مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
حين طار الغراب ولم يرجع !
احتفى المنجز الشعري (الحرف والغراب) للشاعر العراقي المغترب أديب كمال الدين الصادر عن منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان 2013،ـ بمجموعة قصائد ذات مضامين متنوعة، تمّ اختيار عينة منها لأجل الوقوف على البعد البنائي للنص في ضوء قراءة تاؤيلية .. ابتدأ أديب كمال الدين ديوانه بقصيدة :(الغراب والحمامة) والتي جاء عنوانها من حيث انتهى العنوان الرئيس للمجموعة (الحرف والغراب) وهذا يجعل القارئ يتساءل حول ترتيب القصائد بهذا الشكل فكان من المفترض منطقياً أن يضع قصيدة (قال الحرف: ما معنى النقطة) في بداية المجموعة إلا أنّ ما يبدو من هذه المخالفة هو هدم للتسلسل المنطقي كي يعي القارئ بدءاً أنّ المجموعة تخضع لعنصر المفاجأة، وتشظية التصورات الأولية، كي تصنع فضاءً فوضوياً لكل ما يقدم عليه القارئ … حين طارَ الغرابُ ولم يرجعْ صرخَ الناسُ وسط سفينة نوح مرعوبين.!
بدأ الشاعر قصيدته (الغراب والحمامة) بهذا المقطع ،وهو يكرّس مفهوم الزمن للدلالة على وجود ترابط بين الأحداث ، وكأنّ الإجراء والفعل لا ينتج إلا عن فعل مقارب له في الزمن:/ حين طار الغراب/ صرخ الناس/ بالإضافة إلى أنّ التفاعل يتم بتعاقب وتوالٍ ،وليس بانبثاق عرضي كي يدخل الشاعر العنصر التاريخي في إنتاج النص:
/حين عادت الحمامة/صرخ الناس/،
كما وأنّه يؤثث فكرة الفهم الكلي، بجعلها تنفتح على عالم الأشخاص الفرديين ، حيث يصيّره انتقالاً ،وإعادة معايشة للعالم، كما يجده شخص آخر في الخبرة المعاشة نفسها.
حيث يقول: وحدي وقد كنتُ طفلاً صغيراً- رأيتُ جناحَ الغراب، أعني رأيتُ سوادَ الجناح! تفترض القراءةُ أنّ ديوان (الحرف والغراب) لأديب كمال الدين يشتمل على عنصرين رئيسين (الرؤية، والإجراء) ،وتكرُّس هذين العنصرين، جرّاء تجربة الشاعر الطويلة، تمثّل العنصر الأول بين قراءاته و تأمله، والآخر جرّاء تزاحم واحتدام خارجي ،تتجلّى انعكاساته المحزنة والمفرحة على حد سواء في أفق الذات الشاعرة ، ما دعا أديب كمال الدين أنّ يتحرك شعرياً إزاء بناء نصّ تتراكم فيه الوحدات القيمية ،على أنّها أمثولاً لفعل خارجي هادف تارة وعبثي تارة أخرى: ضميرُنا المُستتر، ضميرُنا السكرانُ ليلَ نهار، ضميرُنا الذي يصحو كي يواصلَ فوراً سكرَه وشتائمه وفكاهاته التي تشبهُ طيوراً ميّتة، حتّى ينام في آخر الليل سعيداً كيتيمٍ طُرِدَ من الملجأ مفترشاً الرصيفَ أو الحديقةَ العامّة، وقنينةُ الخمرةِ قربَ رأسه تحرسُه بشخيرِها العميقِ من الكوابيس.!! في الوقت الذي ينطوي النص على بناء فكري فوضوي أقرب منه إلى بناء منطقي متراتب حيث إنّ أديب كمال الدين نأى بقصائده عن النمط التراتيبي التقليدي للأفكار والرؤى، وسعى إلى خلق مسافات متناقضة ومتباينة في النص:
ينتظرُ حبلَ الموت كي يلتفَّ على الرقبة! بهَلْوَسَته الحكيمةِ، وبحكمته المُهَلْوِسة، قَتَلني رمياً بالرصاص وأنا في سنِّ العشرين!
كما أنّ صياغة الأحداث تتم بسرعة تتناسب ومجريات الواقع الخارجي المزدحم، بتتابع الأحداث واندماجها، وكذلك عمل الشاعر على تبئية الثقافة المغايرة، بإدراج النصوص التي تحمل سمة الخروج عن السائد الاخلاقي والديني والثقافي، في سياق يلغي الفهوم والإسقاطات الأولية، فتتحول إلى رؤية أو مُثل فاقدة للإجراء، وبالتالي لا تعدو كونها أفكاراً كلّية، تنساب مع واقعيات متنوعة ومختلفة، وبإجرائها يتحدد قبولها أو رفضها، مقاربةً مع الانتظام واللاانتظام، أو الالتزام واللالتزام : ستحكين الحكاياتِ – ما أجملها!- إلى شهريار المحدّقِ في شفتيّكِ مدهوشاً. ستدّعين أنَّ حروباً عظيمةً نشبتْ، وسفناً محمّلةً بالذهب غرقتْ في أعالي البحار، وملوكاً صُلِبوا ثُمَّ قاموا من الصلب، وشطّاراً حكموا أزقّةَ بغداد، وعشّاقاً جنّوا من العشقِ والحبّ، ونساءً مارسنَ السحرَ والجنس! وبذا يسعى أديب كمال الدين نحو إيجاد ثابت نصّي، مقارنة بالمتغير الإجرائي، الذي حدا به إلى منطقة التلقي والقراءة، كي يشتغل القارئ على تقطيع وتقسيم الانبساط الحاصل في المعنى، ويجعله ماثلاً بصورة جزئية غير قارة، تتبدل وتتحول مع كل فعل قرائي جديد .
