مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
حاولت الانتحار مرات عدة، كانت تجربتي الأولى – رغم فوبيا المرتفعات- عندما قفزت من أول النص إلى آخره، للأسف وصلت سليمة إلّا من رضوض في جسد الفكرة وارتجاج في ذاكر الحرف. في المرة الثانية حاولت الانتحار شنقًا بحبل أفكاري، لكنه سرعان ما انقطع، يبدو أنني كنت مشوشة جدًا حينها. في إحدى المرات تناولت جرعة زائدة من القلق، فكانت النتيجة هستيريا الكتابة!. وفي أخرى قطعت وريد الجملة، فسببت نزيفًا حادًا في الكلمات وجرحًا غائرًا في المشاعر، ولسوء حظي كانت حروفي قادرة على تجليط هذه الفكرة.
لم تراوح فكرة الانتحار مخيلتي فأشعلت النار ذات يوم في طرف جملة، امتدت الحرائق لتأكل النص، ولكن لا أدري من أين جاءت كل تلك الأفكار التي أمطرت، فجعلته بردا وسلاماً.
الانتحار ليس خطيئة، هو تجربة الموت، لأجل حياة على الورق!
-كان الشاعر الراحل “أمل_دنقل” فقيرا، لايملك من الدنيا سوى شعره ،
بينما كانت “عبلة_الرويني” من أسرة ثرية.. صارحها يوما :
– دنقل : إنني لن أستطيع الزواج بك !
– عبلة : سنتزوج
– دنقل : ستشقين معي ، فأنا لا أملك قوت يومي
– عبلة : سأشقى بدونك و أنا أملك قوت غدي ..!
و تزوجا ..
ومن أصدق واجمل ما قاله “أمل ” لزوجته ” “عبلة”:
“إنني لا أبحث فيك عن الزهو_الإجتماعي
ولا عن المتعة السريعة العابرة ،
ولكني أريد علاقة أكون فيها كما لو كنت جالسًا مع نفسي في غرفة مغلقة …”.
“حقا هي أشياء لا تشترى ..!
واليكم الحكايه كامله كما تم نشرها على لسان الاستاذة عبلة الروينى ..
بداية اللقاء بين عبلة و دنقل، كان عام 1975 حيث التقته في مقهى (ريش) في بداية عملها في جريدة “الأخبار”، لإجراء حوار، حذرها البعض منه باعتبار أنه ( عصبي_وسليط_اللسان ) ، كما حذرها أحد المحررين السياسيين في الجريدة، من أنها ستجد صعوبة في نشر اللقاء معه، لأنه شاعر يساري.
وتضيف “عبلة”، ذقت الأمرين للعثور عليه كنت أذهب إلى المقهى الذى يرتاده، لكنه لا يأتي إلا ليلا ، كما أخبرني الجرسون، واضطررت لترك رسالة، يبدو أن رقتها جعلته يتصل بي بالأخبار ، على غير عادة ” أمل ” فقد كان حدثا كبيرا، وأعطاني موعدا في دار الأدباء بالقصر_العيني، ولم أكن أعرف أمل شخصيا، لكنه تأخر إلى أن جاء، وجلست بجواره في الصفوف الأخيرة، بعد أن طلب لى فنجانا من القهوة، كان حوارا ممتعا، حكى فيه عن ذكرياته وطفولته والشعر والرفض.
وأشارت الرويني في كتابها، إلى أن هذا الحوار كان أول حديث لأمل دنقل وآخر حوار ، حيث كان على قائمة الممنوعين إلى جانب أن “رئيس_القسم_الأدبي” بالأخبار، كان يشطب اسم أمل من أي خبر.
وتقول الرويني، فى كتابها أن أمل دنقل فى لقائهما الرابع، قال لها: “يجب أن تعلمى أنك لن تكوني أكثر من صديقة”، فرددت : أولا لست صديقتك، ولن أقبل لأحد أن يحدد مشاعري وعلاقتي بالآخرين، وتضيف كان مغرما بإهدائي كتب الشعر ، مثل أعمال سعدى يوسف وبدر شاكر السياب، وكان يصفني بالمشاكسة في إهداء الكتب لي، كان خطه جميلا، تكلم معي عن كيمياء “استقبال_الشعر”، كنا في خناقات دائما، لكن في اليوم الثاني، يكون الصفاء”.
وتضيف، “صارت علاقة حب بيننا، والكثيرون كانوا يتحاشون التعامل مع أمل دنقل لحدته”.
