُكَ مثلُ عَزْمِ السَّيْلِ شُدَّتْ *** قُواهُ بالمذانِبِوالتِّلاعِ . 2/ 340
وهو في كلتا الحالين محافظ على رمزه الإشراقي.
لقد بلغت عناية أبي تمام بصور الماء مبلغها، حتى إنّه خصّ بعض مقدمات قصائده المدحية بها ، بل إنه بنى بعض قصائده المدحية عليها . والصلة بين المدح بصفتي الجود والكرم والماء واضحة وثيقة.
وللماء عند أبي تمام في صوره المتقدمة صفة التدفق والغزارة . فالممدوح عين ماء غزيرة لمن أراد أن ينهل، وورود الماء منه سهل لا يحتاج إلى رشاء أو دلو . كما إنه نوء وغيث وسيل، وهذه كلها توحي بمعنى الغزارة والتدفق. وما الصلة بين الماء والتدفق في رأينا إلاّ نوع من أنواع المبالغة للدلالة على عظمة عطاء الممدوح وشموله واتساعه.
ونتساءل هنا: هل تعود كثرة استعمال أبي تمام لصور الماء إلى عمله سقاءً في مصر وحسب، أو أن هناك أمراً آخر يمكننا ادّعاؤه؟ إن الأخبار لا تخدمنا كثيراً في هذا المجال، ولكنّه يمكننا أن نرى للماء صلة بطبيعة البلاد الشامية الزراعية. فما اهتمام أبي تمام بالماء إلاّ نوع من التعبير غير المباشر عن أهمية الماء بالنسبة إلى الشاميين، فثراء البلاد واقتصادها يقومان أولاً على الجانب الزراعي. وعليه، فإن العطاء لن يكون وفيراً إلاّ إذا كانت الغلال وفيرة، وعليه أيضاً فإنّ العناية بالماء ماهي إلاّ صورة من صور الرغبة في الثراء والمجد والعظمة التي طمح أبو تمام إليها جميعاً.
*= صورة المرأة :
أما الصورة الرمزية الثالثة فهي صورة المرأة. وهي تحتلّ عند أبي تمام مكانة تتقدم على تلك التي احتلّتها الصورتان المتقدمتان. هذه المكانة لا تستمدها الصورة من كثرتها وحسب، وإنما من طبيعة استعمالها أيضاً.
وللمرأة الرمز صور متعددة تبرز فيها، فنجدها مثلاً في صورة العذرية. يقول أبو تمام في وصف الخمرة :
أو دُرَّةٌ بيضاءُ بِكْرٌ أُطبقَتْ *** حَبَلاً على ياقوتةٍ حمراءِ . 1/ 32
وصفة العذرية مستملحة عند أبي تمام ، بل إنها الصفة الرئيسة المعبِّرة عن جمال المرأة في نظره. ومما يتصل بهذه الصفة صورة الناهد ، والكاعب . وصفتا النهود والكعوب يؤثرهما أبو تمام في المرأة، فيشير إليهما في قوله :
أبا جَعْفَرٍ إنّ الجَهالةَ أُمُّها *** وَلُودٌ وأُمُّ العِلْمِ جَدّاءُ حائِلُ . 3/ 117
والجدّاء صغيرة الثدي، أما الحائل فهي المرأة ليست ذات حمل. وهاتان الصفتان لا تكونان إلاّ في العذراء صغيرة السن . ومما يدلنا على إيثار الشاعر هذه الصفات في المرأة إلصاقها بالعِلم، الأمر الذي يوحي بالصفة الإشراقية الإيجابية لهذه الصفات، وبمكانتها من نفسه. وفي البيت تضاد سافر بين ولود وحائل . مما يدلّنا أيضاً على إيثاره من النساء صغيرة السن البكر، ميله إلى ناعمات الملمس، المُلد:
إذا حَضُرَتْ ساحَ الملوكِ تُقبِّلتْ *** عَقَائِلُ منْها غيرُ ملموسةٍ مُلْدُ . 2/ 95
والمَلَد الشباب، والأَملد الناعم اللَّيِّن من الناس أو الغصون.
إن أبا تمام بناء على ما تقدّم يحصر الجمال الأنثوي في البِكر العذراء ، كاعبة الثدي، ناعمة الملمس.
وربما أفاد أبو تمام من صفات المرأة، بمختلف صورها للإيحاء بفكرة التضاد، فنجد لديه البكر والثَّيِّب متقابلتين , وكذا البكر والعوان في قوله :
لِيُنْجِحْ بجودِ مَنْ أرادَ فإنّه *** عوانٌ لهذا الناسِ وهْوَ لنا بِكْرُ . 4/ 574
وكذا أيضاً البكر والنصَف ، أو البكر والأيّم .
هذا ، وصور المرأة وثيقة الصلة بفكرة العطاء والجود، فهي غالباً ما تكون المعادل الحسي للصنيعة الحسنة والنعمة :
وصنيعةٍ لكَ ثيِبٍ أَهدَيْتَها *** وهْيَ الكَعَابُ لعائذٍ بك مُصْرمِ
حلّتْ محلّ البكرِ مِنْ مُعْطَىً وقَدْ *** زُفَّتْ مِنَ المُعْطى زِفافَ الأيِّمِ . 3/ 253
والصورة هنا أيضاً توحي بفكرة التضاد. والتضاد قائم بين الكاعب والبكر من جهة، وبين الثيِّب والأيّم من جهة ثانية. والأيّم من لا زوج لها، أما الثيّب فهي نقيض البكر، المتزوجة. وهنا أيضاً نلاحظ سيطرة صورة العذرية وتقدّمها على الصور الأخرى، مما يشي بإيثار خاص لها. وتشيع عند أبي تمام الصور الجنسية، فتكثر لديه صور الافتراع. يقول مادحاً :
انظرْ وإياكَ الهوى لا تُمكِنَنْ *** سُلْطانَهُ مِنْ مُقْلَةٍ شَوْساءِ
تَعلَمْ كَمِ افْتَرَعَتْ صدورُ رِماحِهِ *** وسيوفِهِ من بَلْدةٍ عذراءِ 1/ 13
فتعامُل الممدوح مع البلدان كالتعامل مع المرأة البكر.وعناية أبي تمام بهذه الصور ما هي إلاّ تعبير لا شعوري عن نزعته الذكورية. ولا شيء أدلّ على ذلك من تكرار هذه الصورة لديه وتلذّذه بإيرادها. يقول في وقعة عمورية يصف هذه المدينة :
بِكرٌ فَمَا افتَرَعَتْها كفُّ حادثةٍ *** ولا تَرَقَّتْ إليها هِمَّةُ النُّوَبِ . 1/ 48
فهذه المدينة بكر عذراء لم يتمكن من افتراعها إلاّ المعتصم . ومن هذه الصور عنده قوله يمدح :
حَمَلَتْ رَجَايَ إليكَ بِنْتُ حديقةٍ *** غَلْبَاءُ لم تُلْقَحْ لِفَحْلٍ مُقْرِفِ . 2/ 396
يقول التبريزي: يريد سفينة لأنها من خشب الحديقة، وجعل الحديقة التي هي الأرض ذات الأشجار مؤنثة، وجعل السماء فحلها، لأنها تلقحها بمطرها .
هذه العلاقة بين الطبيعة والسماء تستدعي إلى ذهن الشاعر العلاقة بين الرجل والمرأة، وكأنّ الأرض زوج السماء. وبهذا الشكل يكون الكون كله في نظر أبي تمام متحداً في الوجود كاتحاد الرجل بالمرأة، وذا علاقة جدلية بين أطرافه كتلك العلاقة القائمة بين الزوجين. وثمرة التفاعل هذه هي الولد، وهو حياة جديدة. والحياة الجديدة في علاقة الأرض بالسماء هي النبات. هذا، والعلاقة بين الطرفين هادئة منسجمة مشرقة. يقول أبو تمام في وصف المطر:
ترى الأرضَ تهتزُّ ارتياحاً لوَقْعِهِ *** كماارتاحَتِ البِكرُ الهَدِيُّ إلى البَعْلِ . 4/ 521
إنَّ كلاًّ من الصورتين ( الأرض والمطر، والبكر والبعل) تعطي الأخرى معناها الرمزي. ومن ثمّ الصورتان معاً توحيان ببعد رمزي مشرق .
ولمّا كانت هذه هي علاقة أركان الوجود بعضها ببعض، فإننا لا نستغرب أن يجعل أبو تمام صنعة الشاعر شبيهة بعلاقة الرجل بالمرأة. إنّ مثله مثل الكون من حوله، لن يكون هناك مولود جديد أو حياة جديدة بغير علاقة التواصل هذه. وعليه، فالشعر هو الحياة الجديدة المولودة من تفاعل تجربة الشاعر بفنّه :
والشعرُ فَرْجٌ ليستْ خَصِيصَتُهُ *** طولَ الليالي إلاّ لِمُفْتَرِعِهْ . 2/ 350
وهذه الصورة مستعملة عند الشاعر في غير هذا المكان , ومثلها في الإشارة إلى هذا المعنى صورة الحمل ، وصورة الزواج والطلاق .
هذه الصور عند أبي تمام تشي بنزعة ذكورية في تعامله مع المرأة. وهذه النزعة تظهر لنا بجلاء في قوله :
ليتَ نصفي على الفرا *** شِ لحافٌ لِنِصْفِها
فأنالُ الذي أريدُ *** على رغمِ أَنفِها . 4/ 237
في فعل الغضب هذا تتجسّد لنا كلّ معاني الذكورة والأنانية والقوة والتعالي التي كانت تتسم بها شخصية أبي تمام.
وإذا كان الشاعر في بعض الأحيان يصور لنا تعاليه عن التأثّر بدموع النساء ومفاتنهن، كما في قوله :
وما الدَّمْعُ ثانٍ عَزْمَتي وَلَو انَّها *** سَقَى خَدَّها مِنْ كلِّ عَيْنٍ لها نَهْرُ . 4/ 568
فإنه قد أحبّ المرأة في الصميم، وحبّه لها لم يكن حباً بريئاً، وإنّما هو حبّ مادّيّ. أما صيحات التعالي والكبرياء هذه فما هي إلاّ غلالة يستر بها شغفه بالمرأة، مما يتناسب مع نزعة القوة والتعالي لديه. هذا الشغف وذاك الحب العميقان يظهران لنا بجلاء في قوله :
يقولونَ هل يبكي الفَتَى لِخَرِيدةٍ *** متى ما أرادَ اعتاضَ عَشْراً مكانَها
وهل يستعيض المرءُ مِنْ خَمْسِ كفِّهِ *** ولَوْ صاغَ مِنْ حُرِّ اللُّجَيْنِ بَنَانَها؟ 4/ 143
وأبو تمام في موقفه يخالف البحتري، وإن كان هذا الأخير أعمق وجداناً وتعبيراً، وله قصة حب عنيفة مع علوة الحلبية فقد ذهب البحتري إلى إيثار موت البنات وبقاء البنين :
ومِنْ نِعَمِ اللهِ، لاشَكَّ فيه، *** بقاءُ البنينَ وَمَوْتُ البناتِ . ديوان البحتري 1/ 382
بل إننا نجده في تعزيته أبا نهشل عن ابنته يعاتبه على حزنه. فهل يُبْكَى من لا ينازل بالسيف ومن لا يعدل الأموال والبنين زينةً في الحياة الدنيا، ومن ولدت الأعداء، ومن كانت عاراً وذلاًّ لبعض الناس، ومن كانت سبب زلّة آدم؟ : ديوان البحتري 1/ 39
أَتُبَكّي مَن لا يُنازِلُ بالسَّيْـ *** ـفِ مُشيحاً ولا يهزُّ اللِّواءَ؟
ولعمري ما العَجْزُ عنديَ إلاّ *** أن تبيتَ الرجالُ تبكي النساءَ . ديوان البحتري 1/ 39
ويبدع أبو تمام في رسم صورة الفراق وقسوته وشدة أثره يقول :
ما اليوم أول توديع ولا الثاني *** البينُ أكثرُ من شوقي ومن أحزاني
دع الفراق فإن الدهر ساعده *** فصار أملك من روحي بجثماني
خليفة الخضر من يربع على وطن *** في بلدة فظهور العيس أوطاني . 3/ 308
مضمون هذه الصورة يدور حول الزوال والفراق وما يشبه العدم , وأن الفراق إن ألم بشخص أثر في نفسه وأصبح ملازماً له يهيج الذكري ويزيد الوجد والشوق , ولكن يخفف من ذلك ظهور العيس التي اتخذ منها موطناً ولعله بهذا يرمز إلى التنقل من بلدة لأخرى ومن موطن لآخر .
*= الصورة الحركية :
أدرك أبو تمام بعمق إحساسه جمالية الحركة، فهو يرى من خلال التضاد أن الحركة هي الأصل في حسن الطبيعة وجمال الأرض على خلاف الأشياء المصنوعة الثابتة : 2/ 194
أَوَلا ترى الأشياءَ إنْ هِيَ غُيِّرَت *** سَمُجتْ وحُسْنُ الأرضِ حينَ تُغَيَّرُ
والتضاد عند أبي تمام وسيلة من وسائل الإيحاء بالحركة. يقول :
لَحِقْنا بأُخْراهُمْ وقد حَوَّمَ الهَوَى *** قلوباً عَهِدْنا طيرَها وهي وُقَّعُ . 2/ 319
فبين (حوَّم ) و( وقّع ) تضاد، الغاية منه الإيحاء بشدة حركة التحويم بالنسبة إلى سكون الوقوع . هذه الحركة ما كان بإمكان الشاعر أن يرسمها لنا أو يوحيها إلينا لولا علاقة التضاد بين التحويم والوقوع. والحركة هنا شعورية تصوّر حالة نفسية زاخرة بالحياة والاضطراب. وأبو تمام بارع في رسم هذه الصورة الباطنية الداخلية، كما في قوله :
قَدْ أُتْرِعَتْ منهُ الجوانحُ رهبةً *** بَطَلَتْ لديها سَورةُ الأَبطالِ
لو لم يزاحفْهمْ لزاحفَهمْ لَهُ *** ما في صدورهمُ مِنَ الأوجالِ . 3/ 133
وقد تتخذ الحركة عند أبي تمام شكلاً أفقيّاً، يعبّر بها عن الاتّساع والانتشار. يصف الخمرة فيقول :
إذا هيَ دَبَّتْ في الفَتَى خالَ جِسْمَه *** لِما دبَّ فيهِ قَريَةً مِنْ قُرى النَّمْلِ . 4/ 519
والحركة هنا بطيئة وأبو تمام بارع في التقاط الصور الحية من حوله، وإن كانت غريبة. لكنّ البطء ليس سمة عامة للحركة عند أبي تمام ، وهو القائل بالحركة والفعل، وصاحب المزاج العصبي المتناقض. فالحركة عنده تغلب عليها صفة السرعة، والسرعة مرسومة بأشكال متعددة، فنحن نراها في ( سرعة النبل ) : نهاية الأرب 2/ 55
ألحاظه في الخَلْق مُسْرِعَةٌ *** فيما يُريدُ كَسُرْعةِ النَّبْلِ . نهاية الأرب 2/ 55
كما نراها في صور التدفّق ، والخضخضة ، واللعب، والانحطاط من العالي ، والانقضاض ، والانهمار ، بل إنها خَطْفٌ ولَمْحٌ :
بَرْقٌ إذا بَرْقُ غَيْثٍ باتَ مُخْتطِفاً *** لِلطَّرْفِ أصبَحَ للأعناقِ مُخْتَطِفَا . 2/ 372
وقد يفيد أبو تمام من الأمثال ليكني بها عن السرعة، كما في قوله :
قَبيلٌ وأهلٌ لم أُلاقِ مَشُوقَهُمْ *** لِوَشكِ النّوى إلاّ فُواقاً كلا ولا . 3/ 104
يقول المعري في شرح هذا البيت: ( يقال كان ذلك كلا ولا أي وشيكاً عَجِلاً، والمعنى أن الإنسان إذا نَهَى غيرَه يُكّرِر { لا } مثل أن يقول له اذهبْ إلى موضع كذا فيقول لإرادة المبالغة { لا لا } فيجيء الحرفان متصلين لا تفاوت بينهما فجعلوه مثلاً في السرعة ).
هذا، ونلاحظ فيما تقدَّم أن الحركة السريعة عند أبي تمام مرتبطة بصفة القوة. هذه الصفة في الصور الحركية تبدو أوضح في قوله :
أَذَابَ سنامَها قطعُ الفيافي *** ومزّقَ جِلدَها نَضْجُ العصيمِ . 4/ 534
وتحتَ ذاكَ قضاءٌ حَزُّ شفرتِهِ *** كما يَعَضُّ بأعلى الغاربِ القَتَبُ . 1/ 249
فصور الإذابة والتمزيق والحزّ والعض، كلّها صور حركية تقوم على فعل قوة. وأمر آخر نلاحظه في هذه الصور، وهو تأسيسها على أفعال.
وهذا في رأينا بتأثير الفكر، بل هو أحد أساليبه. ولعلّنا نجد في هذه الفعلية ما يعمّق الصفة الحركية في الصورة , هذا المنحى الفكري الغالب على صور أبي تمام الحركية، يبدو لنا واضحاً في قوله :
نَوىً كانقضاض النَّجمِ كانتْ نتيجةً *** مِنَ الهَزْلِ يوماً إنّ هزلَ الهوى جِدُّ 2/ 81
حيث يقوم بتحويل المجردات إلى أفعال حركية ، فالنوى ينقضّ، وسماء الجود تنهمر . وفي هذا التحويل أبلغ دلالة على حركية ذهن أبي تمام، فهو لا ينظر إلى المجرّدات بجمودها الفكري وإنما يسبغ عليها حركية حسية، والحركة زمن والزمن فكر . إن نظرة أبي تمام إلى الكون نظرة حركية ترى الأشياء متحركة متفاعلة بعضها مع بعض، لهذا كان لابدّ أن تظهر هذه الحركية حتى في صوره المجرّدة. وما هذا الامتزاج بين المجردات والحركة الحسية، في الواقع، إلاّ صورة لمذهب الشاعر القائم على مزج الحسّ بالفكر.
هذا التجسيد الحركي لصور المجردات يبدو لنا أيضاً في قوله :
مُقَصِّرٌ خُطُواتِ الهم في بَدَنِي *** عِلْماً بأنّي ما قَصَّرْتُ في الطَّلَبِ 4/ 549
يقول الآمدي: ( فجعل للهم – وهو أشد الحزن- خطواتٍ في بدنه، وأنه قد قصرها، لأنه ما قصر في الطلب، وهذا من وساوسه المحكمة ). فالآمدي، برغم مآخذه على الشاعر، معترفٌ له بإحكامِ الصنعة والتصوير. والصورة هنا قائمة على التجسيد الحركي لصورة مجرّدة وحالة نفسية شعورية.
ومثلما برع أبو تمام في تحريك المجرّدات، كذلك برع في تحريك الجمادات، مما لا يمكن تحريكه، كالوجوه والعيون :
لو يقدِرون مَشَوْا على وَجَناتهمْ *** وعيونهمْ فضلاً عن الأقدامِ 3/ 206
وفي هذا دليل آخر على حركية ذهن أبي تمام. إن جميع هذه الصور قائمة على المبالغة، والغرض منها التعظيم والتفخيم والتهويل.