بالإضافة إلى أنّه يترك في النص إمكانية مقاربة ما ينجز، مع ما يعيشه الشاعر نفسه ، وعلى هذا يمكن أن نصف نصّ أديب كمال الدين على أنّه يتموقع بين مستويين من الرؤية التأويلية، أولها تعمدٌ على تجاوز حرفية الواقع الخارجي وشخصنة المعنى إلى حيث المحاكاة بنمط كلّي عام لا يشير إلى المؤلف على الإطلاق بل إلى الحياة ذاتها بكل ما تتصف به من تاريخية وزمانية،
وثمة رؤية مغايرة تستند في تخومها على نزعة سيكلوجية تجعل من المؤلف جزءاً رئيساً في عملية الفهم والتأويل،
فبين هاتين الرؤيتين يتجاذب نصّ أديب كمال الدين، فلا يغادر تجربته المعاشة مطلقاً ،ولا يعمد إلى انحباس النصّ داخل تلك التجربة، وهذا التواشج بين الرؤيتين يتشكل عبر القدرة الكتابية للشاعر، وإمكانيته في خلق سياق مغاير يتحوّل التناص عنده إلى انتاجية جديدة: سيزوركَ هذا الصديقُ كاللصّ في آخر الليلِ والبرد وهو يحملُ موتاً خَفيّاً بين أضلاعه. ستقولُ له كلَّ نون وستسحرُه بالحروفِ وأسرارها وستدهشُه بكهيعص ويس وطسم وألم. ستنتابُه الحيرةُ وقتاً طويلاً وسيذكرُ في لحظةِ صدقٍ أثيرة أنّه قد رأى ذاتَ يومٍ سفينةَ نوح!من جانب آخر تجد الشاعر يضمن التناص في شعره أدوات التشبيه، والتي لا تقتصر وظيفتها على المستوى النحوي والبلاغي في التقريب أو المماثلة، بل تعمد إلى تحويل وفصل النص عن مرجعياته الأم .. سيبكي عليكَ، إذنْ، إخوتُك: إخوةُ يوسف مثلما سيبكي الشيخُ الكبير والمرأةُ التي جُنّتْ بحبّك والنساءُ اللواتي قطّعنَ أيدهنّ. حتّى الذئب سيبكي عليك!
استنهاض : قراءة نقدية وجدانية لقصيدة الشاعر ابراهيم مباركي
يعيد الشاعر الكبير ابراهيم مسير مباركي تعريف الوجد و الحب و الشوق و الحنين و جميع الإنفعالات العاطفية المكثفة ..
فيخلق لنا مزيجاً من الشعور المختزل للغة و ما وراء اللغة ..
عاش دهراً يعيثُ فيه الأُفولُ
يزرع الضوءَ…والجراحُ خيولُ
تقلب العاشق في زمانه على رمضاء الغياب ، بل كان من فداحة الحال أنه قال “يعيث” ولا أجد مفردة تستنطق الصورة الكالحة لهذا الشطر كما فعلت ، بل أن شاعرنا و في امعانٍ متعمد يكثف السوداوية في جنبات هذا البيت حتى يكون مطلعاً يليق بقصيدةٍ كهذه..
ثم يباغت الشاعر كل من يظن أنه أمسك بتلابيب القصيدة من صدر مطلعها ليجد أن عجز المطلع مشكلة تحتاج لقولٍ آخر لا يجمعه بالأول إلا ما تقتضيه المطالع بالضرورة أما ماعداه فيجب أن تثنى في تحصيل جمالياته الركب ..
“يزرع الضوء” كيف خطر للشاعر أن يملاء الحقول ببراعم الضوء و في حصاد ذلك شرق بخيالك و غرب أما الشاعر فقد قال ما أراد ..
ثم تتضاعف الدهشة و تختلط الأوراق و كل هذا و أنت ما تزال في مطلع قصيدة عظيمة.
——————————————•
يرتدي الريحَ.. والنهاياتُ نجمٌ
عبقريٌ تموتُ فيه الطلولُ
في خدودِ الغيومِ يرسمُ حرفاً
هيَّجَ البرقَ فاعتراهُ الصهيلُ
بعد صراع الأُفول و تجاذبات الطيف و الضوء و الخيول ..
انتفض الشاعر على واقعه فلم يجد ثورة أفضل من تلك التي ترتدي الريحَ في مقاربة مذهلة تصور أمامك مشهداً سُريالياً لعاشقٍ ردائهُ الريح و مطيته الجراح التي نزفت من دمها و دماء الخيول الشعور الصاهلة بصخب العنفوان..
لتتحتم النهاية الموسومة ، لكن لأنها قصيدة عصماء و العصماء غالباً تتمرد على الغائية في الشعر فلا تموت الطلول هنا إلا فقوق هامات النجوم.
الشاعر يرسم على الغيمات لا لا عفواً على خدودها فقط..
لو رسم على الغيم كما هو مطروقٌ و نعرفه لحق لنا أن نقول أنه قال شعراً..
لكنه اختار من الغيم الخد فخذها و ارحل بها في فضاءات المجاز فشرّق و غرّب
——————————————•
بين جنبيهِ ألفُ موجٍ وموجٍ
تتهادى في راحتيهِ الفصولُ
جاءحلماًيخضلُّ عشقاً ووجداً
فاشرأبتْ إليهِ تلك الحقولُ
لا تعجل في القراءة و لا تتسرع في الحكم على البيت بل حاول أن تتهادى بين يدي شعرٍ و شعورٍ لا يستطيعه إلا الأكابر ..