عبلة الروينى، التى عايشت الشاعر المتمرد أمل دنقل، قالت أنه يحمل كبرياء الفرسان، وعزة نفس كبيرة، ورغم غلظته كان رقيق القلب، ورغم فقره كان أغنى_الأغنياء بكرامته، فهو رفض العلاج على نفقة الدولة، وكان يرفض عزومة أى أحد له.
وتتذكر الروينى بعد زواجهما، أنها ذهبت وأمل دنقل و6 من الضيوف إلى احد المطاعم، وجاءت فاتورة العشاء اكثر مما فى جيب أمل، وأصيبت هى بالارتباك، فرد أمل عليها هامسا أن العالم لم ينهر وكتب في “ورقة_إلى_الجرسون”، إن هؤلاء ضيوفى وفى جيبى 60 جنيها، والفاتورة بلغت ثمانين، هل تسمح أن تاخذهم حتى أمر غدا ، ورفض أمل مساهمة أحد من الضيوف، وما كان من الجرسون إلا أن ابتسم وأوصل أمل وضيوفه حتى الباب تقديرا له.
لم تكن عبلة تدرك أن ثمة فقرًا يصل بشاعر إلى حد الاستدانة، أو أن هناك رجلا لا يستطيع امتلاك ثمن كوب من الشاي أو فنجان من القهوة، فلقد كان “العالم_البرجوازي” الذي قدمت منه يحكم عيونها، فقد كانت تنتمي إلى منزل هادئ، كما أن طفولتها أتت من أيدي الراهبات الفرنسيات، وعلى الرغم من ذلك كانت تملك قلبًا مستعدًا لأن يبيع العالم كله من أجل هذا الشاعر الذي لا يملك سوى بنطال واحد أسود قديم!
شيئًا فشيئًا أقنعها أمل بالتخلي عن “منطقها_البرجوازي”، وكان مقهى ريش هو مكان التقائهما الدائم، فضلا عن أنه أجمل وأرق الأماكن الصالحة لالتقاء عاشقين، فقد كان ريش ضرورة لابد منها، ففيه كان أمل يؤجل دفع الحساب لحين توفر النقود معه!
تقول عبلة : كنت أمتلك الكثير من الأشياء، والكثير من التدليل للابنة الوحيدة في الأسرة، وكان أمل ينتمي إلى الريح والاضطراب، فرغم عزوة_عائلته، وقوتها وثرائها، إلا أنه كان دائمًا لا ينتمي إلا لنفسه، لقد كان أمل ينتمي إلى الشوارع والأزقة والطرقات، حتى إنه ذكر يومًا أن تاريخ الأرصفة هو تاريخه_الشخصي.
وتستكمل : “منذ معرفتي بأمل سقط عندي كل الزيف البرجوازي، ولم أعد أرى سوى عالم واحد هو عالم أمل دنقل، الذي خاصمني الكثير من الأصدقاء لعلاقتي به، بل حذرني الكثيرون من أصدقائه وأصدقائي من الاستمرار في هذه العلاقة خوفًا على سمعتي من رجل لاسمعةله”.
وتقول عبلة “بالتحديد بعد مضي تسعة أشهر على زواجنا، ظهر ورم صغير في جسد أمل يتزايد يومًا بعد يوم.. قال الطبيب بعد ثلاثة أيام فقط من ظهور الورم إنه السرطان ظللنا صامتَيْن نخشى من ترديد اسم المرض، وانتابتني حالة من الرقة البالغة في التعامل مع أمل.. ربما هو الخوف، نهرني أمل عن تلك” الرومانسية_في_التعامل” مؤكدًا أن أمامنا موقفًا صعبًا، وراح يفكر في مواجهة الغد، كما حدد الطبيب موعدًا لإجراء الجراحة، ولم نكن نملك مليمًا واحدًا، وأجر الطبيب ثلاثمائة جنيه، هذا إلى جانب أجرة حجز المستشفى وثمن الدواء وأشياء أخرى.. إنها المرة الأولى التي نعرف فيها حقيقة قسوة الفقر”.
وتضيف زوجة دنقل، جرت العملية لكن عام1980، وبعد خمسة أشهر من الجراحة الأولى ظهر ورم سرطاني آخر، وكان ذلك إيذانًا بالخطر، حتى جاء فبراير1982 ليقول “الطبيب_الجرّاح” لأمل في حدة قاسية : ( المرض منتشر في جسدك منذ أكثر من سنة، وأنت لا تأتي لمتابعة الكشف، تذكَّر أنك مريض بالسرطان، وأن الأمر أكثر خطورة من أن تتعامل معه بمنطق الشاعرو، لقد تجاوز المرض_الجراحة ولابد من ذهابك في الغد إلى معهد السرطان”.