بقي أن نلاحظ الحركية في صورة الجمع، والحركة فيها داخلية تدور حول نقطة واحدة، هي ملتقى الإشعاعات على اختلافها. يقول أبو تمام :
جَمَعْتُ شَعَاعَ الرّأيِ ثُمَّ وَسَمْتُهُ *** بِحَزْمٍ له في كُلِّ مُظْلِمةٍ فَجْرُ . 4/ 568
ولمّا كان الجمع يعني الائتلاف الذي قد يكون بين المختلفات، فإن صورة الجمع بالتالي صورة فكرية تقوم على موقف فكري من الكون قوامه التأليف بين المتناقضات.
*= حرفية الصورة :
أما الحرفية، وهي أحد أنماط التصوير التقليدي وأحد أساليب الوضوح التصويري، فإننا نجد لها نماذج كثيرة عنده مثال هذه الحرفية الشكلية عند أبي تمام قوله :
كأنّ بني نبهانَ يومَ وفاتِه *** نجومُ سماءٍ خَرَّ مِنْ بينها البدرُ . 4/ 81
ومن جيدِ غيداءِ التثنّي كأنّما *** أَتَتْكَ بِلَيْتَيْها مِنَ الرَّشَأِ الفَرْدِ . 2/ 111
فجعل بني نبهان في البيت الأول نجوماً كما جعل المرثي بدراً في صفة الضياء الغالب على ضياء النجوم. أمّا وقد مات فإن الفاجعة شديدة، وكأنما البدر قد سقط من بين النجوم، فساد الظلامُ الكونَ. وفي البيت الثاني جعل جيد فتاته شبيهاً بجيد الرشأ الفردِ في صفة الحسن، وهي صورة تقليدية.ومن هذه الصور الحرفية التي تعتمد على الحسية الشكلية أيضاً قوله :
أصداغُهُ ألِفٌ ولامٌ **** ولِحاظُهُ سَيفٌ حُسَامُ . 4/ 270
وقد يعتمد أبو تمام في بعض قصائده على هذه الصور الحرفية أساساً للتصوير الشعري. نجد ذلك مثلاً في القصيدة السادسة حيث يقول : رقم القصيدة 15654
الحسنُ بنُ وَهْب *** كالغيثِ في انسِكابِهْ
في الشَّرْخِ من حِجَاهُ *** والشَّرْخِ من شَبَابِهْ
وحُلَّةٍ كَسَاها *** كالحَلْيِ والتهابِهْ
وفي هذه الحرفية، بالشكل الذي وردت عليه، إشارة إلى كذب العاطفة. فالشاعر في القصيدة معنيّ بتتبُّع الصور بغية التعجيب دون التعبير عن عاطفة حقيقية. لكنّ الحرفية عند أبي تمام ليست خالصة، فهناك دائماً شيء جديد داخلٌ فيها. يقول :
وجوهٌ لَوَ انَّ الأرضَ فيها كواكبٌ *** تَوَقَّدُ لِلسَّاري لَكُنَّ كواكِبا . 1/ 139
فجعل الوجوه شبيهة بالكواكب، لكنه قيّدها بالشرط وهو أحد أساليب التصوير الفكري، فأخرج الصورة بذلك عن الجمود التقليدي والجفاف التصويري. ويقول أيضاً :
لَمَعَتْ أَسِنَّتُه فَهُنَّ مَعَ الضُّحَى *** شَمْسٌ وهُنَّ مع الظَّلامِ نُجُومُ . 3/ 290
في هذا البيت يشبّه أبو تمام الأسنّةَ بالشمس تارة وبالنجوم تارة أخرى. ولو اقتصر الأمر على ذلك لكانت الصورة جامدة جافة، لكنّ الشاعر ببراعته الفكرية أخرجها مخرجاً جديداً عن طريق الاقتران الزمني في صورة المشبه به: فهذه الأسنة شمس مع الضحى ونجوم مع الظلام. وهذا الأمر دليل واضح على نزعة أبي تمام التصويرية، وميله إلى عدم الإخلاء. فالصورة الواحدة (الأسنة) كانت تستدعي إلى ذهنه أكثر من مثيل ونظير (الشمس والنجوم).
وتبلغ براعة أبي تمام التصويرية به أن يفيد من الصور التقليدية، فيركّب من أكثر من صورةٍ صورةً جديدةً هي خلاصة هذه الصور مجتمعة، وإن لم يكن لها رصيد واقعي. فعمق ثقافة الشاعر ورهافة إحساسه ويقظة فكره أهّلته لأن يفيد من تلك الصور التراثية، فيفكك علاقاتها ويخلق منها صورة جديدة. يقول في وصف فرس :
هَادِيِهِ جِذعٌ مِنَ الأراكِ وما *** خَلفَ الصَّلا مِنْهُ صَخْرةٌ جَلْسُ . 2/ 226
إن جيد الفرس يشبه جذع الشجرة من حيث الضخامة، كما يشبه نبات الأراك من حيث الملاسة. والصورتان بهذا الشكل العلاقة فيهما حرفية حسية شكلية. فأخذ الشاعر هاتين الصورتين وفكَّك تلك العلاقة فيهما، ثم أعاد تركيبهما في صورة جديدة(جذع من الأراك)، وهي صورة غير واقعية، إذ إنّ نبات الأراك لا جذوع له.
*= وتنقلنا الصورة الحرفية إلى أسلوب تصويري ثالث، طالما أُعجِبَ القدماء به وعدّوه عنواناً لبراعة الشاعر. هذا الأسلوب هو أسلوب التكثيف التصويري، حيث يعمد الشاعر فيه إلى حشد الصور في قصيدته. وكلما استطاع أن يكثّف هذا الحشد في بيت واحد كان أبرع وكان البيت أروع.
وأبو تمام شاعر الصور، وإذا كان لا يتكلم إلا بصور فإن هذا لا يعني تقليديته، فالتكثيف عنده يخرج على الحدود الحسية ليتناول الأمور الفكرية. إنه تكثيف فكري، وهذا في رأينا أصعب من النمط الحسي الذي شاع في بعض نماذج الشعر القديم.من هذا التكثيف عند أبي تمام قوله :
كالخُوطِ في القَدِّ والغزالةِ في البهجةِ *** وابنِ الغزالِ في غَيَدِهْ 1/ 427
ثلاث صور اجتمعت في هذا البيت لترسم صورة المحبوب. إنه كالغصن في حسن قوامه، وكالشمس في إشراق وجهه، وكولد الغزال في تثنيه. والصور جميعها حسية حرفية.
ومن تكثيفه أيضاً قوله :
إِقدامَ عَمْرٍو في سماحةِ حَاتِمٍ *** في حِلْمِ أحنفَ في ذكاءِ إياسِ . 2/ 249
يأتي هنا لممدوحه بأربع صور، فهو مثل عمرو بن معد يكرب في صفة الإقدام، ومثل حاتم الطائي في السماحة والجود، ومثل الأحنف بن قيس في صفة الحلم، ومثل إياس بن معاوية في صفة الذكاء.
والصورة هنا حرفية تقليدية، لكنّ أبا تمام يرفدها بصورة فكرية، الأمر الذي يُخرج هذه الحرفية مخرجاً فكرياً :
لا تُنكروا ضَربي لَهُ مِنْ دُونِهِ *** مَثَلاً شَروداً في النّدى والباسِ
فالله قد ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُورِهِ *** مَثَلاً من المِشكاةِ والنِّبراسِ . 2/ 250
وإذا كان أبو تمام قد رفد الصورة الحرفية هنا بصورة فكرية، فإنّه قد يكثّف في الصور الفكرية نفسها :
فاضْمُمْ أَقاصِيَهُم إليكَ فإنّهُ *** لا يَزْخَرُ الوادي بِغَيرِ شِعابِ 1/ 88
والسَّهمُ بالرّيشِ اللُّؤَامِ ولن تَرَى *** بَيتاً بلا عَمَدٍ ولا أَطنابِ
يأتي أبو تمام هنا لفكرته بثلاث صور حسية. أما الفكرة فهي عظمة شأن الممدوح بقومه وأقاربه، وأما الصور الحسية فهي صورة الوادي والسهم والبيت: مثل الممدوح مثل هذه الصور، فكما أن الوادي لا يعظم سيله حتى تدفع فيه الشعاب التي حوله، وكما أن السهم لا تستقيم إصابته إلاّ بلأم ريشه، وكما أن البيت لا يستقيم إلاّ بعمده وأطنابه، كذلك الممدوح لن تتم سيادته إلاّ بقومه وأقاربه. وهو بذلك يحضّه على التأليف لهم، والصبر على مكرههم، واحتمال أذاهم، والصفح عن جانيهم، لأنه لن تتم له السيادة بغير ذلك.
وغالباً ما يعمد أبو تمام إلى هذا التكثيف في مقدمة قصائده، وكأنما يريد بذلك لفت النظر إلى صنعته، حتى إذا ما مضى في القصيدة قلّ هذا التجمّع الصوري، وبدأت تنساب الأبيات انسياباً، ولكنْ من غير أن تبتعد عن الصنعة التصويرية والزخرف البديعي.
يقول في مقدمة قصيدته في عمورية :
السيفُ أصدقُ أنباءً مِنَ الكُتبِ *** في حَدِّهِ الحَدُّ بينَ الجِدِّ واللَّعِبِ
بيضُ الصّفائحِ لا سودُ الصحائفِ *** في متونهنَّ جلاءُ الشكِّ والرِّيَبِ
والعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامعةً *** بين الخَمِيسَيْن لا في السبعةِ الشهبِ 1/ 40
ويقول في مقدمة قصيدته في الربيع :
رقَّتْ حواشي الدَّهْرِ فَهْيَ تَمَرْمَرُ *** وغدا الثّرى في حَلْيِهِ يَتَكسَّرُ
نَزَلَتْ مقدّمةُ المصيفِ حميدةً *** ويدُ الشتاءِ جديدةٌ لا تُكفَرُ
لولا الذي غَرَسَ الشتاءُ بكفِّهِ *** لاقَى المصيفُ هشائماً لا تُثْمِرُ 2/ 191
إن الفنان عامة، والشاعر خاصة، يتألف عمله من مجموعة دفقات، كل واحدة منها تبدأ شديدة عنيفة غزيرة، ثم تهدأ لتعود من جديد إلى شدتها وعنفها. هذه الدفقة قد تكون في وسط القصيدة، وقد تكون في أوّلها، وقد تكون في آخرها. أما أبو تمام فإنها تبدأ معه من أول القصيدة لتستمر غالباً إلى نهايتها. وهذا دليل واضح على براعة الشاعر الإبداعية، وعلى تملكه أداته التصويرية.
وليس غريباً أن يعمد أبو تمام إلى التكثيف في شعره، وقد قلنا إنه يتكلم بصور ولا يكاد يخلي بيتاً من غير أن يضمّنه صورة. مثال الكلام بصور عنده قوله :
فَسَقَاهُ مِسْكَ الطَّلِّ كافورُ الصَّبَا *** وانحَلَّ فيهِ خَيْطُ كُلِّ سماءِ . 1/ 25
أنضرَتْ أَيكَتي عطاياكَ حتّى *** صارَ ساقاً عُودِي وكانَ قضيبا . 1/ 171
وعناية أبي تمام بعدم الإخلاء والتكثيف في الشعر قد تخرجه إلى التكلّف والإغراق في الصنعة. نجد ذلك في قوله :
بِحَوَافِرٍ حُفْرٍ وصُلْبٍ صُلَّبٍ *** وأَشاعِرٍ شُعْرٍ وخَلْقٍ أَخْلَقِ . 2/ 410
*= التجديد في رسم الصورة الشعرية :
لم يستند إلى الأوصاف الجاهزة أو المعلبة ولم يتعكز على الصورة المكررة وإنما سعى نحو أطر جديدة ومضامين مبدعة حيث عالج المعاني الجديدة وفتق أكمامها كما تفتق شمس الربيع أكمام الأزهار وأزاح عنها غبار السنين كما تنزاح عن وجوه الجواهر . ومن المعاني التي فتق أكمامها قوله :
إلى الحسن اقتدنا ركائب صيّرت *** لها الحزن من أرض الفلاة ركائبا
هذه الركائب قد ركبت الأرض فالأرض ركائب لها , واعتمد المشهد على التلاعب في فكرة الثابت والمتحول فهذه الأرض لم تعد ثابتة بل غدت متحولة منتقلة تنتقل بانتقال الممدوح , فالأرض جميعاً راغبة في أن تسعى إلى ذاك الممدوح ليدلك على عمق الرغبة التي ملكت من على الأرض لتغدو الأرض ومن عليها في شوق وتلهف إلى الممدوح ولا شك أن الصورة حادثة مبدعة فيها أنسنة للأرض وإخراج من إطارها الثابت المألوف .
ويقول :
أطلّ على كُلى الآفاق حتى *** كأن الأرض في عينيه دار 1/ 149
كلى جمع كلية , واستعارة للآفاق لأن من أطّلع على كلية الشيء فقد خبر أمره إذا كانت الكلية لا تكون إلا في الباطن . إن استعارة الكلى الحيوانية إلى الآفاق هو تجسيم لها إذ جعل من الآفاق كائناً مشاهداً ليدلل على بعد نظر الممدوح وعلى قدرته على التعمق في أصل الأشياء فهو لا يكتفي بالاطلاع على المظهر بل يتعمق في الجوهر , وبالتالي فإن تجسيم الآفاق وتحويلها إلى مشاهد مرئية ينضج فكرة القدرة الاستشراقية التي يتمتع بها الممدوح .
ويقول أيضاً :
حتى غدت وهداتها ونجادها *** فئتين في حلل الربيع تبختر 2/ 136
صورة رائعة وغريبة , والأغرب هذا التداخل بين الزمان والمكان في صورة الشاعر وهداتها ونجادها وحلل الربيع . وكيف تحولت تلك الوهاد والنجاد بما تحمله من خضرة ربيعية متبخترتين في حلتها البهية , ماذا علينا لو رسمنا هذه الصورة , فكيف سنرسمها بل كيف سنتخيلها وهاداً ونجاداً تتبختر على حجمها وجمالها .
وتصادفنا صورة رابعة عند أبي تمام، طالما أُولعبها، وكثرت استعارته لها، وهي صورة الأخدع في قوله :
فضربْتَ الشتاءَ في أخدعَيْهِ *** ضَربةًغادرَتْهُ عَوْداً رَكُوبَا 1/ 166
وقد لفت أبو تمام بولعه بهذه اللفظة أنظار النقادقديماً وحديثاً حتى تمنى بعضهم لو صفع الشاعرفي أخدعيه . وأبو تمام مسبوق إلى هذه اللفظة،فقد سبقه إليها الصّمّة بن عبد الله والفرزدقوغيرهما , لكنّ الفارق بين هؤلاء وبينه، هو أنّ : هؤلاء نَحَوا في الاستعارة منحى قريباً، فجاءتمقبولة في شعرهم سائرة على مذاهب العرب فيالاستعارة، أمّا أبو تمام.. فكانت استعارته مغرقة فيالتقعّر، مما أطلق ألسنة النقّاد عليه , صورة طريفة إذ جعل الشتاء بوعوثة ثلوجه فرساً جامحاً وجعل انتصار أبي سعيد فيه كأنه ضربة سددت إليه فقضت على جموحه وشراسته , ويتم الصورة فيقول :
لقد انصعت والشتاء له وجه *** يراه الرجال جهماً قطوباً
طاعناً منحر الشمال متيجاً *** لبلاد العدو موتاً جنوباً
*= نخلص إلى أن أبا تمام لم يكن له مذهب جديد وإنما كان له طريقة جديدة في الالتقاط والاعتناء والتأليف فكل جزئية من جزئيات هذا المذهب قد سبق إليها فمسلم اعتنى بالبديع والجناس وأبو نواس بالمعاني وغزارتها وإمامهم في هذا بشار ولكن كل هذه الجزئيات – مبالغاً فيها – لم تجتمع لأحد مثل ما اجتمعت لأبي تمام فخرج على الناس بنوع جديد من الشعر تضافرت فيه العاطفة الجياشة الصادقة إلى جانب العقلانية والتكثيف التخييلي , فهو يغوص على المعاني العقلية غوصاً ثم يرفعها إلى السماء ويعمل فيها خياله البعيد ويختار لها الألفاظ ويعنى ببديعها وجناسها فتم له من معانيه العميقة إلى القاع وخياله المرتفع إلى السماء وألفاظه المتجانسة نوع جديد من الشعر لم يسبق إليه .
*= وينبغي أيضاً أن نكشف أن أبا تمام التزم بأمرين رئيسين في منهج قصائده : أولهما يتعلق بالشكل الفني العام وما احتواه من جزئيات استوقفت الناقد العربي القديم حتى بدا أبو تمام شديد الأمانة في التعلق بأهداب التراث فلم يشأ أن يضرب عنه صفحاً ولا أن يوليه ظهره بل راح ينهل منه ويسجل ولاءه للنموذج التقليدي لقصيدة المدح العربية تلك التي لم يكن ليخرج على روحها بحال ولم يعلن ثورته ولا تمرده عليها .
والثاني : أن أبا تمام قد استبطن التراث ووعاه ولكنه لم يستسلم له في موقف الخاضع المستعبد بقدر ما طوعه لطبيعة ثقافته ولنمط تكوينه العقلي فاقتحم مجال التصوير والصياغة اللفظية ليعكس من خلالهما معا ما أراد من فروع ثقافته ومصادرها العديدة والمتنوعة .
وبعد …. ذلكم أبو تمام حامل لواء الشعر العربي في عصره , أحد جهابذة الكلام وقبلة أصحاب المعاني وقدوة أهل البديع من الشعراء الذين أسسوا عظمة الشعر العربي وصنعوا مجدنا الشعري .

تأملات في نص « أمِّمي دهنك »للشاعر: جبران محمد قحل.
تأملات في نص « أمِّمي دهنك »للشاعر: جبران محمد قحل.
-النصُّ الشعري:
أَمِّمي دُهنَكِ …
……………………………….
أَمِّمي دُهنَكِ …
في زيتك مايكفي ….
لإنقاذ الحِكاياتِ …
وللغربةِ ….
ان تقْطُرها …
لثغةُ فيهْ …
كلنا المنفيُّ في العمرِ…
على عيدكِ …
توَّاقٌ إلى تمركِ …
مجنونٌ بلا خمركِ …
لكنْ أبداً …
يكمن في ينْعِك ِ…
مايُرضي …
وفي منعك …
مايُفضي …
فبُثِّي بعضَ درَّاقِكِ … هيا…
وامنحينا قلب نيرانك …
حتى نبذلَ الفجر َ…
إلى جمركِ …
أسْلمنا نواصينا …
فَتُلِّي …
ثمَّةَ الحُب …
ولا تستغفري …
من عاشقيكْ…
&&&&&&&&&&&&
-التأملات:
*الجوُّ العام :
هذا النص من أكثر النصوص استفزازاً لمخيلة القارئ إن صحَّ التعبير ؛وفي مضامينه تجسَّد الداء والدواء جرياً على الأعراف الطبية ؛الداءُ ممثلاً فيما يندرج تحت مسألة التذبذب في العطاء ؛والدواءُ -موصوفاً بواسطة رؤية الشاعر المتبصر- ؛لهذا الغريب المتشرذم الذي لايلوي على شيء من حُطام الدنيا ؛ولهذا اليائس الذي رأى إلى معالم الأرض وجمالياتها من منظاره الأسود القاتم؛وللقانط الجاحد أيضاً فضل الأيادي الممتدة إليه؛وخيراتها المنسكبة عليه؛ والنعماء التي تحيط به من جهاته الستِّ..