بين جنبيه موج فموج فموج فلا يهدء هذا الجوى دائمُ التأهب لحركة وجدانيه تفرضها على العاشق المواقف..
فموجٌ و ريحٌ و برقٌ و صهيلٌ و و و ولن تنتهي صور عصف الذهن و أعاصير الشعور.
——————————————•
غير أنَّ الجمال عاد سراباً
أجدبَ الموجُ والهوى والرحيلُ
عاد للصمت واستحال نفوراً
مرفأً نائياً وحزناً يطولُ
كيف كان هذا الإلتفات الأسيف الحزين اللي قلق القريب من اليأس البعيد من الأمل عندما قال “غير أن” و له بعد ذلك يأن يتحدث فيما شاء..
أنظر ما الذي حدث بعد هذا الحزن عند قول الشاعر “أجدب الموج” ربما مررت بمفردات و تركيبات تمنحك الجرعة المثالية من الدهشة لكن ليست كهذه المعاني، أنت هنا تُمنح الجرعة المفرطة تلك التي تشكل الخطر و تعلن الإنذار المبكر.
——————————————•
لونُ بيدي مدائنٌ تتشظّى
وسريرٌ معربدٌ وشمولُ
يستثيرُالرؤى المضيئةَ حولي
موعدٌ خائنٌ وقلبٌ ذليلُ
عندما يتحول اللاشيء إلى شيء و يشير المدلول الى الدال و الأطياف إلى أجسادٍ حينها تصبح الألوان جسورٌ و منازلٌ و قصور و انسحاباً على هذه القاعدة فإن كل ما دون ذلك هو تابعٌ للأصل يتبعه بالضرورة..
لكن رؤى الشاعر المضيئة لم تسعفه و لم تنجده من هول الموعد الخائن و انتكاسات القلب الذليل.
——————————————•
كيف ضاء الدجى وكان أسيراً
ويموتُ الضياءُ وهو جليلُ
أوغلَ الليلُ في سمائك فاحملْ
يقظةَ الفجرِ في مدىً لا يزولُ
جاوزِ الصمتَ تحتفي بنذيرٍ
هو في غابةِ الدُّجى تهليلُ
وانثر الروحَ روعةً وجلالاً
سوف تحياالأموات وهي قليلُ
لا أستطيع و لا أملك من مفردات النقد ما يمكنني من سبر أغوار هذه الأبيات ففوق كل ذي علمٍ عليم و ما أنا إلا مقلدٌ للعمالقة من أمثال المعيدي و الأمير .
——————————————•
آثرتكَ الرمالُ وهي ربيعٌ
واشتهاكَ الجليدُ وهو عليلُ
بدعةٌ أنت.. أنت معنىً شهيٌّ
هام بالشعر فاحتواه النخيلُ
لغةُ الضّادِ تيمتني بثغرٍ
هامَ فيهِ الهوى وطابَ الهطولُ
لا تنفك الدهشة ترمي بظلالها الممتعة لتضاعف وقع الدهشة بأغصانٍ تدلت منها ثمارها اليانعة من هذه الحديقة العربية الضاربة بجذور أصالتها في مفازات الرضى و الغضب .
شعر : إبراهيم مسير أحمد مباركي
———————————————————•
ألتمس منك العذر على تقصيري بحق
هذه الفارهة الفارعة الباسقة
والله يرعاكم
قراءة نقدية في نص الشاعر حسين صميلي
————————————
على هامش الأربعين ..!
تُراودُنا رغبةٌ في الضُّلوعِ
تُحدِّقُ من أفقِها الضَّيِّقِ
تُحوِّمُ صوبَ مَغانٍ تضوعُ
لتقطفَ من وردِها المُعبِقِ
ففي الوقتِ ما يستحقُّ الشروعَ
فما ضاعَ أكثرُ ممَّا بقي
فيصرخُ من عمقِنا ناصحٌ :
تشيَّخَ في الروحِ ممَّا لقي !
كبُرنا على لحظةٍ من هُيامٍ
تعلِّقنا في جوى مُطبِقِ
على مَوعدٍ للغرامِ تدانى
فيلهو بنا الظنُّ ..
هلْ نلتقي ؟
على كلِّ ما يستفزُّ الجمالَ
بأرواحِنا عَلَّها ترتقي
وعن دهشةٍ لم تعدْ طائراً
يرفرفُ في عمرِنا المُرهَقِ
كبُرنا ولا زالتِ الأمنياتُ
تتوقُ لأنسِ المدى المُشرِقِ
يُغلِّفنا وجَعٌ لا يَجفُّ
تجذَّرَ فينا إلى المَفرِقِ !
أحقَّاً كبُرنا ؟
وما عادَ شيءٌ
يوشوشُنا للهوى الشَّيِّقِ ؟!
تُطوِّقُنا عُقدةُ الأربعينَ
وتسحبُنا للشَّجا المُحرِقِ
تُحنِّطُنا في الصَّقيعِ اتِّقاءً
ونجهلُ أسبابَ ما نتَّقي !
وندري بأنَّا على رُغمِنا
كبُرنا على خوفِنا المُحدِقِ
وما زالَ في وسعِنا أن نُحبَّ
الحياةَ افتتانا ولم نُسرقِ
وما العيشُ يا سيَّدَ الأربعينَ
إذا أنتَ لم تصبُ أو تَعشقِ ؟!
وأجملُ ما في الحياةِ شعورٌ
بأنَّكَ والبدرَ في خندقِ !