وتروى عبلة ما حدث يومها : انفجرتُ باكية بينما ظل أمل صامتًا يقتله الحزن الشديد، حتى فاجأني بسؤال غير متوقع : لماذا لا يريدني الطبيب أن أتعامل مع السرطان كشاعر؟ كانت الغرفة_رقم8 في الدور السابع على موعد معنا، فقد صارت منذ اليوم سكننا الدائم، بل هي أول منزل حقيقي تمتد فيه إقامتنا لأكثر من سنة ونصف السنة حتى رحل في 21 مايو 1983.
وقف العصفور على الغصن منتشيًا يغني للصباح، صغيرتي تلعب بقدميها في الماء، لم تمنعها روعة الماء وهو يدغدغ قدميها الصغيرتين من الاستماع للعصفور، قلت لها والعصفور يفتح فمه ليشرب من قطرات الندى على الغصن :كم عدد أسنان العصفور؟ ضحكتِ الصغيرة وارتفع صوتها، هرب العصفور من ضجيج ضحكي وضحكها، قالت لي: كم عدد أسنانك يا أبي؟
فاجأتني بسؤالها!! أدخلتُ أصبعي في فمي. لأحصيها ، قالت لي : لا تضع أصبعكَ في فمكِ، قلتُ لها لا أعرف ، لم يسألني أحدٌ قبلكِ ، لكنني معي أسنان؛ فهل للعصفور أسنانٌ مثلي، قالت لي عندما كان العصفورُ يغني لم أرَ حول منقاره من الداخل شيئًا، يبدو أنه بلا أسنان، هل تستطيع أن تُغني لي في غياب العصفور، كان الجو رائعًا ومناسبًا للتغريدِ كالعصافيرِ تمامًا، بدأتُ أدندنُ ورأسها على فخذي وأنا أحرِّكُ فخذي لتنتعش مع صوتي، عاد العصفور إلى الغصن، أردتُ أن ترى فمَ العصفور، وجدتُها قد نامت على فخذي، سألتُ نفسي عن أحلام الصغيرة ، لم تستغرق في نومها، فركتْ عينيها، قالت لي: كأنني نمتُ، قلتُ لها لقد نمتِ وحضر العصفور، لقد كان فمه ممتلئًا بالماء وبعض الأوراق الخضراء، قالت : لقد همسَ في أذني عندما غفوتُ، لقد أطبق بفمه على أذني، لم أشعر بأشياء حادة، انظر إلى أذني! هل ترى أثرًا لأسنان، قلتُ لها لقد أجبتِ ياصغيرتي، سأغني لكِ كالعصفور، لا تسأليني ثانيةً كم عددُ أسنانكَ؟
قبل قليل لم أجد نفسي- التي ربما اعتدت غيابها المتكرر عن واقعي المؤقت-
أثناء ممارستي دور كائن حيٍ في مشهدٍ متقطع لا يتعدى بضع دقائق.
قياسًا على مؤقت ساعتي الرملية.
أو ساعة هاتفي ذي الشاشة البنية التي بالكاد تبين من أثر الرضوض.
و لا تبتعد كثيرًا عن عدد الخيبات التي واجهتها منذ أمد بعيد.
ولم أستطع تجاوزها حتى بداية العام المنصرم.
العام الذي فقدت بمطلعه جميع مدخراتي من الهبات الزهيدة التي تلقيتها كمكافآت أثناء تأديتي لوظيفة كومبارس المزرية.
وبعد فترة قصيرة، أيقنت أن طموحي في أن أصبح فنانًا عظيمًا ينشر الحب بين الناس، ويضع البسمة على وجوه المشاهدين قد تلاشى.
وضعت جميع أشرطتي في سلة المحزنات…
أغلقت صفحة فيسبوك ;شفقة على أصدقاء يحاربون الكآبة بشق الأصابعِ.
قلت : غدًا سيكون أجمل…
ومثلت على نفسي دور النائم، كي أستيقظ على خيالٍ أجمل من سابقيه ،أو دعوة من الواقع; لأستأنف وظيفتي الوحيدة التي لا أجيدها،
ولكن ذلك الغد لم يأتِ بعد.
والآن بعد مرور أكثر من عشرين عامًا على غفوتي،
لا يمكنني التمثيل على نفسي كما كنت في الماضي،
وقد لا أجرؤ على تحمل تداعيات الانخراط في البيئة الدرامية، والانخراط في الوسط الدراماتيكي التعيس،
كل ما أتمناه جنازة فعلية تليق بمشرد يجول مزابل الغزاة بحثًا عن هوية مزورة باسم الوطن .