-في النص حضرتْ «ذات الزيت» ؛وصوت الشاعر المتمازج مع أصوات الجماعة..
-وفي النص أتيح لكاف الخطاب النصيب الأوفى من مساحات البروز كما في: “عيدكِ …تمركِ …خمركِ …
ينْعِك ِ… منعك …درَّاقك..عاشقيك ..
وفي النصَّ أيضاً ائتلق فنّ الرمز الدقيق الموحي؛والتكثيف البياني ؛ذلك الرمز الذي يشفُّ عما وراءه من معانٍ متوارية؛دون أن يخذل القارىء؛ أو يشطح به بعيداً في أودية التيه و الوهم والخيالات والتفسيرات الجوفاء العقيمة ؛وهو-على قصر أبياته- من أعجب النصوص الفنية المسكونة بنوازع شتى من الشعور بالغربة ؛ واستشعار الأعمار المنفية؛وما يواجهه الإنسان في رحلة تشظيه المجهولة من أرض إلى أرض؛ بحثاً عن رغادة العيش؛ ومرافىء الهناء هنا وهناك ..
-القيم الفنية والتعبيرية:
ابتداءً من تركيبة ” أمّمي دهنكِ”؛وهو أسلوب طلبي قائم على صيغة التأنيث؛فحواه تتمحور على فاعلية: “تأميم الدهن” ؛من خلال هذا المنطلق احتدمت الأسئلة ؛وتلاطمت أمواج الرغبة ؛لمحاولة اكتشاف إفرازات التجاذب الذي تبلور في تفاصيل التجربة وأخرياتها..
ثم الانتقال للتقرير في الإدلاء بالقول: “في زيتك مايكفي “!!
ولسائلٍ أن يسأل :
كيف يكون تأميم الدهن ؟!
ومن بوسعه فعل ذلك ؟
وأي دُهنٍ هذا الذي لم يفصح عنه الشاعر؛ إلاَّ بلغة التلميح ؟!
ومن المخاطبة ؟!
وإلام أفضتْ انفعالات الشاعر ؟!
وعلى أي جسرٍ متين منيعٍ استند شاعرنا في التعبير الجمعي ؟!
كلُّ ذلك كانت تتراءى ظلاله تلميحاً لاتصريحاً ؛وتلك هي رؤية الشاعر ذو الحسِّ الدقيق ؛والنظرة الثاقبة لفن الشعر؛ومساراته المتشعبة..
وقد رأيت أن أستأنس بالمعجم في رحلة البحث عن دلالتي: “أمم ؛الدهن”..
أمَّمَ يؤمِّم تأميمًا :فهو مؤمِّم ، والمفعول مؤمَّم
أَمَّمَهُ في وَقْتٍ مُبَكِّرٍ : قَصَدَهُ
أَمَّمَتِ الدَّوْلَةُ الشَّرِكاتِ الكُبْرى :جَعَلَتْ وَسائِلَ الإِنْتاجِ وَإنْتاجَها ملْكاً لَها
تأمَّمَ ؛يتأمَّم ، تأمُّمًا ، فهو متأمِّم ، والمفعول مُتأمَّم به
تأَمَّم به: اقتدى
تأَمَّم بالتراب: تيمَّم
تأَمَّم امرأة: اتخذها أُمَّاً
تأَمَّم الشيءَ: قصده وتعمَّده
الأَمَمُ
الأَمَمُ : مقابلُ الشيءِ.
و الأَمَمُ القُرْب، يقال: أخذته من أُمَمٍ: مِن كثب.
و الأَمَمُ اليسير القريب التناوُل.
يقال: ما طلبت إلاّ شيئاً أَمَماً.
وما الذي رَكِبتَهُ بأَمَم: بشيءٍ هَيِّنٍ قريب.
و الأَمَمُ البَيِّن من الأُمور.
و الأَمَمُ الوسط.
وماذا عن دهن؟!
دهَنَ يدهُن ، دَهْنًا ، فهو داهن ، والمفعول مَدْهون
دهَن الرَّأسَ والشَّعرَ وغيرَهما: طلاه بالدُّهْن أو الزَّيت أو الطِّيب
فلانٌ يدهُن من قارورة فارغة – (مثل): يُضرب للكذّاب يَعد ولا يَفي.
وهنالك “الدَّهن” بمعنى الخداع..
الخ ما يتعلق باللفظة ..
لقد بدا شاعرنا وهو يلقي أمره بقوله: أممي ؛كالذي يمدُّ طوق النجاة لإنقاذ كيان الأرض من شعورها المتعاظم بالجفاف؛ أو النضوب؛ أو العلل التي تساهم في إيقاف عجلة نهضتها ..
فهو يقول :اجعلي هذا الطلاء الجمالي متاحاً لبني الإنسان؛اجعليه في كل بقعةِ أرض ؛لاتخشي النفاد ولاالبوار ؛ففي ضخِّ هذا الزيت -وهو أقرب مايكون إلى النفطي- تأطيرٌ لأحاديث الرجم بالغيب؛وتكميمٌ ..
للألسن العدائية المتغطرسة ؛وليس لها سوى القطرات من نصيبها ؛وفقاً لمقاديرها الرخيصة ؛ومقاماتها الهزيلة..
ثم يعبر شاعرنا بصيغة الشمولية؛ بقوله” كلنا المنفيٌّ في عيدك”؛على أنَّه مازال في حضرة خطاب المؤنث الذي ابتدأه؛ ومازال الحوار بينه وبين الأرض أو ما أشبه ذلك ؛على قدم وساق ؛إنه في هذا التقرير يسند الاغتراب أوالإقصاء المستوحى من النفي إلى العموم ؛على حدِّ مايستشف من قوله :كلُّنا المنفي “؛ فكيف يكون النفي في يوم عيدها ؟!
لربما أراد أن يقول إننا جميعاً نستعذب كلَّ عناء يمرُّ بنا ؛وكلَّ عذابٍ يصطرع في أعماقنا هو لك ؛وهو علينا دينٌ مستحق ؛ولربما أراد الشاعر إزجاء العتاب ؛إذ من غير المستساغ؛أو المستوعب؛ ألَّا تبادل محبيها العطاء في يوم سرورها الغامر بالسعادة؛ والعامر بالرحابة الإنسانية العالية..
ولنا أن نتلمس مساحة الصوت في كمية العتاب الرقيق الممتزج بروح التلهف العارمة في قوله مستخدماً صيغة المبالغة في كلمة:”توَّاق ؛واسم المفعول في كلمة :”مجنون”؛وفي الجمع بين التوقان والجنون ؛بحار دفاقة من أحاسيس الولاء والاحتفاء والاستماتة في عشقها.
فهو يقول :على الرغم من تسرُّب الشعور إلينا بالغربة نطمع جاهدين في طلعك النضيد ؛وخمرتك المعتقة الصافية البريئة ؛وبدون هذا الإكسير المانح للحياة ؛سنسقط في أفخاخ المجانين سواء بسواء.
ويمضي شاعرنا في تعزيز الثقة بقوله مخاطباً : “في ينعك مايرضي”؛ “وفي منعك مايفضي”؛ ولنا أن نلاحظ هنا جمال التجنيس الشكلي؛ولغة الحصر الواردة في أسبقية الجار والمجرور للفظتي :الينع والمنع ومابعدهما ؛ولنا أيضاً أن نربط ذلك بالصيغة السابقة:”في زيتك مايكفي “.
ويتلو ذلك استدراك :”بلكن”؛ مردفة بلفظة “أبداً” وهما تصبان في ذات النهر الجاري الذي هو بصدده ؛
وفي السياق نفسه بعدان متناظران؛ أو قطبان متنازعان ؛قاما على حالتي:القبول والرفض ؛ الينع ومايحمله من بُشريات الخصوبة
واليُنوع والينع من خصائص الثمر
إذا حان قِطافه؛ ومن ذلك قول الحجاج في خطبته المشهورة «وَالَّلهِ إنِّي لأرَى رُؤوساً قَدْ أيْنَعَتْ وَحَانَ قِطَافُهَا».
وهو هنا يؤكد أنَّ في بذلكِ العطاء اللامحدود؛مايفتح أبواب الرضا ؛ويعمِّق أسباب المحبة في قلوب سكان البرية جميعاً ؛وعلى العكس من ذلك يكون المنع بغيضاً ؛فهو دربٌ غويٌّ يفضي بك ؛وبالبرايا جميعاً إلى مزالق التأخر ؛والذبول؛ والكساد؛ وما إلى ذلك من ظلالٍ توحي بها كلمة: “يفضي” المرتدية زمن المضارع المستمر .
ويتابع شاعرنا مستهدياً ببوصلته الفنية اللماحة في ترجيح كفَّة العطاء بقوله مخاطباً إياها:
فبُثِّي بعضَ درَّاقِكِ … هيا…
وامنحينا قلب نيرانك …
حتى نبذلَ الفجر َ…
ويلاحظ في ذلك التركيب المائج موران الحركة السريعة التي يومىء إليها الشاعر؛على مستوى الفعل والنتيجة؛ففي توالي صيغ الأمر بالفعل “بثِّي”؛واسم فعل الأمر “هيَّا” ؛و”امنحينا” المقترنة بضمير ناء المتكلمين؛مطالب تقع على عاتقها هي وحدها؛وعليها أن تنهض بها الآن دون إبطاء؛وستكون انعكاسات النتيجة الحتمية مشرقة كإشراقة الفجر بعد ليل دامس طال عليه الأمد..
ويلاحظ هنا أنَّ شاعرنا جعل “الدُرَّاق” ؛
وهو الفاكهة المعروفة بالخوخ؛
على سبيل الاستعارة- جعلها للأرض ؛ بمنزلة الحديث المُكتَّم عند الإنسان نفسه؛فهو يريد لها أن تتحدث بلغة الفواكه اليانعة؛وفي طيات هذا الحديث الناعم الفاتن ؛تتجلى إمكاناتها النوعيَّة ؛وتتبدى نهضتها وخصوبتها ؛دون أن تلقي بالاً للقانطين الجاحدين الساخرين من مكانتها ؛وقدرتها على التطور؛ومسايرة الحضارات الكبرى ؛وهو بهذا يخلع الحياة على ماليس فيه حياة ؛وذلك شأن الشعراء النابهين؛في كل زمان ومكان؛ في التعامل مع الكائنات الصماء ؛يخلعون عليها من أرواحهم فإذا عنصر الحياة الممنوحة متصلاً بها وداخلاً في نسيجها البنائي.
على أنَّ البثَّ كما ذكرت مختصٌ في أصله القاموسي بإذاعة الأخبار وما شابهها كقول الشاعر القديم :
لقد كان يرجو أن يبثَّ اشتياقه
شِفَاهَاً فَلَمْ يَقْدِرْ فَبثَّ بِلبِّهِ .
بيد أنَّ شاعرنا المقتدر أراد له هذا المسلك الفني المعبر المترع بالطاقة..
-خاتمة النص:
يلقي شاعرنا عصا التسيار خاتماً نصه بهذا الاعتراف الساطع المبتلِّ بمياه الولاء الإنساني ؛
وذلك في مقام الخطاب؛بقوله:
إلى جمركِ …
أسْلمنا نواصينا …
فَتُلِّي …
ثمَّةَ الحُب …
ولا تستغفري …
من عاشقيكْ…
وفي الخاتمة هذه تجلَّى عنصر التفاني؛ وحرارة الاستماته في عشقها المتجدد ؛فجمرها المتقدة نيرانه ؛-وهو مسبوق بانتهاء الغاية فيما أفاده حرف الجرِّ “إلى” ؛في مقام الفداء المطلق-حبيبٌ إلينا ؛ ميسورٌ علينا احتمالُه..
وفي الجمر المتقد اصطبغت ألسنة اللهب بصفوة مافي الروح ؛ من أمانٍ وتطلعات ؛ دفعت إليها فوراً عبارة “أسلمنا نواصينا “المعبرة بصيغة الجمع ؛والنواصي جمع ناصية وهي من الألفاظ التي وردت في كتاب الله (ناصية كاذبة خاطئة).
وإسلامنا لنواصينا؛ والمراد “مقدمات رؤوسنا” – جاء على سبيل الكناية-مرسخة قيم المحبة؛والتضحيات ؛ودحر الأقاويل وزبانيتها عن ميادين عزِّك؛وسؤددك ؛وأصالتك الشامخة؛ ؛ذلك هو برهاننا الدامغ ؛وحجتنا الواضحة؛ فافعلي بنا ماشئت؛فما سوى الحب المكنون الخالص من رباط وثيق ؛شددنا به الأواصر ؛وعلَّقنا على أنهاره الخالدة المصائر ؛فلامعنى إذن للاعتذار؛ أو اللجوء إلى التأكيدات المطوَّلة ؛فقد أغنى الصباح عن المصباح ..
وتذكرني هذه الخاتمة الحماسية المترعة بالولاء المطلق -على نحوٍ ما -بقول المتنبي من أواخر قصيدة همزية له:
يا رجاءَ العيون في كل أرضٍ
لم يكن غير أن أراك رجائي
ولقد أفنت المفاوزُ خَيلي
قبل أن نلتقي وزادي ومائي
فارمِ بي ما أردتَ منِّي فإني
أسدُ القلب آدميُّ الرُّواء!
-كلمة أخيرة
وبعد ؛فماذا قبل؟!
لقد كان النصُّ ثرياً في معانيه؛دقيقاً في صياغته؛أخَّاذاً في انفعالاته ونغماته -والشعر حمَّال أوجه -حاولتُ مسايرته على قدر الاستطاعة ؛مسايرة المتلذذ المتفاعل بطبيعة هذا البناء المبتكر ؛وطفقت ألتمس المقاربة مستهدياً بضوء تجربة شاعرنا الطامحة ؛ورؤيته الفنية المستقلة..
وأرجو بتلك القراءة على مابها من نقص؛ المساهمة في إضاءة بعض جوانبه الفنية التي تيسرتْ لي ؛وكلي أملٌ -يلازمني دائماً- أن أكون قد أصبت الهدف؛أو حللتُ قريباً من ساحته..
ودمت لنا شاعرنا المختلف جبران الشعر والفتوحات ؛ والله من وراء القصد..

الشمعة للقاضي الأرّجاني
نمّت بأسرارِ ليل كان يخفيها *** وأطلعت قلبها للناس مِنفيها
قلب لها لم يرعْنا وهو مكتمن *** إلا ترَى فيه نارا منتراقيها
سفيهة لم يزل طول اللسان لها *** في الحي يجني عليهاضرب هاديها
غريقة في دموع وهي تحرقها *** أنفاسها بدوام منتلظيها
تنفست نفس المهجورة ادّكرت *** عهد الخليط فبات الوجديبكيها
يخشى عليها الردى مهما ألمّ بها *** نسيم ريح إذا وافىيحييها
بدت كنجم هوى في إثر عفرية *** في الأرض فاشتعلت منهنواصيها
نجم رأى الأرض أولى أن يُبوّأها *** من السماء فأمسى طوع أهليها
كأنها غرة قد سال شادخها *** في وجه دهماء يزهاهاتجليها
أو ضرّة خلقت للشمس حاسدة *** فكلما حجبت قامتتحاكيها
وحيدة بشباة الرمح هازمة *** عساكر الليل إن حلتبواديها
ما طنبت قط في أرض مخيّمة *** إلا وأقمر للأبصارداجيها
لها غرائب تبدو من محاسنها *** إذا تفكرت يوما فيمعانيها
فالوجنة الورد إلا في تناولها *** والقامة الغصن إلا فيتثنيها
قد أثمرت وردة حمراء طالعة *** تجني على الأكف إنأهويت تجنيها
ورد تشابك بها الأيدي إذا قطفت *** وما على غصنها شوكيوقيّها
صفر غلائلها حمر عمائمها *** سود ذوائبها بيض لياليها
كصعدة في حشا الظلماء طاعنة *** تسقي أسافلها ريّاأعاليها
كلوءة الليل إمّا أقبلت ظلم *** أمست لها ظلم للصحبتذكيها
وصيفة لست منها قاضيا وطرا *** إن أنت لم تكسها تاجايحلّيها
صفراء هندية في اللون إن نعتت *** والقد واللين إن أتممتتشبيها
فالهند تقتل بالنيران أنفسها *** وعندها أن ذاك القتليحييها
ما إن تزال تبيت الليل لاهية *** وما بها غُلة في الصدرتظميها
تحيي الليالي نورا وهي تقتلها *** بئس الجزاء لعمر اللهتجزيها
ورهاء لم يبد للأبصار لابسها *** يوما ولم يحتجب عنهنعاريها
قُدّت على قدّ ثوب قد تبطّنها *** ولم يقدر عليها الثوبكاسيها
غراء فرعاء لا تنفك فالية *** تقص لمتها طورا وتفليها
شيباء شعثاء لا تكسى غدائرها *** لون الشبيبة إلا حينتبليها
قناة ظلماء ما تنفك يأكلها *** سنانها طول طعن أويشظيها
مفتوحة العين تفني ليلها سهرا *** نعم وإفناؤها إياهيفنيها
وربما نال من أطرافها مرض *** لم يشف منه بغير القطعمشفيها
ويلمها في ظلام الليل مسعدة *** إذا الهموم دعت قلبيدواعيها
لولا اختلاف طباعينا بواحدة *** وللطباع اختلاف فيمبانيها
بأنها في سواد الليل مظهرة *** تلك التي في سواد القلبأخفيها
وبيننا عبرات إن هم نظروا *** غيّضتها خوف واش وهيتجريها
وما بها موهناً لو أنها شكرت *** ما بي من الحُرق اللاتيأقاسيه
ما عاندتها في الليالي في مطالبها *** ولا عدتها العواديفي مباغيها
ولا رمتها ببعد من أحبتها … كما رمتني وقرب من أعاديها
ولا تكابد حسادا أكابدها *** ولا تداجي بني دهر أداجيها
ولا تشكّى المطايا طول رحلتها *** ولا لأرجلها طرد بأيديها
إلى مقاصد لم تبلغ أدانيها *** مع كثرة السعي فضلا عنأقاصيها
فليهنها أنها باتت ولا هممي *** ولا همومي تُعنيها وتَعنيها
أبدت إليّ ابتساما في خلال بُكاً *** وعبرتي أنا محضالحزن يمريها
فقلت في جنح ليل وهي واقفة *** ونحن في حضرة جلّّتأياديها
لو أنها علمت في قرب من نصبت *** من الورى لثنتأعطافها تيها
وخبّرت أنها لا الحزن خامرها *** بل فرحة النفس أبكاهاتناهيها
وأنها قدمت في حيث غرته *** تهدي سناها فزادت فيتلاليها
1- القصيدة لأبي بكر ناصح الدين أحمد بن محمد بن الحسين الأرّجاني نسبة إلى أرّجان من كور الأهواز من بلاد إقليم خوزستان , ولد سنة 460هـ , ويقول العماد الأصفهاني فيه : منبت شجرته أرّجان , وموطن أسرته تُستر وعسكر مُكرم من خوزستان , وهو وإن كان في العجم مولده فمن العرب محتده , سلفه القديم من الأنصار .