حسين صميلي
كالحقيقة وككل شيء تألفه في الحياة وأنت تعبر أيامك في رحلتك العمرية المجهولة المصير جاء العنوان ( على هامش الأربعين ) مألوفا ووادعا وأنيقا وبسيطا خال من التكلّف فلا تشعر أنك أمام نص شعري بل أمام عنوان رواية أو كتاب من كتب الأدب والذكريات والسير لا يجعلك تتوقف عنده كثيرا لسرعة نفاذه إلى الذاكرة والوجدان وكلوحة مرور إجباريةالإتجاه يحيلك إلى نصٍّ بدا جدولا رقراقا شفافا نقيّا تتدفق فيه الألفاظ والمعاني تدفقا إبداعيا بلاغة وإبانة تتأكد من خلالها وحدة القصيدة من حيث الرؤية والصور والتراكيب والتصاعد الدرامي ومن حيث الغايات والمقاصد والرسالة مما جعل منها درة ماسيّة لا يمكن تجزئتها ومن أي جانب نظرت إليها تشعرك بالجودة والجمال والإتقان ..، .. نص يمنحك ذاك الشعور المفعم بالسكينة ويثير في خاطرك تلك الأسئلة التي لطالما كانت أسئلة بلا نهايات ولا إجابات شافية، أسئلة عطشى تتوالد ذاتيا في منطقة الحيرة وعلي أفق المجهول وخط انعدام اليقين .. ، وحين تبلغ نهاية الطريق مع النص لا تدري ما إذا كنت قد غصت في أعماقه ام غاص في أعماقك ولا تدري ما إذا كنت تقرؤه أم هو من يقرؤك إذْ يدفعك جاهدا لاكتشاف الذات ولكي تتحلى بالشجاعة لخوض صراعاتها وقلقها وهي تتربع على هامش الأربعين وما بعدها .. .. لقد أعجبني كلاما للكاتبة الأمريكية (إيدا لوشان ) تقول فيه ( في مرحلة الأربعين يعرف الإنسان عن نفسه وعما يريده في الحياة أكثر مما عرفه طوال حياته ، وفي أشد لحظات الإحساس بالحزن والهزيمة يدرك أن ما يمر به ليس الا مزيدا من الوعي ومزيدا من اكتشاف معنى أن تكون إنسانا وتلك هي روعة أزمة منتصف العمر .) وفي ذات السياق يرى علماء النفس أن أزمة منتصف العمر ترتبط بتقييم متناقض للإنجازات السابقة والإخفاقات والصراع من أجل أهداف شخصية جديدة ، وتتميز بالاستبطان وتقدير الذات والوعي بمرور الوقت والاعتبارات المتعلقة بضياع العمر أو ضياع الفرض ..
لقد اختصر (النص )صفحات من علم نفس النمو في نصف ورقة وكأي حقيقة مدهشة فرض (النص )نفسه تاركا الباب مفتوحا على مصراعيه للدخول في عالمه ودروبه حيث تتساوى هوامش الماضي وتتراءى للذهن صور تلك الفراغات البيضاء على حواف المخطوطات ، فراغات مذعنة مملوءة بالتعليقات والاستدراكات والإيضاحات والتفسيرات وأحيانا بلاشيء وبرسوم وشخاميط وأزاهير وعيون دامعة وقلوب دامية تخترقها السهام ، وحين ترنو إلى المستقبل والمجهول يبدو لك هامشه فراغا يحيط بالفراغ فلا تدري بماذا يمكن أن تملأ كلا الفراغين ، فالبعد المستقبلي لهامش الأربعين يجعل اللحظة الآنيّة كنقطة تأمل حذرة في منتصف الطريق يضعنا إزاءها الشاعر ويشركنا معه في حقائقها حين يقول :
تراودنا رغبة في الضلوع
تحدق من أفقها الضيّق
تحوم صوب مغان تضوع
لتقطف من وردها المعبق
فمن خلال اللفظ (تراودنا ) يتجاوز الشاعر عتبة الذات الشخصية إلى الذات العامّة ويفتح آفاق النص الداخلية على العالم الخارجي حيث تكون تلك الرغبات الدفينة والأمنيات المكبوتة وبواكير الحلم والعشق الموؤود في الصدور حقيقة إنسانية وحالة وجدانية يتشاركها الجميع ..كما أن انبعاثها المتجدد وتداعياتها الجدلية في الذات في مرحلة الأربعين حقيقة أخرى تشكل ما يوصف (بأزمة منتصف العمر ) والمشترك فيها هو عودة الصراع والتساؤلات وما إذا كان هناك فرصة فيما تبقى من العمر لإطلاق سراح تلك الرغبات الحبيسة ومنحها حرية الظهور في عالم الشهادة والواقع ..؟
ففي الوقت ما يستحق الشروع
فما ضاع أكثر مما بقي .
فالاستئفاف هنا يمنحها بداية جديدة وقد جاء متتاليا إمعانا في التأكيد وكنتيجة لقوة الجدل المحتدم في الذات بين الممكن وغير الممكن ويتجلى هذا الجدل حين يقول الشاعر :
فيصرخ من عمقنا ناصح
تشيخ في الروح مما لقي
حيث يطل علينا الماضي بخبراته وتجاربه وقيوده ومعتقداته يتخفى بين ثناياها شبح السجّان وسياط القمع وبلسان الحكمة والمنطق يتحدث :
كبرنا على لحظة من هيام
تعلقنا في جوي مطبق
( كبرنا )
على موعد للغرام تدانى
فيلهو بنا الظن هل نلتقي
( كبرنا)
على كل ما يستفز الجمال
بأرواحنا علها ترقي
وعن دهشة لم تعد طائرا
يرفرف في عمرها المرهق
تأكيدات متتالية في عرض جميل ورائع يكشف عن عدم الاستقرار في الذات الأربعينية ويدفع برغباتها نحو الخضوع والرضى بالقيود وبالموجود فيكون جوابها لا واعيا ومع غصة من حزن وألم ( نعم ) ..