تفجر الشعر على لسانه فقصد به الوزير السلجوقي المشهور نظام الملك منذ سنة نيف وثمانين وأربعمائة , وظل ينظمه إلى وفاته بتُستر سنة 544هـ .
اشتغل بالقضاء وأكثر شعره في مديح السلاجقة , وله في الخليفة المستظهر والمسترشد غير مدحة , وبالمثل يمدح وزراء بغداد وفي مقدمتهم بنو جهير . والمدح عنده غرض مردد كثير مبتذل كل معانيه مكرورة ندر فيها الابتكار .
وشعر شكواه يعبر عن أزمة نفسية إزاء الحضارة العربية والإسلامية وانحسارها واضطراب قيمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية فبدا رافضاً لها .
واستمد حكمه وأمثاله من حياة قلقة أشد القلق متقلبة أعنف التقلب ولم تكن سوى خطرات وانطباعات متصلة بالمرارة والشكوى .
وعبر عن ذاته في فخره الذي اتكأ فيه على التراث واختلف عنه في الصياغة . وله غزليات رقيقة مطبوعة بالطابع البدوي , وهي لوحات رسمها استجابة لنزعة فنية وأثار فيها أجواء نفسية مشحونة بالأمل أو اليأس والرضا أو الغضب بحيث انسجمت مع المدح .
وله رباعيات كثيرة غير أنه فيها شديد التكلف , ومن أشهرها قصيدته في مدح أنوشروان والتي تشتمل على ثمانين رباعية .
أما طبقات العمل الفني فتشمل صوره ومعانيه ولغته وأسلوبه وموسيقى شعره ومعارضاته الشعرية , وأعزو صوره ومعانيه إلى مجتمعه وتكوينه النفسي وثقافته , ذلك أن ذاكرة الشاعر تضمنت آثار الصلة الحسية بالعالم في مجموعات كثيرة من الصور .
كما تضمنت الأفكار والأخيلة التي انتقلت إليها من التراث وطبعها بطابعه الخاص به . وأثرت في صوره الثقافة والموسيقى الشعرية , وما لغة الشاعر إلا وليدة تجربته الشعرية والألفاظ هي صلب مادتها .
وقد حمل لنا معجمه اللغوي ألفاظاً غريبة وألفاظاً كثيرة من المعرّب كذلك حمل لنا معجمه الثقافي ألفاظاً كثيرة من القرآن الكريم والحديث الشريف والفقه وألفاظ المنطق والفرق والعلوم المختلفة والقواعد المشهورة في الصرف والنحو .
وأسلوبه متنوع العناصر ومن سماته الوضوح والاتكاء على وجوه الصنعة العربية في تراكيبه , ومن المآخذ على أسلوبه التكرار في معانيه وأبياته وتراكيبه , ومظاهر من التعقيد وركة في التعبير وهبوط في الخيال . ومذهبه الفني تمثل في جانبين : التقليدي والبديعي , وقد بدا واضحاً في شعره ومعايشته عصره واتصاله بمجتمعه ورجاله وانفعاله بأحداث مرت بها الدولة ودأبه على تلمس منافذ التجديد من خلال اصطناعه الثقافة والموسيقى الشعرية ووسائل أخرى للأداء الفني . وهذا كله لا يمنع من أن يكون شعره حلقة في تأريخ الأدب العربي ووثيقة تأريخية لا غنى لنا عنها .
2= أضواء على القصيدة :
الوصف فن قديم , من النقاد من جعل الوصف هو كل الشعر ؛ وذلك نظراً لارتباط الأغراض الأخرى به . يقول ابن رشيق : (( إن الشعر إلا أقله راجع إلى باب الوصف )) فالوصف عمود الشعر وعماده , بل إن كل أغراض الشعر وصف , وتزداد أهمية الوصف حين يتخذ الشاعر الوصف مضماراً للتعبير عن همومه وآلامه وهواجسه ومشاكل أمته .
كثير من الشعراء وقف عند حدود التشبيهات الخارجية لا يتعمقون في الوصف ليضفوا عليه الأحاسيس والمشاعر والانفعالات , ولكنهم عندما يفعلون ذلك يتحول موضوع الوصف عندهم إلى موضوع حيوي وإلى موضوع متجاوب مع الشخص ومجتمعه معتمداً على الابتكار والاختراع , وسبيله إلى القلوب والعقول أداء مبدع وعرض مفتن .
قليلون جداً أولئك الذين تحولوا بالوصف الخارجي إلى وصف نفسي وإلى سبر لأعماق النفس وزواياها المظلمة وإلى تحليق في سماء المجتمع الأرحب . على سبيل المثال : ذو الرّمة من الذين مزجوا أنفسهم مع ما يصفون , فجاء شعره رائعاً تتغنى به الأجيال وتطرب به .
هذه التوطئة نضعها بين يدي النص لنبين أن الأرجاني لم يصف الشمعة وصفاً خارجياً , وإنما أراد أن يعبر عن نفسيته وأحاسيسه تجاهها وتجاه المجتمع والحياة , عاش الأرجاني في مجتمع اختلت فيه الموازين والقيم وتسلق إلى سدة الحكم أناس غير جديرين بتسلم الحكم .
في مثل هذا الجو يجد الشاعر نفسه في حيرة من أمره ولذلك يلجأ بعض الشعراء إلى الصمت التام خوفاً على نفسه , ومن الشعراء من يلجأ إلى طريق الرمز والإشارات والكناية .
وربما كانت قصيدة ابن العلاث الذي رثى هرّاً وإنما في الحقيقة يرثي الخليفة ابن المعتز الذي لم يدم ملكه إلا يوماً واحداً هي واحدة من شعر الإشارة والرمز والكناية .
هذا الاتجاه بالذات هو الاتجاه الذي سار عليه القاضي الأرجاني فجاء هذا الوصف حاملاً بالرموز والإشارات من معاناته الشخصية من ناحية ومعاناة المفكرين والدعاة وقادة الفكر والرأي في عصره وما يقدمون لمجتمعهم من خير محاولين انتشال هذا المجتمع من الحضيض فهو عاش عصر التفكك والتمزق في الفترة التي سيطر على الحكم أناس أنانيون على حساب وحدة البلاد والأمة . والقصيدة تقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : يحمل وصفاً خاصاً بالشمعة وفي هذا القسم حاول أن يعبر عن همومه خاصة وهموم الرواد عامة .
القسم الثاني : موازنة بينه وبين الشمعة ليصل في النهاية إلى أنه أكثر حزناً وهموماً من الشمعة , وأنه يستحق الإشفاق أكثر مما تستحق .
ويذكر البواعث التي دفعته إلى قول مثل هذه القصيدة والأسباب التي جعلته يعاني إلى حد التأزم , والسلبيات التي عمت حياة العصر .
القسم الثالث : عبارة عن جواز عبور لهذه القصيدة لكي تصل إلينا , فقد جعلها في مدح القاضي عماد الدين طاهر بن محمد .
3= شرح القصيدة :
الشاعر يحاول أن يستثير اهتمام القارئ أو السامع منذ البداية بتشويقه إلى معرفة من هي هذه التي { نمّت } من النميمة وكان جزاؤها أن قطع رأسها . منذ البداية يحاول أن يبني القصيدة على مستويين من الفهم : فهم بإيحاءاتها وظلالها . وفهم أعمق لأغوار ومكامن نفسه ونفس الكاتب والشاعر والداعية .
وفي الوقت نفسه نشعر أنه يريد أن ينقلنا إلى عصره أو أن ينقل عصره إلينا فمظاهر العصر ظاهرة بارزة . ولم يقدم لها بأيّة مقدمة , فالموضوع ليس مدحاً تقليدياً وإنما هو موضوع جديد , تعبير عن النفس من خلال موضوع الوصف .
هذه الشمعة أضاءت الليل فكشفت نفسها وكشفت الشاعر وكان جزاؤها أن قطع رأسها وأحرقت , وظهر قلبها من فيها , بمعنى أن فتيلها أخذ يبرز من فيها .
والشاعر يعتمد منذ البداية على أسلوب التجسيم والتجسيد فيقول { نمّت } وكأنها إنسان لها قلب وتتحرك ولها تراقي . ومنذ البداية يقابل بين الصور والمعاني التي توحي بالقوة والجبروت وبين الصور التي توحي بالضعف والسكون وهذا يتناسب مع فكرة الشاعر لأنه أراد أن يقول إن هذه الشمعة على الرغم من صغر حجمها فإنها تؤدي خدمة للإنسانية لأنها تحرق نفسها في سبيل خدمة الآخرين ولم تجد منهم إلا الجحود والنكران , والشاعر كذلك فالذي يقول الحق لا يلق من مجتمعه إلا مصير هذه الشمعة .
وفي الحقيقة أنه أراد أن يقول إن الشاعر والمفكر ضعيف من ناحية قوته المادية والجسدية ولكنه قوي من حيث آثاره الفكرية ومن حيث إمكاناته على الإثارة والتأثير , ورُبّ قصيدة أثارت حرباً , ورُبّ مفكر بمقال أيقض الأمة من سباتها .
وكما قلت الشاعر يراوح بين الصور الموحية بالقوة والصور الموحية بالضعف فهي تظهر لنا ضعيفة حزينة سقيمة غريقة , وتظهر لنا رقيقة في غاية الرقة بحيث إن هبوب النسيم قد يهلكها . ولكنه لا يلبث أن يأتي بالصور التي توحي بالقوة والجبروت وهذا ليس تناقضاً من أن يأتي بصور ضعفها ثم يأتي بصور قوتها .
وهذه الشمعة الحزينة السقيمة والتي تعاني من الاحتراق والمعاناة النفسية تشبه حال الزوجة التي هجرها زوجها فهي لا تني تذكر عهده وتذكره .
وفي قوله : بدت كنجم هوى في إثر عفرية *** فيالأرض فاشتعلت منه نواصيها
يصور الشاعر الشمعة في غاية القوة والجبروت فهي نجم هوى من عليائه ليطارد في الأرض أصحاب الحس المتبلد , وينتزع هذه الصورة من قوله تعالى : (( فأتبعه شهاب ثاقب )) وكأن الشاعر أنزل ليوقظ الناس من غفلتهم . ولشدة سرعته في تأديته لرسالته احترقت أطرافه كما تحترق الشهب النازلة من السماء .
ثم يسوق صوراً رائعة للشمعة فهي حين تضيء وتمحو جنح الظلام تشبه الغرة في الفرس الدهماء وهي جميلة وغاية في الجمال فما بالك بالضوء الذي يأتي في الليلة الحالكة الظلمة .
أراد أن يقول : إنه غرة في جبين أمته , بل إن غرة الفرس والشمعة لا تساوي شيئاً أمام جماله فقد أصبحت تحاكي الشمس وأصبحت ضرة للشمس .
وأراد أن يقول أيضاً : إن الشاعر مصدرٌ ينبثق منها نور الخير ونور الضياء للعالم كما أن الشمس تضيء للعالم , والشاعر مصدر إشعاع ومصدر تبصير ووعي للأمة , والشمعة التي كانت هناك تعاني من العجز أصبحت الآن تحاكي الشمس , ويصل إلى أن الشاعر يقوم بدور الشمس والشمعة خاصة إذا كان المجتمع يعيش في مجتمع مظلم .
وهذه الشمعة وحيدة في مقاومة جحافل الظلام , والشاعر وحده يواجه الكثير من المشكلات وله من الشجاعة ورباطة الجأش ما لا يثنيه عن دوره , ولو وقف المجتمع في سبيله فلا يقف عن دوره , فشأنه شأن الشمعة في إرسال الأشعة أمام جحافل الظلام وهي شبيهة بالرمح القوي الذي يخترم عساكر العدو . فهي في أحشاء الظلام تمتزق الظلام كما أنالرمح يمزق الأعداء والشاعر يبدد الجهل .
والمعركة التي صورها هي من معطيات العصر وأن العلاقة بين الشاعر ومجتمعه إذا ما عرقلت رسالته هي علاقة حرب لا مهادنة فيها , وفيها يقرر أن النهاية ستكون بانتصار الحق وتنهزم عساكر الليل فهو يحمل نظرة تفاؤلية .
وهذه الشمعة ما انتصبت في مكان إلا أدّت رسالتها على الوجه الكامل , وأسفرت عن جنح الظلام كما يضيء القمر ظلام الليل ثم اشتق للتشبيه الفعل فقال : { أقمر } ولم يقل : كالقمر , وهذا تشبيه بديع مليء بالحركة والحيوية , ويظهر التشبيه الأكثر روعة في بيت سابق , وهو { سال شادخها } فعندما شبه الشمعة بالغرة قال : { سال } ليدل على الاتساع والحركة .
ولعل الشاعر أحس بالتناقضات في معانيها التي أحسسنا بها نحن فأراد أن يوحي لنا بهذا المعنى عن أحوالها , وأن أحوالها غريبة فهي تارة سقيمة وتارة في غاية الجمال وتارة في غاية القوة .
ويبدو أن الشاعر قد ضمه والشمعة ليل انفرد بها وانفردت به فأخذ يستوحي صوراً متتابعة ويولّد من كل صورة صورة أخرى ومن كل معنى معنى آخر . والذي ساعده في ذلك هو أنه يستمد من نفسه و من مشاعره ما يجعل الوصف يستمر ويمتد .
وتارة تغلب على نفسه صورة الشمعة وتارة يغلب على نفسه هواجسه وهمومه هو وفئة من الكتاب والمفكرين في عصره . وللشاعر غرائب أيضاً فهو يعيش في أحوال ربما أثارت استغراب الكثير من الناس .
ثم يقيم موازنة بين الشمعة وبين الورد , فشعلة هذه الشمعة تشبّه الوردة , والوردة تشبّه بالوجنة فالتشبيه هنا مركب , إنك تستطيع أن تقطف الوردة ولكنك لا تستطيع أن تتناول وردة هذه الشمعة .
وهي تشبه في قامتها الغصن ولكنه لا ينثني وإذا ما تثنت انكسرت , وإذا ما مدّيت يدك لتقطف هذه الوردة فإنه سيصيبك الأذى وذلك بإحراقها يدك , ويظهر ذلك بوضوح في قوله :
قد أثمرت وردة حمراء طالعة *** تجني علىالأكف إن أهويت تجنيها
والورد يدافع عن نفسه بالشوك , أما وردة هذه الشمعة فليس عليها شوك تدافع عن نفسها , لكن لديها سلاح آخر وهو النار . ويعود إلى الحديث عن أثر هذه الشمعة في مقاومة جيوش الظلام بعد ذكر التشبيه في البيت السابق { وحيدة كشباه الرمح } , فيقول :
كصعدة في حشا الظلماء طاعنة *** تسقيأسافلها ريا أعاليها
ربما لأنه أعجبه هذا التشبيه واستملك لبّه , وربما أن هذا التشبيه هو الذي يؤدي المعنى الذي يقصده الشاعر
هذه الشمعة كالصعدة – القناة غير المثقفة – تطعن أحشاء الظلام وتبدده ولكن الغريب أن أعاليها هي التي تسقي أسافلها , وأنواع النباتات الأخرى الجذور هي التي تسقي النباتات وتبعث فيها الحياة . هذه القطرات عندما تتجمد على جدار الشمعة تجعلها كالصعدة .
ثم يقول : كلوءة الليل مهما أقبلت ظلم *** أمستلها ظلم للصحب تذكيها
كلوءة أي حارسة من كلأ أي : حفظ وحرس , فهذه الشمعة في ضوئها ومقاومتها للظلام في مقابلة الفكر والعلم الذي يقاوم الجهل والظلم . والمعنى : مهما أقبل الظلام وتدافع فإن هذه الشمعة تبقى وحيدة حارسة تحرس وتضيء الليل بينما ينام الغير .
ثم يعود إلى التجسيم مرة أخرى ويربط بين صورة الشمعة وصورة فتاة جميلة { الوصيفة } فيقول :
وصيفة لست منها قاضيا وطرا *** إن أنتلم تكسها تاجا يحليها
إنه يعقد موازنة بين الشمعة وبين الجارية والمعنى : أنه لا ينال منها وطراً إلا إذا دفع لها مهراً وكذلك الشمعة لا تنال ضوءها إلا إذا كسوت رأسها تاجاً وهو الفتيلة .
وتتتابع صور الفتاة بصيغ متعددة فيقول :
صفراء هندية في اللون إن نعتت *** والقد واللين إن أتممت تشبيها
فالهند تقتل بالنيران أنفسها *** وعندهاأن ذاك القتل يحييها
فهذه الشمعة تتحول إلى فتاة هندية وربما لعوامل الاصفرار دور في هذا التشبيه ووجه الشبه في اللون والقد وفي اللين . وهنا إشارة إلى إلمام الشاعر ببعض الأديان فهو قاض وله ثقافة دينية , يشير إلى الديانة الهندية التي لها طقوس معينة من إحراق الميت وذر الرماد في نهر الكنج . وإذا ما ذر هذا الرماد في هذا النهر فإنه يعود إلى حياة جديدة متمثلة في صور مختلفة
وما أتى به الشاعر في هذا الشبه إلا ليريد أن يقول إن الشاعر لا ينتهي دوره في الحياة وأن رسالته لا تتوقف في الحياة , وربما كان لقصيدة من قصائده أثر في تغيير وجه المجتمع . وربما عاد شعره الداعي إلى ثمرة من ثمار هذه الحياة فتأتي أجيال أخرى تتربى عليه , الشاعر صاحب رسالة يحرق نفسه ويهلكها في سبيل إحياء مجتمعات أخرى .
قوله : ما إن تزال تبيت الليل لاهية *** ومابها علة في الصدر تظميها
له صلة بالبيت السابق { كلوءة الليل … } إنها ساهرة وتحيي هذا الليل , وهذه التضحية ليست لمصلحة شخصية أو علة شخصية وإنما ذلك من أجل الأمة , وذلك أن الدعاة والشعراء كانوا يحملون رسالة لأمتهم .
قوله : تحيي الليالي نورا وهي تقتلها *** بئس الجزاء لعمر الله تجزيها
إنها تهب النور للجميع وتبدد الظلام , والجزاء الذي تلقاه هو النكران والجحود وفي ذلك مقابلة الإحسان بالإساءة وهو كما قال : بئس الجزاء لعمر الله يجزيها . وكذلك الشاعر يقوم بمعالجة الأخطاء ومساعدة المجتمع ولا يلقى في ذلك إلا الجحود والنكران .
قوله : ورهاء لم يبد للأبصار لابسها *** يوما ولميحتجب عنهن غاديها
قدّ كقدّ قميص قد تبطنها *** ولم يقدرعليها الثوب كاسيها
الورهاء المرأة الخرقاء التي لا تتقن أي صناعة , والوره في اللغة الحمق في أي عمل . ومن المجاز : سحابة ورهاء أي كثيرة المطر .
هنا الشاعر يشبه الشمعة بامرأة خرقاء لها عجائب , ومن عجائبها أن الناس يقيسون ثيابهم على قدر جسومهم , ولكن الذي حدث هو العكس في هذه الشمعة فكأن الجسم ثوب وكأن الثوب أصبح جسماً , والجسم هنا الفتيلة . ثم يعود إلى التشبيه بصورة المرأة فيقول :
غراء فرعاء لا تنفك فالية *** تقص لمتهاطورا وتفليها
فهي بيضاء طويلة الشعر فالية أي جميلة لها لمة , فالشمعة هنا السيدة الغراء الفرعاء الفالية وصاحب هذه السيدة يقوم بعمل الوصيفة فهو لا ينفك عن هذه الشمعة يسويها ويهذبها ليحصل على مزية جيدة من الضوء الجيد , وكذا الشاعر إذا ما أحيط بمجتمع نشط مشجع له أتى بنور وعطاء جيد . ولكنها تختلف عن البيت التالي : شيباء شعثاء لا تكسى غدائرها *** لون الشبيبة إلا حينتبليها
وفي ظاهر هذا الأمر تناقض ولكن إذا فهمنا أطوار وتصرفات الشاعر الغريبة زال هذا التناقض , يعود إلى جدلية الحياة والموت في نهاية هذا البيت وهذه الشمعة إذا لم تسوّى أشبهت العجوز الشعثاء . ويقصد أن الشاعر أراد أن يتجدد شبابه إذا ما قبلت دعوته ورسالته
هذه الشمعة قناة توجهه إلى الظلام , أيّ لون من ألوان الظلام الفكري والعقلي , ويجب أن تكون القناة مشرعة في وجه الظلام ولكن في النهاية أن الظلام هو الذي يفني هذه الشمعة , وهو يريد أن يبين أن الشاعر الحقيقي هو الذي يكرس جهده لخدمة مجتمعه . يقول :
ويلمها في ظلام الليل مسعدة *** إذا الهمومدعت قلبي دواعيه
لولا اختلاف طباعينا بواحدة *** وللطباعاختلاف في مبانيها
بأنها في سواد الليل مظهرة *** تلك التي فيسواد القلب أخفيها
يتعجب من هذا الشمعة التي طالما أسعدتني وبددت هواجسي وأحزاني فإذا ما داهمتني الهموم والمصائب والأحزان جعلت منها مساعداً لي ومعيناً ومسلياً وأنيساً . هذه الشمعة فيها شبه كثير بالشاعر ولكن على الرغم من ذلك إلا أن الله تبارك وتعالى لم يخلق اثنين متفقين في كلّ شيء فلا بد من أوجه الاختلاف .
وهي إذا داهمتها الهموم في سواد الليل تبكي فتزيل همها وتظهر ما في قلبها من اللوعة وذلك بالبكاء أي : القطرات التي تسيل منها إذا اشتعلت . وأما الشاعر فلأنه صابر رابط الجأش متجلداً فلا يستطيع مجاراتها في ذلك فهو عصي الدمع . ويتابع القول :
وبيننا عبرات إن هم نظروا *** غيضتها خوفواش وهي تجريها
وما بها موهنا لو أنها شكرت ***ما بي منالحرق اللاتي أقاسيها
هذه الشمعة ترسل دموعها وتطلق لها العنان لتعبر عن ما بداخلها , وأما الشاعر فإن نظرات الوشاة والحساد قد تنال منه إن هو جارى هذه الشمعة بإخراج الدموع فهو صابر متحمل الأحداث . وتعيش الشمعة في نعمة إذا ما قورنت بالشاعر فهي تستطيع أن تعبر عن أحزانها وآلامها التي لا يستطيع الشاعر البوح بها .
قوله : ما عاندتها في الليالي في مطالبها *** ولا عدتهاالعوادي في مباغيها
ولا رمتها ببعد من أحبتها *** كما رمتني وقرب منأعاديها
ولا تكابد حسادا أكابدها *** ولا تداجي بنيدهر أداجيها
هنا يكمن همّ الشاعر وهو معاندة الليالي له , وعداء العوادي له , هنا يشعر أن أهل هذا الزمن يناصفونه العداء وبأنه وضع سدٌّ منيعٌ بينه وبين طموحاته نتبين ذلك من كلمة { عاند التي تعني المشاركة . كذلك الليالي رمته ببعد عن أحبته وقرّبته من أعدائه وهذا أشد وسبب من أسباب قلقه . كما أن الشمعة لا تعاني مثلي في مكابدة أولئك الحساد الذين ينالون مني ومن مداجاة ومداهنة الناس . وكأنه يلمّ بمعاني أبيات أبي الطيب المتنبي .
قوله : ولا تشكى المطايا طول رحلتها *** ولالأرجلها طرد بأيديها
هذه الشمعة ليس لها من الهموم ما يجعلها في رحلة دائمة , والشاعر كأنما يعاني من حظ عاثر , ويدأب في السعي وراء موضعه في مجتمعه وأنه يتعب من ذلك , وأن المطايا قد تعبت حتى شكت من كثرة الأسفار , وهو لم ينل مطلوبه بعد .
ولهذه الشمعة مطايا دائمة الركب وعندما قلت طموحاتها ارتاحت وهدأت , أما ذوي الهمم العالية فهي التي تتعب أصحابها إلى :
إلى مقاصد لم تبلغ أدانيها *** مع كثرةالسعي فضلا عن أقاصيها
وعلى الرغم من كثرة الأسفار إلا أنه لم يحقق مطالبه ومقاصده فلم تتحقق أدانيها فضلاً عن أقاصيها . ولم يعبر عن المقاصد وإنما جعلها حبيس نفسه , وعندما يصل إلى هذا الحد بينه وبين الشمعة فإن القارئ يشعر بالبون الواسع بينه وبينها . لذلك قال :
فليهنها أنها باتت ولا همي *** ولا هموميتعنيها وتعنيها
أي : لتهنأ هذه الشمعة بما فيها من نعم وحسبها أنها ليست لها من الهموم ما تتعبها وتبلغ بها درجة العناء . ثم يخرج إلى المديح , وهذا المديح هو هبوط بمستوى القصيدة وخير ما فيه هو الحديث النفسي .
4= التعليق :
عاش الأرجاني عصراً اختلت فيه الموازين والقيم , هذا العصر شهد تحولات خطيرة , فالبلاد الإسلامية تصبح نهماً للغزاة , ودولاً تتساقط وأخرى تقوم وعالم إسلامي ممزق الأوصال , لقمة سائغة في أفواه الحكام والطامعين من الأعداء , ولا يهبّ حاكمٌ لنجدة أخيه , بل ينتظر وصول الحريق والطوفان إليه .
في مثل هذه الظروف وهذه الأحوال قد يكون للفكر النير وللبصيرة النافذة اليد الطولى ويقع ذلك على الرواد والمفكرين والدعاة والأدباء في تبصير الأمة وإضاءة الأمل في حياة الظلام الدامس .
وتقع على عواتقهم رد الثقة إلى نفوس أبنائها التي تسرب إليها اليأس والقنوط , ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هل تلقى مجالات الرواد في مثل هذه الظروف الترحيب من كافة المجتمعات ؟ وهل يسير في طريق مغروس بالورود ؟ أغلب الظن لا , لن أغلب المحاولات لا تسعد كثيراً من الناس ولا يرضى كثير منهم وبخاصة أولئك النفر التي تتحكم فيها المصلحة الخاصة .
وهذه الفئات تضع العراقيل أمام الرواد لأن هذه الفئات لا تعيش إلا على جروح المجتمع , ولكن مثل هذه العراقيل هل تفتّ في عضد الدعاة والمفكرين والأدباء ؟
مثل هذه العراقيل يجب أن يتمرن عليها وأن يتيقن أنه سيصيب منها , ويبدو أن شاعرنا الأرجاني كان أحد هؤلاء النفر الذي أضاء شموع الأمل في الأمة .
ويبدو أنه عاند وكابد في هذا الزمن من قسوة المجتمع وجحوده ومن سوء الجزاء ومرارته , وقد عبر الشاعر عن ذلك بقوله : { بئس الجزاء لعمر الله يجزيها }
ويبدو أن الشاعر قد عاش تجربته بكل أحاسيسه ومشاعره فاكتوى بشواظ النكران ولفح وهج سوء الجزاء , وماذا عسى أن يفعل شاعر لا حول له ولا قوة ولا سلاح معه إلا الكلمة الصائبة وإلا الحرف يحمله أشواق قلبه ونبض عروقه ويشحنه بلهيب معاناته ووهج تجربته
ففي الجزء الأول أسقط الشاعر همومه وآماله وهموم معاصريه وآمالهم وبخاصة فئة الرواد وأسقط ذلك على الشمعة فأخذ يصفها بوصف ينبض بالإيحاءات والتأملات .
ونقف من هذه على رؤية الشاعر لنفسه التي تملأ كيانه وتسكن أعماقه متمثلة في أن الشاعر يحرق نفسه من أجل أن يبقى شموعاً تضيء الحياة ونبراساً ينير دياجيرها وغياهيبها ليهدي أمته إلى السعادة وإلى الحياة التي يسودها الخير والكرامة وترفرف فوقها الفضيلة .
وتتمثل رؤية الشاعر أيضاً في أنه وإن كان يستحق التقدير والاحترام جزاء تفانيه في خدمته هذا المجتمع ولقاء إعلانه الحرب على جيوش الجهل فإنه لا يجد من هذا المجتمع الجاحد إلا الإنكار لدوره والإهدار لمنهجه والعرقلة لجهوده , بل قد ترد عليه تضحيته وإيثاره وبالاً وذلك من قبل الذين يؤذيهم أن يسمعوا كلمة الحق . ويؤذيهم أن ينير الشاعر الظلام الذين اعتادوا أن يعيشوا فيه , غير أن الشاعر لا يعبر عن هذا الموقف تعبيراً مباشراً بل وظف روعة التصوير والرمز والإيحاء المكثف والتصوير الأنيق فاتخذ من الشمعة في سائر أحوالها وأوضاعها وإيحاءاتها رموزاً في سائر تأملاته ومخاوفه .
قد استطاع الشاعر أن يثير فينا مشاعر الإشفاق على الشمعة وعلى الرمز الذي اختفى وراءها . واستطاع أن يحملنا على التعاطف الذي يضحي كل منهما بلحظات عمره ويستهلك بقايا عمره من أجل إسعاد غيره لا يثنيه عن ذلك ما غرس في طبعه من حب الإيثار والتضحية وما يلقاه من تعرض للمخاطر , ومن موت بطيء يدب في أوصاله مستغلاً الشاعر فكرة المقابلة بمعناها الشامل أبعد استغلال وأنجحه , إذ يظهر الشمعة وهي تعادل الشاعر بصور توحي بمنتهى الضعف وتقبل على مصيرها راضية وقانعة وغريقة في دموعها . وتخشى تحية النسيم فتحرقها لفح الأنفاس وتكاد تذوي فيها جذوة الحياة فتتلاحق أنفاسها وتوشك أن تسكن سكونها النهائي .
وكما أثار فينا مشاعر الإشفاق والعطف عليه وعلى الشمعة من خلال الصور التي تفيض بالضعف وانعدام القوة فقد استطاع أيضاً أن يثير فينا الإعجاب من خلال صور المقابلة التي أستطاع أن يجعلها تتميز بالقوة والجبروت ولئنالشاعر كائن علوي في نفسه وإلهامه فقد آثر الإقامة بين أهل الأرض لتبصيرهم فهو نجم ثاقب نزل من السماء يلاحق شياطين الجهل والحس المتبلد , وهو فسحة الأمل التي تشدخ في جبين اليأس وهو معرفة تتألق وتشع لتهزم جيوش الظلام وهو مشكاة تبعث الدفء والخير .
وإذا كان الشاعر قد استتر وراء شمعته من الجزء الأول كاسياً فكرته غلالة من الرمز الشفاف وناثراً مشاعره من خلال الصور المتلاحقة فقد تخلّى عن ذلك في الجزء الثاني عندما ترك التلميح إلى التصريح ومن العموم إلى التخصيص .
وبرز لنا من خلال غلالته الرقيقة ليضع نفسه في مواجهة مباشرة مع الشمعة وليقيم موازنة بينهما دقيقة تسفر عن أن الشمعة أحسن حالاً منه وأنها وإن كانت تستحق الإعجاب منا مرة فإن الشاعر يستحق ذلك ألف مرة .
ويكشف الشاعر عن بعض طباعه وأخلاقه ويرفع الستار عن بواعث أزمته ويبث قارئه أسباب معاناته ويطلع الدارس على روافد تجربته التي تمخضت عنها هذه القصيدة . يقر بها الشاعر الأرجاني : أبياً عجوفاً لا تلين له قناة عالي الهمة متطلعاً إلى المعالي لا تزعزعه عوالي الزمن ولا تفنيه عن مطالبة معاندة الأيام .
وإذا كانت الليالي السود قد حالت بينه وبين أحبته وقربت بينه وبين أعدائه , وإذا كانت الليالي السود قد أجبرته على مداجاة بني عصره فإنها لم تستطع أن تطأ كبرياءه أو تنال من رباطة جأشه .
ومهما ضاقت فرجة الأمل أمامه فإنه يظل عصي الدمع يغيض عبراته ويكتم أحزانه وآهاته خوف حاسد يتربص به أو شامت يظهر له الإشفاق ويخفي له سوء الظن واللوم .
إن أصحاب الهمم العالية والنفوس الكبيرة يمرؤون المعاناة من أجل تحقيق الهدف الأسمى يقول المتنبي :
وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام
فلتهنأ هذه الشمعة ولتغتبط لأن همتها دون همته فالطموح الكبير والآمال الكبيرة والهموم العريضة لا تتحقق إلا بالهمة الكبيرة والنفوس الكبيرة .
5= ظواهر بارزة في القصيدة :
1= محور التجربة وفكرة المقابلة :
هذه هي أبرز الظواهر ولا شك أن التعرف على محور التجربة الشعرية أو تلمس بؤرة التجربة الشعرية يسهم إلى درجة كبيرة في كشف كثير من الظواهر الفنية والفكرية في النص إذا ما حاولنا أن نطبق هذا المبدأ النقدي على القصيدة ففي تقديري أن أول ما يطالعنا هي ظاهرة المقابلة في النص , والمقابلة ليس المقصود بها معناها البلاغي , وإنما هي المقابلة الشاملة النابعة في الأصل من كونها مقابلة التضحية بالنكران والجحود أو الإيثار بالتنكر أو الإحسان بالإساءة , وبين موقف الشاعر ورد الفعل الذي يتوقعه الشاعر من المجتمع .
ولا شك أن المقابلة هنا مرتبطة بمحور التجربة وهي الفكرة التي ملأت نفس الشاعر ودعته إلى نظم هذه القصيدة . ولهذا نرى أن الشاعر أقام بناءه الفكري على أساس من هذه الفكرة فجاءت معاني القوة والجمال والصحة يقابلهامعاني الضعف والعجز والاستكانة والمرض والسقم والقبح , ولا تكن المقابلة مشتملة على هذه المعاني فحسب بل امتدت إلى الصور فانصبت الصور المشعة بالقوة والحياة والصحة وقابلها بالصور الأخرى في الجانب الآخر . واتسقت القيم التعبيرية والتراكيبية مع هذا التقابل . وانتثرت المقابلات في القصيدة حتى كادت تزدحم فالليل يقابله النهار والسماء بالأرض والبياض بالسواد والأسافل بالأعالي . وهذه الأضداد أسهمت في التعبير عن فكرة الشاعر , والقارئ هنا يشعر بأنها لم تأت في القصيدة متكلفة وإنما أبرزت التجربة هذه الأحاسيس .
2= ظاهرة التصوير وأبعادها الفنية :
التصوير إحدى وسائل التعبير عن الفكرة وله دور كبير في نقل الأحاسيس والمشاعر , والتصوير ليس الاستعارة ولا التشبيه البليغ فحسب وإنما التصوير هو شيء فني أبدع فيه الشاعر أيما إبداع , واعتمد عليه اعتماداً كلياً بدليل مساحته الكبيرة في القصيدة .
وتنوعت مصادر الصورة الفنية في القصيدة وجاءت مشحونة بالمشاعر والدلالات والإيحاءات التي أبرزت في النهاية أزمة الشاعر . والمصادر المتناثرة وجدنا أنها مستمدة من عصر الشاعر الذي عمت فيه الأحداث وما ظهر في هذا العصر من سلبيات كثيرة . واستمدها من الإنسان وأوضاعه وأحواله وما ينتابه من سقم ومرض وصحة وجمال وقوة . واستمدها من الكون الرحب الواسع , واستمد بعضها من عالم الحيوان , وبعضها الآخر من عالم النبات وبعضها من ثقافته ومعرفته بأديان الشعوب وعاداتهم .
فمن الصور التي استمدها من العصر قوله : { نمّت بأسرار ليل كان يخفيها – ضرب هاديها . وقوله : قناة ظلماء ما تنفك يأكلها – عهد الخليط فبات الوجد يبكيها – وصيفة لست منها قاضيا وطرا } .
ومن الصور التي استمدها من الحروب وما يحصل فيها من قتل وما يستعمل فيها من أسلحة وما ينجم فيها من آثار وانتصارات وهزائم : { غريقة في دموع – تحرقها أنفاسها –كشباة الرمح هازمة عساكر الليل – كصعدة في حشا الظلماء طاعنة – يخشى عليها الردى ما طنبت قط وغيرها }
أما الصور التي استمدها من البيئة الاجتماعية فمثل : { نمت بأسرار – ولا تكابد حساداً – أو ضرة خلقت – ما عاندتها الليالي – ولا تشكي – تنفست نفس المهجورة وغيرها }
وصور الإنسانية مثل : { سقيمة – تنفست – صفراء هندية –غراء – شعثاء – شيباء – مفتوحة العين – نال من أطرافها –وصيفة .. }
وصور الكون وما فيه من اختلاف كالليل والنهار – و ضياء وظلام – بدت كنجم هوى– نجم رأى الأرض – إلا وأقمر للأبصار – أو ضرة خلقت للشمس }
ومن عالم النبات مثل : { فالوجنة الورد – وردة حمراء –الغصن – أثمرت – ورد تشاك – وغيرها }
ومن عالم الحيوان مثل : { كأنها غرة سال شادخها في وجه دهماء } , ومن ثقافته ومعرفته بالشعوب مثل : { فالهند تقتل بالنيران أنفسها } . ولهذه الصور خصائص يبدو لنا منها :
3 – التجسيم : فقد بدت مقدرة الشاعر الفائقة على خلع الصفات الإنسانية على موصوفه وهذه القدرة أكسبت القصيدة حياة وحركة .
4- الحسية : أغلب هذه الصور حسي يعتمد على إدراكه بالحواس ويغلب عليها الطابع الحسي ولعل حاسة البصر أكثر من غيرها وإن كان منها ما حاول الشاعر أن يشرك فيه صفة أخرى وهي صفة اللمس .