كبرنا ولازالت الأمنيات
تتوق لأنس المدى المشرق
يغلفنا وجع لا يجف
تجذر فينا إلى المفرق .
هكذا قرر العقل السجان ومع ذلك لقد كان هذا الإقرار يخفي جدلية حدثت مبكرًا في الوجدان تمثلت في تلك التساؤلات المكبوتة فكل قرار قيل يتضمن صيغة استفهام تأتي تداعيًا ذِهْنِيًّا يكاد القارئ أن يراها بأم عينيه فحين يكون القرار ( كبرنا على لحظة من هيام ) فذلك ليس إلا من قبيل التفكير بصوت مسموع رَدًّا على تفكيرٍ صامت يتساءل :
( أكبرنا عن لحظة من هيام ، وعلي موعد للغرام ، وعلي كل ما يستفز الجمال …؟ )
أحقا كبرنا ؟ وما عاد شيء
يوشوشنا للهوى الشيّق .
وهكذا يتبدّى كيف تحمل الكلمات في باطنها النفي والإثبات والسؤال والجواب ليس على نحو متناقض وإلغائي بل في حال بديع من الانسجام والترابط ، وحين تمكن الشاعر من المواءمة بين العقل السجان والروح القلقة والوجدان الثائر وجه الجدل نحو أرضية مشتركة وجمعهم في تساؤل مشترك يمثل الحقيقة المتفق عليها حين يقول :
وندري بِأنا على رغمنا
كبرنا على خوفنا المحدق
وما زال في وسعنا أن نحب
الحياة افتتانًا ولم نسرق
وما العيش يا سيّد الأربعين
إذا أنت لم تَصْبُو أو تعشق.
بعد ذلك تتوحد عوالم الشاعر ( العقل والروح والوجدان والمادة ) فيفتح باب الأمل على مصراعيه على أجمل ما في الحياة.
وأجمل ما في الحياة شعورٌ
بأنك والبدر في خندق.
لم يكن الشاعر مبدعًا في العرض البلاغي شكلا ومضمونا فقط بل وكانت هواجسه الداخلية اللاواعية تتسم بالإبداع والتسامي والجودة مما تولد عنه هذا النص الرائع الجدير بالخلود .عبدالحميد عطيف
سؤال المواجهة ؛ولماحية الإجابة العميقة في نصِّ (من أنا؟!)؛للشاعرة/
هند النزارية
-عرْض النص:
من أنا؟!
مـن أنـا؟! يـا للشتات !
مـــا أقـــل الـمـفرداتْ!
حــــيـــرةٌ أوقــعــتَـنـي
فـيها فـخذ مـني وهاتْ
وأعــنِّــي إن تــكـرمـتَ
بــبــعـض الـمـعـطـيـاتْ
إنــــه لــغــزٌ وذهــنــي
مـنذ دهـر فـي سـباتْ
مـن أنـا؟! هل لي أنًا؟!
أم أنـني محض افتئاتْ!
أم تــرانـي حـلـقـة مــا
بــيــن مــفـقـود وآتْ؟!
ربــمــا نــقـطـة نــــون
فــي سـجل الـكائناتْ!
ربــمــا رمـــزٌ لـفـحـوى
الـتيه أو مـعنى الـفواتْ
ربـما اسمٌ جائزُ الصرف
عـــلــى رأي الــنــحـاةْ
فكرة في الغيب ضاعت
بــيـن رصـــدٍ وانــفـلاتْ
أأنـــبِّـــيـــكَ بــــســــرٍ
لـم يـزل في المبهماتْ
لـي هـنا ذاتٌ ولي في
الــعـالـم الـغـيـبي ذاتْ
ألــتــقــيـهـا كـــلـــمــا
ضـيعتُ مسبار الجهاتْ
ســوف أدعـوها مـساءً
لــنــحــلَّ الأحــجــيـاتْ
وسـأعـطـيـكَ جــوابـي
فـانـتظرْ حـتـى الـغـداةْ
____________________
-القراءة والتحليل:
هي ساعة ٌمن سويعات الزمن الراكض إلى مالانعلم من مجريات ومآلات؛تلوح كسحابة ريَّانة بالمطر في ثنايا نهار أوليل ،ساعةٌ لن تكون إلا استثنائية
في هباتها المصفَّاة من الشواغل وهيمنتها؛ومن المتاعب وأثقالها؛إلى أن
تتشكل نسيجاً ناعماً من اللحظات الهادئة التي يجنح إليها الكاتب أو الشاعر -وغيرهمامن المفكرين والفلاسفة وذوي النباهة-هنالك يحلو النأي بالنفس عن صخب الأجواء؛ والضجيج المستعر في محيط الحياة الإنسانية المنداحة؛وعن سفاسف الآراء؛والترَّهات؛والأقاويل ..
وساعتذاك تتاح مشروعية ملاقاة(الأنا) ؛ والإفضاء إليها؛ حرباً أو سلاماً.
وهي لحظات ستفرض على الشاعر أو الشاعرة أوغيرهما ذلك السؤال الجوهري المتسلل سرّاً وجهراً إلى دخيلته؛والمرتبط بطبيعته الخاصَّة ؛وكينونته التي هو عليها؛ورسالته في الحياة ؛وغايته التي يسعى إليها ويتوق إلى الظفر بها ؛وما إلى ذلك من رغبات ملحاحة مؤرِّقة؛فيتوجه حينذاك إلى ترجمة إجابته ؛في محاولة جادَّة باسلة تتيح له النفاذ الانسيابي إلى مكنونات ذاته ؛واستخراج أواستبطان هواجسها السلبية والإيجابية.