5- وهذه الصور تمتاز بالكلية فليست صوراً جزيئة فأغلبها مما تجاوز فيه الشاعر تصوير جزء بجزء وإنما حاول أن يستغل الشمعة بأحوالها وحركاتها ليربط بينها وبين مظاهر أخرى وليستغل هذه الظروف .
6- التركيبية : فكثير منها جاء تركيباً فربط بين ثلاثة أشياء أو أكثر فغالباً ما يرسم صورة للشمعة وهي صورة الشاعر , عبر مستويات ثلاثة : الشاعر والشمعة والصورة .
7- التلوين : استطاع الشاعر أن يستغل طاقات الألوان وقدرتها على الإيحاء والتلوين . وهذه القدرة تضافرت مع الصور الأخرى لذلك وجدنا اللون الأبيض هو البارز ويمثله : النهار والنار والنجم والشمس والقمر والغرة وكلها ترمز إلى مظاهر الصفاء والخير والإشعاع في الحياة . ولم يغفل اللون الأسود في الليل والظلام والجهل والأدهم والموت الأسود والذوائب .
وجاء اللون الأحمر وهو لون الشبيبة والوجنة والوردة والموت الأحمر المتربص بالشاعر . وجاء اللون الأصفر والذي يوحي بالحسد كالضرة والقناة الهندية والموت .
8- الحركية : صوره ليست جامدة وإنما تتحرك في فضاء واسع وهذا التحرك ساعده على حرية التعبير وساعده من أن يرصد حركته الشعورية .
6= مظاهر الوحدة في القصيدة :
على الرغم من أن القصيدة لم تخرج عن النظام القديم للقصيدة إلا أنني أجد عناصر من الوحدة التي ربطت بين أجزائها , وأهمها :
1= وحدة الموضوع وهو معاناة الشاعر , ومهما تعددت الصور والمعاني والأفكار فإنها تلتقي حول هذا الموضوع وهذا أكسب القصيدة وحدة موضوعية .
2= وحدة الجو النفسي : تسبح القصيدة في جو من الحزن الأسود , وهذا الجو يسيطر على كل أجزاء القصيدة وربما ساعد على توفير هذا الجو كثرة صور القتل وصور الموت والفناء بالإضافة إلى ما شاع فيها من ألفاظ شاركت في رسم هذا اللون كألفاظ المعاندة والمداجاة والمعاداة والبعد والحرقة وغيرها . وألفاظ أخرى تدل على الحزن مثل : الدموع والهجر والبكاء والردى والسقم والقتل والنيران والغريق أدّى انتشارها إلى المساهمة في بناء هذا الجو الحزين . وهكذا فإننا نلاحظ أن المعجم الشعري أسهم في التعبير عن تجربته عبر الألفاظ المتسقة مع المعاني والإشارات .
كما ساعد على تحقيق هذه الوحدة : استغناء الشاعر عن المقدمة التقليدية لأنها قد فقدت القدرة على الإثارة , وأصبحت في العصور المتأخرة اجتراراً لما كان عليه أهل الجاهلية .
7= موسيقى القصيدة :
سكب الشاعر موسيقاه في البحر البسيط وهو بحر يتميز بامتداده لطول تفعيلاته وتنوعها وهذا يعطي الشاعر فرصته للتعبير عن الهموم الثقيلة والمعاناة الطويلة . واستطاع الشاعر أن يوفر في القصيدة أنغاماً إضافية من الموسيقى الداخلية التي تناسب مع الموسيقى الخارجية في إبراز الجو النفسي للقصيدة , ومن هذه العناصر الإضافية التي رفدت الموسيقى الداخلية :
1= عنصر التصريع في أكثر من موضع وذلك لما يضفيه على القصيدة من طلاوة ولما له من موقع من النفس لأنه يحرك الإحساس بالقافية في نهاية البيت قبل الوصول إليها , ولما له من قدرة على جذب انتباه السامع وتوفير كثافة موسيقية مؤثرة .
2= التوازن في القصيدة , حيث وفر الشاعر كثيراً من التوازن في الجمل الموسيقية فجاء البيت وفيه كثير من الجمل المتساوية والمتوازنة إلا أن قمته ظهرت في تقسيمه البيت إلى أربعة أجزاء .
3= استخدام ألفاظ ذات قيمة موسيقية فنية مثل : { غراء –فرعاء – شعثاء – شيباء – غريقة – سقيمة – وحيدة – ضرة –غرة – تكابد – تداجي – عاند – ساهرة – طالعة – هازمة –فالية – مسعدة – مظهرة .. }
8= القافية : بصوتها الممتد المكون من امتداد الياء ثم الهاء وحرف المد بعدها يعطي إيحاءاً بصوت الندب وهو يساهم في رسم الجو النفسي الحزين , وهذا الامتداد الذي يتكئعليه الشاعر بعد كل بيت , فما يكاد يصل إلى نهاية البيت حتى يصرخ , وبذلك ساهمت القافية في التعبير عن تجربته وعمق الالتياع .
9= استغلال إمكانات الرمز :
من البداية قلنا إن الشاعر لا ينتمي إلى مدرسة أدبية بعينها , الشاعر هنا استطاع أن يستخدم اللفظ العربي ويستعمله في اتساع ويضمنه الإيحاء , واستطاع الموازنة بين استعمال الرمز وبين الأسلوب المباشر في التعبير , لذلك نعرف مقاصده ومراميه , وابتعد الشاعر عن المباشرة والتقريرية , قد أعطى القصيدة خصوصية راقت للسامعين وتذوقها المحللون وأثرت فيهم .
10= الروح الاتباعية في القصيدة :
الروح الاتباعية واضحة في شعر هذا العصر لأن الشعراء قد وجدوا إمكانات شعرية سامقة فنسجوا على منواله ولكن الأمر لا يخلو من تفوق لبعض هؤلاء الشعراء ومحاولة الوصول إلى الرعيل الأول من أولئك الشعراء . والمحتذي والمقلد يتفوق على السابق مع الاحتفاظ بالريادة والسبق لمن سبق .
الروح الاتباعية واضحة في بعض أجزاء القصيدة وبخاصة في معاندة الليالي له , ومقاصده التي لم يبلغ أقصاها فضلاً عن أدناها . وهو يقترب من روح المتنبي في حديثه الشجي عن همومه المتكالبة عليه وعن همته التي نجد ما يعرقلها دون تحقيقها , والصلة المعنوية قوية بين هذا البيت :
ولا رمتها ببعد من أحبتها *** كما رمتني بقرب من أعاديها
وبين قول المتنبي :
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى *** عدواً له ما من صداقته بُدُّ
وقوله : واحتمال الأذى ورؤية جانيه *** غذاء تضوى به الأجسام
كما أننا نجد في قوله : غراء فرعاء …. اتكاءً على الأعشى في قوله :
غراء فرعاء مصقول عوارضها *** تمشي الهوينى كما يمشي الوجل الوحل
أما قوله : { صفر غلائلها } فقد قيس قياساً على قول الشاعر الجاهلي بشامة بن حزن :
بيض مفارقنا تغلي مراجلنا *** نأسو بأموالنا آثار أيدينا
وقول صفي الدين الحلي :
بيض صنائعنا سود وقائعنا *** خضر مرابعنا حمر مواضينا
وهذا الالتقاء على هذه المعاني يؤكد أن محفوظ الشاعر من الشعر القديم قد رشح على قلمه أو على لسانه في أثناء صياغة القصيدة , فالثقافة الشعرية تتحول إلى غذاء ثقافي يسري في عروقه الفنية
11= ظاهرة الطبع والتكلف في القصيدة :
الصنعة واضحة فيها يلمح القارئ التأني والتأمل والعمق في رسم صوره وتشكيل معانيه , وأحياناً نلمس آثار ثقافته الفقهية وعمله القضائي , ونلمس القدرات العقلية والمنطقية له , فضلاً عن إحكامه الصنعة الشعرية سالكاً مدرسة شعراء مدرسة الصنعة الذين سبقوه إلا أن هذه الصنعة لم تفقد قصيدته رقتها وعذوبتها فهي تمتاز برقتها وعذوبتها وما فيها من غنائية سواء في الالفاظ والتراكيب ام ملاءمة التراكيب والألفاظ مع بعضهما أم للقالب الموسيقي لذلك رأينا القدامى يشيرون إلى هذه العذوبة في أحكامهم النقدية .
يقول ابن خلكان : (( جمع بين العذوبة والطيب )) ويقول : (( وله ديوان شعر فيه كل معنى لطيف )) ويعبر الأرجاني عن هذا الجانب فيقول :
أنا أشعر الفقهاء غير مدافع *** في العصر أو أنا أفقه الشعراء
شعري إذا ما قلت ردده الورى *** بالطبع لا بتكلف الإلقاء
كالصوت في قمم الجبال إذا علا *** للسمع هاج تجاوب الأصداء
والطبع لا يتعارض مع التنقيح والتهذيب بل إنه يزيده جمالاً ويسد ما في القصيدة من ثغرات واستبدال بعض الألفاظ ببعض على حسب ما يرتضيه ذوق الشاعر ومدى خدمته لصناعته .
12= مآخذ على القصيدة : يؤخذ على الشاعر ما يأتي :
= وقوعه في بعض التكرار والصور المعادة مثل : تكراره لمعنى الموت المتبادل بين الشمعة والظلام في قوله : { تحيي الليالي نوراً وهي تقتلها } { تفني ليلها سهراً } وفي اتكائه الشديد على صورة الرمح التي تطعن أحشاء الظلام { وحيدة كشباة الرمح } و { كصعدة في حشا الظلماء } و { قناة ظلماء ما تنفك } وفي اعتماده على الورد في صورتين متقاربتين الأولى فالوجنة الورد , والثانية ( قد أثمرت وردة حمراء ) وقد يكون في إلحاح فكرة الإحسان بالإساءة على نفس الشاعر بوصفها بؤرة التجربة الشعرية مسوغاً للتكرار الأول .
ولعل في حماسته الشديدة في فكرة تبديد الظلام ونشر أشعة الخير والنور ما جعل الشاعر شديد الإعجاب بصورة الرمح الطاعن في الأحشاء على أن الصورة كان يجري عليها بعض التطوير والتحوير في كل تكرار فهي في الأولى هازمة جيش الظلام , وفي الثانية طاعنة أحشاء الظلماء , وفي الثالثة تأكل الظلماء أسنانها ويمكن أن يقال ذلك في التقاء صورتيه الأخيرتين على الورد , ففي الأولى عقد صلة كاملة عن طريق التشبيه البليغ الذي يجعل المشبه هو عين المشبه به . وفي الثانية جعل الشمعة ثمرة حمراء خالعاً عليها صفة من صفات النبات بشكل عام .
13= مكانة القصيدة في شعر الوصف :
حازت قصيدة الأرجاني على إعجاب النقاد القدماء فذهب النويري في نهاية الأرب إلى أنها من جيد ما قيل في هذا الباب . واعترف لها الصفدي بالإحسان فقال : (( وله قصيدة يصف فيها الشمعة أحسن فيها كل الإحسان , وقد استغرق سائر الصفات ولم يكد يخلّي لمن بعده فضلاً كما فعل ابن الرومي في قصيدته الرائية في وصف السوداء ))
ومن الواضح أن القصيدة من جيد الشعر لأن الشاعر لم يقتصر على أوصافها الخارجية بل وصفها من داخلها وأغوارها كما عبر عن هموم مجتمعه وجسّد صورة عصره من خلال هذا الوصف فمزج الشمعة بهموم وأحواله وبعصره وبمجتمعه فإذا بذلك الوصف يتحول بثاً شجياً وتعبيراً عن تجربته الذاتية في آن واحد .

وقفات تأملية في قصيدة ” الدفتر المصلوب” للشاعر محمد المدخلي
إنها قصيدة باذخة ، لشاعر شامخ ، أما القصيدة فهي ( الدفتر الـمصلوب) ، وأما الشاعر فهو أبوالهيثم محمد جابر المدخلي ، الشاعر المعلم ، فالمعلم يجيد فن القول ، ومتفوق في توصيل ما يريد قوله ، وحينما يتحد المعلم والشاعر في شخص واحد ، فلا تنتظر غير الجمال ، وذاك هو الذي نجده لدى محمد المدخلي .
عتبة العنوان من أهم العتبات في تأمل النص الشعري؛ لأنه أول ما
تقع عليه عينا المتلقي ، فالعنوان لابد أن يكون مغريا ومثيرا ، وقابلا للتأويل ؛ حتى يجذب المتلقي لقراءة النص ، ولو نظرنا في عناوين قصائد شاعرنا نجده يتمتع بقدرة فائقة على اختيار العنوان مدخلا للقصيدة ، فهو بارع جدا في انتقاء عناوينه ، كما هو بارع جدا في نظم قصائده ، فلو نظرنا في بعض عناوين قصائد الشاعر نجد كل عنوان بمثابة قصيدة ، من حيث المفردات والصياغة والخيال ودقة التركيب، ومن تلك العناوين :
رعشةُ الذكريات، و َعثْرةٌ على فوضى الغرام ، أوجاع على باب َمخلوع ،
وعنوان قصيدتنا موضوع التأملات الحالية : الدفتر المصلوب .
وإن تتبعنا قصيدة “الدفتر المصلوب” ، فالقصيدة عبارة عن قصة حب نسجها شاعرنا بضمير المتكلم ، وهو المحب العاشق الذي قطع قربا لذلك الحب ، لكن تقطعت سبل الوصال ، وتصرمت حباله ، ونجح في استخدام عدد من الكلمات التي تخدم ذلك الغرض ومنها : شد ، حبل ، نسج ،المفتول ،وصلا لحبل … ؛ مما جعل مدلول رمزية مقصده واضحة ، لكنها عميقة ، فهذه الرمزية المحببة للمتلقي ، أن يعطيه الشاعر مفاتيح يتمكن بموجبها فك رمزية الشاعر ، لا أن تكون الرمزية غموضا يستحيل معها فهم مرام الشاعر .
ثم ينتقل إلى توضيح التشظي الذي أصاب قلبه ، فالأسئلة تخرج من قلب محطم ، بدافع ذلك الخداع الذي أصابه ، والغدر الذي ألم به ، وإجابات هذه الأسئلة حيرت الأفكار ، وفرقت النبأ.
فقد عانى من الغدر ، وأصابته الدهشة الكبرى لما حدث من غدر وخداع ، وكثرت جروحه ، وأضحى هائما على وجهه في البيداء ، ولم يدر وجهته ، ولم يجد كلأ سوى فتات نفسه ، ثم يبرز الدفتر المصلوب – عنوان النص- بعد بحث وتفتيش، لكنه لا يبقى صامدا ، فما أن يقرأه حتى تتلاشى سطوره.
ثم سكنته الحيرة ، وما عاد له أنيس ، وبقي سجينا لآلامه التي امتدت وتطاولت بحجم الكون ، لكنه يعود إلى قوة إيمانه ، ويلجأ لرب العزة الذي ما خاب لاجئ إليه ، ثم ينتظر الأمل ، فيختم بهذا الاستفهام الذي يخرج عن غرضه الحقيقي لغرض التمني :
فهل تعود المُنى ومالِتسقيني ماء الحياة لِـماضِ ودع الظمأَ
هي قصيدة تنتحي أحيانا في بعض أجزائها ناحية درامية ؛ حيث يبرز
الحوار فيها :
فَقُلت: ماذا تراءى للحبيب وما تَصاعد الحس إ لاّ ِخلتُهُ َهدأ؟
برع الشاعر في نسج صوره ، وأجاد في توظيفها حسب مقتضيات
النص ، ومن ذلك تلك الصورة المعبرة التي أراد بها الشاعر توضيح أن حزنه كبير، وألمه ممتد، وآهاته عظيمة ،تفوق كل المخلوقات :
الكوُن لْمَ يتَِّسْعِ للآِهِ مـْن ألَـمي ولَّالفضاء اُتأ وماخالقيَ بَرأ
وهذه مبالغة ، لكنها حسنة، وليست ممقوتة .
شاعرنا بارع جدا في انتقاء مفرداته ، وكلها ذات إيحاء وظلال ، ومع كثرة الترادفات في اللغة ، لكنه يحسن اختيار المرادف الذي يكون مميزا عن غيره في دقة إصابة المعنى ، ومن ذلك قوله : خاتلتني ، فكان يمكنه أن يقول خادعتني، بنفس الوزن ، ونفس المعنى ، لكن هنا يبرز تميز محمد المدخلي ، وهذه ميزة تسمو به على كثير من الشعراء .
وهنا مفردات متقدة ، تخدم مجالا محددا ، تتضافر معا ؛ لتعطي النص قوة ، وذلك يتمثل في : وميض ،اشتعال ، انطفأ … وهذا قمة التكثيف:
عاثْتِبِه ُظْلَمةُ الأنحاِء واشتعلْت أقداُحهُِ مـْن وميِض الْغْدِر فَاْنَطفَأَ
يحشد الشاعر عددا من الصور التي تصب في المتخيل الشعري ،
فيمنح المتلقي جمالا يفوق الوصف ، ومن ذلك :
الاستعارة في :
لحقني صدى جروحِ لتسبقني ماءَ الحياةِ لـماضِ ودع الظمأ
ويأتي بالترادف الذي يؤكد المعنى في :
انطفأ ، تلاشى
كما نلمح الطباق ؛ حيث التضاد الذي يوضح المعنى، وذاك كثير في النص، سواء كان تضادا بين مفردات أو بين مواقف ، ومن ذلك الطباق بين :
تَصاع َد ، هدأ ، وأيضا بين : أ ْسئلةٌ ، َجوابُها كما يجيد شاعرنا صوغ الكنايات بشكل احترافي، ويبدو ذلك في
مواضع كثيرة من النص، ومنه:
ما خالقي َبرأ
وهي كناية عن موصوف، ويقصد بها جميع المخلوقات التي برأها
الخالق البارئ عز وجل .
وهنا كناية أخرى عن موصوف أيضا ، والمقصود بها “رب
العالمين” في :
َسأَشتَكيه ِلـمـن تَأتي الخصوم لَهُ
ثم يبرز التشخيص في :
ل ح ْب ٍل ش ا َخ تدافعت أسئلة
ينوع شاعرنا بمهارة بين الجمل الاسمية ، ومنها :
َجيشان في لَ ْهو ِه العاتي الكو ُن ل ْم َيتَّ ِس ْع ِللآ ِه ِمـ ْن ألَـمي
والجمل الفعلية ، ومنها :
َم َك ث ْ ُت ح ي ر ا َن لَّ َح ْد ٌس ي ؤ ا ن س ن ي َو َع ا َش ِس ْج ن ً ا ِب ق ُ ْض ب ا ٍن ل َ ه ُ
لكن استخدامه للجمل الفعلية كان أكثر، وذاك لأن النص يضج بالحركة
ولا يقبل السكون ، فكان ملائما جدا أن تكثر فيه الأفعال .
ومن ذلك أنه حشد بعض الأبيات بعدد من الأفعال المتعاقبة ؛ مما
أدى إلى منح النص حيوية وحركة دؤوب ، يتضح ذلك في هذا البيت الذي ذكر فيه الشاعر أربعة أفعال :
لعَّلإيماءةًللودتَْجَعلُني أُقيُم َو ْصًلالحْبٍلشا َخواهتَرأ
تلاعب الشاعر باقتدار بأماكن الكلمات ، فقدم ما حقه التأخير؛ كي
يمنح النص معاني إضافية ،ويفتح له آفاقا احتمالية أوسع ، ومن ذلك :
َش َّد َح ْب َكتَهُ َوفا ُء َح ْر ٍف
فترتيبها الطبيعي : شد وفا ُء حر ٍف حبكته ، فأ ّخر الفاعل وقدم المفعول به.
يعتمد الشاعر الحذف للاختصار ؛ فـ : ” حذف ما يُعلم جائز “، ومنه :
َجيشاِنفيلَْهوِهالعاتيتُعارُكهُ ِريُحالصباباِتِمـْنَحْصبائها َصَبأَ
أي هما جيشان ، فحذف المبتدأ للعلم به وللاختصار. وكذلك في البيت :
الكوُن لْمَ يتَِّسْعِ للآِهِ مـْن ألَـمي ولَّالفضاء اُتأ وما خالقيَ بَرأ
فأصل المعنى : ولا الفضاءات تتسع … لكن المعنى مفهوم يفسره الفعل المذكور قبله.
واتكاء على ثقافته القرآنية ، نجد أن شاعرنا يقتبس من القرآن الكريم
قصة الهدهد وسبأ في سورة النمل ، حينما يقول :
َمَكثْ ُتحيرا َنلَّ َحْد ٌسيؤانسني َو ُهْد ُهِديغا َبعنيواقتفى َسَبأ
وهذا من قوله تعالى : ” مالي لَّا أرى الهدهد…” النمل 20 و ” وجئتك من سبأ بنبأ يقين ” النمل 22
تنوعت أساليب شاعرنا في نصه ما بين الخبر والإنشاء ، فمن الإنشاء
نجد الترجي في :
لعَّل إيماءةً للود تَْجَعلُني أُقيُمَ وْصًلا لحْبٍل شاَخ واهتَرأ
والاستفهام بغرض التمني :
فََهْل تَعُوُد الـُمنىَ يْوًماِ لتَْسِقَيني ماَء الحياِةِ لـَماٍضَ وَّدَع الَّظَمأَ
واستفهام آخر بغرض التعجب :
ماذا دهى النبرةَ القُصوى َو َسطوتَها أم ُكلَّما لَّح َصوتي للوصال نَأَى؟!
القصيدة من بحر البسيط الذي “يبسط لديه الأمل” بتفعيلاته الثنائية : مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن ، تتكرر مرتين في كل شطر ، والبسيط بحر رحب طويل ، يتسع لاحتواء مكنونات الشاعر ، ويقدر على استيعاب معانيه ، مهما كثرت .
أما حرف الروي فهو الهمزة ، والهمزة حرف حلقي عميق المخرج قوي الصوت ، وهنا اختار شاعرنا أن تأتي همزته مفتوحة ، كانه يوحي لنا بإطلاق معانيه ، وتدفق صوره دون توقف.
جاء البيت الأول مصرعا ؛ حيث اتفق آخر حرف في كل شطر منه:
قَ َط ْع ُت قُ ْربًا ِلذَا َك ال ُح ِب ُم ْذ َب َدأَ فَخانني نَ ْس ُجهُ الـ َم ْفتو ُل َواتَّ َكأ
والتصريع، ويس ّمى أيضا التقفية الداخليّة، يكون باتّباع عروض البيت لضربه.
حرف السين ، وهو من حروف الصفير، أعطى الأبيات جرسا
موسيقيا رائعا ، وذلك بتكراره كثيرا في النص، ومنه ثلاث مرات في بيت واحد:
َمَكثْ ُتحيرا َنلَّ َحْد ٌسيؤانسني َو ُهْد ُهِديغا َبعنيواقتفى َسَبأ
كذلك تكرار حرف القاف في بيت واحد ثلاث مرات ، له أثره في
إحداث نغمة موسيقية :
تَقَلَّبت ِقبلَتي بالبيد ماو َجدت إلا فُتاتي ِلكي يبقى لَهُ َكلَ
ويختم شاعرنا قصيدته “قصته” بهذا التساؤل المفتوح الذي يحمل
معنى التمني :
فََهْل تَعُوُد الـُمنىَ يْوًماِ لتَْسِقَيني ماَء الحياِةِ لـَماٍضَ وَّدَع الَّظَمأَ
الدفتر المصلوب نص ماتع ، عميق ، فاره، باذخ ، لشاعر عظيم ،
متفرد ، متمكن ، لا أدعي أنني أحطت بالنص من جميع جوانبه في هذه القراءة التأملية ، فعبقرية المدخلي صعب سبرها ، ولكن حسبي أنني أطلقت إشارات ،تضيء الطريق لقراءات أكثر عمقا .
( الدفترُ الـمصلوب)
قَطَعْتُ قُرْبًا لِذَاكَ الحُبِّ مُذْ بَدَأَ
فَخانني نَسْجُهُ الـمَفْتولُ وَاتَّكَأ
على دَفِينٍ وَشَعْرٍ شَدَّ حَبْكَتَهُ
وَفاءُ حَرْفٍ لِتِبْرٍ يَنْبُذُ الصَّدَأ
تَدافَعَتْ في شَظَايا القلبِ أسْئلةٌ
جَوابُها شَتَّـتَ الأفْـكارَ والنَّبَأَ
ماذا دهى النبْرةَ القُصْوى وَسَطْوتَها
أمْ كُلَّما لاحَ صَوتي للوصَالِ نَأَى؟!
أينَ الـمرايا التي باتتْ تُحَدِّثُني
قدْ خاتلَتْني بِجُرْحٍ بيننا نَكَأَ؟
لَمْ تَدَّخِرْ عَمْدَ تَعْذيبٍ تَقُدُّ بِهِ
خَيطًا لِذَاكرتي يَقْتادُني خَطَأَ
أُصِبْتُ بالدهشةِ العُليا وَلاحَقَني
صَدَى جُرُوحٍ تَعَالَتْ كُلَّما طَرَأ
تَقَلَّبَتْ قِبْلَتي بالبيدِ ما وَجَدَتْ
إلا فُتاتي لِكي يَبْقى لَهُ كَلَأَ
فَقُلْتُ: ماذا تراءى للحبيبِ وما
تَصاعدَ الحِسُّ إلَّا خِلْتُهُ هَدَأ؟
جَيشانِ في لَهْوهِ العاتي تُعاركُهُ
رِيحُ الصباباتِ مِـنْ حَصْبائها صَبَأَ
عاثتْ بِهِ ظُلْمَةُ الأنحاءِ واشتعلتْ
أقداحُهُ مِـنْ وميضِ الغْدْرِ فَانْطَفَأَ
يُفَتِِّشُ الدفترَ الـمصْلوبَ مُعْتَمِدًا
على سُطُورٍ تَلاشَتْ حَيثما قَرَأ
مَكَثْتُ حيرانَ لا حَدْسٌ يؤانسني
وَهُدْهُدِي غابَ عني واقتفى سَبَأ
وَعَاشَ سِجْنًا بِقُضْبانٍ لَهُ استندتْ
على عَذَابٍ لِـمَـنْ في قَلْبِهِ نَشَأَ
الكونُ لمْ يَتَّسِعْ لِلآهِ مِـنْ ألَـمي
ولا الفضاءاتُ أو ما خالقي بَرَأ
سَأَشْتَكيه لِـمَـنْ تَأتِي الخُصومُ لَهُ
على صَغَارٍ وَمَا خَابَ الذي لَجَأَ
لعلَّ إيماءةً للود تَجْعَلُني
أُقيمُ وَصْلًا لحبْلٍ شاخَ واهترَأ
فَهَلْ تَعُودُ الـمُنى يَوْمًا لِتَسْقِيَني
ماءَ الحياةِ لِـمَاضٍ وَدَّعَ الظَّمَأَ

همهمات في قصيدة
همهمات في قصيدة
ما لم تقله زرقاء اليمامة
للشاعر السوداني/ محمد عبدالباري
النص:
شيءٌ
يُطلُّ الآن من هذي الذرى
أحتاجُ دمعَ الأنبياءِ
لكي أرى
النَّص للعرَّاف.. والتأويل لي
يتشاكسانِ، هناك “قال” و”فسرا”
ما قلتُ للنجم المعلَّقِ: دلَّني
ما نمت كي أصطاد رؤيا في الكرى
شجر من الحدسِ القديم
هززتُه
حتَّى قبضتُ الماء حين تبخرا
لا سِرّ
فانوس النبوءة قال لي
“ماذا سيجري”
حين طالع “ما جرى”
في الموسم الآتي.. سيأكل آدمُ
تفاحتينِ
وذنبه لن يغفرا
الأرض سوف تشيخُ
قبل أوانها
الموتُ سوف يكون فينا أنهرا
وسيعبر الطوفان من
أوطاننا
من يقنعُ الطوفانَ ألا يعبرا؟!
ستقول ألسنة الذُّبابِ
قصيدةً
وسيرتقي ذئبُ الجبالِ المنبرا
فوضى…
وتنبئ كل من مرت بهم:
سيعود سيف القُرمطيُّ ليثأرا
وسيسقط المعنى
على أنقاضِنا
حتى الأمام سيستديرُ إلى الورا
في الموسم الآتي
ستشتبكُ الرؤى
ستزيد أشجار الضَّبابِ تجذُّرا
وسيُنكرُ الأعمى عصاه
ويرتدي
نظارتين من السرابِ ليبصرا
سيرى القبيلة وهي تصلب
عبدَها
فـ “الأزدُ” لا زالت تخافُ “الشَّنفرا”
سيرى المؤذن والإمام
كلاهما
سيقولُ “إنَّا لاحقان بقيصرا”
في الموسم الآتي
مزادٌ مُعلنٌ
حتى دم الموتى يُباعُ ويُشترى
ناديت: يا يعقوبُ
تلك نبوءتي
الغيمة الحبلى هنا لن تُمطرا
قال: اتَّخدْ هذا الظلام
خريطةً
“عند الصباح سيحمدُ القومُ السُّرى”
لا تبتئس
فالبئر يومٌ واحدٌ
وغدا تؤمِّرك الرياحُ على القُرى
اخلع سوادَك
في المدينةِ نسوةٌ
قطَّعنَ أيديهنَّ.. عنك تصبُّرا
قمْ صلِّ نافلة الوصول
تحيَّةً
للخارجين الآن من صمتِ الثَّرى
واكشف لإخوتك الطريقَ
ليدخلوا
من ألف بابٍ إن أرادوا خيبرا
ستجيئ سبعٌ مرَّة
فلتخزنوا
من حكمة الوجع المصابر سكَّرا
سبع عجاف
فاضبطوا أنفاسكم
من بعدها التاريخ يرجعُ أخضرا
هي تلك قافلة البشيرِ
تلوحُ لي
مدُّوا خيام القلبِ
واشتعلوا قِرى
أشتمُّ رائحةَ القميصِ
وطالما
هطلَ القميصُ على العيون وبشَّرا.
هذه القصيدة هي أخت قصيدة الشَّاعر المصري أمل دنقل: البكاء بين يدي زرقاء اليمامية، التي يقول فيها:
“أيتها العرَّافة المقدَّسهْ..
جئت إليك، مثخناً بالطعنات والدماءْ
أزحفُ في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدَّسهْ
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء
أسال يا زرقاء..
عن فمك الياقوت عن نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع.. وهل ما يزال ممسكا بالراية المنكَّسهْ
عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء
عن جاري الذي يهم بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاصُ رأسَه في لحظة الملامسَهْ!
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء!”
في هذا النص يتناول الشَّاعر أمل دنقل قصة عنترة العبسي، وما لحق به من ظلم رغم فروسيته، وكيف أنه يدعى إلى النزال، ويعزل عن ساحات الأنس والمجالسة:
“أدعَ إلى الموت.. ولم أدعَ إلى المجالسَهْ”
كما يضمن فيها قول الزباء بنت عمرو بن الظَّرب عن شيم الغدر، والخيانة:
ما للجمالِ مشيُها وئيداأجندلاً يحملن أم حديدا
إضافة إلى تناوله زرقاء اليمامة، وقصة تكذيب قومها لها.
كُتبت قصيدة أمل دنقل في أعقاب هزيمة السابع والستين، وهي تحكي انكسار الشعوب على أيدي حكامها، وما النص الذي بين أيدينا ببعيد عنها.
تمهيد:
من أجمل المتع عندي التَّناص؛ فهو إحالة ذكية، ثقةً من الأديب، والشَّاعر خاصة في المتلقي، لخلقِ مقارنةٍ بين ما أتى الشاعر، وما كان سائدا سلفا. كما إن في التَّناصمتعة التلقي التي سبقت العطاء، فالأديب، واثق من خطوه نحو رحاب اللغة آخذٌ من ذات الماعون الذي نهل منه من سبقه، معتدا بما عنده، وما أوحي إليه من الجمالالمستحدث.
ومعلوم من الأدب بالضرورة أن بعض الأدباء عدُّوا سرقات المتنبي، تناصا، وثقافة كبيرة، وإدراكا للكثير من العلوم الإنسانية، وحفظ للكثير من الأشعار العربية، بل ومعالجة لتلكم الأشعار لتخرج بعد رحيقِ زهرٍ عسلا. أقول هذا تمهيدا للكثير من التَّناصات التي سنجنيها معا في هذا النص الكبير.
عودا إلى النص:
كنت قد أكملت نقدي للقصيدة هذه دون الاطلاع عليها في أصلها، أعني ديوان مرثية النار الأولى، والحق أني فوجئت بها في الديوان مكتوبة على طريقة التفعيلة، وهي طريقة كان يحبذها أستاذنا، الشَّاعر الكبير، محمد مفتاح الفيتوري (عليه شآبيب الرحمة)، وقد لاحظت أن الكثير من شعرائنا الشباب قد سلكوا ذات المسلك. فهل كانت تلك محاولة منهم بسرقة القارئ الذي ملَّ القصيدة طويلة التفعيلات في وضعها العمودي العتيق؟، ربما!
في عملي هذا عدلت طريقة كتابتها وفق الأصل بالديوان، لكني سأحتفظ في الشرح بالطريقة العمودية التي وجدتها عليها في الشبكة العنكبوتية. والقصيدة بالتأكيد من بحر الكامل في صورته التامة.
النبوءة:
شيءٌ يُطلُّ الآن من هذي الذرىأحتاجُ دمعَ الأنبياءِ لكي أرى
النَّص للعرَّاف والتأويل لييتشاكسانِ، هناك قال وفسرا
ما قلتُ للنجم المعلَّقِ دلَّنيما نمت كي أصطاد رؤيا في الكرى
شجر من الحدسِ القديم هززتهحتَّى قبضتُ الماء حين تبخرا
لا سِرّ فانوس النبوءة قال ليماذا سيجري حين طالع ما جرى
مطْلَعُ القصيدة كبير، والإشارة فيه إلى التراث الإسلامي عظيمة، ومحتوى الإنذار الذي بالنص أمرٌ مهولٌ لا يُصدَّق، مما احتاج فيه الشَّاعر أن يذهب مذهب التَّناص، مستدعيًا صورة مشابهة فجاء بصورة أشبه بفعل النَّبي صلى الله عليه وسلم، حين أنزل عليه قوله تعالى: ” وأنذر عشيرتك الأقربين”
إذ جاء في تفسير الطبري:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن عمرو بن مرَّة الجَمَليُّ، قال: لما نزلت “وأنذر عشيرتك الأقربين” قال أتى جبلا (يقصد رسول الله) فجعل يهتف: “يا صباحاهُ”، فأتاه من خف من الناس، وأرسل إليه المتثاقلون من الناس رسلا، فجعلوا يجيئون يتبون الصوت؛ فلما انتهوا إليه قال: “إن منكم من جاء لينظرَ ومنكم من أرسل لينظر من الهاتف” فلما اجتمعوا وكثروا قال: “أرأيتكم لو أخبرتكم أنَّ خيلاً مصبِّحتكممن هذا الجبلِ، أكنتم مصدِّقِيَّ؟” قالوا: نعم، ما جربنا عليك كَذباً، فقرأ عليهم هذه الآيات، التي أنزلن، وأنذرهم كما أُمر، فجعل ينادي: “يا قريش، يا بني هاشم” حتى قال: “يا بني عبدالمطلب، إني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد”.
نعم، يستدعي الشَّاعر تلكم المشاعر، وذلك الموقف إيذانا بعظمة ما يريد أن يقوله في هذه القصيدة، لكنه يقولها صراحة، أن ثمة ما يطل من وراء هذه الذرى، ثم يعجز أن يتبين ماهية هذا الشيء، فيقول بحاجته إلى دمع الأنبياء لتتبين له الرؤية، وفي قوله، دمع الأنبياء، إشارة إلى رأفتهم، ورقة قلوبهم على أقوامهم، ولعلَّه يعني أنه يحتاج إلى صفاء أكثر، وقرب من الله أكثر لتتبين له الرؤية.
ثم يمضي قدما:
النَّص للعرَّاف والتأويل لييتشاكسانِ، هناك قال وفسرا
النَّص للعرَّاف والتأويل لي
ههنا يستدل بصورة أخرى لما هو حادث مستقبلا، فيقول إن النص الذي هو بصدد الحديث عنه إنما هو للمنجِّم، وإنه إنِّما أوَّلَ قولَ المنجِّم، إلا أن الشَّاعر يخرج من النص، ويكون طرفًا ثالثًا بعد أن كان يقول:
شيءٌ يُطلُّ الآنَ من هذي الذُّرىأحتاجُ دمعَ الأنبياءِ لكي أرى
يأتي في البيت الذي يليه مباشرة ليقول:
النَّص للعرَّاف والتأويل لييتشاكسانِ، هناك قال وفسرا
وإنما أستشفُّ خروجه من قوله، “والتأويل لي” ثم يأتي بشخصيتين، تقول إحداهما أمرا، وتفسره الأخرى. ولعل الألف في “فسرا” هي للإشباع، وليست ألف اثنين، إذ ليس ثمة ما يدل على وجود ثلاث شخصيات في البيت.