فإذا استطاع اصطياد شحناته وانفعالاته ؛لزمه إيداع تلك الخلجات النفسية الحبيسة في قالب فني مرئي من القوالب المحببة إلى نفسه:(مقالة؛قصيدة؛ خاطرة) الخ ؛
وفي أحيان أُخرى يحدث أن يأتي السؤال إليك مباغتاً من جهة قريبة أو بعيدة؛ضمن أسئلة حوارية معينة؛أوضمن طقس معين من الطقوس الاجتماعية؛تتطلب الحديث المباشر لا الكتابة،ولاتملك حينئذ إلا أن تجتهد في إيجاد إجابة دقيقة مكثفة؛آخذاً في الاعتبار أن تبلغ بعض درجات الإقناع إن استطعت الوصول إليها.
ولاجدال أنَّه أصعب سؤال مؤرِّق قد يواجَه به الإنسان أيَّاً كان في رحلة وجوده المترامية؛وتكمن الصعوبة في كون هذا السؤال؛أنه يتطلب التجرد التام من طغيان الأنانية ؛والتزام جانب الحياد؛وشفافية المكاشفة ؛وهي قيودٌ معنوية ذات سلطان نافذ لامجال لإنكاره؛ومن شأن ذلك أن ينحو بالكاتب منحى التفلسف الصارم؛فتجيء كتابته تبعاً لذلك مصطبغة بقدر غير يسير من التجريد والعقلانية.
والكاتب الملهم هو الذي يفطن إلى تلك المسافة الدقيقة بين الفكر وسلطته؛والوجدان واشتعالاته؛لئلا يفقد العمل الشعري رواءه وتأثيره المنشود؛في المتلقين على اختلاف طبقاتهم.
وفي هذا السياق يؤثر عن الفيلسوف أفلاطون قوله: «أصعب أنواع الصداقة؛ هي صداقة المرء لنفسه».
وهو إلى جانب ماذكرت سؤال زئبقي مباغت؛يفرض عليك التغلغل في بواطن النفس وسبرأغوارها بجلاء؛ حتى تقف على ذروة الضمير (أنا) باحثاً عما استقر في أكنافه من نوازع ومطالب ورغبات.
وفي كل الحالات لامفرَّ من المواجهة؛
ولو في إطار الكتابة الأدبية كما لدى شاعرة النص الذي نحن بصدده.
ولنا أن نتأمل -في مقام الاستئناس- حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام الآتي؛ ملتمسين بعض مكنونات ضميره الإنساني؛ونفيه عن نفسه الزكية نزعة الفخر ؛كما قوله:
«أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر؛ وأنا أولُ من تنشقُّ الأرضُ عنه يومَ القيامةِ ولا فخر ؛وأنا أولُ شافعٍ وأولُ مشفَّعٍ ولا فخر ؛ولواءُ الحمدِ بيدي يومَ القيامةِ ولا فخرَ».
فهو هنا يكشف لصحابته بعض المكارم الإلهية التي اختصه الله بها؛في ضوء الضمير(أنا) ؛اعترافاً منه بالفضل؛وإحاطة أصحابه بمنزلته العليا ؛بعيداً عن الادِّعاء أو المغالاة، أو ما شابه ذلك.
– [ ] وفي موضع آخر نراه -عليه الصلاة والسلام- يكشف لصحابته عن شجاعته في غَزوةِ حُنَينٍ؛متضرّعاً إلى الله أن يمنحهم النصر على الأعداء ؛كما في قوله:
أَنَا النبيُّ لا كَذِبْ
أَنَا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ!
فإذا اتجهنابالسؤال إلى شعراء التراث
كأبي الطيب؛وباغتناه بقولنا :من أنت يا من شغلت الناس ؛وملأت الكون شعراً ؟!
سنجد إجابات شتَّى ؛صاغها في العديد من قصائده في نبرات عالية؛ تبعاً للمواقف الدرامية التي اصطدم
بها ؛ كقوله الذائع:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم.
وحينيذ سنستنبط أن نزعة الفخر المتضخمة؛هي الغالبة على تركيبته النفسية؛ وهي التي أملت عليه اعتداده الشديد بطموحات نفسه ؛والتنويه بعظمة مطالبها؛المتمحورة أو المستمدة من عزيمته الصادقة لبلوغ مراتب المجد العالية في عصره.
وقد تتخذ الأنا ثوباً آخر ؛كاستنطاق الكائنات الأخرى من خارج المنظومة الإنسانية ؛كما هو الحال عند حافظ إبراهيم ؛عندما ما تكلم باسم اللغة في عصره ؛مستشعراً مكانتها العظيمة؛وقدرتها على الصمود في وجه العاديات والأراجيف المحاكة ضدها وقتذاك ؛كما في في قوله:
أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ
فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي!
وعلى صعيد التصنيف؛نجد علماء اللغة يصنفون (لفظة أنا) ضميراً منفصلاً مستقلاً دالاً على المتكلم ؛في حين جعلوا لفظة (ياء) ضميراً متصلاً دالاً على المتكلم أيضاً؛إلى جانب ضمائر أخرى معروفة.
والضميران يصبان في نهر واحد من حيث الدلالة؛على مابينهما من فروق وتفصيلات لامجال للحديث عنها الآن..
وفيما يلي بعض الشواهد الشعرية عن ياء المتكلم في مقام حفاوة الشعراء بها؛وما أودعوه فيها من معانٍ نفسية.
قال الشاعر جميل بثينة:
وإني لأستبكي، إذا ذُكِر الهوى
إليكِ، وإني، من هواكِ، لأوجِل !
وعند أبي فراس الحمداني كما في قوله:
وَإنّي وَإيّاهُ لَعَيْنٌ وَأُخْتُهَا
وَإنّي وَإيّاهُ لَكَفٌّ وَمِعْصَمُ!
وعندبشار بن برد كما في قوله:
وإني أقاسي من جهادك خالياً
عياءً فأنَّى لي بأجر المجاهد؟!
وعند بهاء الدين زهير كما في قوله:
وإني ليدعوني الهوى فأجيبهُ
وإني ليثنيني التقى فأنيبُ !
وعند محيي الدين بن عربي كما في قوله:
فإني لكلِّ الاعتقاداتِ قابلٌ
وإني منكمْ مثلُ ما أنتمُ منا!
وعند محمد بن حازم الباهلي
كما في قوله الطريف:
فمنْ شاءَ تقويمي فإنِّي مقوَّمٌ
ومنْ شاءَ تعويجي فإنَّي معوَّجُ!
تلك كانت شواهد يسيرة من تراثنا العربي ؛جئت بها في مقام التعبير عن (الأنا) ؛توطئةً لالتماس مكنونات سؤال شاعرتنا في نصها الذي بين أيدينا.
******************************
تستهل الشاعرة نصَّها القصير المكثف بأداة الاستفهام (من) والمسؤول عنه (أنا)؛فكأنما هي بصدد تعريف الآخرين بشخصيتها الإنسانية وموقعها على خارطة الوجود..
وواضح أن طرفاً ذا صلة ما بالشاعرة تعمَّد مفاجأتها بذلك السؤال الشخصي؛وربما أُلقي عليها السؤال من جهة أدبية أو إعلامية تهتم بشعرها على نحو خاص؛
ورحلتها المتميزة في دنيا الحياة الأدبية
ضمن أسئلة أخرى طرحتْ عليها أثناء محاورتها؛على أنَّ محاولة الاستقصاء عن هوية السائل وصلته ليست بذي بال مقارنة بأجوبة الشاعرة؛وإحالاتها العقلانية الواردة في النص دون التنازل أو التضحية؛بأهمية الرواء الشعري اللازم في بناء التجارب الإبداعية ؛وهذا ما ستسلط القراءة الضوء عليه.
من نافلة القول أن السؤال جاء إليها مباشراً على هذه الصيغة(من أنتِ)؟!
ومن الطبَعي أنَّ مضامين لاعداد لها تنطوي تحت هذا السؤال الحادّ؛فهو -رغم قصركلماته-سؤال مفتوح على خبايا النفس الإنسانية؛ودهاليزها العميقة؛ونوعيتها؛وطبيعتها المتصلة بها؛واهتماماتها الواسعة؛وتعايشها مع واقعها المحيط بها؛ومافيه من أحداث مائجة ومواقف ؛وصولاً إلى استخلاص طابعها المستقلّ الداخل في نطاق رؤيتها الخاصة التي تتميز بها عن الآخرين؛من صُنَّاع الكلمة؛والوعي الذاتي المستقلّ.
– [ ] لم يكن أمام الشاعرة من مفرّوهي في هذا الموقف التأملي؛سوى الردّ الحاسم عليه المتأطر بالشاعرية؛ لا اللجوء مثلاً إلى فكرة التأجيل؛أوالجنوح إلى ماهيات خارجة عن نسيج السؤال ؛فما كان منها إذن إلا أن امتشقت بوصلتها الفنية؛وشحذت طاقتها الزاخرة؛واتجهت في ضوء تسلحها بالبيان والفصاحة إلى السباحة في بحر المكاشفة المركزة الساعية إلى تجلية أحاسيسها؛ونظرتها الوجودية؛وما إلى ذلك من رؤى أشعَّ بها النص.
ويبدو أنَّ الشاعرة استقبلت السؤال المفاجئ استقبال الحائر أي أفق يطرق؛أو أي نخلة باسقة يهزز جذعها؛ لا العاجز المنغلق على ذاته؛ولذلك ذهبت تصوّر معالم حيرتها بما يشبه
البحر المتلاطم الأمواج؛أوالبئر العميقة التي عمد السائل إلى إلقائها فيها.
وكون السؤال مباغتاًحسب اعتقادنا ؛ لايسوِّغ لنا هذا
أن نقول إنَّ الشاعرة كانت قبل ذلك خالية الذهن من سؤال مصيري كهذا ؛ سيلقى عليها؛في عاجل الوقت أو آجله؛
إذ لايتفق تصور ساذج كهذا مع منجزاتها الشعرية السابقة؛بل إن كلَّ قصيدة وجدانية أطلقت سراحها في الآفاق نمَّت إلى الحياة الأدبية ببعض الأوصاف عن طبيعتها؛وحملت إلى المتلقي إشارات معينة عن واقعها؛أوَ ليست القصيدة- في حد ذاتها-في تراكيبها اللغوية قطعاً تصويرية مستوحاة مما استقرّ بين الجوانح من رؤى وتطلعات؟!
لذلك مضت الشاعرة على صراط المواجهة طالبة إلى السائل مشاطرتها الحديث بإعمال الذهن معها؛وتزويدها ببعض المعطيات المساعدة لها على تجاوز هذا الامتحان العاصف الذي هي الآن في قاعته الصامتة؛وحيدة إلامما يمور به وجدانها ؛ومما تزخر به جوانحها ؛ومما تراه متسقاً مع حياتها ومحيطها المعاش..