ثم إن الشَّاعر يذهب في البيت الثالث:
ما قلتُ للنجم المعلَّقِ دلَّنيما نمت كي أصطاد رؤيا في الكرى
يذهب إلى تناص آخر، وهو ما جاء عن نبي الله إبراهيم حين نظر إلى السماء فقال بسقمه، وذلك في قول الله تعالى: “فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم”. وهو اتكاء جميل على القرآن، إلا أن الشَّاعر يتناول الأمر بصورة مختلفة، ومبتدعة، وهذا هو شأن الشِّعراء الكبار، يقول أنه لم يقل للنجم المعلق في السماء هناك، أن يدله على ما هو حادث، ثم يردف أنه ما نام كي يصطاد رؤيا في النوم، وفي ذلك تناص مع موقف في القرآن وإشارة إلى رؤى الأنبياء عموما، التي تعد أمرا من الله ووحيا، فالشاعر ههنا في رؤياه في حالة من حالات التنبؤ، والصفاء الروحي، لكنه وفي صورة جميلة وواثقة، ينفي أنه كان نائما، ما يعني أنه بصدد تأكيد رؤياهوأنها واقع يسبق إليه أهله تنبؤًا، والصورة في قوله “أصطاد رؤيا في الكرى”، فيها تصوير جميل سالب للألباب، وفيه تناص مع قول ابن نباتة المصري:
ومولع بفخاخٍ يشدُّها وشباكقالت العين: ماذا يصيد؟ قلتُ كراكِ
ثم إنه يقول:
شجر من الحدسِ القديم هززتهحتَّى قبضتُ الماء حين تبخرا
إن ما هو بصدد الوصول إليه، من شأن، ونبوءة إنما هو هزٌّ لشجر الإدراك في الزمان الغابر، ليسَّاقَط بيديه الماء الذي تبخر حين هزَّ شجر الإدراك وحانت لحظة التنبؤ. فالشَّاعر يهز شجر الإدراك، والتنبؤ، فتتبخر أوراق الشجر بدلا من أن تتساقط، في صورة مخالفة للواقع، ثم إنه ولأنه فوق شجر الإدراك يقبض ما تبخر أنباءً من الأحداث المتوقعةِ ماءً، ليوافينا به. إنها قدرة تخيلية كبيرة، وإدهاش يجعل المتلقي في حيرة من هذا الأداء الكبير، وحق الاحتفال بهذا النص الكبير الكبير.
لا سِرّ فانوس النبوءة قال ليماذا سيجري حين طالع ما جرى
ويمضي الشَّاعر في إنكاره، فهو فيما سبق لم يسأل النَّجم المعلَّق عن أخبارٍ ونبوءات، ولم ينم ليرى رؤيا يمكن تأويلها، ها هو ههنا أيضا ينكر أن يكون فانوس النبوءة قد قال له ماذا سيجري حين طالع ذلك الفانوس المستقبل بعين النبوءة.
ثمَّ إن الشَّاعر في هذا البيت يستعير فانوس علاء الدين، لكن كعادة الشِّعراء الكبار الذين لا يأتون بالنص المستفاد منه فجَّا، يجعل الفانوس لنبي، لا لعلاء الدِّين، ولا تخفى علينا إمكانية ذهابه إلى قوله: “يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا* وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا”.
أحداث النبوءة وبدء الخلق من جديد في صورة مغايرة للوقائع السابقة:
في الموسم الآتي سيأكل آدمتفاحتين وذنبه لن يغفرا
الأرض سوف تشيخ قبل أوانهاوالموت سوف يكون فينا أنهرا
وسيعبر الطوفان من أوطاننامن يقنع الطوفان ألا يعبرا
ستقول ألسنة الذُّباب قصيدةًوسيرتقي ذئب الجبال المنبرا
فوضى وتنبئ كل من مرت بهمسيعود سيف القرمطي ليثأرا
وسيسقط المعنى على أنقاضِناحتى الأمامَ سيستدير إلى الورا
في الموسم الآتي ستشتبك الرؤىستزيد أشجار الضَّبابِ تجذُّرا
وسيُنكرُ الأعمى عصاه ويرتدينظارتين من السرابِ ليبصرا
سيرى القبيلة وهي تصلب عبدهافالأزد لا زالت تخاف الشَّنفرا
سيرى المؤذن والإمام كلاهماسيقول إنَّا لاحقان بقيصرا
في الموسم الآتي مزاد مُعلنٌحتى دم الموتى يُباع ويُشترى
اتسمت القصيدة بالتجديد في الأحداث الغابرة، فهي لا تتكئ على التراث اتكاءً ساذجًا، بل تغير في الأحداث، وتجدد بصورة مغايرة ولافتة للنظر إبهارا، هذه قصيدة تأتي بخلق جديد، لا تمضي قدما في وصف الأحداث المعروفة لدينا ولدى جميع الأمم من خلق الكون وآدم، وأحداث الطوفان.
تتالى صورة النبوءات في الأبيات التاليات على النحو الآتي:
النبوءة الأولى:
في الموسم الآتي سيأكل آدمتفاحتين وذنبه لن يغفرا
آدم (الإنسان الحديث) لن يأكل تفاحة واحدة، وإنما سيبالغ قليلا، فيأكل تفاحتين، إمعانا في طلب الخلود، ثم إن آدم ههنا لا يعترف بذنبه لربه، ولا يحصل على الغفران. وفي ذلك ما فيه من إيحاء من كثير إفساد الإنسان في الأرض، وعتوه واستكباره، وكفره بالله.
نعم، يفتتح الشَّاعر أحداث النبوءة بإعادة خلق آدم (عليه السلام) بسيناريو جديد، فآدم سيأكل تفاحتين، بدلا من تفاحة واحدة، وفق ما تعارف عليه الناس، هذا مع الاختلاف في أصل الشجرة التي أكل منها آدم، ضاربا آدمٌ صفحا بأمر الله ألا يقرب الشجرة هو وزوجته، مصدقا إبليس الذي غره، وما زال الخلود تَطَلُّع البشر إلى يومنا هذا، ثم إن آدم لن يغفر لذنبه، في هذا السيناريو الجديد، وقد غُفر له سابقا بقوله تعالى: “فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم”
النبوءة الثانية:
ينبه الشَّاعر المتلقي إلى ضرورة ما سيقوله فيأتي بالأرض مبتدأ، وحقها التأخير في مثل قولنا، ستشيخ الأرض، ثم إنه يضيف مؤكدا “قبل أوانها” ثم يأتي بالموت بصورة مفاجأة أيضا، إمعانا في لفت الانتباه لهذه النبوءة المهمة، ويصفه بأنه سيكون أنهرا، ويأتي بصفة الموت بأن ستسيل دماء كثيرة، وستجري الدماء كالأنهار في صورة مخيفة جدًا.
الأرض سوف تشيخ قبل أوانهاوالموت سوف يكون فينا أنهرا
ولما كان ارتباط آدم بالأرض سلفا حيث يقول الله تعالى: “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة” يلج الشاعر في الأرض بعد ذكر آدم، ويهبها من الصفات عكس ما كانت عليه أرض آدم من البكارة، ذلك أنها تشيخ قبل أوانها، ولعل في هذا إشارة إلى إفساد الأرض وتأثيرالإنسان على البيئة ببعث كل أسباب الفساد فيها، وفي الفضاء، تأثيرا منعكسا عليها، ثم إن الموت سيجري على تلكم الأرض أنهرا. وههنا عموم في بلاء سيُبتَلى به أهل الأرض جميعا، ومن غرائب نبوءة هذا النص أنه لم يقل إن الدم سوف يكون فينا أنهرا، وإنما قال: “والموت سوف يكون فينا أنهرا” وقد كان بالفعل الموت عظيما إبان ظهور وباء كورونا (COFID-19)، وقال في نبوءة أكبر:
وسيعبر الطوفان من أوطاننامن يقنع الطوفان ألا يعبرا
وههنا يأتي بذكر طوفان في تأكيد لإعادة صورة طوفان نبي الله نوح (عليه السلام)، في إشارة سابقة لأوانها من التصريح الذي سيأتي لاحقا، لحياة ثانية بعد فناء الحياة، وإعمار الأرض بالناجين ممن ركبوا سفينة النجاة من المؤمنين. وهو وههنا يَذْكُر أمته بخصوصية، فيقول: إن الطوفان سيمر من أوطاننا، ذلك أن لا مفر من عبوره من أوطاننا، فهل كان ذلك عبور كورونا عبر الشرق الأوسط إلى أوروبا؟!
ثم يمضي قدما في النص:
ستقول ألسنة الذُّباب قصيدةًوسيرتقي ذئب الجبال المنبرا
فوضى وتنبئ كل من مرت بهمسيعود سيف القرمطي ليثأرا
وسيسقط المعنى على أنقاضِناحتى الأمامَ سيستدير إلى الورا
في الموسم الآتي ستشتبك الرؤىستزيد أشجار الضَّبابِ تجذُّرا
وسيُنكرُ الأعمى عصاه ويرتدينظارتين من السرابِ ليبصرا
سيرى القبيلة وهي تصلب عبدهافالأزد لا زالت تخاف الشَّنفرا
سيرى المؤذن والإمام كلاهماسيقول إنَّا لاحقان بقيصرا
في الموسم الآتي مزاد مُعلنٌحتى دم الموتى يُباع ويُشترى
ثم تتوالى الأفعال المضارعة في تتالٍ للأحداث المستنبأة: “ستقول، وسيرتقي، سيعود، سيسقط، سيستدير، ستشتبك، ستزيد، سينكر، سيرى، سيقول، يباع، يشترى.
نجد في هذا الجزء من النص أن الأفعال تتالى مما يعني تتابع الأحداث، وإسراعها في الذهاب إلى النهاية المحتومة.
ستقول ألسنة الذُّباب قصيدةًوسيرتقي ذئب الجبال المنبرا
لفهم هذا البيت فإننا نحتاج إلى معرفة معنى الذباب، وبما أن الذباب مفرد، وجمعها أذِبة على القلة وذِبَّان على الكثرة، وبما أن الشاعر أتى بألسنة، فقد خرج من المعنى الذُّباب، والنحلة، لكونهما مفرد وألسنة جمع، إلا إذا تصورنا تلون لسان الذباب، نفاقًا، وهذا ما أستبعده، إذن، لم يبقَ من معنىً مؤولٍ إلا حد السيف، وهو طرفه الذي بين شفرتيه، وعليه فإن المعنى الذي قد يُتبادر إلى الذهن من تصور تعاطي مدعي الشاعرية الشِّعر أراه معنىً غير وارد، وإنما المعنى المقصود هو أن الموت سيكتب قصيدةً استشراءً، وهو ما يتسق مع المعنى العام للقصيدة، وفيه نظر برأيي إلى قول أبي تمام في مدح المعتصم بالله أبا إسحق محمد بن هارون الرشيد:
السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ
وإن ذهب عجز القصيدة بمن لم يستطعْ تحري التأويل إلى المنبر، ما قد يعتقد أن معنى البيت يعني الشِّعر والنثر.
وفي العجز يقول الشاعر: وسيرتقي ذئب الجبال المنبرا، وفي تخصيص الذئب بأن يكون ذئب الجبال دون السهول ما فيه من معانٍ يمكن استنباطها، من مثل أن يكون ذئب الجبال أكثر دهاء، وحيلة وبطشا ربما. وأن هذا النوع من الناس سيعتلي المنصة وسيكون له وسائله في الإعلام المرئي، لأن المنبر مكان يُرى فيه الخطيب ويُسمع صوته بعد اجتماع الناس له.
ثم يبدأ البيت التالي بقوله “فوضى” مدويةً هكذا دون ضمير سابق لها، كأن يقول “هي فوضى”، بكل ما يمكن أن تحمله هذه الكلمة مفردة من معاني الدمار والتشتت، ثم إنه يردف بقوله “وتنبئ كل من مرت بهم” أي تلكم الفوضى والدمار الشامل، ثم يتكئ على التراث والتاريخ، ويأتي بالقرامطة الذي قتَّلوا الحُجَّاج في بيت الله في الشهر الحرام في أيام الحجة زيادة في استقباح الدمار.
فوضى وتنبئ كل من مرت بهمسيعود سيف القرمطي ليثأرا
ثم إن المعاني ستسقط على أنقاض الناس جراء تلكم الفوضى والدمار، وسيتغير الزمان، فيعود من كان في الإمامة إلى الوراء، ما يعني تغير مواضع الناس ومناصبهم، ومكانتهم الاجتماعية، حيث تتبدل الأخلاق، فيرى القبيح حسنا، والحسن قبيحا، ويؤمر على الناس رذالهم وهي نبوءة تحققت، إذ تغيرت الأمور بالكوكبِ، وآلت الأمور إلى من هو غير أهل لها، وقد صدقت هذه النبوءة، فارتقى إلى سدة الحكم في أميركا، والعديد من الدول من ليسوا أهلا للحكم بحسب رأي الحكماء والمراقبين.
ودليلنا على ذلك عجز البيت السابق، ومعاني البيت اللاحق:
وسيسقط المعنى على أنقاضِناحتى الأمامَ سيستدير إلى الورا
في الموسم الآتي ستشتبك الرؤىستزيد أشجار الضَّبابِ تجذُّرا
حيث إن الحياة في هذا الموسم تشتبك فيها الرؤى، وتزداد الضبابية في الرؤى، بل وتتجذر في الأرض هذه الرؤى الضبابية، ويتأكد ثباتها، وكلها وقائع أثبتها الزمان.
ثم يأتي الشاعر بأدلة على صدق مقاله فيقول:
وسيُنكرُ الأعمى عصاه ويرتدينظارتين من السرابِ ليبصرا
في إشارة إلى أن الناس لن تأخذ بأسباب الحياة، والسلامة، إذ إن عصى الأعمى دليله ومرشده من أن يتردَّى في حفرة او يصطدم بجدار، ثم إنه لم يتخل عن عصاه ليحصل على ما هو خير منه، إذ أنه استبدلها بنظارتين من العدم، توهمًا منه أنه سيبصر شيئا، “كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاهُ وما هو ببالغه”.
في البيت خطأ لغوي، إذ إن الارتداء يكون لما يلبس، والنظارة لا تلبس وإنما توضع، فوق العينين، معلقة بساقيها أعلى الأذنين، والحذاء كذلك لا يلبس، وإنما ينتعل.
في البيتين التاليين يوضح الشاعر رؤية الأعمى الذي تخلى عن وسيلته السليمة، واتخذ وسيلة أخرى لا جدوى منها، فما الذي يراه؟
سيرى القبيلة وهي تصلب عبدهافالأزد لا زالت تخاف الشَّنفرا
سيرى المؤذن والإمام كلاهماسيقول إنَّا لاحقان بقيصرا
يقول إن الأعمى سيرى القبيلة وهي تصلب عبدها، إذ إن الأزد ما زالت تخاف الشنفرى، وفي البيت خطأ علمي، إذ إن الشنفرى ليس عبدًا، يحدث عنه المفضل الضبي فيقول: “الشنفرى شاعر جاهلي من بني الحارث بن ربيعة بن الإواس بن الأزد بن الغوث”
ولعل الشاعر قد اختلط عليه الأمر بيد أنه من الخلعاء، العدائين. وليس ثمة مجال لمن يحاول الذهاب إلى غير ما رأينا، وذلك أن تشبيه التمثيل في البيت لا يدع مجالا لأي تأويل آخر غير أن الشنفرى برأي الشاعر عبد للأزد، والحقيقة غير ذلك، إذ إنه منها، وقتل بالفعل، ولكن من بني سلامان.
ثم إن الأعمى سيرى بنظارتيه تينكم، الإمام والمؤذن وهما يعلنان لحوقهما بقيصر، في تناص مع قصيدة امرئ القيس:
سَما لَكَ شَوقٌ بَعدَما كانَ أَقصَرا وَحَلَّت سُلَيمى بَطنَ قَوِّ فَعَرعَرا
حيث يقول:
بَكى صاحِبي لَمّا رَأى الدَربَ دونَهُ وَأَيقَنَ أَنّا لاحِقانِ بِقَيصَرا
فَقُلتُ لَهُ لا تَبكِ عَينُكَ إِنَّما نُحاوِلُ مُلكاً أَو نَموتَ فَنُعذَرا
وفي شخصيتي الإمام والمؤذن إشارة إلى رؤوس الناس عندنا في زماننا، واتجاههما كل إلى من يُثَبِّت له ملكه، إذ ليست الإشارة إلى البيت “لاحقان بقيصرا” استعباطا، وإنما هي موضوعة لمعنى يستشف من موضع امرئ القيس، ورؤسائنا في زماننا هذا واتجاههم غربا توددا، حينا، وشرقا تارة أخرى.
وليس أدل من ذلك إلا البيت التالي:
في الموسم الآتي مزاد مُعلنٌحتى دم الموتى يُباع ويُشترى
الخلاصة، وتحقق النبوءة في تناص مع قصة يوسف:
ناديت يا يعقوبُ تلك نبوءتيالغيمة الحبلى هنا لن تُمطرا
قال اتخذْ هذا الظلام خريطةًعند الصباح سيحمدُ القوم السُّرى
لا تبتئس فالبئر يومٌ واحدٌوغدا تؤمِّرك الرياحُ على القرى
اخلع سوادك في المدينة نسوةٌقطَّعنَ أيديهنَّ عنك تصبُّرا
قمْ صلِّ نافلة الوصول تحيَّةًللخارجين الآن من صمتِ الثَّرى
واكشف لإخوتك الطريق ليدخلوامن ألف باب إن أرادوا خيبرا
ستجيئ سبعُ مرَّة فلتخزنوامن حكمة الوجع المصابر سكرا
سبع عجاف فاضبطوا أنفاسكممن بعدها التاريخ يرجع أخضرا
هي تلك قافلة البشير تلوح ليمدُّوا خيام القلب واشتعلوا قِرى
أشتمُّ رائحة القميص وطالماهطل القميص على العيون وبشَّرا
الأبيات أعلاه هي خلاصة النبوءة، وفيها يثبت الشاعر صدق نبوءته المتفردة عن كل نبوءة، تلك النبوءة التي ينكر استمدادها من أية إشارات وإرهاصات، إلا ما كان من رؤيته الخاصة.
الشاعر ينهي النص بإخبار أبيه بصدق رؤياه، في تداخل مع قصة يوسف عليه السلام، ثم إن يعقوب يلهمه أن يتخذ الظلام خريطة له وأن القوم سيحمدون صباحا سراهم في هذا الظلام، ولم ألتقط ههنا أية إشارة تربط نجاة القوم بواقعنا. ثم إنه يعود بصورة “فلاش باك” إلى بدايات قصة يوسف، وإلقائه في البر، ولعله يعني الشعوب المتعبة، والمظلومة، فيبشرهم أن البئر إنما المكوث فيه يوم واحد، وأنه سيكون وزيرا، “وغدا تؤمرك الرياح على القرى”. ولا أدري لم اختار الرياح لتؤمره على القرى، فربما عنى تصريف الزمان، فرمز إليه بالريح تمشي على الأرض فتغير ملامحها.
وتتوالى الأبيات في تناص مع قصة يوسف، والنسوة اللاتي راودنه، وتتوالى أفعال الأمر، اخلع، قم، واكشف. وفي هذه الأبيات دعوة عربية إسلامية، للنهوض بعد تعثر. وأن الشعوب إن استفادت من تجاربها فستخرج بحكمة تجعلها تلعق السكر بعد مضغ المرار، وفي استمرار للتناص مع سورة يوسف، يقول إن التاريخ سيرجع بعد السبع العجاف أخضرا مبشرا، ويختم بقوله:
هي تلك قافلة البشير تلوح ليمدُّوا خيام القلب واشتعلوا قِرى
أشتمُّ رائحة القميص وطالماهطل القميص على العيون وبشَّرا
فهو يتلبس الآن شخصية يعقوب الذي جاءته القافلة بقميص يوسف، وها هو ألقي عليه، وعاد مبصرا.