بعد تلك اللمحات الذكية ؛قررت مجابهة سؤال الأنا على انفراد؛وأن تخوض ذلك البحر اللُّجي؛ومضى بها شراعها الجامح في هذا الفلك؛بين مدّ وجزر؛فالسؤال الواحد الذي أُلقي عليها؛تولَّدت عنه أسئلة أخرى كانت تصطرع في أعماقها؛وظلت تهطل عليها هطولاً لاهوادة فيه؛وحين لاح لها في خضم ذلك؛بصيصٌ من هدأة فكرية؛إن صح التعبير؛
وصفت السؤال العصي الملقى عليها في بداية الأمر أنه (لغز) على سبيل الإجمال؛وطبيعة اللغز الاستعصاء على الإجابة؛وألمحتْ إلى أن حضورها الذهني ساعتها؛واليقظة المطلوبة لمجابهة سؤال كهذا في سبات عميق.
لكنَّها مالبثت أنْ خرجت من دائرة ذلك الذهول الذي بسط نفوذه عليها ؛ وغلَّف منطقها بعض الوقت؛فمضت مسترشدة ببعض تصوراتها تترجم (أناها)؛على أنَّ الحيرة المستبدةماتزال قابضة على مساحات تفكيرها؛ومن هناك انهمرت عليها وطأة التساؤلات الذاتية الحادة؛فوقفت أمامها-والفزع يرسم دوائره حولها- تطالب ذاتها الأخرى المغيَّبة عن الإفصاح لها؛وتعيين طبيعتها على وجه التحديد؛فإذا بنا أمام ذاتين اثنتين انشطرتا ؛الأولى تسأل بإلحاح كالمستنجدة؛والأخرى مطرقة ذاهلة ..
وذلك بقولها:
أأملك حقاً (أناي) وتلك إشارة منها إلا أن الروح من علم الله ؛أم أن مايدور في ذهني من خيالات محض افتئاتْ؛مجرد اسْتِبْدَاد بالرأي؛أو مفتريات؛ترسخت في الذاكرة من عهود مبكرة؛
أم تراني مجرد حلْقة بين ماض أصبح مهملاً منسياً ؛وبين مستقبل غامض؛لاسبيل إلى اكتشاف معالمه.
وهي بذلك تتساوق مع ابن الرومي في قوله:
أخافُ على نفسي وأرجو مَفازَها
وأستارُ غَيْب اللّهِ دونَ العواقبِ!
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي
ومن أين والغاياتُ بعد المذاهبِ؟!
لقد بدت تلك الأسئلة الشائكة التي واجهت بها ذاتها؛محاصرة لها من كل الجهات؛ولاسبيل سوى المواجهة؛
فمضى بها تيارها العقلاني على شاطئ
(ربــمــا)ومن هناك أرادت تقريب صورة أناها على نحو فلسفي تجريدي؛فوصفت نفسها بنقطة نون؛تعبيراً منها عن تواضعها ؛وأعقبت ذلك بتسميتها (رمـــزٌ لـفـحـوى
الـتيه؛ أو مـعنى الـفواتْ)؛وفي ذلك إشارة منها إلى عُتمة زمن قديم؛ تشكلت فيه؛وإلى ما يتمخض عن (الفوات) من مطالب وآمال كانت تطمح إليها ؛إلا أنَّ الأبواب أُوصدت دونها.
وأملت عليها طرافتها الشعرية المشوبة بقدر من السخرية على نحو من الأنحاء نتيجة ما آلت إليه حياتها الماضية؛ أن تساير النُّحاة مومئة بذلك إلى اسمها المعروف بين الناس(هند) باعتبار جواز صرفه ومنعه طبقاً للقاعدة المعروفة.
ثم رأت أنَّها مجرد فكرة كانت في علم الغيب؛ وعندما همَّت بالتشكل على أرض الواقع ؛ضاعت معالمها بين (رصـــدٍ وانــفـلاتْ)؛وهما حالتان تنبئ عن عدم استقرار الروح ؛وعدم انسجامها مع جو متوتر كهذا..
ولما أحسَّت الشاعرة باستغراق السائل وذهوله وعدم الخروج بشيء مما أفصحت عنه في الإبانات الماضية؛ دنت إليه قائلة:هناك سرغامض ودفين في حناياي؛لم أعلن عنه لأحد من قبل؛وسأخصك به؛وهو ما يمكن تسميته (بالانشطار) أو الانفصال ؛حيث إنَّ لي ذاتين ؛شخصيتين واحدة تراها الآن رأي العين؛ذات كينونة محسوسة ؛ولها كيانها في عالم الحياة؛ومتطلباتها الحِسيَّة؛وأخرى متسربلة بعالم الغيب ؛محجوبة عن أنظار الناس أجمعين؛وهي التي أجنح إليها كلما خشيت العثار؛أو استغلقت عليَّ معالم الدروب؛ووجدتني في مهبِّ الضياع؛لا ألوي على شيء.
هذه الروح أجد عندها الأمن والسكينة؛وأجد عنها الرَّحابة وانفساح الأفق؛وهي وحدها تملك مفاتيح الإجابة الدقيقة عن سؤال الأنا؛وعن سائر الأُحجيات العالقة بذهنك.
ومن أجل ذلك سأدعوها؛وغداً ترقب الإجابة النهائية لذلك السؤال العصي.
تلك كانت جولة خاطفة في بعض معالم النص ؛على أمل أن تتاح فرصة أخرى لاستنتاج بعض سماته الفنية.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله.
___________________